الفصل السابع عشر: ابراهيم أبو المؤمنين وخليل الله

الفصل السابع عشر
ابراهيم أبو المؤمنين وخليل الله

يحدّثنا التقليد اليهوهي (أي تعليم الحكماء العائشين في ظل الملك في أورشليم) عن ابراهيم فيبرزه رجلاً مباركاً تصل بركته إلى أبناء شعبه وإلى كل قبائل الأرض. والتقليد الالوهيمي (أي تعليم الأنبياء في السامرة) يبرزه نبياً يعيشه في خوف الله ويسمع كلمته ويعمل بها. ويصوّر لنا التقليد الكهنوتي (أي التقليد الذي ردّده بنو لاوي وهارون في أروقة الهيكل) ابراهيم رجلاً قطع مع الرب عهداً علامته الختان ونتيجته الارتباط بالرب ارتباطاً خارجياً والعيش في إطار جماعة الرب التي هي شعبه وغنم مرعاه.
ولكن قبل التوقّف عند هذه الصور المبسّطة والمزخرفة التي ترسم لنا وجه ابراهيم، الرجل الكامل والسالك أمام الله بغير عيب (تك 17: 1)، نتطلّع إلى ابراهيم الرجل الطيب وشيخ القبيلة وذي الخصال الحميدة، وإلى ابراهيم الخاطئ الذي ينتزعه الرب يومياً من خطيئته ويرسله إلى حيث يشاء (تك 12: 1؛ 22: 2)، إلى أرض مورية، الأرض التي يريها الرب لابراهيم ليذبح عليها ابنه اسحاق.

1- ابراهيم شيخ قبيلة
يورد لنا الكتاب نسب ابراهيم: "هو ابن تارح، بن ناحور... بن سام" (11: 25- 27). مولده في أور جنوبي بلاد الكلدانيين (جنوب العراق اليوم). انتقل مع أهله إلى حاران (الواقعة في تركيا اليوم) شمالي بلاد الرافدين، وهناك استقلّ عن أبيه واخوته وربعه. بعد ذلك توجّه بقبيلته إلى الجنوب، إلى أرض كنعان ومصر بحثاً عن الماء والكلأ، وقاد رجاله في طول البلاد وعرضها (13: 17) ومعه امرأته سارة وابن أخيه لوط.
في هذا الشيخ خصال انسانية حميدة. أولها: السرعة في إغاثة الأهل والترفّع عن المكاسب ساعة اقتسام المغانم (14: 14 ي). ثانيها: التسامح مع الضعيف واليتيم: أعطى لابن أخيه لوط أفضل الأرض المروية التي بدت كجنّة الرب (13: 10- 12). ثالثها: الكرم والضيافة التي ظهرت بشكل خاص عندما استقبل الرجال الثلاثة وأسرع في تهيئة الطعام لهم (18: 1 ي)، فقال فيه صاحب الرسالة إلى العبرانيين (13: 1- 2): أضاف الملائكة وهو لا يدري.
ويبدو ابراهيم رجل العهد مع امرأته الأميرة رغم كبر سنها. يأخذ برأيها مهما كانت الظروف (16: 2؛ 21: 10- 14)، ورجل التدين الذي يبني لربه مذبحاً أينما حلّ (12: 7- 8)، ويدعو باسمه، ويدفع العشور للكاهن ملكيصادق (14: 18). ويبدو ابراهيم أخيراً رجلاً مسالماً يتحاشى الخصومة مع ابن أخيه (13: 8) بشأن أرض يقيمون فيها، ومع امرأته بشأن اسماعيل (21: 10- 11)، ومع ابيمالك، ملك جرار (في فلسطين) بسبب آبار المياه (21: 22 ي).

2- ابراهيم الانسان الخاطئ
في العهد الجديد، ابراهيم هو رجل الايمان الذي دعاه الرب فلبّى الدعوة وسار وهو لا يدري إلى أين (عب 11: 8). ولكن نكتشف في سفر التكوين أن ابراهيم لم يكن باراً منذ البداية، بل صار كذلك بعد أن أدّبه الرب في طريق البر والصدق والطاعة، كما يؤدّب الأب ابنه، وعلّمه كما يعلّم الحكيم تلميذه.
يذكر لنا الكتاب أولاً أن ابراهيم كان مشركاً يعبد آلهة أخرى (يش 24: 2- 3) غير يهوه (الاله الذي هو) الذي تراءى له ودعاه إلى خدمته. ويلمّح ثانياً إلى أنه خان العهد مع الرب وحاول التملّص من أرض كنعان الجافة القاحلة، والتوجّه إلى أرض مصر الغنيّة بالماء (13: 10)، ناسياً أن الرب وعده بهذه الأرض هو ونسله (12: 7).
تزوّج ابراهيم مرة أولى بسارة (11: 29) فولدت له اسحق، ثم بهاجر (16: 1 ي) فولدت له اسماعيل، وأخيراً بقطورة (25: 1- 2) فولدت له أولاداً بعد اسحاق، ابن العهد. وهكذا تشبّه بلامك الذي اتخذ له امرأتين (4: 22 ي) متناسياً وصية الله منذ البدء (2: 24). أجل، خاف ابراهيم مرة أولى أن يرثه قيّم بيته، اليعازر الدمشقي (15: 2)، فاتخذ هاجر زوجة فولدت له اسماعيل (17: 18؛ 21: 11). وخاف مرة ثانية أن يموت اسحاق (22: 1 ي)، وارث الموعد، فاتّخذ له قطورة، وهكذا يأمن نوائب الدهر ويبقى له من يرث اسمه. ولكن أين هو هذا "المؤمن" من الايمان بوعد الله؟
بدا ابراهيم مع امرأته سارة رجل الدهاء الذي يحتال على فرعون (12: 11 ي) وعلى ابيمالك (20: 2 ي) لينجو بحياته، ولكن كذبه سينكشف أولاً وثانياً. غير أنه سيُفيد إفادة لا بأس بها، فيقول فيه الكتاب بمسحة من السخرية: صار له غنم وبقر وحمير وعبيد وجوار واتن وجمال (12: 16): باع امرأته لفرعون فأحسن فرعون اليه بسببها، وكذا فعل لأبيملك فأكسبه الغنم والبقر... وردّ عليه سارة امرأته (20: 14- 15).
وبدا مع أولاده منحازاً إلى اسحاق على حساب اخوته. ففي يوم فطام اسحاق صرف هاجر وابنها، فمضت وتاهت في البرية وكاد الصبي يموت لو لم يكشف الله لأمه بئر ماء فسقت ابنها (21: 8 ي). أجل، صرف ابراهيم اسماعيل فأقام بالبرية (21: 20)، وأبعد أبناء قطورة إلى الشرق (25: 6) لئلا يرثوا مع اسحاق (21: 10).

3- ابراهيم رجل الوعد
كان ابراهيم أرامياً تائهاً، ضالاً (تث 26: 5)، فسيّره الرب إلى أرض كنعان، وعلّمه طريق وصاياه. وهنا بدأت المغامرة التي سيُبرزها كل من التقليد اليهوهي والالوهيمي والكهنوتي.
يشكّل الوعد نصراً هاماً في التعليم الذي قدّمه التقليد اليهوهي، ولكن تحقيق الوعد تردّد فبدا وكأنه يتعثّر. ابراهيم هو وسيط بركة للشعوب، ولكنه يواجه إلهاً يتأخّر في تحقيق مواعيده، فصارع نفسه ليحيا إيماناً لا غبار عليه.
وعد الرب ابراهيم بأرض، ولكنه سلخه عن أرضه وأبعده عن قبيلة آبائه (12: 1). وعده بنسل كبير، ولكن امرأته عاقر لا ولد لها (11: 30). وجدّد الرب عهده مع ابراهيم الواصل إلى كنعان، ولكن ما زال الكنعانيون مقيمين في أرض الموعد (12: 6- 7). ضيّق الجوع على ابراهيم، فتخلّى عن أرض الموعد وانطلق إلى مصر معتبراً أن المجاعة أقوى من وعد الله (12: 10). وذهب إلى فرعون فأحسّ بالخطر يهدّد حياته، إلاّ أن الله أنقذه وباركه وحمى وارث الوعد بطريقة عجيبة. تهرّب ابراهيم، حامل الوعد، ولكن الله لم يتهرّب وواصل عمل الخلاص.
دبّ الخلاف بين رعاة ابراهيم ورعاة لوط، فترك ابن أخيه يختار ما يشاء من الأرض وهو العارف بالإيمان أن الأرض أرضه (13: 7 ي). حينئذ جدد الله له وعده وسار معه في طول البلاد وعرضها وكأنه يقيسها له. حاولت سارة أن تعمل بوسائل بشرية لكي يتحقّق وعد الله، ولكن ابن هاجر سيهرب إلى البريّة ويكون غريباً عن الموعد (16: 2- 14). أجل، سيكون للعجوزين ابن لأنه لا شيء مستحيل عند الله (18: 1- 16). ويتشفّع ابراهيم بمدينة سدوم فيدلّ على أن القسم الثاني من الوعد (أي تتبارك الشعوب بابراهيم) قد تمّ (18: 20- 33). ويحقّق الله ما وعد به فيولد اسحاق (21: 1) الذي سيزوّجه والده بابنة من قبيلته القديمة ولا يرضى له البتة أن يعود إلى أرام (أي شمالي سورية اليوم) فيتخلّى عن الأرض الموعود بها (34: 3- 6). وهكذا ظلّ ابرايهم أميناً لنداء الرب رغم كل شيء، فجعل نسله يبقى في أرض الموعد. وأتمّ حياته بفعل ايمان بالربّ الذي يحقّق مخطّطه: "الرب الله السماء الذي أخذني من بيت أبي ومن مسقط رأسي، والذي كلّمني وأقسم لي قال: لنسلك أعطي هذه الأرض، هو يرسل ملاكه أمامك (يكلّم ابراهيم وكيل أملاكه اليعازر) فتأخذ زوجة لابني من هناك" (24: 7).
لا شكّ أننا واجدون في هذه الأخبار اهتماماً في إظهار عظمة ابراهيم وقداسته. فابراهيم هو مثال المؤمنين في طاعته لنداء الرب الذي انتزعه من الأمم وحرمه من كل ما يشكّل الحماية والاطمئنان في عالم الشرق القديم. ونحن نقرأ من خلال اختبار أبي الآباء وتردّده وشكّه في وعد الله ما اختبرته الأجيال اللاحقة التي طُلب منها أن تبني إيمانها على الخيرات الآتية لا الزمنية. وأن تثق باختيار الله لبها في مخطّطه السري الذي يوجّه الأحداث. هذا هو اختبار الشعب القديم وهذا هو اختبار الكنيسة في مسيرتها إلى المدينة الثابتة (عب 13: 14) واختبار كل واحد منا: نؤمن بالربّ رغم كل شيء، ونحن متيقّنون أن الغلبة لنا بسبب إيماننا (1 يو 4: 4).

4- ابراهيم الرجل المؤمن
إن التقليد الالوهيمي يزيد على التقليد اليهوهي فيجعل ابراهيم المثال الكامل للمؤمن في شعب الله. إن قال ابراهيم إن سارة أخته فهو لم يكذب لأنها أخته من أبيه (20: 12). أما الملك ابيمالك فهو أفضل من فرعون: كان رجلاً باراً يخاف الله ولهذا لم يمسّ سارة (20: 4).
طلبت سارة من ابراهيم أن يطرد هاجر وابنه اسماعيل، ولكن هذا الأمر لا يروق في عيني ابراهيم وهو لم يجبها إلى طلبها إلاّ بناء على أمر الربّ له (21: 10- 12). وعندما يرسل ابنه وهاجر إلى البريّة يهيّئ لهما بيديه ما يحتاجان اليه (21: 14- 18).
قال الكتاب عن ابراهيم: "آمن بالربّ فحسب له ذلك براً" (15: 6). آمن بمخطّط الله وسلك معه بالاستقامة والصدق فحسب له الرب ايمانه ذبيحة رضي عنها. ويخبر الكتاب أن الله امتحنه. امتحن إيمانه عندما طلب منه ابنه ووحيده. أطاع ابراهيم أمر الله فدلّت طاعته على مخافة الرب في قلبه وعلى صفاء ايمانه. بعد هذه الطاعة الكاملة لم تعد الذبيحة ضرورية، ولذلك قال له الرب: "لا تمدد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً. فالآن عرفت أنك تخاف الله" (22: 11).
هنا نكتشف ابراهيم لا مثالاً للأنبياء وحسب (20: 7)، بل ولجميع المؤمنين بطاعته الكاملة لله. يروي الكتاب أنه قام باكراً وأكَّف حماره وشقّق الحطب وأخذ اثنين من خدمه واسحاق ابنه، وقام ومضى. مشى ثلاثة أيام لم يتلفّظ خلالها إلاّ بكلمة واحدة: "هنني" أي ها أنذا، نعم، لبيك" (22: 1). وحين سأله ابنه: "أين الحمل للمحرقة"؟ أجابه: "الله يرى الحمل للمحرقة يا بني" (22: 8). هذه الطاعة المثاليّة تكشف عن عمق تقوى ابراهيم وهي تجعل الربّ يباركه مباركة عجيبة. "بنفسي أقسمت. بما أنك فعلت هذا وما بخلت بابنك وحيدك، فأنا أباركك" (22: 16- 17).
أجل، لقد تجاوز ابراهيم محنة الايمان. أعطاه الله ابناً وأراد أن يسترده منه، فردّ إبراهيم للرب "ذاك الذي جُعلت له المواعد"، واعتقد أن الله قادر حتى على إقامة الأموات (عب 11: 17- 19). إن وعد الله عطاء دائم، وكما جعل اسحاق يعيش معطياً له حياة جديدة، سيجعل شعبه يعيش مهما كانت أبعاد المحنة التي يمرّ بها.

5- ابراهيم رجل العهد
يحدّثنا التقليد الكهنوتي عن عهد الله المجاني مع ابراهيم، وقد قال لمختاره: "سأعطيك عهدي" (17: 2)، "أقيم معك عهدي" (17: 7، 19، 20)، وهو عهد يجعل ابراهيم أباً لأمم كثيرة (17: 4) فيكثر نسله جداً وينمو كثيراً، ويتبدّل اسمه من ابرام إلى ابراهيم (17: 2- 6) وتصبح امرأته ساراي سارة، وهي من يكون منها أمم وشعوب وملوك (17: 16- 16). بهذا يصبح عهد الرب مع ابراهيم عهداً لا حدود له في الزمان والمكان، بل عهداً مؤبّداً (17: 13، 19) على مثال العهد مع نوح (9: 16) ومع موسى (خر 24: 7- 8) بانتظار العهد الجديد بدم يسوع الذي يراق من أجلنا نحن البشر (لو 22: 20).
بهذا العهد وعدَ الله ابراهيم بأرض كنعان له ولنسله. هذه الأرض الغريبة التي ظل فيها ابراهيم غريباً (17: 8؛ رج 28: 4؛ 36: 7) ستكون ملكاً مؤبّداً لشعب الله. وهذا العهد الذي به يملِّك الرب شعبه أرضاً، يخلق بين الله وشعبه علاقة جديدة بها يصبح الرب الله شعبه، الاله القريب، الاله الرحيم القائم وسط من اختارهم. وهذا الاختيار نعمة من الله مجانيّة، لا يصدُّها شيء ولا توقفها خطايا البشر مهما تكاثرت.
العهد مع ابراهيم يكفل اختيار الله لشعبه لأن الله لا ينسى مواعيده. قال موسى للرب يوم ضرب الشعب بعد حادثة العجل الذهبي: "اذكر ابراهيم واسحاق ويعقوب عبيدك الذين أقسمت لهم بذاتك وقلت لهم: اني أكثر نسلكم كنجوم السماء" (خر 32: 13- 14). واعتبر الكهنة أن الرب، رغم خطايا الشعب وما يحل بهم من عقاب، "يذكر عهده مع يعقوب واسحاق وابراهيم، فلا يخذل شعبه ولا يكرههم ولا يفنيهم ولا يفسخ عهده معهم" (لا 26: 42- 44).
لقد نقض الشعب عهداً قطعه الله مع موسى باسمهم، فاستحقّوا السبي والمنفى، ولكن عهد الله مع ابراهيم ظلَّ أبدياً لأن أب الآباء كان كاملاً في طاعته فجاءت هذه المواعيد نتيجة لطاعته. برّره الله بأعماله حين قدّم ابنه اسحق على المذبح، فصار إيمانه كاملاً بالأعمال فتمّ قول الكتاب: "آمن ابراهيم بالله فبرّره الله لايمانه ودعي خليل الله" (يع 2: 21- 23).

خاتمة
قالت التقاليد اليهودية عن ابراهيم: إنه خليل الله وصديقه (2 أخ 20: 7؛ أش 41: 8). وإنه عند الامتحان وُجد أميناً (سي 44: 20؛ 1 مك 2: 52). أما العهد الجديد فجعله أباً لجميع المؤمنين (روم 4: 11 ي). قال لنا نحن المسيحيين: "فاذا كنتم للمسيح، فأنتم نسل ابراهيم ولكم الميراث حسب الموعد" (غل 3: 29).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM