الفصل الثامن عشر: يعقوب المغامر مع الناس ومع الله

الفصل الثامن عشر
يعقوب المغامر مع الناس ومع الله

اختلفت "سيرة" يعقوب عن سيرة ابراهيم واسحاق، فجاءت بشكل خبر دنيويّ، ودلّت عليه كشخص مغامر يخلق نفسه بنفسه في البيت الوالدي أو عند خاله، بانتظار أن يلتقي بالله في مجاز يبّوق فتنطلق حياته في مغامرة من نوع آخر. في مغامرة صراع مع الله. وهنيئاً له مثل هذا اللقاء الذي أعطى حياته وجهة جديدة.
إن أحداث حياة ابراهيم جرت في مناخ دينيّ. من نداء من عند الرب إلى بناء المذابح، إلى استقبال "الله" في شكل بشر. وكذا نقول عن اسحاق الذي بدأت حياته بزواج هيّأ ظروفَه الربّ نفسه. ونذكر تلك الذبيحة التي تشدّد فيها التقاليد اللاحقة على مشاركة اسحاق لأبيه في الذبيحة. لم يكن اسحاق فقط ذلك الطفل الذي لا يعرف ما يُعمل به. سأل أباه: أين الذبيحة؟ أجابه ابراهيم: إن لم يعدّ الرب لنفسه الذبيحة فأنت تكون الذبيحة. وسوف تقول التقاليد إن اسحاق طلب من أبيه أن يقيّده لئلاّ يرفسه فلا تعود تُقبَل الذبيحة.
كان عمل العناية واضحاً في حياة ابراهيم واسحاق. أما هنا فبدا خفراً خفياً صامتاً. بل يتحيّر القارئ من هذا "التاريخ المقدّس" الذي يلعب فيه الكذب والاحتيال لعبهما. ومع ذلك، الله هو الذي يوجّه أحداث التاريخ. له مخطّطه وهو ينفّذه بواسطة أناس عاديين، وربّما خطأة. هل نسينا أن ابراهيم باع امرأته لكي ينجو بنفسه؟ وهذه المرأة هي أهمّ من سائر النساء لأنها تحمل صاحب الوعد. ومع ذلك، لم يتراجع الله مع ابراهيم، إذ لا ندامة في عطاياه. وهكذا ما أراد الله أن يتراجع مع يعقوب. بل هو كلّمه بشكل "مباشر" كما كلّم ابراهيم واسحاق، وتوجّه يعقوب إلى الله وهو يرجو منه كل عون ساعة وصل إلى عمق اليأس والخطيئة. كانت صلاته بعد أن رأى السلّم: "إن كان الله معي، وحفظني في هذا الطريق الذي أنا سالكه، ورزقني خبزاً آكله وثوباً ألبسه، ورجعت سالماً إلى بيت أبي، يكون الرب لي إلهاً" (تك 28: 20).
حين نقرأ سيرة الآباء، نجد أن سيرة يعقوب تلعب دور حلقة هامة في سلسلة تعود إلى الماضي فتصل إلى اسحاق، وتمضي في المستقبل فتصل إلى يوسف. في هذه النصوص بدا تاريخ الآباء تاريخاً جميلاً. بدا الآباء وكأنهم "أبطال الأيام الغابرة". وحاول الكاتب أن يقدّم أعمالهم الحسنة في أصفى وجه. وأن يعذرهم ساعة تبدو أعمالهم مشكّكة لقارئي الكتاب. "باع" ابراهيم امرأته لملك جرار. كذب على الملك. ولكن الكاتب سيحتفظ لابراهيم بصفة النبيّ الذي يصلّي من أجل ابيمالك. ويبرّر كذبه مظهراً قرابة بين سارة وابراهيم. مهما كان من أمر هذه القرابة، فقد قال ابراهيم نصف الحقيقة، وأخفى النصف الأهمّ. وكذا فعل يعقوب الذي "باركه" الله رغم كل شيء بالبنين العديدين وبالخيرات الوافرة.
أما خبر يعقوب، فنستطيع أن نقسمه إلى ثلاث حقبات: يعقوب مع أخيه عيسو. يعقوب مع خاله لابان. يعقوب مع ابنه يوسف. وروى الكاتب هذه الحقبات بشكل شيّق بعد أن جعلها تتداخل فلا نستطيع أن نتوقّف عن القراءة قبل الوصول إلى نهاية سفر التكوين. نتساءل مثلاً: كيف ستتمّ المقابلة بين يعقوب وعيسو؟ والسؤال يُطرح في خبر يوسف: ماذا سيفعل يوسف بإخوته بعد موت أبيهم؟ أيغفر لهم أم ينتقم؟ في النهاية سوف نعرف حين يجعل يوسف حياته في مخطّط الله الذي استخرج من الشرّ خيراً، فأرسل يوسف أمام اخوته لكي ينجّيهم من الجوع والموت.
بدأت انطلاقة يعقوب مع ظهور الله له في بيت إيل (تك 28: 10 ي). وتدخّل الله مرة أخرى عند العودة إلى كنعان حين دعاه وبدّل له اسمه (تك 32: 23). فكأنه يخلقه من جديد. وهكذا يشرف هذان "الظهوران" الالهيان على كل حياة يعقوب بكل ما فيها من أمور مقبولة وغير مقبولة.
قال يعقوب في صلاته قبل عبور مجاز يبّوق: "أنا لا استحقّ جميع ما صنعت لي، أنا عبدك، من المراحم والوفاء، لأني بعصاي عبرت هذا الأردن، والآن قد صار لي الأمهّات مع البنين... وأنت قد قلت لي: إني أحسن إليك وأجعل نسلك كرمل البحر الذي لا يُحصى لكثرته" (32: 10- 12).
هذه الصلاة هي لحمة التاريخ التي تربط الحاضر بالماضي والمستقبل. وعبرها سيفهم بنو اسرائيل أنهم أمام تكوين رمزيّ لتاريخ الشعب. وهي رمزيّة تعلن في الوقت عينه تداخل التاريخ الدنيويّ لهذا الشعب مع عمل الله الخلاصي. هي رمزيّة تترجم بشكل ملموس تعليمَ الخلاص: تعاطى الله مع يعقوب. كلّمه. أعطاه اسماً جديداً بعد أن صارعه. هذا هو أبو الشعب العبرانيّ، لا على المستوى الجسديّ، بل على المستوى الروحيّ، بعد أن انضمت كل القبائل العبريّة حول قبيلة يعقوب التي منها خرج يوسف وبنيامين.
ماذا يقول التاريخ عن تلك الحقبة التي اعتبرها الكاتب المناخ الذي فيه عاش ابراهيم؟ كنعان التي تمتدّ على شاطئ البحر من عريش مصر حتى أوغاريت وجبل الأقرع في تركيا الحاليّة، قد أقام فيها جماعة ابراهيم حول حبرون. وجماعة اسحاق حول بئر سبع. بل إن ابراهيم اشترى له مدفناً في مغارة المكفيلة.
ومع ذلك، ظلّ ابراهيم واسحاق ويعقوب مرتبطين بحاران موطن الجدّ. وهكذا رمز الكاتب إلى علاقات فلسطين ببلاد الرافدين. من هناك جاء ابراهيم وإلى هناك ذهب اسحاق يطلب امرأة. فكانت له رفقة. وكذلك فعل يعقوب. هذا ما اكتشفه بنو اسرائيل حين ذهبوا إلى المنفى بعد سنة 587 ق. م، ودمار أورشليم وإحراق الهيكل. ولم يعرفوا أور إلاّ في تلك الحقبة، لأن تاريخ الشعوب (تك 10) الذي دوّن في القرن 6- 5، لا يذكر أور مع أنه يذكر أوروك (في الكتاب: إرك) وحرّان.
وماذا عن العلاقة مع مصر؟ كان ابراهيم قد ذهب إلى هناك بسبب المجاعة. ولكن يوسف هو الذي يجتذب يعقوب وأبناءه إلى هناك. بدأ يوسف حياته عبداً ثم ارتفع واجتذب إخوته الذين أقاموا في أرض جاسان. كانوا أحراراً في صحرائهم ومع مواشيهم. فصاروا عبيداً يعملون في المشاريع الزراعيّة والابنية التي يشيّدها رعمسيس الثاني أو غيره. فالامور الماديّة مهمّة جداً. والعبرانيون وجدوا في مصر كل خير من السمك الذي يصطادونه في النيل إلى اللحم وكل الخضر. لهذا كانوا يحنّون من قلب الصحراء إلى العودة إلى مصر. وهذا ما سيحدث في تاريخ بني اسرائيل. سوف تجتذبهم مصر بسياستها. وسوف يدفعهم هذا الاجتذاب إلى السقوط في فخّ البابلييّن: جاء نبوخذ نصّر واحتلّ المدينة مرة أولى وثانية وثالثة، وفي كلّ مرّة أخذ قسماً من السكان إلى بلاد الرافدين. من الملك إلى الأعيان وقوّاد الجيش والصنّاع.
كيف تبدو صورة الله في خبر حياة يعقوب؟ هنا نتذكّر أن التدوين النهائي لسفر التكوين جاء متأخّراً في تاريخ بني اسرائيل. دوّن بعد المنفى. هذا يعني أن أسفار الشريعة الخمسة عُرفت في صيغتها النهائيّة بعد مواعظ الانبياء. بل كتبهم. ومع ذلك، فنحن نكتشف تنوّعاً في نظرة الانبياء إلى الله. فالملاحظة الأولى التي تفرض نفسها ترتبط بإيحاءات نالها يعقوب في أرض كنعان. وهذه الايحاءات ارتبطت بأماكن عبادة معروفة. وهكذا بدا الله بشكل إله محليّ، كأنه "إيل" الذي عبده العالم السامي. هو إيل بيت إيل في تك 31: 13. هو إيل فنوئيل كما في تك 32: 25- 33. هو إيل شكيم كما في تك 33: 20.
هذا الواقع يقدّم لنا معلومتين. الأولى، لا يتعارض تاريخ الآباء مع كنعان والعبادات الكنعانيّة في فلسطين القديمة. فأماكن العبادة الاسرائيلية هذه قد تكرّست بظهور "إيل" فيها. ففي الأيام الأولى من الديانة الاسرائيلية، لم تكن بعد قد توحّدت العبادة كما ستصير بشكل خاص مع الملك يوشيا الذي توفيّ سنة 609 ق. م. والمعلومة الثانية، هناك تشابه بين ظهور الله في بيت إيل والابراج ذات الطوابق، التي تسمّى زقورات، والتي في أعلاها كان يتّصل "عظيم الكهنة" بالله في بلاد الرافدين (لا جبال فيها. فالله ينزل من السماء إلى الأرض. فتطأ رجله أول ما تطأ الجبال). فما رآه يعقوب في الحلم (تك 28: 12) لم يكن "سلّماً تربط الأرض بالسماء" وعليها ينزل الملائكة ويصعدون، بل تمثّلاً لدرج عظيم يصعدون بواسطته إلى قمّة الزقّورة.
وصراع يعقوب مع الله قرب وادي يبّوق، ساعة العودة إلى أرض كنعان، كان حدثاً حاسماً في حياة يعقوب، تذكّره هو وتذكّره نسلُه على مدّ تاريخهم. ما الذي حدث بالضبط؟ هذا ما لا نعرفه. ولكن النصّ يحمل تفسيرين اثنين. في هذا "الصراع مع الله" نحن أمام صراع ديني وروحيّ. نحن أمام رؤية لله يدلّ عليها اسم المكان "فنوئيل" أي وجه الله. قال يعقوب: "رأيت الله وجهاً لوجه وبقيت سالماً" (تك 32: 31). هذا الكلام يربطنا بقول طالما تردّد في أرض اسرائيل: لا يستطيع الانسان أن يرى وجه الله ويبقى على قيد الحياة (خر 32: 30؛ قض 6: 22 ي). والتفسير الثاني يشير إلى "مبارزة" مع "تشخيص" لله. "وبقي يعقوب وحده، فصارعه رجل إلى مطلع الفجر. وإذ رأى أنه لا يقدر عليه لمس حقّ وركه فانخلع" (تك 32: 25- 26).
"فنوئيل" التي تعني وجه الله حدثٌ يشكّل ذروة في ديانة العهد القديم، لأنه يدشّن حقبة جديدة في تصوّر الله نفسه. فنظرة يعقوب إلى الله بعد الحدث، هي أوسع من تلك التي اكتشفها عند أهله في حرّان. وهي أكثر روحانيّة. فحين الانطلاق من حرّان، أخذت راحيل، زوجة يعقوب، أصنام بيت أبيها. وهكذا تبقى المرأة في حماية الآلهة البيتيّة العاديّة خلال تلك السفرة الطويلة. ولكن بعد ظهور الله في مجاز يبّوق مضى يعقوب إلى بيت إيل وهناك أعطى أوامره: "أزيلوا الآلهة الغريبة، وتطّهروا، وبدّلوا ثيابكم" (تك 35: 2). وهكذا انقطعت كل علاقة مع الآلهة القديمة التي كانوا يخطبون ودّها بواسطة تعاويذ يجعلونها في رقابهم. بعد ذلك، تابع يعقوب: "والآن هلموا نصعد إلى بيت إيل، وأصنع هناك مذبحاً لله الذي أجابني في يوم شدّتي، وكان معي في الطريق الذي سلكته" (تك 35: 3).
هذا هو وجه يعقوب الذي بدأ حياته بوسائل بشريّة لا تخلو من الكذب والمراوغة والاحتيال. وأنهاها في اعتقاد يقيني بأن الله معه، بأن عليه أن يتّكل عليه دون سائر الآلهة. اختبر في ذهابه إلى حرّان وعودته إلى كنعان حضور الرب معه "في الطريق الذي سلكه". وها هو يعبّر عن خبرته في تقدمة ذبيحة الشكر. لا شكّ في أننا هنا أمام نظرة إلى الله سيعرفها الشعب العبرانيّ بعد المنفى. ولكن بذارها بدأ مع يعقوب. وسوف تتفتّح حتى تصل بنا إلى الاله الذي حدّثنا عنه يسوع المسيح. ليس هو فقط الإله الواحد، بل الثالوث الذي هو آب وابن وروح قدس.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM