الفصل الرابع عشر: مسيرة البشريّة

الفصل الرابع عشر
مسيرة البشريّة

حين خلق الرب الرجل والمرأة، قال لنا: انموا واكثروا وأخضعوا الأرض. ونمت البشرية منذ أول عيلة على الأرض. إلى هذا توصّل العلماء اليوم فقالوا بالدم الواحد الذي يسري في جميع البشر فيدلّ على أنهم يعودون إلى أب واحد وأم واحدة. واللغة الواحدة التي كان يتكلّم فيها جميع البشر، تدلّ على أنهم من محيط واحد ومجتمع واحد. في البدء الأول (مع آدم) هم واحد مع أول رجل وأول امرأة، مع المأخوذ من التراب الاسمر الذي سمّي آدم، ومع أم الاحياء جميعاً والرامزة إلى كل العيال والقبائل والمدن، التي سميّت حواء. وفي البدء الثاني مع المسيح، سيكونون أيضاً واحداً. فيسوع هو بكر جميع البشر وهو لا يستحي باخوته. فيا لسعادتهم. وهكذا تبدأ البشرية مسيرتها لتصل إلى الذروة، إلى المسيح. ومن المسيح هي تبدأ من جديد مسيرةً تقودها إلى الساعة التي فيها يجمع الرب يسوع في شخصه كل ما في السماء وما على الأرض.

1- مسيرة تسيطر عليها الخطيئة
أ- نظرة إلى تاريخ البشرية
بعد أن طُرد الانسان من الفردوس (3: 24)، بدأت البشرية تكتب بالدموع والدم فصولاً من تاريخها لن تنتهي قبل نهاية الزمن. وحاول الكاتب الملهم أن يقول كلمته في هذا التاريخ الذي عمره نصف مليون سنة. ماذا يستطيع أن ينقل الينا وليس في يده الوسائل التي بين أيدي العلماء اليوم (حفريات، كتابات، نقوش)؟ سينقل الينا نتفًا ممّا وصل إليه من أخبار قديمة. وينقل إلينا بشكل خاص نظرته إلى التاريخ على ضوء كلام الله، وهذا ما يهمّنا بالدرجة الاولى.
يحدّثنا عن قايين وهابيل، عن مدنيّة الفلاحين ومدنيّة الرعاة (4: 2)، عن شعب بنى مدينة واحتفل بالعيد على صوت الكنارة والمزمار (4: 21)، عن الذين سكنوا الخيام أو صنعوا الحديد والنحاس (4: 22). وسيبنون السفن كما فعل نوح، والابراج كما في بابل، فنفهم أننا في العصر الحجري الحديث (في الالف 8 ق. م). عصر بناء مدينة أريحا وغيرها من المدن.
ما يرويه لنا الكاتب من أحداث، جعله بين آدم وابراهيم. ولم يفعل ما فعل لأهداف تاريخيّة، بل لاكتشاف أسباب الشر ونتائجه في تاريخ البشر كما عرفه أهل ذاك الزمان. فعلّمنا بالصورة والمثَل، ورسم أمامنا بعض المشاهد التي توجّه أنظارنا في خطّ الخلاص الذي سيتوضّح في شخص ابراهيم عبر شيت وأنوش وأخنوخ ونوح. كتب لنا لا تاريخ وقائع كما نكتب اليوم، بل تاريخاً نموذجياً، بمعنى أنه اختار لنا نماذج من حياة البشر وطبعها بطابع الايمان: أخ يقتل اخاه، رجل تتعددّ زوجاته، منطقة تخرب بفعل الطوفان، مدينة تدمَّر بسبب الخلاف الذي دبَّ بين أهلها. حسب القول المأثور: كل مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت (مر 3: 24).
انطلق الكاتب منذ العصور القديمة، منذ زمن الصيد والقطاف، فوصل إلى عصور الزراعة ورعاية المواشي وبناء المدن، فجمع كل هذه العصور في بضعة أسماء. أراد أن يبني جسراً بين آدم وابراهيم، فجعل له بعض الركائز وهو عالم ولا شك أن جسره ناقص. ولكن ما همّ، والتاريخ هو هو، وأفعال البشر تجرّهم إلى الخطيئة والموت، فليس من جديد على الأرض. من أجل هذا، لن نتوقّف على القول إن كان هابيل الراعي وقايين المزارع هما ابني آدم وحواء. ولن نتساءل كيف تزوّجا. فبين بداية الخليقة وعصر الزراعة وتربية المواشي مئات الآلاف من السنين. ثم ان كلمة "ولد" لا تربط الأب بالولد على جيل واحد، بل على أجيال وأجيال. هناك رباط بين العيلة الأولى وكل عيلة على الأرض. ولكن الأجيال التي تفصل بين عيلة وعيلة غير معروفة ولا يهتمّ الكاتب بمعرفتها.

ب- تاريخ مقدّس
الكاتب الملهم يدوّن تاريخاً مقدّساً، والمسألة الاساسيّة التي تهمّه هي علاقة البشر بالله بعد أن دخلت الخطيئة العالم. لذلك نراه يذكر بداية عبادة البشرية لله. قايين يقدّم من ثمار الأرض. هابيل يقدّم من مواشيه. تلك كانت تقدمة البواكير في بداية الربيع والتي سيعمل بها العبرانيون بمناسبة عيد الفصح وغيره من الأعياد (خر 34: 19 ي). أنوش (أي الانسان) يدعو باسم الرب في ذبيحة قدّمها له، ويسمّيه قبل موسى بأجيال باسم "بهوه". الاله الذي هو ولا أحد سواه (4: 26). تقدمة الذبائح سيحدّثنا عنها الكاتب بعد الطوفان: بني نوح مذبحاً وأصعد محرقات على المذبح (8: 20)، كما يحدّثنا عن عهد بين الله والانسان (9: 8 ي).
ويحدّثنا الكاتب الملهم عن الخطيئة التي تُفسد الكون. ويورد لنا اسمين اثنين: قايين، أول قاتل، دفعته الخطيئة إلى قتل أخيه لينتقم من ربه. ولامك الذي انتقم وما وضع حداً لانتقامه، وأنشد ما فعل فما هاب الله ولا استحى من الناس. قتل رجلاً بسبب جرح، وولداً بسبب خدش، فلم يعرف أن يناسب بين الجريمة والعقاب. قبله انتقم الناس سبع مرات. أما هو فسينتقم سبعاً وسبعين مرّة. هذه الممارسة سيطوّرها موسى فيقول: عين بعين، سنّ بسنّ، يد بيد، ورجل برجل، وحرق بحرق (خر 21: 23). أما يسوع فسيقلبها رأساً على عقب. يمنع الانتقام فيقول: لا تنتقموا ممن يسيء اليكم (مت 5: 38)، ويفرض على تلاميذه أن يغفروا بلا حدود. أغفر لأخيك سبع مرات، بل سبعين مرّة سبع مرات (مت 18: 21- 22). وأفسد لامك الأرض أيضاً بتعدّد زوجاته: عادة وصلة. أهمل الشريعة القديمة التي تقول: يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيكون الاثنان جسداً واحداً (2: 24) لا الثلاثة أو الاربعة. سيترك الشعب العبراني هذه الوصية، ولا يكادون يذكرونها فيشرّعون في الطلاق. أما يسوع فيفسّر هذا التساهل الموسوي بسبب قساوة قلب الشعب (مت 19: 8) ويرفع الزواج إلى مستوى سرّ يرمز إلى اتحاده بكنيسته اتحاداً دائماً.
الحديث عن عبادة الله والعمل بوصاياه كان هدف الكاتب الملهم في الاخبار بتاريخ البشرية، لأنه يدوّن تاريخاً مقدّساً.

ج- نسل قايين ونسل شيت
أخنوخ ابن قايين الذي باسمه تسمّت أول مدينة. قايينُ بناها ودشّنها (معنى أخنوخ أي التدشين) في زمن بناء المدن في الشرق. ثم كان عيراد، ابن أخنوخ، ومحويائيل (معنى الكلمة: الله يحيي)، ابن عيراد، ومتوشائيل (ومعناه رجل الله في الاشورية) ابن محويائيل. ونصل إلى لامك وأولاده. يابل هو جد الرعاة، ومعنى اسمه من يقود المواشي. ويوبل جد كل عازف على آلة موسيقية ويعود اسمه إلى قرن الكبش الذي يُنفخ فيه فيخرج صوتاً. وتوبل جد الحدّادين. فقايين لفظه تعني الحدّاد (في العربية قان الحديد أي سوّاه، والقونة هي القطعة من الحديد أو النحاس). وتوبال هي منطقة من آسية الصغرى (تركيا حالياً) اشتهرت بتصنيع الحديد.
نلاحظ أولاً أن الأسماء ليست من صنع الخيال، والقينيون قبيلة سوف نتحدّث عنها عندما نتطرّق إلى شخصية قايين. وهذا ما نقوله عن الشيتيين، وشوتو قبيلة عاشت جنوبي شرقي فلسطين، وعن أسماء عديدة أخرى. ونلاحظ ثانياً أن الكاتب الملهم نقلنا إلى الألف 2 ق. م. وبالتحديد إلى سنة الفين يوم عرفت كنعان شغل النحاس وإلى سنة 1200 يوم دخلت إليها صناعة الحديد. ونلاحظ ثالثاً وأخيراً أن نسل قايين ارتبطوا بحياة الحضر من بناء مدن وصناعة وحياة لهو وترف. أما نسل شيت فسيُعرف بتعبّده للاله الواحد. شيت سيكون محل هابيل، وعنه سيرضى الله كما رضي عن هابيل وتقدمته. وأنوش أي الانسان (في العربية الآن تعني البشر) يذكرنا بآدم الانسان الاول. معه بدأ الناس يدعون باسم الرب، ويرفعون إليه الصلوات.

2- قايين القاتل
هذه البشريّة السائرة في عمق الخطيئة، يجسّدها شخص قايين الذي يدلّ على كل قاتل على الأرض. سواء قتل بالعصا أو بسلاح من الأسلحة التي تتطوّر في الفتك. سواء قتل بالبغض والحقد والشتيمة والصياح وتثبيط الهمم. ومع ذلك، لن يكون العالم كله قايين.

أ- أخبار القبائل
قصة قايين الذي يقتل أخاه هابيل قصة قديمة تناقلتها القبائل أجيالاً قبل أن تدخل في تراث الكتاب المقدّس. قصة واقعية مهما يكن اسم الفاعلين، أخذها الكاتب من محيطها الخاص وجعلها في بداية التاريخ. لأنها ميزة بشريّة تركت الخطيئةَ تتسلّط عليها وتجلب عليها الموت. قصة انتظمت في اطارها الذي نعرفه في زمن بناء المدن وتميّز الفلاحين عن الرعاة، وسكّان الحضر عن سكان الوبر وما يتبع ذلك من خلاف وصراع.
قصة قايين هي قصة جد القينيّين. منهم كان حوباب، حمو موسى (قض 4: 11)، وهم يشكّلون قبيلة عبدت الاله الواحد وأقامت في أرض كنعان قبل مجيء بني اسرائيل اليها. قادوا مسيرة العبرانيين في البرية (عد 10: 29 ي)، وسكنوا معهم بعض الوقت (قض 1: 16) ولكن لم يكن لهم حق اللجوء. وهنا نظن أن أحد الاسباب التي دفعت الكاتب الملهم إلى تدوين هذه القصة في التوراة هو الاعلان أن القينيين حُرموا من الاقامة في أرض كنعان بسبب لعنة الله عليهم في جدهم قايين.
ويمتزج الخبر القديم بعناصر حديثة عن تقدمة ثمار الأرض كما كان يفعل الفلاحون، وعن تقدمة الغنم كما كان يفعل الرعاة. هل قدّم هابيل من سمان غنمه تقدمة تدلّ على سخاء أمام ربه، أم أنه احرق الشحم فصعد بخوره محرقة رضي بها الربّ. الأمران معقولان. وهكذا انطلق الكاتب من عادات عرفها، فرجع إلى العصور القديمة، ليبيّن لشعبه أن ما يقومون به عريق في القدم ويجب المحافظة عليه وممارسته بالخوف والرعدة.
هذا الخبر القديم أخذه الكاتب وأعطاه معنى لاهوتياً فشرح لنا مفهوم الخطيئة. حين خطئ آدم وحواء اختبأا بين أشجار الجنة (3: 8)، ولكن حين خطئ قايين، ما عاد يتجاسر أن يرفع عينيه لئلا تقع على عيني الرب. والخطيئة يشبّهها الكاتبُ بحيوان مفترس يربض عند باب قايين ويتحفّز للوثوب عليه. هي تحاول أن تجتذبه كما اجتذبت الشجرة المحرمة حواء، ولكن باستطاعته أن يتغلب عليها. هو حرّ يستطيع أن يتسلّط على الخطيئة أو يتركها تتسلَّط عليه.
وتتسلّط الخطيئة على قايين وتصيّره قاتلاً. وهو لن يكتفي بأن يختبئ من وجه الله كما فعل آدم، بل يهرب من الأرض الخصبة الآهلة بالسكان. هو يترك حضورَ الرب ويذهب إلى أرض لا يقيم فيها أحد، أرض بعيدة عن عين الرب. ولكن إن ابتعد الانسان عن الرب، فالرب لا يترك الانسان وهو لن يزال يحافظ على قايين، لأنه لا يريد موت القاتل بل عودته إلى البيت الوالدي.

ب- هابيل صورة المسيح
أول صورة عن الصراع بين قايين وهابيل نستطيع أن نقرأها في عالم السومريين بالعراق، بين الله الرعاة واله الفلاحين. ولكن الكتاب المقدّس بدّل هذا المفهوم الأول وجعله قتالاً بين أخوين اثنين، أظهر فيه قايين نواياه السيئة. وسيفسّر الترجوم الآرامي هذا المقطع فيقول: وقال قايين لأخيه هابيل: "لنخرج معاً إلى البرية". ولما خرجا معاً إلى البريّة قال قايين لهابيل: "أنا أرى أن الله لم يخلق العالم بمحبّة، وأنه لا يديره بحسب ثمرة الأعمال الصالحة، وأنه حين يدين فهو يحابي الوجوه، وإلاّ فلماذا رضي عن تقدمتك كل الرضى ولم يرضَ عن تقدمتي"؟ أجاب هابيل وقال لقايين: "إن الله خلق العالم بمحبة وهو يديره بحسب ثمرة أعمالنا الصالحة. وبما أن أعمالي أفضل من أعمالك فالله قبل تقدمتي ولم يقبل تقدمتك". أجاب قايين وقال لهابيل: "لا دينونة ولا ديّان ولا عالم آخر، لا مجازاة خير للصالحين ولا عقاب للاشرار". فقال هابيل: "بل هناك مجازاة خير للصالحين وعقاب للاشرار". وأخذا يتجادلان في البريّة. فوقف قايين تجاه أخيه هابيل وضربه بحجر على رأسه فقتله.
حاول الترجوم أن يجد السبب الذي لأجله لم يقبل الله تقدمة قايين، فكان هذا الحوار بين الأخوين. وعارض الفكرُ اليهودي، وبعده الفكر المسيحي هابيل التقي بقايين الشرير، فتكلّم متّى في إنجيله (23: 25) عن دم هابيل الصدّيق. وقالت الرسالة إلى العبرانيين (11: 4): بالإيمان قدّم هابيل لله ذبيحة أفضل من ذبيحة قايين، وبالإيمان شهد الله له أنه من الابرار عندما رضي بقرابينه (رج عب 12: 24). أما القديس يوحنا فيقابل بين أعمال هابيل الصالحة وأعمال قايين الشريرة (1 يو 3: 12). وانطلاقاً من كل هذا يرى التقليد المسيحي في موت هابيل رمزاً إلى موت يسوع على الصليب، فيقول: هابيل هو الراعي الذي قدّم من أبكار غنمه قبل أن يكون حملاً ذبيحاً، حملاً بريئاً، قتله حقدُ أخيه فصرخ دمه يطلب الانتقام. أما يسوع فهو الراعي الصالح وبكر جميع الخلائق، هو حمل الله الذي صُلب مع أنه بريء، فصرخ دمه إلى السماء يطلب لقاتليه نعمة الصفح والغفران.

ج- قايين صورة الانسان الخاطئ
لم يكن قايين ذلك الشرير منذ البداية، وهابيل ذلك البار. ولكن قايين المخلوق هو أيضاً على صورة والده. ترك الخطيئة تدخل قلبه فانقاد لها وصار قاتلاً. لهذا يجب أن نتأمّل شخصية قايين الذي هو صورة عن كل واحد منا فلا نقسّي قلوبنا ونغلق آذاننا عن سماع كلام الله.
في البداية يفضّل قايين على أخيه: هو البكر، هو الاقوى وهو من يعمل في الحقل، أما هابيل فهو الاضعف واليه سلّمت رعاية الماشية، وهو عمل لا يتطلّب الكثير من الجهد. قايين هو من اختاره الله وغمره بنعمه، ولكن عطايا الله صارت له صخرة عثار وسبب دينونة. فتكبّره وقساوة قلبه وتنكّره للرب، كل هذا نخر قلبَه وظهر خلال ذبيحة قدّمها له. كانت تلك الذبيحة عملاً خارجياً وشكلياً لم يضع فيها قلبه ولا روحه. قبل الله تقدمةَ هابيل بسبب استعدادات قلبه فأرسل النار على محرقته، ولم يقبل تقدمة قايين.
نلاحظ هنا كيف أن علاقة قايين بالله سيكون لها أثرها في أخيه. من يحبّ الله يحبّ قريبه أيضاً، ومن لا يحب بقي في الموت. ومن أبغض أخاه فهو قاتل (1 يو 3: 14- 15). رضي الله عن الأخ الاصغر، فحسده الأخ الأكبر وقتله. ونلاحظ أيضاً كيف أن قايين قسّى قلبه وعادى الله بطريقة ظاهرة وأبان أن حياة أخيه لا قيمة لها في عينيه. لهذا كان جوابه لله بعد القتل حالاً: لمست حارساً لأخي. قال هذه الكلمة ولم يبد أية ندامة. لعنه الله كما يلعن الأب ابنه علّه يتوب. ولكن قايين لم يتأسّف أبداً عما فعل، بل اكتفى بالتذمّر من العقاب القاسي الذي حلّ به وابتعد عن الأرض المزروعة كالابن المرذول. وهكذا فضّل أن يكون طريداً شريداً إلى أن تأتي ساعة منيّته.
ولكن مخطّط الله غير مخطّط الانسان، وسرّ نعمته يكمن في أنه لا يزال يحيط الخاطئ بعنايته. حيث تكثر الخطيئة هناك تفيض النعمة، والله يسهر على الخاطئ فلا تمسّ حياتُه ولا كرامته. لهذا جعل له علامة يدلّ بها على حمايته له فلا يقتله كل من يجده.
تلك هي قصتنا مع الله. يفيض الله عطاياه فيقابلها الانسان بالرفض. يدعونا الله فنقسّي قلوبنا ولا نسمع له، ولكن الله لا يرذل الخاطئ رذلاً نهائياً ولا يترك القاتل يسير في طريق اليأس، بل يعطيه علامة عن رحمته وحنانه وعنايته. مثل هذا الموقف الالهي واضح في الكتاب المقدّس. يقول الربّ في سفر حزقيال: سأهتّم بغنمي واعتني بها. انقذها من جمع المواضع التي شُتّتت فيها (حز 34: 11 ي). فالربّ هو الراعي الصالح الذي يضحّي بحياته في سبيل الخراف، وكل همّه أن يقود إلى الحظيرة جميع الخراف (يو 10: 11 ي). والربّ هو الأب الرحوم الذي ينتظر بشوق رجوع الابن الذي ترك البيت الوالدي (لو 15: 11).
أجل، قايين هو رمز الانسان الخاطئ. مع آدم قُطعت علاقة الصداقة بين الانسان والله. أما مع قايين فالخطيئة جعلت العداوة بين الانسان والله تتحوّل إلى تدمير العلاقة بين الانسان والانسان. فالخطيئة لا تشوّه فقط حالة النعمة، ولا تضع فقط حاجزاً بيننا وبين الله، بل هي تصيب الانسان في الصميم وتجعل السم القاتل داخل الجماعة البشرية. لا يعيش الانسان وحده، ولا يخطأ وحده، ولا يتقدّس وحده. وإذا قرأنا حياة قايين نجد أن ابتعادنا عن الله يجعلنا نبتعد عن اخوتنا، ومحاولة قتل الله في العالم تصل بنا إلى قتل القريب المخلوق على صورة الله.

خاتمة
تلك هي مسيرة البشريّة. فيها الصالح وفيها الخاطئ، فيها البار وفيها الشرّير. فيها القويّ مثل قايين الذي يملك الوسائل المتطوّرة، وفيها الضعيف مثل هابيل الذي لا يستطيع أن يدافع عن حياته. في الخارج، البشريّة تسير مسيرة الخطيئة. ولكن الله يعمل في الداخل. هو منذ الآن يبني سلالة الابرار، بانتظار أن يبني له شعباً خاصاً. ومع المسيح سينطلق لكي يبني الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين الشاهدة لحضور الله في العالم رغم كل المآسي التي نشاهدها. أجل، هكذا بدأت البشرية. ولكنها مع يسوع بدأت بداية جديدة تطلب منا الالتزام لكي نجعل من تاريخ الكون تاريخ النعمة والخلاص لا مسيرة إلى الخطيئة والموت.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM