الفصل الثالث عشر: تاريخ الانسان تاريخ الخطيئة

الفصل الثالث عشر
تاريخ الانسان تاريخ الخطيئة

عندما نقرأ العهد القديم نحسّ بصدمة تخلق فينا ارتياباً. إذا كان هذا الكتاب مقدّساً، فأين هي رائحة القداسة؟ بل هي رائحة الخطيئة منذ البدء. قايين قتل أخاه. ولامك عدّد زوجاته وعلّم أبناءه شريعة الانتقام إلى ما لا حدود. وهكذا ملأ العنف العالم فجلبوا الشرّ على نفوسهم بواسطة طوفان لم يبق على الأرض سوى الابرار. لن نتحدّث عن خطيئة ابراهيم حين كذب وباع امرأته. ويَعقوب المراوغ الذي احتال على أبيه وأخيه وخاله... ونستطيع أن نتابع السلسلة ونقول: العهد القديم هو كتاب مسيرة الانسان إلى الله. وبما أن الانسان خاطئ فالكتاب يروي لنا خطيئة الانسان ومحاولاته للتغلّب على التجربة. منذ البداية سقط الانسان، وما زال يسقط في أيامنا، مع أن بولس يسمي المسيحيين "قدّيسين". لهذا نحن ننتظر الفداء بيسوع المسيح للبشرية، كما ننتظر لكل واحد منا التبنّي وافتداء أجسادنا.
وهكذا نتحدّث عن الخطيئة. فنتوقّف في نقطة أولى عند ما يسبق الخطيئة، عند التجربة. ثم نعالج ما بعد الخطيئة أي العقاب الذي ينتظر الانسان الخاطئ. هو عقاب ماديّ ينطلق منه الانسان في عالم التوراة فيعتبره نتيجة خطيئة اقترفها، على ما في عالم مزوبوتاميا أو بلاد ما بين النهرين.

1- ما قبل الخطيئة
أ- ما هي الخطيئة
أولاً: الخطيئة ابتعاد عن الله
وصل العبرانيون إلى أرض كنعان بعد أن تركوا عبادة الاوثان وتعلّقوا بالاله الواحد. عاشوا في أرض هي الفردوس بالنسبة إليهم وفيها ما فيها من الخير تجاه صحراء خالية خاوية لا تعرف من الماء الا قليله والكلأ إلاّ نادره. أحسّوا هنا بالسعادة لأنهم قريبون من الرب والمؤمن لا يطلب إلا أن يقيم في أرض الرب جميع أيام حياته. ولكن الانسان يقدر أن يبتعد عن الرب وإن عاش على أرض الربّ. كيف ذلك؟ باتّباعه العبادات الوثنيّة وأهمّها الكنعانية. فالكنعانيون كانوا يكرمون الحية لانها رمز الحياة والخصب والحكمة. أما المؤمن الذي يكرم الحية فهو يعني بعمله أنه يترك عبادة الله الواحد ويتعبّد للباطل. فهل يتعجّب إن تخلّى الله عنه وتركه عرضة للالم والشقاء والموت؟!
هذا ما اختبره العبراني وعبّر عنه في القرن 10 ق. م. من خلال الصور والتشابيه. حدّثنا عن الفردوس تلك الجنّة التي فيها كل خير وسعادة. وأورد لنا الحوار بين حواء، أم كل هي، والحية حاملة الموت إلى الانسان، ورسم أمامنا الشجرة المحرمة التي لم تكن تفاحة ولا رمّانة ولا زيتونة، والتي اجتذبت اليها آدم وحواء فأكلا منها. وبعد أن أوصلنا إلى أمام عرش الله، أسمعنا كلام الديّان العادل للحيّة التي تمثّل الشر في العالم، للرجل والمرأة اللذين يمثلان البشرية كلها، وأرانا آدم وحواء مطرودين من أرض الرب وفردوسه، حافيين عريانيين في طريق المنفى. من هذا المنفى لن يعود الانسان إلاّ بنعمة يسوع المسيح.
منتهى السعادة أن يكون المؤمن بقرب الله، ومنتهى الشقاء أن يكون بعيداً عن الله. الشقاء هو فعل الخطيئة فينا. ولكن من أين جاءت الخطيئة وكيف دخلت العالم؟ ما الذي تبدّل في الانسان الذي خلقه الله "حسنًا" وصالحاً، لكي يفعل الشر؟
ثانياً: الخطيئة والشرّ في قلب الانسان
الانسان مخلوق على صورة الله، وفيه تنعكس حرّية الله السامي. وهكذا يكون للانسان أن يحيا حياته بحريّة تامّة: يوجّهها نحو الله فيعمل ارادته ويحفظ وصاياه، أو يوجّهها ضد الله فيتمرّد عليه ويعصي أوامره. وقراره هذا يتّخذه الانسانُ في أعماق ضميره الذي يصبح ساحة حرب بيننا وبين نفوسنا.
هذه الحرب حدّثنا عنها القديس بولس (روم 7: 15): لست أدري ماذا أفعل. فالشيء الذي أريده لا أفعله، بل الشيء الذي أكرهه، فإياه أفعل. ثم أوضح: "الخير الذي أريد أن أفعله لا أفعله، بل الشر الذي لا أريد أن أفعله، فإياه أفعل (روم 7: 19). اذًا أنا لست من يفعل الشر، بل الخطيئة الساكنة فيّ".
ما قاله القديس بولس بصريح العبارة قدّمه لنا الكاتب القديم بالصورة فجعل أمامنا شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر. ماذا سيفعل آدم؟ هل سيختار طريق الخير ووصايا الله فتكون له الحياة، أم سيختار طريق الشرّ فيفعل ما حرّمه الله عليه، فيسير إلى عالم الموت؟ وتغلّب الشر في قلب الانسان، فنظر إلى الشجرة المحرمة، مركز الشرّ، لا إلى الله مركز الخير. ابتعد عن الله بقلبه ومال عنه فلم يعد يجد فيه كامل سعادته. الشجرة طيبة للاكل، متعة للعيون، ومنية للعقل. فماذا سيعطي اللهُ الانسانَ أكثر مما تعطيه الشجرة القريبة منه؟ بل هي في متناول يده، وسيقطف من ثمارها. وفعل.
هكذا يصوّر الكاتب الخطيئة بشكل عصيان لأمر الله. تحرّر الانسان من سلطة الله فصار وحيداً منغلقاً على ذاته يأكله الخزي والحياء. أراد أن يأكل من شجرة المعرفة، فصارت تلك الشجرة رمزًا أيقظه وأعاده إلى ذاته فأراه نفسه لا صاحب حكمة وحيلة مثل الحية، بل عاريا من عظمة جاءته من الرب.
ثالثاً: الخطيئة والمجرّب
جاء أمر الله إلى الانسان: لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشر، فإنك يوم تأكل منها تموت (2: 16- 17). وعرف الانسان الوصيّة وردّدتها حواء على مسامع الحية: لا نأكل من ثمر الشجرة التي في وسط الجنة. ولكن قلب الانسان مال به إلى الشر. ولكن من أين جاء الشر؟ هذا ما لا يقوله الكاتب الذي يكتفي بأخذ العلم بذلك، فيقول إن الله جعل الانسان في الفردوس (2: 8) ولكنه جعل فيه أيضاً الحية (3: 1). ليست الحية إله الشر الواقف تجاه إله الخير، ولكنها خليقة. ولكن كيف تسرّب الشرّ إلى الخليقة التي صنعها الله؟ لا جواب. فالشرّ واقع يصطدم به الانسان ولا يلج سره. الشر موجود في الفردوس بوجهه الجذّاب، ولكن وراء هذا الوجه الجذّاب يختفي وجه مخيف هو وجه الموت وما يسبقه من شقاء وألم.
ونتساءل عن الحية التي تدل على المجرّب والشيطان. ففي الميتولوجيّات الشرقيّة القديمة كانت الحية ترمز إلى قوى خفيّة يرهبها الانسان عند الكنعانيين، وكانت تمثّل النار المرسومة على تاج الآلهة والملوك عند المصريّين، وكانت خليقة تيامات، إله الشر البابلي، والتي انتزعت من يد غلغامش شجرة الحياة فمنعت عنه الخلود. كل هذا يفهمنا كيف أن الحية رمزت إلى قوة الشر والحيلة التي تعادي الانسان وتعارض مخطّط الله. عنها قال سفر الحكمة (2: 24): بحسد ابليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزيه.
أما سفر الرؤيا فيضع أمامنا صراعاً يبدو فيه مخائيل وملائكته أمام التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو المفسد والشيطان (رؤ 12: 9). تلك صور تدلّ على انتصار الله على القوى الأولى (مز 74: 13- 14؛ 89: 11)، وانتصاره الاخير في ذلك اليوم الذي يأتي فيه ليفتقد شعبه بل شعوب الارض كلها (أش 27: 1، 51: 9). ليس الشر قوّة تواجه الله، بل عنصراً من عناصر الكون يعمل في الحدود التي رسمها له الله. وهذا يظهر في سفر أيوب حيث الله يسمح للشيطان مرة أولى أن يهلك اموال أيوب ولكن لا يمد يده إلى أيوب (أي 1: 12). ومرة ثانية يسمح له أن يبتليه بمرض يصل إلى العظم واللحم دون ان يصل به إلى الموت: احتفظ بنفسه (أي 2: 6).
هذا المجرِّب الذي صوّره لنا الكاتب القديم بشكل حية قال عنه يسوع إنه سيّد العالم. وهنا نرفض قول القائلين: الشر فكرة مجردة. والحديث عن الشرّ طريقة للحديث على الانسان المحدود الضعيف. لا فيسوع الذي جعل من حياته قاعدة حياتنا، قد خبر الشرّ وصارع قوّته ليضع هذا لسلطانه على الارض. لاشكّ في أننا نتوسل الصور والتشابيه للتحدّث عن أمر خفي علينا، ولكن واقع الصراع الروحي هو جزء من اختبارنا اليومي. عن هذا الصراع حدّثنا القديس بولس عندما طلب إلينا أن نلبس جميع سلاح الله لنستطيع مقاومة حيل المحال. وقال لنا: صراعكم ليس ضد لحم ودم، أي ضد انسان ترونه، بل ضد الارواح الشريرة التي تحت السماء. لذلك فالبسوا سلاح الله لتستطيعوا مقاومة الشرير (أف 6: 10- 13).

ب- الخطيئة الاصلية والخطيئة الاولى
نتحدث عن الخطيئة الاصلية ونتساءل: ما هي خطيئة آدم وكيف وصلت آثارها الينا؟ عندما نتحدّث عن الخطيئة الاصلية نخلط أمراً بآخر. الامر الاول هو حالة الخطيئة التي يولد فيها الانسان، هذا اذا لم نتحدّث عن نعمة المسيح الخلاصية. الامر الثاني: دخول الخطيئة إلى العالم كما يلمّح إليها سفر التكوين ويتطرّق إليها القديس بولس في رسالته إلى أهل رومة (5: 12 ي). وهذا الخلط يصل بنا إلى القول بأننا نرث بالولادة شيئاً من خطيئة آدم فنتحمّل بعضاً من ذنب صار فيه الانسان على الله متعدّياً. لا ننسَ أن الذنب أمر شخصي يرتبط بعمل قمت به هنا، وهو لا ينتقل إلى أولادي (مز 18: 1 ي). وأن الولادة لا تنقل معها الخطيئة، وأن حرية الاختيار تُعطى للانسان منذ بدء حياته. لا شك في أن الانسان يُمتحن، فيبدو في ضعفه ومحدوديته. ولكن من يحلم بحياة لا مشاكل لها في فردوس يبعده عن الواقع اليومي، هو طفل لم يبلغ بعد مرحلة النضوج!
أما نحن، فعندما نقرأ هذا النصّ الكتابي، سنميّز بين الخطيئة الاصلية والخطيئة الاولى. أما الخطيئة الاصلية فتعني حالة البشرية الخاطئة، تعني أن وضعنا يوم وُلدنا لا يحمل إلينا في طيّاته صداقة مع الله ومشاركة في حياته. وحدها نعمة المسيح تدخلنا في صداقة الله وتشركنا في حياته. قبل ذلك كنا "أبناء الغضب" وأعداء لله. فلما مات المسيح من أجلنا صالحنا مع الله الآب وبرّرنا بدمه (روم 5: 8- 10). أما الخطيئة الاولى فتدلّ على "خطيئة آدم"، على ذلك الحدث الذي دشّن تاريخ البشرية الخاطئ.
لن نتحدّث عن الخطيئة الاصليّة منطلقين من الخطيئة الاولى، بل ننطلق من حالة البشرية الخاطئة فنفهم ما هي الخطيئة الاولى. ننطلق مع القديس بولس من الخطيئة المسلّطة علينا قبل أن يتدخّل يسوع المسيح. هذا يعني أننا إذا ابتعدنا عن الخلاص الآتي إلينا بالمسيح نصل إلى ما وصل اليه آدم. كلنا نخطأ كما خطئ آدم، ولن يكون لنا إلاّ أن نهتف: الويل لي أنا الانسان الشقي! من ينجّيني من جسد الموت هذا؟ ونقول حالاً: الحمد لله بربنا يسوع المسيح (روم 7: 24- 25). أجل المسيح خلّصنا كلنا. إذًا كنا نحتاج كلنا إلى الخلاص الذي حمله يسوع الينا.
في هذا الاطار يمكننا أن نتساءل: لماذا تتسلّط الخطيئة على الانسان؟ لماذا يختبر الانسان الشر بوجهه الذي يجذبنا اليه ووجهه الذي ينفرنا منه؟ والجواب: هذا هو الواقع الذي يعيشه الانسان اليوم والذي عاشه الناس منذ بداية التاريخ. ونستنتج: يوم جاء الانسان حمل معه حريته، فكانت له حريته امتحاناً انتهى بالفشل. هذه هي الخطيئة الاولى كما يصورها لنا الكاتب من خلال خبر رمزي، ولكنه يبقينا خارجاً عن سرّ الشرّ فينا وحولنا.
إذا أردنا أن نتحدّث عن الخطيئة، ننطلق من خطايانا الشخصية، فنصل إلى حالة الخطيئة التي نتخبّط فيها، ثم ننتقل إلى الخطيئة الاولى التي هي أصل كل الخطايا. حينئذ يبدو لنا سر الخطيئة الاصلية عنصراً خاصاً يدخل في اطار مخطط الله الذي يتضمن التاريخ كله والذي يقول لنا: المسيح جاء من أجل الجميع ليخلّص الجميع.

2- ما بعد الخطيئة
دعا الله الانسان لحفظ وصاياه فرفض. فاستحقّ العقاب. وهكذا نظر الكاتب الملهم نظرة بشريّة إلى الله: شبّهه بالبشر وبما يفعلون. لهذا، نتوقّف عند نتيجة الخطيئة في قلب الانسان، بل في العالم كله، بعد أن حملت إلينا الخطيئة الألم والتعب والشوك والعوسج.

أ- كارثة في أربع لوحات
وحلّت الكارثة بالانسان بسبب الخطيئة التي اقترفها. هذا هو تفكير العبرانيين: من عمل الخير كانت له المجازاة الصالحة في هذه الدنيا، ومن عمل الشر كان عقابه الالم والموت. وهذا الذي يحصل للمؤمن اليوم، حصل لأول انسان على الأرض لأنه عصى أمر الربّ واستهان بوصاياه. أمّا كيف وصلت الحالة بالانسان إلى هذه الدرجة من فقدان عطايا الله، فالكاتب يرسم لنا في أربع لوحات الطريق التي قادت الانسان إلى الهلاك والموت.
اللوحة الاولى: التجربة والخطيئة. نحن في الفردوس حيث جعل الله الرجل، ثم جاءه بالمرأة التي تلازمه وتصير وإياه جسداً واحداً. الحية حيوان من حيوانات الأرض، ولكنها تتفوّق على الحيوانات بحيلتها. سنفهم فيما بعد أنها تمثّل ما يقاوم الله ويعادي البشر. المرأة رفيقة الرجل وهي كائن ضعيف. تأثّرت قبله بالتجربة، فسقطت في الخطيئة وسقط معها. ويبدأ الحوار بين الحية التي تعرف سرّ الشجرة المحرّمة وبين المرأة التي لم تصل اليها الوصية مباشرة، بل عبر الرجل (2: 17). اتّهمت الحية الله بأن ما يقوله غير صحيح، بأنه خائف من الانسان. وحاولت هكذا أن تبعد الانسان عن الله فنجحت. أما المرأة فدخلت في حوار وتركت التجربة تتسرّب إلى قلبها. هذا ما يعبّر عنه الكاتب عندما يذكر أن الشجرة طيبة المذاق للفم، متعة للعين.
أكلت المرأة من الشجرة، أي عصت أمر الله، ومثلها فعل زوجُها. قبل الخطيئة يقول الكتاب: كانا عريانين وهما لا يخجلان (2: 25). هذا لا يعني أنهما كانا يجهلان الحالة التي يعيشان فيها، بل ترمز هذه العبارة إلى حالة من السعادة ناتجة عن حياة من البرارة والصداقة مع الله. ولكن بعد الخطيئة يقول الكتاب: انفتحت عيونهما وعرفا أنهما عريانان (3: 7). انفتحت عين الانسان على الواقع المخزي الذي وصل إليه وفهم أنه خُدع بكلام الحيّة. أمّا العري فيرمز إلى خسران حالة البرارة. والاحساس به هو أولى نتائج الخطيئة. وهكذا تشوَّش نظام الكون، وأول تشويش فيه مسّ علاقة الرجل والمرأة.
اللوحة الثانية: وأحضر المتّهمان أمام القاضي. تصور الكاتب الله. رجلاً يقوم بالتحقيقات اللازمة حتى يصل إلى معرفة المذنب الحقيقي ويحدد مسؤولية الفاعلين. ومثُل الرجل بين يدي الله: هو حارس الفردوس (2: 15) والمسؤول عن العيلة. خاف من الرب، والخاطئ يخاف وجه الله القدوس. وأحسّ بنفسه أنه عريان من كل ما يجعله شبيهًا بالله، فاختبأ. سأله الرب: هل أكلت، هل فعلت ما حرّم عليك؟ بدأ فرمى بالمسؤولية على عاتق امرأته ثم أقرّ بخطيئته. وأخيرًا حمّل الربّ بعض الخطأ حين قال: المرأة التي أنت أعطيتني.
ورمت المرأة بالمسؤولية على عاتق الحية، فأعلنت أنها خُدعت. يقول ابن سيراخ (25: 24): من المرأة ابتدأت الخطيئة وبسببها نموت نحن اجمعون. وانتهى التحقيق. فلا حاجة إلى طرح السؤال على الحيّة وهي تمثّل قوّة الشر في العالم.
اللوحة الثالثة: حكم الديّان. ويعلن الله حكمه على الحية والمرأة والرجل، فنفهم من خلال هذا الحكم لماذا وصلت البشرية إلى الحالة المزرية التي تتخبّط فيها. إن هذا إنما هو عقاب لخطيئة أول عيلة على الارض، وبالتالي كل عيلة على مثال العيلة الاولى. فنحن نقرأ في روم 5: 12: والخطيئة دخلت في العالم بانسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت. وسرى الموت إلى جميع البشر لأنهم كلهم خطئوا.
حلّت اللعنة بالحية، ولم تحلّ بحواء تلك المخلوقة الضعيفة التي وقعت ضحيّة خداع الشر. يقول الكتاب: الخطيئة خدعتني وقتلتني (روم 7: 11). أنا الانسان الضعيف، أغوتني الخطيئة فقسا قلبي (عب 3: 13) فلم يعلم ولم يفهم.
على بطنك تسلكين وتراباً تأكلين. هذه هي حالة الاسير المغلوب على أمره فيعيش في الذل والعبودية. هذه هي حالة الحية فكيف يتعبّد لها الناس (2 مك 18: 4)؟ هذا الحيوان وما يمثّله من شرّ وموت، هو عدو الانسان مدى أجياله. ولكن انساناً، هو يسوع المسيح، سيسحق رأس الحية الجهنمية. قال يسوع: رأيت الشيطان يسقط من السماء مثل البرق. وها أن أعطيكم سلطاناً تدوسون به الافاعي والعقارب وكل قوّة العدوّ (لو 10: 18- 19)، وفي هذا تلميح إلى كل القوى المعادية للانسان.
والخطيئة تشوّه الحالة الحاضرة التي تخضع لها المرأة بصفتها أمًا وزوجة. ستعيش الالم في الامومة، والخضوع في الحياة الزوجية. "أكثر مشقات حَمْلك"، أي تحبلين في التعب والالم. إلى رجلك تنقادين فتخضعين له. تكونين له خادمة، لا شريكة ومساوية له.
وحلّت اللعنة بالارض، ولم تحلّ بالرجل الذي سيعرف الشقاء عندما يفلح الارض. بدل ثمار الاشجار سيكون له عشب الحقول، وفي هذا إشارة إلى انحطاط إلى مستوى الحيوان. وبدل الاشجار الحسنة التي كانت للانسان في الفردوس، سيكون له بعد الخطيئة الشوك والحسك. وبعد حياة الشقاء هذه، سيموت الانسان فيعود إلى التراب الذي أُخذ منه.
اللوحة الرابعة: نهاية هذه القصّة المفجعة. أعطى الرب الانسان أن ينمو ويتكاثر ولم يحرمه من هذه العطية الأولى (1: 26)، لأنه لا يأخذ ما أعطاه. لهذا ستكون حواء أم كل حيّ ورمزاً إلى كل امرأة. واهتمّ الرب بالانسان وما زال يهتمّ به رغم خطيئته. خاط له قميصاً من جلد وألبسه. أما هكذا تعامل الامُّ طفلها؟ ولكن لا يحقّ للانسان الخاطئ أن يبقى في جنة عدن، في موطن القداسة. إذًا سيُطرد من الفردوس. خُلق الانسان للخلود المرموز عنه بشجرة الحياة. ولكن تعدّيه على وصية الله المرموز عنها بالشجرة المحرمة، أفقده هذه العطية. إلاّ أن يسوع الانسان الاله سيُعيد إلينا الحياة ويمنع عنّا سلطان الموت.

ب- معنى هذه اللوحات
يبدو معنى هذه اللوحات واضحاً ونفسيّة الممثلين بيّنة وظاهرة. جاءت وصية الله بمثابة امتحان للرجل والمرأة اللذين وجدا في الحية مجرّبًا يجتذبهما إلى الشرّ. لا شكّ في أن عرض الواقع بالصور، لا يفتح أمامنا الباب الذي به ندخل إلى سر الشر، بل هو يفهمنا كيف نعيش ونجابه الشر الذي هو فينا قبل أن يكون خارجاً عنا. في هذه المشاهد، خُدعت المرأة أولاً لأنها تمثّل وجه الضعف في الكائن البشري. وما كانت لرجلها العون الشبيه به، بل تلك التي أغوته فأعطته من الثمرة المحرّمة. أما الرجل فكان لعمله وجهُ الرجولة في كل كائن بشري الذي يُقرّر ولا يؤخذ بالعاطفة. وبعد أن تعدّى الرجل والمرأة على الوصية، انفتحت عيونهما لكنهما لم يحصلا على المعرفة التي طمحا اليها، بل اكتشفا عريهما وشقاءهما وأحسّا بضميرهما الذي جرحته الخطيئة وأثارته الشهوة.
حين مثُل المتّهمان أمام الديّان، بدا عليهما الخجل الذي يمنعهما من الاقرار بذنبهما واعلان مسؤوليتهما: وبدت نواياهما السيّئة الواحد على الآخر، فالقى آدم المسؤولية على حواء، وحواء على الحية. أما هذا ما يحدث لنا نحن الذين ننكر خطايانا ولا نقرّ بها، ونبحث عن كبش محرقة نبرّر به ضميرنا الخاطئ؟ ولكن الكتاب يقول: إذا اعترفنا بخطايانا فالرب يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل شر (1 يو 1: 9).
وجاء حكم القاضي يرسم بخطوط عريضة حالة البشر عبر التاريخ، ويبيّن كيف ترتبط هذه الحالة بالخطيئة التي غرقنا فيها. فالبشرية الموجودة في أول عيلة على الأرض تبدو أسيرة الموت والخطيئة. والحرية البشرية اختارت منذ البداية طريق الشقاء والموت. وهكذا سيكون التاريخ البشري تاريخ العداوة بين الانسان والشر. أمّا الله فسيكون بجانب الانسان. ولهذا يصبح تاريخ الخطيئة تاريخ مخطط الله الخلاصي. حيث كثرت الخطيئة فهناك فاضت النعمة.
وحالة البشر جُرحت جرحاً لا يندمل. فالرجل أُصيب في صميمه. لم تعد أرض الرب سبب سعادته وينبوع كل خير له، بل موضع شقائه. والمرأة اصيبت في صميم رسالتها كأمّ وزوجة. لم يعد للعطاء المتبادل من وجود بين شخصين متساويين في المجد والكرامة، بل شهوة تقود وخضوع يُذلّ. أجل، لم تكن تلك إرادة الخالق، بل نتيجة تصرّف الانسان الخاطئ. ولكن ما أتلفه الانسان لا يصلحه إلاّ الله. ونعمتُه الخلاصيّة وحدها تعيد العلاقة بين الله والانسان بعد أن قطعتها الخطيئة، وتحرّر الانسان من عبوديّة فرضها على نفسه. صنع الخطيئة فصار عبداً للخطيئة، ولكن الله يحرّره من الخطيئة.
وتنتهي القصة بصورة فردوس أضاعه الانسان وما عاد يمكنه الوصول إليه. ولكن اليأس يبقى بعيداً وتظلّ أبواب الرجاء مفتوحة. حكم الله على الحية فحكم على الشرّ بأن يسحق: ابن المرأة، يسوع ابن مريم، سيدوس الحيّة الجهنميّة، ويعيد إلى الانسان صداقته بالله وسعادته بالحضور معه.
ما قرأناه في هذا الفصل يدلّ على غنى النصّ بالصور والمعاني. ولكننا لن نبحث عن معلومات لا نجدها في الكتاب المقدّس. فالكاتب لا يتطرّق إلى المعطيات العلميّة، بل إلى معطيات الوحي. وفي هذا النصّ، نجد أول محاولة للتعبير عن مخطط الله. ولكن القديس بولس المستنير بسر المسيح سيكشف لنا السر الذي أُغلق على البشرية منذ دهور وأجيال فيقول: فاذا كان الموت ساد البشر بخطيئة انسان واحد، فبالاولى أن تفيض عليهم نعمة الله والعطية الموهوبة بنعمة انسان واحد هو يسوع المسيح (روم 5: 15).

خاتمة
خرج الانسان جميلاً من يد الله. فجاءت الخطيئة وشوّهته. أو هي جعلته لا يعرف التصرّف مع المخلوقات في الكون. العمل متعب للانسان، ولكنه جميل ولاسيّما حين نقطف ثمر عملنا. والولادة صعبة على المرأة وعسيرة ومؤلمة. ولكن الرب يسوع في الانجيل يحدّثنا عن المرأة التي تلد، وعن فرحها لأنها ولدت انساناً في العالم. كانت الخطيئة وما زالت آثارُها تعمل في العالم بغضاً وحقداً وقتلاً وحروباً. ولكن يسوع غلبها في جسده، في كنيسته، وهو ينتظر منّا أن نشاركه في غلبته. لا شكّ في أننا ما زلنا حتى اليوم نعمل الشرّ الذي لا نريد، ولا نفعل الخير الذي نريد. لا شكّ في أن الله افتدانا، ولكننا ما زلنا أسرى الخطيئة الحالَّة في أجسادنا. ونتمنّى أن ينجّينا الرب من جسد الخطيئة هذا. عند ذاك نصبح صورة الله التي مثالها وجه المسيح، ونشعّ جمالاً. عند ذاك يرى الله حقاً أن كل ما فعله كان حسناً جداً.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM