الفصل الرابع والعشرون: عبور بحر القصب

الفصل الرابع والعشرون
عبور بحر القصب

سر الفصح كان الرمزَ والعبورُ هو الحقيقة. في يوم الفصح بدأ العبرانيون خروجهم من مصر، ويومُ العبور كانت النهاية. مرّ العبرانيون في البحر فانقطعت الطريق وراءهم لئلا يعودوا يفكّرون بمصر وأصنامها. لا شك أنهم سيتذكّرون مصر وخيراتها، يتذكرون قدور اللحم (16: 3) وبصلَ مصر وتومَها وبطيخَها، سيتذكرون أصنامها ويعملون لنفوسهم عجلاً ذهبياً يكون صورة مصغرة عن أبيس، الاله المصري المرسوم بشكل ثور. سيتذكّرون، ولكنهم سيبتعدون شيئاً فشيئاً مع حنين لا يزال دفينًا في قلوبهم للتقرب إلى مصر.
مرّ العبرانيون في البحر، فكأني بهم مروا في الموت قبل الرجوع إلى حياة جديدة. مرّ العبرانيون في البحر فانقلبت حياتهم، وتحوّلت من العبودية إلى الحرية. وها هم يستعدّون لان يجعلوا أنفسهم عبّاداً لله، لا عبيداً لملك مصر. خلال عبور البحر سيبدأ العبرانيون مسيرة مجيدة يرافقهم فيها الله بحضوره عبر الغمام، وقدرته عبر يده الفاعلة، وذراعه الممدودة عبر أعماله. عبور البحر صورة عن عبورنا نحن من عالم الانسان القديم وشهواته إلى عالم الانسان الجديد في البرّ وقداسة الحق.

1- رواية عبور البحر
نحن هنا أمام رواية ملحمية ضخَّم الكاتب فيها الاحداث ليدُلّ على قدرة الله. بحر القصب صار البحر الاحمر المعروف بعمق مياهه. والبحيرات المرة، حيث تكثر المستنقعات، وحيث يستطيع الانسان أن يمرّ، صارت عمق البحر، والمياه سور عن اليمين وعن الشمال (14: 22، 29). وقبائلُ الفارين صارت جيشاً منظماً يُعد ستمئة الف رجل ما عدا النساء والاطفال، أي ما يوازي المليونين أو الثلاثة ملايين. والحامية المصرية المركّزة في أحد حصون الحدود تحوّلت إلى كل جيش فرعون. وغرقُ بعض الجنود صار غرق كل جنود فرعون الذين لم يبق منهم أحد (14: 28). وميّز الرب بين شعبه الضعيف اللائذ به وشعب فرعون القوي المتجبّر، لأنه الاله الذي يحط المقتدرين عن الكراسي.
بفضل الله صار الغمام المظلم نوراً (14: 20) ينير الليل، فسار العبرانيون ولم يتوقفوا عن السير في العتمة. وصارت المياه القاتلة طريقاً على اليبس (14: 29) يقود العبرانيين إلى حياة جديدة. من أجلهم شقت الريحُ الماءَ وفتحت لهم سبيلاً وسط الاخطار، وبسبب مضطهديهم أعادت الريح المياه إلى ما كانت عليه.
بقوة الله التي عملت بواسطة عبده موسى صارت عناصر الكون في خدمة شعب الله: النار والغمام والريح والمياه. هذه القوّة أرسلت الضربات على شعب مصر لكي يطلق شعب الله. وهي ما تزال تعمل لتتم العمل الذي اوكلها الله به وهو تخليص شعبه من العبودية.

2- كيف قرأت التقاليد هذا الحدث
نسارع إلى القول: هناك حدث تمّ وشعبٌ عبر المياه ونجا من شرّ جيش فرعون. هناك خلاص عجيب أتمه الله من أجل شعبه. هذه هي الحقيقة الاساسيّة التي ستَبني عليها التقاليدُ أخبارَها. وإيمان الشعب يرتكز على تذكّر حقيقي لخلاص كان في بداية تاريخه.
ونسارع إلى القول: إن هناك عملية تضخيم تُظهر قدرةَ الله. البحر العظيم صار أرضاً يابسة: يعبره الشعب، بل يدوسه بقدمه وهو موطَنُ الشَر. جيش فرعون المعروف ببطشه تخلّعت دواليب مركباته وتجمّدت فما عادت تستطَيع أن تتحرّك إلى أن جاء البحر فأغرقها وأغرق كل جيش فرعون. وهكذا زالت قوّة عبَّاد الاصنام من الوجود فلن يخاف شعب الله منها.
الله هو الذي يقود الشعب، ولا يسيِّرهم في الطريق القصيرة التي توصل إلى ما سيسمّى أرض الفلسطيّين (13: 17). الله يقود شعبه نحو الجنوب، عبر طريق البرية ونحو بحر القصب، يقوده إلى جبل سيناء. أما المراحل فهي ثانوية والكاتب يذكر بعضها ويهمل البعض الآخر.
الله يقود شعبه وهو حاضر معه، وعمود الغمام والنار علامة لحضوره (13: 21- 22). وهذا الحضور هو علامة لحماية شعبه فيفصل بينهم وبين المصريّين لئلا تكون المعركة في أرض مصر والفرص غير متكافئة.
والله يتدخل ليخلّص شعبه، وتدخّله ماثل في كل دقيقة: يقسّي قلب فرعون (14: 4، 8، 17)، وكأني به يجره إلى قلب المعركة لينتصر عليه. يُلقي نظره إلى مخيَّم المصريّين فيضع فيه الخوف والبلبلة (14: 24- 25). يرسل ريحا شرقية جديدة فيرد المياه إلى الوراء (14: 21). يغرق المصريّين في الامواج (14: 27- 28). اذاً، الرب هو الذي يخلّص شعبه بيده القديرة، فيبقى على الشعب أن يخافه ويؤمن به وبموسى عبده (14: 30- 31).

3- عناصر مختلفة
توسعت التقاليد في خبر عبور البحر الاحمر فحملت تفاصيل وتفسيرات عديدة يكاد بعضها يضارب بعضاً. اذا كان الفرعون هو من أطلق الشعب (14: 5)، فكيف يتحدّث النصّ وكأن الفرعون يجهل ما فعل فيأتي من يخبره برحيل العبرانيين؟ هل تبدَّل قلب فرعون وعبيده تجاه العبرانيين، أم قسَّى الله قلوبَهم (14: 8)؟ ومعجزة البحر: هل ردَّ الرب المياه بفضل ريح شرقية عنيفة (14: 21)؟ أو هل أمر الله موسى فمدّ يده أو عصاه فقسم البحر (14: 16) ثم أعاده إلى حالته الطبيعية (14: 26- 27)؟ هل تدخَّل ملاك الرب ليحمي شعبه (14: 19)؟ ومياه البحر، هل ارتدّت إلى الوراء وظهرت الأرض (14: 21)؟ أم هل شُقَّت فكوّنت سورًا عن يمين الشعب وعن شماله (14: 22)؟ إن ذكر هذا الحدث العجائبي رافقته عناصر تصويرية فقادتنا إلى عالم فائق الطبيعة يظهر بالاخص في المدراش (درس وتفسير من أجل عبرة دينية): تنازعت القبائل الاثنتا عشرة لتعرف من يكون أول من يعبر في وسط المياه التي فتحها الرب. ولكنها لم تتفق، ففتح الرب اثنتي عشرة طريقاً وسط البحر ومرت كل قبيلة في طريقها. ولما وصلت القبائل إلى الشاطئ المقابل استقبلها ابراهيم واسحاق ويعقوب الذين بسطوا ايديهم ليباركوا الشعب ويمجّدوا الله الذي أتمّ مواعيده.
وهنا يبرز عنصر آخر سيكون له دوره فيما بعد، عنيت به تذمّر العبرانيين ضد الله وضد موسى (14: 10- 14). حين يُطل الخطر يتراخى الشعب ويخاف ويلوم موسى لأنه أخرجه من مصر. فلكم تمنّى أن يعيش عبداً في مصر ولا يموت في البرية. إن موضوع هذا التذمر يدلّ على طول بال الله ورأفته من أجل شعبه، ويدلّ على ثقة موسى وايمانه بربه رغم فترات من الضيق والشك. يحس أنه وحده فيصرخ إلى الرب. أما في هذه الحالة فهو متأكّد من خلاص الرب. قال: الرب يحارب عنكم، فكونوا هادئين (14: 14).
وهكذا نصل إلى خاتمة هذا الخبر الذي يقودنا إلى فعل إيمان بالله المخلّص: سيتمجد الله بفرعون وجيشه، ويعرف المصريون أن الرب فعل هذا وأنه وحده الاله الذي يُعبَد. أما بنو اسرائيل فخافوا الرب وآمنوا به (14: 31).

4- نشيد الظفر (15: 1- 21)
"أنشدُ للرب فإنه أظهرَ عظمَته. الرب عزي وتسبيحي. صار لي خلاصاً. هو الهي وإياه أمجَد، هو أبي وإياه أعظم... من مثلك في الآلهة يا رب؟ من مثلك جليل قدوس ومهيب وأهل للتسبيح؟ من مثلك يصنع المعجزات. هديت برحمتك الشعب الذين فديتهم. أرشدتهم بعزتك إلى أرضك المقدّسة". هكذا أنشد العبرانيون الله يومَ خلاصهم.
نقطة انطلاق هذا النشيد هي العبارات التي ردّدتها مريم والنساء: سبّحوا الرب لأنه ربح معركة مجيدة فطرح الفرس وراكبه في البحر (15: 21). أما مواضيع هذا النشيد فهي التي نجدها في سائر القصائد القديمة. يسبح الشعب الله بسبب قوته وعظمته وسلطانه وخلاصه (15: 1- 2، 11). ويبدو الرب بشكل مقاتل ورجل حرب (15: 3) يتدخل بطريقة ملموسة. ونتحدّث عن يده (15: 6) وذراعه (15: 16) وغضبه (15: 7) ونسمة أنفه (15: 7- 8). يهوه الله لا كالآلهة. هو وحده الاله الرهيب والقوي الذي يصنع العجائب. إنه إله أبي واسمه يهوه الرب. وعندما يشير النص إلى الشعب، يتكلّم عن رحمة الرب وعنايته عندما قاد شعبه في الصحراء، وعن قدرته ليتمم مواعيده، وعن اهتمامه ليهيّئ لهم مكاناً في أرض الميعاد. فليقدّسوه ويمجدوه في مدائحهم (15: 13- 17)!
نحن اذًا أمام علاقة خاصة بين الله وشعبه يعتر عنها لا بالكلمات بل بالوقائع: الخروج من مصر، المسيرة في البرية، الدخول في كنعان، والاقامة هناك. هذه العناصر تشكّل أساس فعل إيمان الشعب بربه.
هذا النشيد هو نص ليتورجي أنشدته الجماعة العبرانية على مدى تاريخها. وهو يورد حدثاً من الماضي لا من أجل ذاته بل من أجل الحاضر والمستقبل. فالتاريخ يشهد لما عمله الله في الماضي. ولما يعمله الآن ولما سيعمله حتى نهاية العالم. والخلاص واقع تاريخي من الماضي يتجدّد اليوم وسيتجدّد في نهاية الازمنة.
ويشدّد النشيد على أمواج البحر. إنها رمز إلى دينونة الله كما كانت عناصر مُعادية في قصة الخلق. والامواج التي تبتلع جيش فرعون هي دينونة الله التي تتم في نهاية الازمنة فتصيب كل اعدائه وتُدخلهُم في عالم الموت. ولكن عبر هذه الدينونة يبرز خلاص الله للذين ينتمون منذ الآن إلى شعبه. العبرانيون هم شعبه اليوم ولكن سيأتي وقت يعبد فيه المصريون والاشوريون الرب قبل بني اسرائيل الذي سيكون في المركز الثالث. يقول الرب: مبارك شعب مصر، مبارك أشور عمل يدي، مبارك اسرائيل ميراثي (أش 19: 23- 25).

5- المعنى الروحي لعبور البحر الاحمر
ان معجزة الله من أجل شعبه عنصر أساسي في إيمان بني اسرائيل (عد 33: 8؛ تث 26: 8؛ يش 24: 6- 7؛ أش 11: 15- 16...). وسيرى فيها العبرانيون عمل الله القدير من أجل شعبه كما يرون فيها الطريقة التي بها يربّي الله شعبه. لا ننسى أن على بني اسرائيل أن يتعلموا هذه الثقة التي لا تزعزعها الصعوبات والعوائق. غير أنّ عمل الله لا يستغني عن عمل الانسان، والبحر لا ينشقّ الا ساعة يضع المؤمن رجله في الامواج فيسير ضد تردده وارتيابه.
أما التقليد المسيحي فيرى في عبور البحر صورة عن العماد وعلامة لخلاص الله في يسوع المسيح. فالعماد عمل فدائي يحمل نتيجتين: فهو تحرير من عبودية وتأسيس حياة جديدة. وفي هذا كتب القديس بولس: لا أريد أن تجهلوا أيها الاخوة أن آباءنا كانوا كلهم تحت الغمام، وكلهم جازوا البحر، وكلهم قبلوا المعمودية في الغمام وفي البحر فصاروا من أتباع موسى وكلهم أكلوا طعاماً روحانياً واحداً... حدث ذلك كله ليكون لنا مثلاً، وكُتب تنبيها لنا نحن الذين بلغوا إلى منتهى الازمنة (1 كور 10: 1- 2، 11). معمودية في الغمام وفي البحر، هذا ما حدث لبني اسرائيل في خروجهم. إن عبور البحر الاحمر سيكون بواسطة عمل الله الحاضر في الغمام وعبور المياه القاتلة، نموذجاً للولادة بالماء والروح. كما كان العبرانيون في موسى الذي يجسّد الخلاص الذي صنعه الله، كذلك سيكون المسيحيون كلهم جسداً واحداً في المسيح بسر الولادة الجديدة: اعتمدوا جميعاً في المسيح فلبسوا المسيح (غل 3: 27).
المسيح نفسه مرَّ عبر الموت قبل القيامة. وهكذا نحن الذين غطسنا (اعتمدنا في يسوع المسيح)، إنما غطسنا في موته فدُفِنّا معه بالمعمودية لنموت ونحيا حياة جديدة (روم 6: 3- 4). هنا نفهم أن سر المعمودية يرتبط بعيد الفصح وما فيه من عبور من الموت إلى الحياة، من الخطيئة إلى النعمة، ومن عبودية البشر وقوى الشر إلى حرّية أبناء الله.
أنشد العبرانيون نشيد موسى، ونحن المسيحيين ننشد أيضاً نشيد عَبْد الله موسى والحمل ونقول مع صاحب الرؤيا: "عظيمة، عجيبة أعمالك أيها الرب القدير" (رؤ 15: 3). أنشد العبرانيون لخلاص تمَّ لهم، والمسيحي يمتدح عظمة الله الذي نجَّى كنيسته ولا يزال ينجّيها حتى النهاية فلا تقوى عليها أبواب الجحيم (مت 16: 18).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM