الفصل الخامس عشر: الطوفان بين بلاد الرافدين وعالم التوراة

الفصل الخامس عشر
الطوفان بين بلاد الرافدين وعالم التوراة

عندما نقرأ تك 1- 11، لا نعتبر نفوسنا أننا أمام مؤرّخين شهدوا أحداثاً حصلت في بداية العالم، بل أمام مؤمنين يتأملون في سرّ الله. لا ينطلق الكاتب الملهم من الماضي ووثائقه ليصل بنا إلى الحاضر. فلا وثائق بين يديه ولا معلومات دقيقة. بل هو ينطلق من الحاضر ويقرأه على ضوء كلمة الله ويُسقطه على الماضي. هكذا فعل حين حدّثنا عن خلق الانسان. انطلق من عائلته فحدّثنا عن أول عائلة على الأرض، كما عن آخر عائلة على الأرض. وحين حدّثنا عن الخطيئة، لم يشر إلى خطيئة محدّدة حصلت في هذا الوقت أو ذاك. ولم يقل لنا إن كانت الخطيئة التي حدّثنا عنها تعارض هذه الوصيّة أو تلك. انطلق من واقع الانسان الخاطئ الذي يريد أن يصير إلهاً. الذي يرفض وصايا الله. الذي يعتبر أن لا سلطة فوق سلطته. لهذا يستعبد الرجل المرأة، ويقتل الأخ أخاه... انطلق الكاتب من واقعه فوصل إلى قلب البشريّة، إلى جذور البشريّة وأصلها. وهكذا نقول عن الطوفان، اعتبر الكاتب أن جميع البشر خطأة ولهذا فهم يستحقّون الموت. فأخذ خبراً من عالم بلاد الرافدين، كما أخذ غيره حين تحدّث عن الخلق، وصفّاه بمصفاة الوحي والايمان بالاله الواحد ليعطينا لوحة هي مزيج من لوحتين على الأقل، تصل بنا مع نوح البار إلى بشريّة جديدة.
ويتوزّع حديثنا في ثلاث محطات: خبر الطوفان وكأنه خبر تاريخيّ يحدّثنا عن شرّ البشر والعقاب الذي استحقّوه. الطوفان على ضوء العلم مع المعنى الروحي للسفينة. وأخيراً، الطوفان يعرّفنا إلى وجه الله وعلاقته مع الانسان.

1- خبر الطوفان
هنا نقرأ النصّ في التقليدين اليهوهي والالوهيميّ، بعد إشارة سريعة إلى ملحمة غلغامش.

أ- الاساطير القديمة والكتاب المقدّس
خبر الطوفان في ملحمة غلغامش خبر بطل ذهب يبحث عن الحياة، عن شجرة الحياة. فقادته الطريق إلى جده المؤلّه "اوتا نافستيم" فأخبره بالكارثة التي حلّت بالبشريّة والتي نجا منها. هذا الخبر الذي يرويه أوتا نافستيم يرجع إلى خبر قديم بقيت لنا منه مقاطع في اللغة السومرية (قصة زيوسودرا) وأخرى في اللغة الاكادية (اتراحسيس، لقب اوتا نافستيم في ملحمة غلغامش).
بدأ الاله "ايا" فكشف بطريقة غير مباشرة عن مخطط الآلهة بالطوفان الآتي. بنى اوتا نافستيم السفينة (الفلك) في سبعة أيام، وجعلها سبع طوابق على مثال هياكل العراق (زقورات) وجعل فيها عياله وماله ونماذج من كل حيوان على الأرض. ولما حان الوقت المحدّد الذي أعلنه الإله شمش (أي الشمس)، دخل البطل السفينة وأغلق الباب وراءه... ويدوم الطوفان سبعة أيام، ثم يأتي الاله "انليل" على السفينة فيأخذ أوتا نافستيم (كما حدث لاخنوخ) وينقله إلى الفردوس مع امرأته.
عرف الكاتب الملهم قصة الطوفان كما روتها بلاد الرافدين وتناقلها البابليون والاشوريون والحثيون والحوريون، ودوّنها في نسختين تتّفقان في المعنى العام وتختلفان في التفاصيل. أما المعنى العام فهو أن الطوفان ليس وليد تصرّف الآلهة الذين تعبوا من ضجيج البشر الذي يمنعهم من الراحة، كما قالت الاساطير. سببُ الطوفان هو خطيئة البشر. فالكاتب يردّد هذه الحقيقة المرّة بعد المرة: رأى الربّ أن شر البشر قد كثر (6: 5). فسدت الأرض أمام الله (6: 11). امتلأت الأرض جوراً من أيدي البشر (6: 13). وها نحن نعود إلى التفاصيل.

ب- المقدمة: سبب الطوفان والقرار الالهي (6: 5- 13)
نبدأ فنقول إن الكاتب الاخير الذي جمع النصوص في ما نسميه اليوم التوراة قد جمع ما قاله التقليد اليهوهي (يسمّي الله يهوه أي الرب) وما قاله التقليد الكهنوتي الذي دوّنه الكهنة في القرن 6 ق. م. وهذا ما نكتشفه عندما نقابل بين النصوص ونرى ما فيها من ترداد.
في اليهوهي يبدو نوح رجلاً رضي الله عنه. "وجد حظوة" لدى الله الذي ملأه بنعمه (6: 8). في الكهنوتي نوح رجل كامل بار. سلك مع الله أي سار بحسب وصاياه. في الأول رأى يهوه شرّ البشر ولفت نظره نوح. في الثاني بدا أن الجميع يستحقّون العقاب وأن نوح البار لن يستطيع أن ينقذ الا عياله وبعض الحيوان لئلا تزول الحياة عن الأرض.

ج- بناء السفينة (7: 1- 5؛ 6: 14- 22)
يهمل اليهوهي (7: 1- 5) الحديثَ عن بناء السفينة وتهيئة المؤن والطعام. عدد الحيوانات في الكهنوتي (6: 14- 22) اثنان، وهو كاف لتتكاثر. أما اليهوهي فيجعلها سبعة أزواج: فالانسان سيأكل منها ويقدّم بعضها لله بعد الخروج من السفينة. لا يميّز الكهنوتي بين الحيوانات الطاهرة بحسب الشريعة والغير الطاهرة، فالتمييز سيتم في شريعة موسى. أما اليهوهي فيعتبر أن عبادة الرب وتقديم الذبائح حدثٌ قديم قدمَ البشريّة.
بنى نوح السفينة وجعلها ثلاثة طوابق. هكذا سيكون هيكل سليمان (1 مل 7: 1 ي). أما الملحمة "اتراحسيس" فستجعلها سبعة طوابق على مثال هياكل بلاد الرافدين. نلاحظ أولاً كيف أن الخلاص لا يتم بسفينة سحرية، بل بفضل بركة الله الآتية من هيكله. وهنا نفهم أن الخطيئة تقابلها الذبيحة التي بها نكفّر عن الخطيئة. أما القديس بولس فينظر إلى التكفير والخلاص قبل أن ينظر إلى الخطيئة، ينظر إلى المسيح المخلّص قبل أن ينظر إلى آدم الخاطئ. فلو نظر إلى آدم لأخذ به اليأس كل مأخذ. أما وقد نظر إلى المسيح، فقد فهم أن الخطيئة تزول وكذلك الموت، وأن نعمة الله تفيض على البشر خاصاً وحياة.
ونلاحظ ثانياً كيف أن الكتاب المقدّس نقل ما قالته الاساطير من إطار هياكل العراق إلى اطار الهيكل الواحد المبني في أورشليم. وترك كل ما يشتم منه رائحة الآلهة المتعدّدة. فالعبراني كما قلنا لا يعرف الا الله الواحد ولا يعبد سواه الهًا رغم امتزاجه بالامم الوثنية.

د- الدخول إلى السفينة (7: 6- 17)
هنا يمتزج التقليد اليهوهيّ مع التقليد الكهنوتي. جعل الكهنوتي الطوفان يمتدّ سنة كاملة. ينقلب عالم خاطئ ويبدأ عالم جديد في بداية سنة جديدة. أما اليهوهي فاتّبع التقاليد الاكادية وجعل الله ينتظر سبعة أيام قبل أن يبدأ الطوفان، فأعطى الانسان الوقت الكامل ليعود إليه بتوبة صادقة، ثم جعل الطوفان يمتد أربعين يوماً، وهو عدد سيرمز في بني اسرائيل إلى زمن المحنة التي تسبق زمن التوبة واللقاء بالرب.

هـ- الكارثة (7: 17- 24)
جعلت الاساطير الطوفان يمتدّ سبعة أيام وسبع ليال، وهو عدد الكمال، فدلّت على عظمة غضب الآلهة الذين نووا إفناء البشريّة. أما اليهوهي فجعله يدوم أربعين يوماً على مثال الاربعين السنة التي أقام فيها شعب الله في البرّية عقاباً لهم على كفرهم. والكهنوتي جعل الطوفان يمتدّ خمسة أشهر أي 150 يوماً، وحدّثنا عن الجبال كما في النصوص القديمة ليدل على أن لا أحد يفلت من غضب الله، ان صعد إلى الجبل أو نزل إلى أعماق المياه (مز 139: 1 ي).
في الاساطير القديمة نقرأ أن الآلهة أنفسهم هربوا من شرّ الطوفان لأنهم ارتاعوا من غضبة المياه الغامرة، أمّا في الكتاب المقدّس، فالخبر بسيط جداً، وهو مجرد من كل الصور الملحمية: هلك كل من في أنفه نسمة حياة. والفاعل الاكبر هو الله. قال فكان كل شيء، قال فزال كل شيء. بيده كتب مصيرَ البشر، وبيده محا كل حيوان وانسان عن وجه الأرض. قدرته لا حدود لها. هو يحيي وهو يميت، هو يرفع إلى أعلى السماوات وهو يحدر إلى أعماق الجحيم.

و- نهاية الطوفان (8: 1- 13)
ويحدّثنا الكهنوتي بطريقته "العلمية"، فيجعل السفينة تستقرّ على جبل اراراط (اوراراتو كما يقول الاشوريون) وهو أعلى جبل عرفه العبرانيون. دام الطوفان 150 يوماً، ولم تظهر قمم الجبال الا بعد سبعين يوماً. توقّف الطوفان ليلة السبت في الاسبوع الذي يلي عيد المظال، في الخريف (لا 23: 34). وجفّت الأرض في بداية السنة الجديدة. نلاحظ هنا المعنى الديني لاسطورة قديمة أخذ الكتاب الملهم بأسلوبها المصوّر وطعّمه بروح الله وكلمته.
واتّبع اليهوهي النصوص القديمة التي جعلت السفينة تتوقّف على جبل نزير أو نصير. أرسل اوتا نافستيم الحمامة ثم السنونو ثم الغراب ليتأكّد أن الأرض قد جفّت. وهكذا فعل نوح الذي أرسل الغراب مرّة فما عاد. إنه رمز الموت والفناء. وأرسل الحمامة مرّة ومرتين وثلاثة، وانتظر بين المرّة والمرّة سبعة أيام. وكأني به قضى هذه الأيام السبعة في الصلاة. أو كأن الله أراد أن يكوّن الأرض من جديد، لا في أسبوع واحد بل في ثلاثة أسابيع. ومهما يكن من أمر، فالحمامة عادت في المرة الثانية وفي فمها ورقة زيتون وهذا التفصيل خاص بالكتاب المقدّس، وأرض كنعان أرض الزيتون. أجل، عادت الحياة إلى الأرض والبركة إلى الانسان، فلا خوف من الموت بعد.

ز- الخروج من السفينة (8: 13- 9: 7).
وانتهى الطوفان، وانتهى زمن الكارثة. الله يعاقب ساعة، ولكنه يرحم إلى الأبد.
في اليهوهي، بعد أن خرج نوح من السفينة، بنى مذبحاً وقدّم عليه محرقة للربّ. في الاساطير القديمة اقتربت الآلهة من رائحة اللحم. أما في الكتاب المقدّس فبقيت الصورة رفيعة، وعبّرت عن رضى الله. اذا كان الانف مركز الغضب، فالرائحة التي تدخل الانف تزيل الغضب. ولهذا يقول الكتاب: تنسّم الرب رائحة الرضى (8: 21).
غضب الربّ فكاد الكون يزول من الوجود. رضي الرب فعاد كل شيء إلى ما كان عليه في الماضي. عامل الله البشر بالرحمة، وهو العالم بأن أعماق قلوبهم شريرة. أقسم أنه لن يعود يلعن الأرض التي ستعرف تعاقب الفصول. ماذا تكون حالة الفلاح العائش في أرض كنعان اذا انقلب الصيف شتاء والشتاء صيفاً؟ بدأ الطوفان في الشهر الثاني أي في نيسان (7: 11)، وهذا لن يكون بعد اليوم.
في الكهنوتي نقرأ أن نوحاً خرج من السفينة يوم الاربعاء، وهو اليوم الذي فيه خلق الله النيّرين (1: 16)، أي الشمس والقمر، ونظّم تعاقب الليل والنهار. أجل لقد بدأ نظام جديد في الكون على مثال النظام الاول. قال الله للناس: انموا واكثروا (1: 28). وها هو يردّد القول ذاته (9: 1). زاد الرب بضع شرائع. الاولى: سمح للانسان أن يأكل لحم الحيوان (9: 3) بعد أن كان أعطاه في الماضي عشب الأرض وثمار الشجر (1: 29). وستأتي شريعة موسى فتحدّد الحيوان الذي يمكن المؤمن أن يأكله (حيوان طاهر) والحيوان الذي لا يمكن أن يأكله (حيوان نجس). سيقول الربّ بلسان موسى: هذه هي الحيوانات التي تأكلون لحمها (لا 11: 2).
الشريعة الثانية: لا تأكل لحماً بدمه (9: 4). فالدم مركز الحياة، والحياة مُلك الله. وسينظَّم سفك دم الذبيحة فيما بعد: يراق الدمُّ على المذبح مركز حضور الله. كما أن التراب (والحيوان هو من التراب) يعود إلى التراب، كذلك نفس الحيوان ونسمة الحياة التي وضعها الله تعود إلى الله بشكل سكيب على مذبح الله. الشريعة الثالثة: من سفك دم الانسان فدمه يُسفك (9: 5- 6). دم الحيوان يطالب به الرب، فكم بالاحرى دم الانسان. الانسان مصنوع على صورة الله فكيف يلغي الانسانُ صورة الله حين يقتل أخاه قتلاً؟ وهكذا يستعيد الكاتب الملهم "شريعة الانتقام" التي نادى بها لامك (4: 23 ي) بانتظار أن ينظّمها موسى فيحفظ حق الانتقام بوليّ الدم. لن نعجب من هذا التشريع، والبشرية لم تتقدّم بعد كثيراً في هذا المضمار، رغم قصور العدل وتكاثر القضاة وأساليب الردع. سنحتاج نحن اليوم إلى بعض الوقت لنجعل شريعة المسيح في مجتمعنا، فكم بالاحرى أبناء الاجيال العابرة.

ح- العهد بين الله ونوح (9: 8- 17)
نقرأ هنا نصّ الكهنوتي الذي يقول شيئاً ويردّده ليُدخله في آذان سامعيه وقلوبهم. هو يعد الانسان بنظام كوني لا يتبدل فيعود بالبشرية إلى الموت، بل يذكرنا أن العالم هو صالح أصلاً لأنه خليقة الله، وأن الخطيئة وضعت فيه ما فيه من فساد. ولكن بعد الطوفان، سيدشّن الله تاريخاً يبدو فيه لطفه من خلال عهد يقيمه مع الانسان. العهد عطيّة من قبل الله، وهو عطيّة مجانيّة، لأن الانسان الخاطئ لا يقدر أن يعطي الله شيئاً. كل ما يطلب الله من الانسان هو أن يسمع لوصاياه ويعمل بها. وعهد الله وعدٌ، علامته مكتوبة في السماء والانسان يراها. قوس القزح هي علامة عهد الله مع الانسان وهي تدل على بسمة رضى من الرب بعد العاصفة التي كانت علامة غضبه.
وعهد الله مع نوح لن يكون آخر عهد بين الله والانسان. فهناك عهده مع ابراهيم (17: 1 ي) وكانت علامته الختان. ثم عهده مع موسى في سيناء حيث يحضر الله في شعبه عبر مسكن يبنونه له، وكهنة يقومون بشعائر العبادة.
هنا نترك الاساطير القديمة التي تجعل الانسان بعيدًا عن الله، ونتعرّف إلى تاريخ مقدّس هو تاريخ علاقة الله بالناس الذي ستكون قمته "عمانوئيل". حينذاك يكون الله معنا في شخص يسوع. أجل، في آخر الزمان، صار الكلمة بشراً وسكن بيننا فأبصرنا مجده (يو 1: 14). في آخر الزمان كلّمنا الله بابنه الذي هو بهاء مجد الله وصورة جوهره (عب 1: 2- 3).

2- بين العلم والايمان
هنا يتوجّه كلامنا في خطّين. نحاول في الخطّ الأول أن نتعرّف إلى الطوفان من الناحية العلميّة. وفي الخطّ الثاني نكتشف معنى "السفينة" (أو: الفلك) التي هي خشبة خلاص لنوح ونسله، وبداية حياة للبشريّة كلها.

أ- من قايين إلى الطوفان
بين أول خطيئة يقتل فيها الأخ أخاه، وبين أمواج الشرّ والعنف، مرَّت سنوات وأجيال. بين عقاب قاساه قايين فنبذته الأرض، وبين عقاب جماعي أصاب البشريّة كلها لأن جميع البشر خطئوا، الطريق طويلة وهي تقودنا إلى الهاوية. لأن الطريق المؤدي إلى الهلاك رحب، والسالكون فيه كثيرون (مت 7: 13).
قال آدم، "كلاّ" للرب، لكنه خاف واختبأ بين أشجار الفردوس لئلا يقع نظره على نظر الرب (3: 8). وقال قايين "كلاّ" للرب وظل معانداً مكابراً: لست حارساً لأخي (4: 9). أما في زمن الطوفان فانتشرت الخطيئة وملأ الشرّ قلبَ الانسان. كان هناك ابناء الله، كان هناك جيل الذين يهمّهم الدعاء باسم الربّ والعمل بوصاياه. ولكن جاء وقت امتزج ابناء الله العاملين بأمر الله، بأبناء البشر الذين يسيرون بحسب شرائع البشر التي عبّر عنها لامك عندما تزوّج فتعدّدت زوجاته، وانتقم فما جعل حداً لانتقامه. وهكذا زال شعب الداعين باسم الرب ما عدا نوحًا وبنيه.
بانسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت، فمات الانسان وعاد إلى التراب. ولكن حين خطئ جميعُ الناس عمَّ الموت جميعَ الناس (روم 5: 12- 13). خطئ الانسان الأول فطُرد من الفردوس وما عاد يحقّ له أن يقترب من شجرة الحياة وينعم بالخلود. ولكن حين خطئت البشرية كلها، وامتلأت الأرضَ جوراً وفساداً، سيطرد الربّ كل البشر من الأرض ويحدرهم إلى الجحيم، مثوى الاموات. هذا ما فعل بشعبه في البرية. تمردوا عليه كلهم فقال: لن يدخل أحد منهم أرض الميعاد. فظلّوا يتيهون أربعين سنة في البرية حتى مات جميع العصاة. وهذا ما فعل بجيل الطوفان. لم يكن باراً الا نوح وعياله، فما نجا من الموت الا نوح وعياله. تلك كانت شريعة المجازاة يوم لم يكن المؤمن يعرف أن المجازاة الحقيقية تتمّ بعد الموت، وإن تكن بعض مجازاة في هذه الحياة يعرف الله أن يعطيها غير عامل بحسب حسابات البشر.

ب- حدث الطوفان
ماذا يقول العلماء في حدث الطوفان؟ قالوا: في زمن من الازمنة، مرّت على الأرض موجة من الحرّ، فأذابت الثلوج وأحدثت الفياضانات العديدة، وهذا ما يفسّر أن يكون حدث الطوفان قد دوّن حتى في بلاد الهند وأميركا الجنوبيّة. وهذا الذي حدث في زمن من الازمنة والذي لم يتّفق العلماء بعد على تاريخه، ظل عالقاً في أذهان الناس، وكانوا كل ما فكروا فيه تذكروا عذابات البشرية ومخاوفها. ونحن اليوم لا نزال نخاف من طوفان من نوعٍ آخر هو حرب نووية لا تبقي على شيء، وكل هذا بفعل الانسان الخاطئ.
ولكن ما نقرأه في الكتاب المقدّس يبقى مرتبطاً بما حدث في بلاد الرافدين. فالحفريات التي قام بها علماء الآثار دلّت على أن فيضاناً حصل حوالي سنة 3500 ق. م، فغمر أرضاً سهليّة تمتد على ستة مئة كلم طولاً ومئة وخمسين عرضاً، وتركت وراءها طبقة من الاتربة التي خلّفها الفرات والدجلة. هذا هو الواقع. أما الكاتب الملهم فضخّم الخبر، وجعل المياه تغمر جبل اراراط الذي يرتفع إلى 4355 متراً عند اشميازين، وإلى 5157 متراً في أعلى قممه.
إذًا نحن أمام كارثة محليّة تمَّت في وقت من الاوقات، إلاّ أن الكاتب الملهم جعلها في بداية الكون وعمّمها على البشرية كلها. لم يُغمر جزءٌ واحد من الأرض، بل غُمرت الأرضُ بكل أجزائها. لم تهلك قبيلة من قبائل الأرض، بل هلكت كل قبائل الأرض. كأنّي به يقول لنا ما قاله الانجيل: إن لم تتوبوا، فكلُّكم هكذا تهلكون (لو 13: 3). خطئت سدوم وعمورة فأُحرقتا (19: 24)، وخطئت البشرية كلها فكان مصيرها الهلاك. ذاك هو اختبار شعب الله بعد دمار السامرة سنة 722 ق. م. ودمار اورشليم سنة 587 ق. م. ما حدث لبني اسرائيل لأنهم خطئوا سيحدث لبني موآب وعمون وصيدا وصور، بل سيحدث لجميع البشرية، لأن الله القدوس لا يطيق رؤية الخطيئة. فلا يبقى أمامنا إلاّ التوبة والعودة إلى الرب. وهو الرحيم يستعدّ ليرجع عن غضبه، فيرأف بنا ويستر لنا ذنوبنا وآثامنا، ويطرح في أعماق البحر جميع خطايانا (مي 7: 19).

ج- سفينة نوح
وأمر الربّ نوحاً أن يصنع سفينة طولها 300 ذراع أي 150 متراً، وعرضها 50 ذراعاً أي 25 متراً، وعلوها 30 ذراعاً أي 15 متراً. هذا يعني أن مساحتها تساوي سبعين الف متر مربّع تقريباً، وهو رقم خيالي. أما ذكر جيل اراراط فهدفه أن يُدخل الخبر في حيّز الواقع. نحن لن نبحث عن بقايا نوح وسفينته لا في "ارجيده" أي جبل الفلك كما يقول الاتراك، ولا في "كوك اي نوح"، أي جبل نوح كما يقول الايرانيون فيدلّون بذلك على منطقة أرمينيا. أما الذين حاولوا أن يصعدوا إلى جبل اراراط فما كتب عنهم الصحافيون بقي للاستهلاك المحلي.
لا شك أنه كان فيضان، ولا شك في أن رئيس قبيلة نجا مع أهله من الهلاك وعاد يبني قرية ويزرع أرضاً، ولكن هل نجا بواسطة سفينة أم لا؟ هذا أمر ثانوي. كم كانت قياسات السفينة؟ هذا ما لا يعرفه أحد. ولكن ما نستطيع أن نؤكّده هو أن السفينة لم تكن بهذا الاتساع، وانها لم تحو هذه الحيوانات المتنوّعة مهما حاولت الصور السينمائية أن تصوّرها لنا.
ونحن لن نبحث في خبر الطوفان عن معلومات تاريخية، أكان ذلك في أساطير الشرق أو الكتاب المقدّس. ما سنبحث عنه هو الفوارق بين النصوص الشرقية ونصوص الكتاب المقدّس. أراد الآلهة أن يستريحوا من ضجّة البشر. أما الله الواحد فيريد أن يكون بقرب البشر الذين خلقهم على مثاله وما يزعجه هو أنهم شوّهوا الصورة التي رسمها فيهم. في الرواية الاشورية غضب الإله إنليل لأن السفينة حملت البطل ونجَّته من الطوفان بفضل تدخل الاله أيا الذي أفشى سرّ الآلهة. أما الاله الواحد فافتخر بنوح كما سيفتخر بابراهيم وغيرهم لانهم أبرار وسلكوا في طريق وصاياه. بنوح ستكون بشرية جديدة، وبابراهيم شعب جديد.
في الكتاب المقدّس ستبدو كارثة الطوفان نموذجاً لعقاب الله الذي يصيب البشرية الخاطئة ويدلّنا على أن الانسان كائن مسؤول عن أعماله. إن أطاع شملته بركة الله، وإن لم يطع كلام الله ويحفظ أوامره ويعمل بها، يكون ملعوناً في المدينة وفي الصحراء. ويكون ملعوناً معجنة وثمر بطنه ونتاج بقره (تث 28: 15 ي). الله هو من يحكم على التاريخ البشري، لا الانسان، وحكمُه يرتبط بخطيئة الانسان. هذا ما يوضحه النص (6: 5- 11): كثُر شرّ الناس، فندم الرب أنه عمل الناس وتأسّف فقال: أمحو الانسان الذي خلقت. وستدلّ الرسالة إلى الرومانيين على أن غضب الله معلن من السماء على جميع إثم البشر ونفاقهم (روم 1: 18). ولكن هذا التشاؤم يقابله وعد الله بتعاقب الفصول بنظام (8: 22)، وعهده بأن يسير التاريخ نحو الخلاص (9: 1 ي). هذا ما نقرأه أيضاً في روم 3: 21- 26: الجميع خطئوا فحُرموا مجد الله ولكنهم يتبرّرون بالنعمة مجاناً، وبالخلاص الذي بيسوع المسيح. إذًا لم يترك الرب البشرية بين يدي أقدار عمياء رغم الخطيئة المسيطرة. والتاريخ هو موقع يكشف فيه الله عن خلاصه للبشر. والمحن التي تصيب البشر والتي ترتبط بدينونة الله ليست الكلمة الاخيرة التي يقولها الله، ان هي الا محطة مؤقتة وعابرة. ففي صليب المسح سنكتشف معنى ما يحلّ بنا من مصائب، وسنفهم أن آلام هذا الدهر لا تقاس بما ينتظرنا من مجد في يسوع المسيح.
في هذا الاطار تأخذ سفينة نوح معنى جديداً على ضوء ما قالته نصوص العهد الجديد وشروح الآباء. فرسالة بطرس الأولى (3: 18- 21) تقابل بين الطوفان والمعمودية: فالمسيح أيضاً مات مرة واحدة عن خطايانا... وبشّر الانفس التي كانت في حوزة سجن الجحيم، اولئك الذين لم يطيعوا قديماً على أيام نوح، حين أطال الله روحه، وأمر بصنع السفينة، على أمل أن يتوبوا. فما صعد اليها سوى ثمانية أنفار، فنجوا من الماء. وانتم أيضاً، على مثال ذلك، في المعمودية نجيتم لا بفساد الجسد من الدرن، ولكن باعترافكم بالله... أجل، الطوفان صورة عن المعمودية. كما أن البشرية الخاطئة امّحت بحكم الله بواسطة الماء. وكما أن باراً واحداً نجا فكان باكورة بشرية جديدة، كذلك الانسان القديم يفنى في سرّ الماء، والذي يصعد من جرن العماد هو خليقة جديدة.
ونتعرّف عند الآباء إلى رمز آخر: سفينة نوح تمثّل الكنيسة. يقول ترتليانس، خطيب قرطاجة: من ليس في السفينة لا يمكن أن يكون في الكنيسة. وقال القديس قبريانس أسقف قرطاجة: ابان القديس بطرس أن الكنيسة واحدة وأن الذين هم فيها ينجون. نجا من الموت الثمانية الذين كانوا في السفينة وهذا ما تفعله المعمودية لكم أيها المؤمنون.

3- وجه الله وعلاقته بالانسان
حين نقرأ خبر الطوفان نؤخذ بالخبر ونفرح بخلاص "البطل". أو نعتبُ على الله الذي أفنى البشريّة إذا قرأنا النصّ قراءة حرفيّة، فننسى أن الحرب العالميّة الثانية خلّفت وراءها ستين مليوناً ونيّف من الموتى. في الواقع، ما يريد الكاتب أن يبيّنه هو وجه الله الذي يعاقب ويرحم. الله الذي يعرف أن ينطلق انطلاقة جديدة مع البشرية، بل مع كل واحد منا.

أ- الطوفان صورة عن عالم نعيشه
الطوفان سطرة جاءتنا من بلاد الرافدين وأعاد صياغتها الكاتبُ الملهم. حملت الينا اختبارات محلية عديدة أجملها كاتب قديم في خبر نموذجي دُوِّن في الالف 3 ق. م. وهذا الذي نقوله يجد أساسه في حفريات اثرية تمت في أور وكيش وفي غيرهما من أماكن في بلاد الرافدين السفلى. فقد وجد العلماء في هذه الامكنة طبقة ترابية طمرت مدنًا متطوّرة. وهنا نفهم أن مثل هذه الكوارث قد ضخّمتها المخيلة الشعبية فوصلت إلينا بشكل اسطورة عن طوفان عمَّ الكون كله ولم يقتصر على فيضان محلي لنهر دجلة أو الفرات. وانطلقت الاسطورة من سومر وأكاد في بلاد الرافدين، فوصلت إلى بلاد اليونان (يحدّثنا أوفيد الشاعر عن الطوفان في كتابه عن تبدل الاشكال) والهند (في البرهمانا، مانو الرجل الاول هو بطل الطوفان). ومن الهند انتقلت الاسطورة إلى أندونيسيا وجزر الباسيفيك. وفي إطار تعدّد الآلهة، تلوّنت الاسطورة بالميتولوجيا، وتدخّل الآلهةُ في مصير البشر، فمنهم من ضرب ومنهم من حاول رد الضربة. منهم من لجأ إلى الغضب، ومنهم إلى الرحمة أقله لأخّصائه، وهنا امتزجت الخرافة بالاسطورة.
والطوفان قصة تنقل اختبار البشرية كلها، وتلوّن مخيّلتها بقلق على مصيرها. هل يسير الكون إلى الحياة أو إلى الموت؟ وهل الكوارث الكونية أمر لا بدّ منها أكانت فيضانات تحمل خطر الماء، أو براكين تحمل النار، أو هزات أرضية تجعل الأرض تفتح فاها لتيتلع الساكنين عليها فتعيد البشرية إلى العدم؟ مثل هذه الاختبارات تولِّد خرافات تنطلق من الخطر الجاثم على صدر البشرية. ومن المعقول أن يكون وراء اسطورة الطوفان المحلية، خرافة عرفتها مجموعات بشرية، وأخذ بها الكاتب الملهم فأعادها إلى الماضي السحيق وأبرز فيها صراع الله مع قوى المياه الغامرة، قوى الخلق بوجه الفوضى الاولى، وكلنا يعرف مدى الدمار الذي تلحقه المياه بالأحياء.
أسطورة وخرافة. فالطوفان خبر أخذ به الكاتب الملهم فأعطاه بُعدًا شاملاً وعبَّر به عن اختبار البشرية في كل زمان ومكان: الانسان يصارع قوى الكون التي تبدو أقوى منه لولا قدرة الله. ولكن هناك من يتّهم الله بحسده للانسان كما كانوا يقولون في الماضي. أو يتّهم ضعف الله وعدم اهتمامه أو غيابه كما يقول بعض "الفلاسفة". لن نناقش هذا الموضوع، ولكننا نكتفي بالقول إن الكتاب تطرّق إلى أسطورة الطوفان باسلوب ميتولوجي وأبعد عنها كل ما يشتم منه تعدّد الآلهة، كما أنه فسَّر تاريخ الكون على أنه تاريخ الخطيئة فرأى في الطوفان كما قلنا نموذجاً عن عقاب الله. ولكن رغم الخطيئة، فالله يريد من التاريخ أن يتابع مسيرته، ومن الخلاص أن يعمّ البشرية كلها. فالكون الذي يعيش ألم المخاض ينتظر أن يُعتق مع الانسان من الشرّ والخطيئة والموت.

ب- وجه الله
نظرة أولى ترينا وجه الله كوجه الانسان. فكما رأيناه يتمشّى مع آدم، ويتحدّث إلى قايين، ويقول ويصنع، ها نحن نتعرّف إلى عواطفه: أسف وندم حين رأى شرّ البشر يتزايد يوماً بعد يوم، عزم على معاقبة الخاطئين وانقاذ الابرار. نقرأ هذا فننسى أننا أمام الله الذي يعرف كل شيء. أتراه أُخذ على حين غفلة لما رأى شرّ البشر، فندم لأنه صنعهم. تلك هي طريقة البشر في الحديث عن الله القريب من البشر. وسيأتي يوم نتعرّف فيه إلى الله من خلال طفل بين أطفالنا وشاب بين شبابنا، يوم صار الكلمة جسداً وحلَّ فينا وسكن بيننا (يو 1: 14).
مثلُ هذه الصور تحطّ من قدر الله وقيمته، والكاتب الملهم عارف بعظمة الله التي لا تحدّها السماء ولا سماء السماوات. مثل هذه الصور مبنيّة على القول بأن الله أزلي وهو عارف بكل شيء، ولكنه يضع نفسه على مستوى الانسان، أو هو الانسان يريد أن يعبّر على أن الخطيئة تغيظ الله، فيتصوّر الله أباً لا يرضى عمّا يفعله ابنه فيعاقبه. مثل هذه الصور تدلّ على أن كلماتنا لا تستطيع الإحاطة بسرّ الله، ولهذا نتحدّث عنه بلغتنا فندل على أنه الاله الحي الفاعل الذي نشعر بالسعادة معه إن عملنا مشيئته وبالتعاسة إن ابتعدنا عنه وأدرنا وجوهنا عن وصاياه.
وجه الله وجه قدوس ولهذا لا يريد أن يرى الخطيئة. وجهه وجه نور فكيف تُراه يرضى بالظلمة؟ وجهه وجه الحق فكيف يقبل أن نكون من حزب الشيطان أبي الكذب؟ فإذا أردنا أن "نعرف" الخطيئة ونعيش في الظلمة ونستسلم لسلطان الكذب، كانت لنا الظلمة البرانية والبكاء وصريف الاسنان. كيف نستطيع نحن المخلوقون عنى صورة الله ومثاله أن نتمثّل بالشيطان عدو الله (6: 11) ونعدّ أنفسنا أبناء الله؟ هذا مستحيل.
البشرية خاطئة وهي تستحق الهلاك، ولكن نوحاً رجل بار، وقبله هابيل وشيت، وأنوش وأخنوخ. وسط عالم خاطئ هناك وجوه بارة. وسط سدوم هناك لوط، وأمام شرّ عمورة يرتفع وجه ابراهيم المتشفّع باسمه وباسم "عشرة أبرار" من أجل خلاص مدينة بكاملها. ونجا نوح ونجت معه عائلته، لأن الله، وإن كان إله الرحمة، فهو أيضاً الاله العادل الذي يجازي كلاً بحسب أعماله. ونجا لوط وعائلته، أو بالاحرى ابنتاه، لأن صهرَيه فضّلا العيش في سدوم الخاطئة والموت في النار والكبريت على الحياة في مدينة صغيرة لا تحمل شيئاً من مباهج الحياة. ومعاصرو نوح رفضوا السماع لكلام الرب، فظلّوا يفعلون كما في الماضي. يأكلون ويشربون، يزوّجون ويتزوجون إلى يوم دخل نوح السفينة وما كانوا ينتظرون شيئاً حتى جاء الطوفان فأغرقهم كلهم. وهكذا يحدث عند مجيء الانسان (مت 2: 38- 39). فهل سنكون مستعدّين لمجيئه لأن الطوفان يمكن أن يأخذنا على حين غفلة؟
كان عقاب الله يوم الطوفان مريعاً: كل من في أنفه نسمة حياة هلك... وكان ذاك أول حكم لله على العالم فجاء مرعبًا، ورمز إلى واقع ننتظره في آخر الازمنة: إن شدّة العقاب الالهي الذي رأيناه في الطوفان، هي صورة مسبّقة عن العقاب الابدي الذي ينتظر الخطأة الذين يقسّون قلوبهم ولا يرجعون إلى ربهم. قال يسوع: الآن بدأت دينونة هذا العالم. والآن هو كل وقت، فهل نكون مستعدين لهذه الدينونة؟
لا، لن نستطيع أن نستهين بمحبة الله الذي قال: لي الانتقام وأنا أجازي. لا لن نستطيع أن نستهين بمحبة الله دون أن نجعل نفوسنا بعيدين عنه. وإذا رفضنا الله بقساوة قلوبنا، فهو سيرفضنا بعد أن تكون نعمته فعلت المستحيل وما وصلت إلى نتيجة. حرّيةُ الانسان وحدها تقف بوجه قدرة الله، فلا نقسّي قلوبنا. لأن الله سيجبَر على معاقبتنا لانه لن يقبل أن تبقى الخطيئة بلا عقاب. إذا أردنا أن نتخلّص من خطايانا خلّصنا الله، أما إذا تعلّقنا بخطايانا فستجرّنا خطايانا إلى العذاب الابدي.

ج- عهد الله مع نوح
كانت كلمات الرب لنوح صدى لتلك التي قالها لآدم: انموا وأكثروا واملأوا الأرض. كان آدم أبا البشرية الاولى إلى زمن الطوفان. وسيكون نوح أبا البشرية الثانية بعد زمن الطوفان. بآدم حل شقاء روحي على البشر، وبنوح بزغ فجر علاقات جديدة من الصداقة بين الله الامين الذي لا يمكنه أن ينكر نفسه وبين البشرية الخاطئة كلها. إن آدم يتضمّن في شخصه كل البشر، كذلك لا يمثّل نوح نفسه فقط، بل يمثّل البشرية كلها في لقاء جديد مع الله على طريق الخلاص... وهكذا وصلت صداقة الله إلى ابراهيم ابي جميع المؤمنين، بل إلى المسيح ابن داود ابن ابراهيم الذي سيجمع البشرية كلها ويقدّمها لله الآب في جسده السري.
دور نوح عظيم في تدبير الله الخلاصي، وسيشبّه الآباء القديسين نوحاً بيسوع المسيح. هذا هو المعنى الديني الذي أراده الكاتب الملهم عبر الصور والتشابيه، ومن خلال الاسطورة والخرافة التي استقى منهما. ولكننا لن نقول إن نوحا وأولاده هما "بالفعل الزواجي" آباء جميع شعوب الأرض. فنوح هو من هذا الشرق أو هو من منطقة صغيرة من هذا الشرق، لاسيّما وأن الطوفان كما قلنا، كان كارثة حلّت في منطقة من بلاد الرافدين ولم تصب الكون كله. لهذا لن نحاول أن نستخلص نتائج علمية من نصوص كُتبت في زمن معيّن لتقدّم تعليماً دينياً يصلح لكل زمان. انتشر ابناء نوح في هذا الشرق، وقبلهم انتشر الناس في أصقاع الأرض، وهذا ما يفسّر أن أهل الصين واليابان وبعض القبائل الافريقية لم يحدثونا عن الطوفان. لان انتشارهم في الكون سابق لحدث الطوفان، أقله كما يذكره الكاتب الملهم نقلاً عن أساطير بلاد الرافدين.
يبقى أن نقول إن نوحًا هو رمز الخليقة الواعية لشقائها وخطيئتها، وهو أيضاً رمز إلى الرجاء الذي يدفعنا إلى الثقة بالله. نوح هو كل واحد منا حين نتقبّل بالشكر عطايا الله وندخل في مخططه فيغمرنا بنعمه. وخاتمة القول: إن الله يريد أن يخلص جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق (1 تم 2: 4). إن الله لا يريد هلاك الخاطئ.

خاتمة
ذاك هو خبر الطوفان ومعناه في إطار الشرق ومدلوله اللاهوتيّ. سيذكره يسوع في إنجيله فيحثّ سامعيه على السهر. وسيذكره القديس بطرس في رسالته الأولى بمناسبة الحديث عن المعمودية (3: 20)، وفي رسالته الثانية في كلام حول نوح ذاك البار الذي نجا مع عياله من الموت (2: 8).
موضوع الماء معروف كعالم الشرّ والموت. وموضوع السفينة يدلّ على النجاة. انطلق الكاتب الملهم من هذين الموضوعين فوصل إلى تعليم حول الخطأة الذين يستحقّون العقاب، وإلى تعليم حول الأبرار الذين يستطيعون أن يتشفّعوا بإخوتهم على ما فعل ابراهيم بالنسبة إلى سدوم وعمورة. ولكن في النهاية، يسوع هو المخلّص الوحيد وهو يفتدينا بخشبة الصليب من الهلاك الآتي.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM