الفصل التاسع عشر يوسف بن يعقوب مخلّص اخوته

الفصل التاسع عشر
يوسف بن يعقوب مخلّص اخوته

قصة يوسف بن يعقوب حلقة دينية من حلقات تاريخ الآباء ابراهيم واسحاق ويعقوب، وفصل من فصول عمل الله من أجل شعبه. فيها أراد الكاتب أن يعطينا لا خبرًا شيّقًا وحسب، بل حديثاً عن بركة الله التي ترافق أتقياءه، وعن إيمان محبّي الله الذي يتأرجح بين الطاعة والشك. يتوقّف الراوي على التفاصيل العديدة والامر يهمه، والتاريخ تاريخ شعبه بل تاريخ قبيلته. فيوسف هو ابن قبيلة افرائيم المقيمة في شمالي البلاد، وفيها دوِّن التقليد الالوهيمي الذي روى مطوَّلاً قصة يوسف. ولكن سيأتي كاتب لاحق فيمزج عناصر من تقليد الجنوب (التقليد اليهوهي) بتقليد الشمال فيساعدنا على استخلاص المضمون التعليمي لهذا الخبر. ولكن هدف الكاتب هو أبعد من الرواية وهو أقرب ما يكون إلى القصص الديني الذي نكتشفه في أجواء الكتبة والحكماء، وهمّه أن يفهمنا ثلاثة أمور. أولاً: تنقية الله للانسان بواسطة الالم ليصير اداة لقصد الله الخلاصيّ. ثانياً: ثقة بالله لا يُزعزعها ما يتعّرض له الانسان على هذه الأرض من تجارب ومحن. ثالثاً: عطف الله على البشر، وعنايته في تحقيق مقاصده، وقوّته التي تخرج الخير من الشرّ.
ولكن، قبل التوقّف على المضمون الدينيّ لقصّة يعقوب بن يوسف، سنروي الخبر بصورة مقتضبة مشدّدين على دور التقاليد الكتابية في ابراز شخصية يوسف التي تشكّل نهاية لقصة الآباء وبداية لقصة موسى، وتقدّم لنا تفسيراً لاقامة قبائل بني اسرائيل في مصر. فنحن نقرأ في سفر التثنية (26: 5) على لسان الآتي إلى الهيكل يصلي: "كان أبي آراميا تائهاً، فهبط إلى مصر ونزل هناك"؟

1- قصة يوسف
أ- الخبر
يوسف هو ابن راحيل، المرأة المحبّبة إلى قلب يعقوب (تك 29: 30). انتظرت أمه طويلاً قبل أن تحبل به (30: 1)، ولما ولدته طلبت من الرب المزيد (30: 24). وأحبّه والده وفضّله على اخوته، فأبغضه اخوته حسداً وباعوه إلى تجّار حملوه إلى مصر (37: 27). وكان يوسف عند فوطيفار، رئيس شرطة فرعون. وما إن أخذت حاله تتحسّن حتى وشت به امرأة فوطيفار فالقي في السجن. وهناك فسّر حلم أحد سقاة الملك وخبازيه، ثم فسّر حلم ملك مصر وأنبأه بسنوات من الخصب تصيب البلاد تتبعها سنوات قحط. توسّم الفرعون الحكمة في وجه هذا الشاب العبراني، فرفعه إلى المرتبة الأولى في مملكته، وسلّم اليه قضايا التموين والزراعة. ولما حلَّت سنوات الجوع، جاءه اخوته فاستقبلهم ببعض جفاء وقساوة وأعطاهم ما يحتاجون اليه من طعام. ولمّا اقرّوا بذنبهم وفهموا شناعة فعلتهم، عرَّفهم بنفسه وطلب إليهم أن يدعوا والدهم. ولما نزل يعقوب أرض مصر أقام مع أولاده في منطقة جاسان حتى وفاته. ولكن ما زال بنو يعقوب خائفين على مصيرهم: لعل يوسف يضطهدنا ويكافئنا على الشر الذي فعلناه به. ولكن يوسف غفر لهم، قال: "أنتم نويتم بي شرًّا، ولكن الله نوى بي خيرًا لكي يصنع ما ترونه اليوم ويُحيي شعبًا كثيرًا" (50: 20).

ب- التقليد اليهوهي
هذه القصة كتبها التقليد اليهوهي فأبرز موضوع البركة التي ترافق الذين اختارهم الرب. يقيم يوسف في بيت المصري فتحلّ معه البركة في بيت المصري وفي حقله (39: 5). يصبح يوسف الوزير الاكبر في مصر فتحل البركة على أرض مصر كلها، وهذه البركة ترتبط بحكمة يوسف الآتية من عند الرب. ولكن سيأتي وقت يرفض الفرعون أن يتعرف إلى يوسف وما يمثّله من بركة (خر 1: 8)، فتنقلب البركة لعنة وتحل ببلاده الضربات والآفات.

ج- التقليد الالوهيمي
وكتب التقليد الالوهيمي قصة يوسف فشدّد على القول بأن الله يسوس أمور الأرض دون أن يتدخّل بطريقة ظاهرة، وهو يحوّل سوء نوايا البشر. سهرت عنايتُه على يوسف فجعلته أداة خلاص لاخوته. وأفهمنا أن روح الرب حلّ على يوسف (41: 38) فاستطاع تفسير الاحلام (40: 8، 41: 16) وتدبير الامور بحكمة (45: 5)، والصفح عن الزلات (50: 19 ي). وأعلمنا أن حكمة اللهّ فوق حكمة البشر. حين أراد يوسف أن يفضّل منسى على إفرائيم، لم يسمع له والده (48: 1 ي). مثل هذه الحكمة البشرية المحضة تعدّ الطريق لحياة العبودية التي سيعيشها شعب الله (خر 1: 10) قبل أن يخرج من مصر ويعود إلى الأرض الموعود بها. أجل، أخذ الآباء بالحكمة البشرية وتخلّوا، ولو موقتاً، عن مخطّط الله، ونسوا وعده لهم. ولكن مع موسى ستتغلّب حكمة الله على حكمة الناس، وقدرته على قدرتهم، فيستطيع شعب الله أن يعود من جديد إلى الصحراء وهناك يسمعون كلام الله في قلوبهم (هو 2: 16).

2- المعاني الدينية في قصة يوسف
اذا قابلنا قصة يوسف بقصة سائر الآباء نلاحظ أهمية الرواية فيها. غير أن الاحداث الواردة هنا تهدف إلى تصوير عمل الله وعنايته في حياة البشر، في حياة يعقوب ويوسف واخوته.
لن نتوقّف على شخص يعقوب الذي ترك للعناية أن تقود خطاه فلا يموت أولاده جوعاً. سمع صوت الرب يقول له: "لا تخف أن تهبط مصر فإني اجعلك هناك أمَّة عظيمة. أنا أهبط معك إلى مصر وأنا أصعدك منها" (46: 3- 4). لن نتوقّف على نفسيّة اخوة يوسف بما فيها من عواطف الحسد والقتل والخوف والمرارة. غير أن يوسف تركهم يعانون الالم والضيق قبل أن يغفر لهم مساءَتهم.

أ- يوسف رجل لا عيب فيه
بدا يوسف شاباً سليم القلب، لا عيب فيه. لذلك ابتسمت له الاحوال. هو المحبوب وابن المرأة المحبوبة. هو الولد النقيّ الذي حسب نفسه أفضل من إخوته فأخبر أباه بما يشاع عن مساوئهم (27: 3). وهو الولد الذكي الذي حسب نفسه أحكم من اخوته، فأخبرهم بأحلامه: سيكون عليهم سيداً وله سيسجدون. فحسده اخوته على أحلامه وعلى كلامه واضمروا له الشر. أين الفطنة التي تجعل الانسان يدرك الامور، والرصانة التي تعلم الانسان أن يتصرّف بدراية وحنكة؟ ولكن يوسف لم يزل صبياً، غير أن الله سيعلمه ويدّربه من أجل الرسالة التي هيّأها له.

ب- يوسف رجل ابتلي بالمحن
حسده اخوته وأرادوا قتله، ثم عدلوا فباعوه عبداً بعشرين من الفضة (37: 25- 28). يروي الكتاب كيف أن اخوته نزعوا عنه قميصه، قميصه الموشى الذي عليه، وأخذوه وطرحوه في البئر، وكانت البئر فارغة. ثم جلسوا يأكلون (37: 33- 35). لا نستطيع أن نتخيّل الالم الذي حزَّ في قلب يوسف، ولكن الكتاب يتجاوز هذا الوضع. هنا يبدو يوسف رمزاً بعيداً إلى يسوع، ونتذكّر مثل الكرّامين القتلة (مت 21: 33- 46) الذي رواه يسوع عن نفسه فأفهم سامعيه أن موته صار قريباً. ولكن موته سيكون بداية حياة ليس لشعبه فقط، بل لكل شعوب الأرض. كذلك هيّأت المحنة يوسف ليكون مخلّص اخوته من الموت المحتم وينجّي أرض مصر من الجوع.
وعاش يوسف في بيت فوطيفار، فتعلقت به امرأة فوطيفار فأبى ورفض طلبها: كيف أصنع هذه السيّئة العظيمة وأخطأ إلى الله (39: 9)؟ حينئذ وشت به أمام زوجها وأشهدت الخدم عليه بعد أن امسكت بيدها رداءه كعلامة صارخة ضده فانقلبت محبتها له بغضاً ورضاها عنه حقداً. لو ساير امرأة سيده لما كانت وصلت به الامور إلى هذه الحال! ولكنها حكمة البشر التي تنظر إلى ما يرى، لا إلى ما لا يرى. أما يوسف فتعلق بوصاياه الله ورفض الخطيئة، فكانت فضيلته سبب شقائه: أُودع في السجن وقيِّد مع سجناء الملك. لم يقل يوسف شيئاً، لم يدافع عن نفسه. وكيف له أن يدافع؟ فسلم أمره إلى ربه، وكان الربّ معه فأمدّه برحمته وأناله رضى رئيس السجن (39: 21).

ج- يوسف رجل الثقة الوطيدة بالله
بلغ يوسف قمّة الالم وانحطّ إلى أسفل درجات الذل والاحتقار، لكنه وطّد ثقته بالربّ وجعل كل رجائه في عنايته الالهية. عرف أن لا خطأ في قلبه، وأنه بلا عيب أمام الله. فما خاف ولا جزع، بل أحسّ بيد الله القديرة تقوده وتوجّه خطاه. توكّل على الرب، توكل عليه في كل حين (مز 4: 6؛ 62: 9). أترى الله يخيّب المتكلين عليه، المنتظرين رحمته (مز 33: 8)؟
قاده روح الله (تك 48: 38) فما حسب حساباً لحكمة البشر وفطنة الانسان، بل سار على هدي الروح واستسلم ليد الله. حدّثه رفيقاه في السجن، قالا: رأينا حلماً وليس لنا من يفسّره (40: 8) إلاّ أنت. أجابهما: لله وحده كل تفسير. وقال له فرعون: رأيت حلمًا وما من أحد يفسره. وسمعت عنك أنك اذا سمعت حلماً تفسّره. أجاب يوسف: لا أنا، بل الله هو الذي يجيبك خيراً (41: 16). لا بعلمي. بل هو الله يتكلم بفمي. كم تبدلّ يوسف بعد أن مرّ عبر المحنة والالم! لم يعد ذلك الواثق بنفسه المتعالي على الآخرين بجمال وجهه وذكاء بصيرته وسرعة فطنته، بل صار ذلك الواثق بنفسه المفتخر بالرب، العالم أن كل خير فينا هو من الرب. وفهم أن الله قوة الضعفاء وحكمة البسطاء وغنى المساكين. خسر حياته في سبيل الله فوجدها (مت 10: 39).
قاده الروح في طريق الالم فقاد اخوته فيه، وعلّمه الروح أهمية الصفح والغفران لمن أساء اليه، وأفهمه أن كل شيء -حتى خطيئة البشر- يؤول إلى خير الذين يحبّون الله. لأجل هذا، ما أراد أن يطالب اخوته بما فعلوا به، بل اكتفى بأن ينظر إلى النتيجة الاخيرة وهي خلاص أبناء يعقوب من موت محتّم. إنه مخطط الله في شعبه وفي المؤمنين يمُّر عبر الالم والصليب قبل أن يصل إلى المجد والقيامة.

خاتمة
عندما نقرأ قصة يوسف بن يعقوب نستشف فيها مشكلة دينية هامة: لماذا وجود الشر في العالم وهل له من معنى؟ لماذا يسمح الله بالمحنة أن تدخل في حياة الذين يؤمنون به؟ إلى هذا السؤال يقدّم الكاتب جوابين اثنين.
- الأول: إن الالم هو للانسان عنصر تنقية وتطهير، وعاملٌ يساعده على جعل ارادته تنقاد لارادة الله. الالم يمكننا من التكفير عن خطايانا، ومن تقديم البرهان على حبّنا لله. ثم إن الالم يعمل على تكوين الشخصية والبلوغ بها إلى درجة النضوج. لولا الالم لما تبدّل تصرّف يوسف، ولما تحوّل قلبُ اخوته.
- الثاني: يستنبط البشر أعمالاً فظيعة ليقفوا بوجه مخطّط الله. ولكن كل ما يستنبطونه يبوء بالفشل. فالله يستخدم حتى مكايد البشر واجرامهم فيخرج من الشر خيراً. ان قدرة الله أفعل من شرّ البشر، ورحمته اللامحدودة أقوى من البغض والحسد. إن الله طويل الاناة صبور، ولكنه في النهاية يوجّه الاحداث نحو الخير، وينجّي أحبّاءه من الظلم الذي يحيق بهم. فينبغي للمؤمن أن يعي حضور الله في حياته ويثق بأن لا قوى الأرض ولا قوى السماء ولا شيء في الخليقة كلها يقدّر أن يفصله عن محبة المسيح (روم 8: 39)، إن أراد ذلك.
إن قصة يوسف بن يعقوب تشكّل خبراً من أجل المؤمن العادي، ومن أجل الشعب البائس المسكين الذي عرف ذل الجلاء ومرارة الغربة. كُتب هذا الخبر لكي يعيد الشجاعة والامل إلى قلوب المؤمنين، ويُفهمهم أن الرب الذي خلّص يوسف من السجن ورفع مقامه، سيُظهر قدرته فيعطي شعبه الخلاص.
ونحن أيضاً، نتعلّق بحبال الله وننتظر خلاصه ولا نيأس، متأكّدين أن الذي بدأ فينا عمله سيتمّه، بلا محالة يوم ظهور ربنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM