الفصل الأول: الكتاب الذي فيه يكلّمنا الله

الفصل الأول
الكتاب الذي فيه يكلّمنا الله

حين نفتح الكتاب المقدّس ونبدأ بالعهد القديم، نطرح السؤال على نفوسنا: ما هي البيبليا، ما هو الكتاب المقدّس؟ هو كتاب جوهريّ في حياة المؤمن. هو كتاب ليس كسائر الكتب. فالديانة اليهوديّة ولدت منه. والديانة المسيحيّة تجذّرت فيه. والعالم الاسلامي استقى الكثير من نصوصه. ولا ننسى الأدب والفنّ. وهكذا حين نقرأ الكتاب المقدّس نعود إلى جذورنا، نعود إلى أساس حضارة هي جزء من حضارتنا.
والكتاب المقدّس ليس فقط الموضع الذي فيه نجد أصولنا. ليس فقط موضع تاريخنا، إنه تاريخ مقدّس يبدأ مع ابراهيم واسحاق ويعقوب، بل يبدأ مع بداية الكون وأوّل عيلة بشريّة ليصل بنا إلى المسيح، وإلى امتداد المسيح في الكنيسة. والكتاب يساعدنا حتى نفهم إيماننا المسيحي. لأنه كتاب وحي حمّله الله لأحبّائه، وهم دوّنوا خبرتهم مع الله فوصلت إلينا.
نحن نؤمن أن الله كلّم البشر في زمن محدّد وفي مكان محدّد. كلّم البشر في قلب تاريخهم، في قلب دنياهم. ونحن حين نقرأ ما حملوا إلينا من كلمات، نحاول أن نسير المسيرة التي ساروها، ولكن معكوسة. هم انطلقوا من وحي وصل إليهم فعبّروا عنه بوسائلهم البشريّة. ونحن ننطلق من هذه الكلمة المكتوبة في زمن بعيد، ونسعى إلى لقاء بالربّ من خلال هذه الكلمة التي كتبها كلَّها البشر، وكتبها كلها الله.
الكتاب يحمل إلينا حدثاً فريداً لم يحدث مثله في الكون. ولن يحدث مثله إلاّ في نهاية الكون. هذا الحدث هو مجيء يسوع في الجسد. مجيء يسوع في التاريخ. لقد جاء ابن الله بالذات وأقام بين البشر. أخذ جسداً وسكن بيننا فكان حضور الله المتجسّد في العالم. ولهذا رأينا الله على الأرض حين رأينا يسوع. رأينا مجد الله على الأرض من خلال حياة يسوع وأعماله وأقواله. هذا ما يقدّمه لنا الكتاب المقدّس. يا ليتنا نبحث عن هذه الحقيقة ولا نتوقّف عند صور جانبيّة وأفكار مسبقة. فمجيء يسوع على الأرض سبقته أجيال تلو أجيال من الاستعداد. وكما كان مجيء المسيح فريداً، كان التاريخ الذي سبقه وأعدّ له الطريق فريداً. هو تاريخ اكتشاف الله الواحد، الاله الحاضر في الكون وفي التاريخ. هذا الاله الذي ليس كالاصنام: لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها أفواه ولا تتكلّم. هذا الإله هو الحنون الرحوم. وهو الربّ العادل الذي يجازي كل واحد بحسب أعماله. هذا الاله الذي أرسل وصاياه وربطها بشخصه بحيث إن من أساء إلى القريب أساء إلى الله، ومن أحبّ القريب أحبّ الله.
ولكن يُطرح السؤال: اذا توقّفنا عند العهد القديم، أما نحصر نفوسنا في لغة من اللغات، في حضارة من الحضارات، في شعب من الشعوب؟ وبماذا تفترق هذه اللغة وهذه الحضارة وهذا الشعب عمّا لدى سائر الناس؟ وهل وصلت يوماً الحضارة اليهوديّة إلى ما وصلت إليه حضارة مصر وبلاد الرافدين، حضارة اليونان ورومة؟ فلماذا نتوقّف عند التوراة كمقدّمة لما يأتي بعدها كالموضوع الذي يتجذّر فيه العهد الجديد؟
لاشكّ في أن الشعب العبراني الذي حمل التوراة كوديعة من عند الله ومن عند البشر في هذا الشرق القديم، هو شعب كسائر الشعوب. لغته هي لغة العصر الذي عاش فيه. وكذلك عاداته ونظمه. وكل هذا بعيد جداً عن لغاتنا وعاداتنا ونظمنا. ولكن داخل هذه الخاصيّة، هناك واقع شامل يتوجّه إلى كل واحد منا في هذا الموضع وفي هذا الآن. فالله الذي أراد أن يكلّم البشر، أجبر على أن يستعمل كلام البشر. استعان بأفواه البشر وبلغة بشريّة. لماذا هذه اللغة لا تلك؟ هذا سرّ الله. لماذا هذا الشعب لا ذاك؟ فإن كان ذاك الشعب طرحنا السؤال ذاته. ذاك هو مشروع الله فينا. وهو حرّ في ما يفعل وسط البشر. يبقي علينا أن نعتبر نفوسنا معنيّين بهذه الكلمة. كل شعب هو الشعب العبرانيّ الذي يبحث عن حضور الربّ. والخبرة القاسية التي عاشها العبرانيّون في العبوديّة، قد استعادها شعب أميركا اللاتينية وحاولوا أن يتحرّروا بقدرة الله. وذاك المتألم الذي يدعو الله لكي يرحمه قد يكون أنا، أنت... ونحن نستطيع أن نقول له اليوم الكلمات التي قيلت منذ 2500 سنة أو 3000. فالله هو الله. والانسان هو الانسان، وعواطفه هي هي ولم تتبدّل سواء سار مشياً على الاقدام أو ركب السيارة أو الطيّارة. فالخوف من الموت هو هو. والمرض والألم ما زالا يعملان عملهما في البشريّة. وهذا ما ينقله الكتاب المقدّس إلينا ويدعونا إلى أن نصلّي مع أولئك المصلّين في التوراة، وأن نتأمّل في النصوص التي كتبوها، ولاسيّما سفر أيوب الذي ما عاد يعرف أن يكلّم الله بعد أن حلّت به كل هذه المصائب.
لقد عبّر الله عن نفسه عبر لغة البشر كما نقرأها في العهد القديم. وكما نقرأها في العهد الجديد في فم يسوع ورسله. يبقى علينا اليوم أن نكتشف عمق هذه الكلمة الالهيّة بعد أن ننزع عنها القشرة البشريّة التي قد تفصلنا عن الغذاء الذي فيها. ويبقى علينا أيضاً أن لا نتوقّف عند ما هو خاص، عند ما يحمل أثر الحقبات المتتالية التي فيها دوّن الكتاب المقدّس. حدّث الله البشر في ذلك الزمان مستعملاً الصور التي استعملوها، واللغة التي يعرفونها. وهو اليوم يريد أن يقول لنا كلمته عبر كلماتنا. وأن يوصل إلينا مشيئته عبر لغتنا. كل كلام ينطلق من فرد واحد، من جماعة معيّنة. ولكنّه يتوجّه إلى البشر كلهم، ولاسيّما إذا كان كلام الله. ونحن ننطلق من هذه الكلمة التي وصلت إلى الكون في 2000 لغة ونيّف، لنفهمها ونتأمّل فيها ونجعلها كلمة فاعلة فينا. فكلمة الله سيف ذو حدّين تدخل إلى مفرق النفس والجسد.
الله تكلّم في الماضي. والله يتكلّم اليوم. قال لنا صاحب الرسالة إلى العبرانيين: "بعد أن كلّمنا الله منذ القديم بواسطة الآباء والانبياء، كلّمنا في النهاية بواسطة ابنه". وهذه الكلمة قد دوّنت في ما سمّي الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، منذ سفر التكوين حتى سفر الرؤيا. تكلّم الربّ بواسطة ابراهيم وموسى وداود وأشعيا وإرميا... وفي النهاية تكلّم في يسوع. وفي ذلك الوقت ما عاد لله كلمة يعطينا إياها بعد أن أعطانا ابنه الذي هو كلمته. لهذا، لن ننتظر كلمة بعد يسوع الكلمة. كل ما علينا هو أن نرافق هذه الكلمة، أن نجعلها حيّة فمنا. أن لا نقبل بأن تكون فينا كلمة ميتة.
ونتساءل: هل لله فم به يتكلّم؟ كلا. ولكن كيف نقرأ مراراً في الكتاب: وقال الله لموسى... وقال الله ليشوع... وقال الله لصموئيل... هذا عدا عن كلمات توجّهت إلى الأنبياء، فوجّهوها بدورهم إلى الشعب. لاشكّ في أن الله يتكلّم في أعماق قلوبنا. في الماضي واليوم وفي كل يوم. يكفينا أن نصغي إليه لكي نسمعه. ونحن نقرأ كلماته عبر الاحداث والظروف، عبر الأشخاص الذين يحدّثوننا، عبر الأعمال التي نقوم بها والرسالة التي توجّه حياتنا. ولكن هؤلاء الاشخاص المميّزين مثل موسى وغيره قد نالوا وحياً، وحاولوا أن يعبرّوا عن هذا الوحي بكلام البشر. ولقد رافقهم الروح بنعمته لكي لا يُخطئوا. لكي يكون كلامهم بعيداً عن كل ضلال أو غلط.
ولكننا لا نعتبر أن كل مرّة يقال: "قال الله"، أن الله تكلّم. فموسى الذي كان له لقاء مع الربّ، يعتبره الناس "كليم الله". ويعتبر الآخرون ما يقرّره وكأن الله قال له أن ينفّذه. وكانوا يعتبرون أن قرار الجماعة هو قرار الله. وصوت الشعب هو صوت الله. وإلاّ فكيف نفهم قولاً "إلهياً" يأمر يشوع أو صموئيل بأن يقتل الناس مع أن الوصيّة واضحة وهي تقول: "لا تقتل". لقد عبّر البشر بطريقة ناقصة عن وصايا الله. ونحن لا نتوقّف عند هذه الطريقة الناقصة. بل ننطلق منها لأنها في الواقع جزء من حياتنا، ونصل بها إلى الكلمة الكاملة، إلى انجيل ربنا يسوع المسيح.
إن خبرتنا تنيرنا في هذا المجال. نربح مالاً فنقول: الله أعطانا. يموت شخص عزيز علينا، فنقول: الله أخذه. وهكذا نقول عن الكتاب المقدّس: يردّ كل شيء إلى الله الذي هو السبب الأول في الكون. وينسى السبب الثاني. ربح الشعب الحرب؟ هذا يعني: الله جعله يربح. خسر الحرب. هذا يعني: الله أسلم شعبه إلى العدوّ. هي طرق بشريّة خاصة لم تكن تتوقّف عند الظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة والعائليّة، بل تردّ كل شيء إلى الله.
لاشكّ في أن الله هو سيّد التاريخ. ولكنه يتدخّل بواسطة البشر. تدخّل بواسطة موسى وداود. كما تدخّل بواسطة نبوخذ نصر البابلي ونكو المصري وكورش الفارسيّ. من خلال البشر يجعل كل شيء يؤول لخير الذين يحبّونه. لذلك، حين نقرأ نصوص التوراة، يجب أن نفهم الفنّ الأدبيّ الذي يشدّد على حضور الله وعمله في الكون، دون أن ننسى دور الانسان.
الله كلّمنا منذ القديم. وجاءنا كلامه في كتاب هو الكتاب المقدّس أو البيبليا، بعهديه القديم والجديد. وبعد أن تجسّد يسوع، صار لله فم يكلّم به البشر. صار لله جسم به يقيم وسط البشر. بعد أن تجسّد يسوع وصار انساناً مثلنا، دعانا إلى أن نكون مثله فنحمل كلام الله إلى أقاصي الأرض. ولكن قبل ذلك، نبدأ فنقرأ كلمة الله في كتاب الله. ونصلّي إلى الله بكلمات الله. وندخل في تاريخ الله، التاريخ المقدّس الذي بدأ مع ابراهيم وكانت قمته في يسوع. هذا التاريخ بدأ ولم ينته بعد. نحن نقرأه، ندرسه، نصلّيه، ندخل فيه... بل نواصل مسيرتنا معه حتى مجيء المسيح الذي سيجمع في شخصه كل ما في السماء وما على الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM