الفصل الخامس عشر
مبادئ ربط الآيات والنصوص الكتابية
ان لربط الآيات والنصوص الكتابيّة بعضها مع بعض مبادىء بديهيّة، وذلك لضمان سلامة التفسير، وسلامة الفكر الموجود في النصّ. فإذا لم نحترم هذه المبادىء أصبح الكتاب مجرّد آيات تخدم أهدافنا ومفاهيمنا ومعتقداتنا المسبقة. لذلك لا يجوز انتزاع الآية من نصّها لنضعها بمكان آخر تخدم أهدافنا فنبتدىء بتفاسير وأشياء غير موجودة ولا يعنيها النص. وسنورد فيما بعد مثلاً عن سوء تفسير لأحدى الآيات، ونفسيرنا السليم لها. أما أهم المبادىء فهي:
- قراءة كل نصّ ضمن كتابه، ومناسبة كتابته وخلفيّته الحضاريّة والثقافيّة، وما الذي يعنيه الكاتب وكيف فهمه قرّاؤه.
- ان أردنا الانتقال من نصّ إلى آخر، فعلينا قراءة الموضوع أولاً في فكر كاتب السفر، ثم الانتقال إلى فكره في باقي كتاباته (ان كان يوجد)، وتتّبع المرحلة الزمنيّة واسلوب ومناسبة الكتابة ومعناها. ثم ننتقل إلى باقي الرسل أو الأنبياء المتأخرين تاريخياً أو المتقدمين على السفر الذي يعالج الموضوع مع المحافظة على ظروف وبيئة كل سفر ومعناه في إطاره. ثم تتبع التطوّر الفكريّ لدى الكاتب والأسفار في خطّ يوصلنا إلى العهد الجديد أو إلى آخر الكتاب على أن يكون الموضوع نفسه هو الذي يتم جلاؤه في كل مرحلة. وبذلك نرافق الموضوع منذ اعلانه أو نشأته عبر العصور والمراحل الفكريّة والتطوريّة التي مرّ فيه، حتى يتمّ جلاؤه تماماً. وسنورد مثلاً:
تقتبس هيئة شهود يهوه آية من 1 كور 15: 28 وهي: "ومتى أخضع له الكل فحينئذٍ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكلّ لكي يكون الله الكلّ في الكلّ". وتقول الهيئة إن هذه الآية تدلّ على أن المسيح هو أدنى مرتبة من الآب لأنه خاضع له "وحتى بعد موته وقيامته وصعوده إلى السماء كان يسوع لا يزال غير مساو لأبيه" 1 كور 11: 3؛ 15: 28 (كتاب يمكنكم أن تحيوا إلى الأبد... ص 40).
- إن أردنا أن نجاوب حرفياً، نقول إن كلمة "خضوع" لا تعني عدم المساواة بالضرورة، وإلاّ فكيف نفهم أنه ينبغي أن تخضع النساء للرجال (أف 5: 22) أيعني ذلك أنهما غير متساويان على المستوى الانسانيّ... وأن يخضع المؤمنين لرئاسات والسلاطين (تيط 3: 1). فهل هم آلهة نخضع لهم؟ وعندما يقول كونوا خاضعين بعضكم لبعض (1 بط 5: 5)، فهل يعني ذلك أن المؤمنين غير متساوين؟ وكيف نفسّر ما جاء في 1 كور 14: 32 "أرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء"؟
- أما بخصوص "الكلّ في الكلّ"، فنقرأ أن المسيح فيه يقوم الكل (كو 1: 17)، وهو الذي يملأ الكل في الكل (أف 1: 23)، وأنه كائن إلهاً على الكل (رو 9: 5)، وهو الكل وفي الكل (كو 3: 11)... وهكذا نفهم أن الله والمسيح هما الكل في الكل... لكن لا يجوز أن نفسّر هكذا أو أن نجاوب هكذا بأن نجتزىء نصوصاً وآيات لنخدم أفكارنا المسبقة، والأسلوب السليم هو:
- النصّ لا إطاره: كورنثوس مدينة تجاريّة في اليونان، تمتلىء بالفساد والفجور الأخلاقي والدينيّ. وقد عانى أعضاؤها أشدّ أنواع الصراعات والانقسامات ممّا أضطر الرسول بولس للكتابة إليهم بعد سماعه بأخبارهم من أهل خلوة، وبعد جملة أسئلة أرسلوها إليه للاستفهام عنها.. وقد عالج بولس جميع هذه المشاكل وأفرد نصاً عن القيامة (الفصل 15) ليجاوب المنتقدين الذين تأثّروا بالفلسفة اليونانيّة (التي تقول إن الجسد شّر، وإن الروح تكون بمفردها بعد الموت) ويردّ على أولئك الذين لا يؤمنون بقيامة الموتى...
- مستوى التفسير الأول (من الآية إلى النصّ): تأتي (آ 28) ضمن فقرة تتكلّم عن كون المسيح باكورة، ومتقدّم، ورأس الجسد (الكنيسة) وممثّلها. وبالتالي فالخضوع لا يتمّ من الكتف بل من الرأس وما دون، لأنه ممثّل البشريّة وهو بهذه الصفة سيقدم الخضوع حبياً وليس كالعبد، إلى الآب لأن يحبه ويهبه (للآب) كل شيء. فكل ما للمسيح هو للآب وكل ما هو للآب هو للابن (يو 17: 10)، وذلك انطلاقاً من علاقة المحبّة التي تربطهما بطبيعتهما معاً.
ومن جهة أخرى سيحقّق المسيح رغبة البشريّة ورجاءها الكياني للحياة مع الله، والمسيح وحده يستطيع تحقيق هذه الرغبة. كما نرى أن هذه الفقرة هي ضمن نصّ كامل يتكلّم عن القيامة. وهي تعالج بعض المنتقدين المتأثرين بالفلسفة اليونانيّة القائلين بأن ليس قيامة أموات. لذلك يلجأ بولس إلى صورة الجسد، ليركّز مفهوماً يقول إن المسيح هو رأس الجسد، وهو بالتالي مرتبط كيانياً به. فلا قيامة للمسيح (الرأس) بلا الجسد (الكنيسة). ويمهّد بولس في آ 6 تأكيداً عن قيامة المسيح بشهادة أكثر من خمسماية أخ، وذلك ليؤكّد أن المسيح قام وهو الرأس وبديهياً سيقوم الجسد، فكلاهما مرتبط الواحد بالآخر، ولا قيامة لأحدهما إلاّ مع الآخر... وهكذا ننتقل إلى النصّ كلّه. فبولس يتكلّم عن قيامة الأموات معلناً منذ البدء أن الكتاب المقدّس يتكلّم عن موت وقيامة المسيح، وليس أنا (بولس) فقط. وإن قلنا ليس قيامة أموات، فنحن ننكر ونكذّب قيامة المسيح (مع أنها مبرهنة بشهود)، لا بل أكثر نحن نكذّب الكتاب المقدس أي الله نفسه، وهذا غير مقبول تماماً. وهكذا يصبح وضع المشكّكين حرجاً جداً، أي إنهم غير مؤمنين وما زالوا وثنيين بعد. ثم ينطلق ليجاوب اليهود الذين يعتقدون بقيامة ماديّة، والمتأثرين بالفلسفة اليونانيّة قائلاً: إن حالة القيامة هي على هيئة "جسم روحاني" (آ 44) ويبدو ذلك متناقضاً للوهلة الأولى. ولكنه يقول إن الإنسان سيقوم ليس نفسه أو روحه فقط، بل بالجسد أيضاً (وذلك رداً على اليونانيين). ولكن هذا الجسد ليس ماديّاً بل روحانياً (وذلك رداً على اليهود). "إن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله" (آ 50). وبذلك تكلّم بولس عن مفهوم جديد للقيامة. لا شكّ بأنه صدم فكر الكنيسة في كورنتوس وبخاصة الذين يثيرون المشاكل حول القيامة. وهكذا عالج بولس هذه المشكلة مجيباً على المشاكل حول القيامة في كنيسة كورنتوس.
- مستوى التفسير الثاني (من النصّ إلى الموضوع): إن اكتفينا بالتعليم الوارد في نصّ 1 كور 15، حول القيامة، لوقعنا في مشكلة. لأن النصّ هو وحدة أدبيّة كُتب في مناسبة ولغرض خاص، وليس لشرح القيامة بشكل عام. كما أنه (النصّ) حلقة في سلسلة أفكار بولس حول الموضوع. فلقد تكلّم بولس في كتاباته حول هذا الأمر، وفي كلّ مرّة نجد المعنى والمفهوم يتبلور، لا بل يتطوّر قياساً لاختباراته مع المسيح. فلذلك علينا أن نأخذ فكر الرسول في كتاباته متتبّعين التسلسل الزمني والفكري للرسائل. والحقبات والبيئة الخاصّة بكلّ منها. فبولس بدأ الكتابة عن الموضوع في أولى رسائله وهي رسالة تسالونيكي الأولى (4: 13- 18) (سنة 51 م.) وفيه أعدّ بولس جواباً أولياً، وهو ربط القيامة بمجيء المسيح مرّة ثانية، وهو على ما يبدو قريب جداً. ونرى في النصّ الأسلوب الرؤيوي (ملائكة- أبواق...). وكان موت البعض قد نشر ذهولاً وخوفاً على المصير. فإن متنا كيف نذهب معه في الهواء؟ فقال إنه وضع استثنائي (أي الموت المبكر قبل مجيء المسيح). ولكن المسيح سيذكرهم لأنه يحبهم فلن يتركهم حتى بعد الموت، لذلك سيقيمهم أولاً ثم يأخذ الأحياء باختطاف للسماء. وهكذا نرى أن لبولس مراحل فكريّة تطوّرت تبعاً للاعلانات الإلهيّة ولاختباراته. ثم عالج نتيجة تعاليمه عندما أصبح التسالونيكيون لا يعملون بل ينتظرون المجيء الوشيك للربّ فكتب 2 تسا وهكذا بدأ بولس يتأمّل في فكرة تقول بأن الربّ قد لا يأتي سريعاً كما هو متوقّع. ويظهر هذا الأمر أثناء معالجته لمشكلة القيامة في كنيسة كورنتوس (1 كور 15) والتي كتبت بعد ست سنوات تقريباً. فيصبح الموت عندها أمر طبيعي وأساسي. والحياة أمر استثنائي. وان استمرّ على القول بأننا لن نموت كلّنا (آ 51). ولكن أضاف بل نتغيّر. فالموت عبور وتغيير للجسم وحالته لتنسجم مع العالم الإلهي. فالجسد سيلبس جسداً آخر (راجع أيضاً 2 كور 5: 1- 10). ويتابع بولس مراحل التطور الاعلاني في رسالته إلى فيلبي.
في فل 3: 20- 21، وهي ضمن رسائل السجن، حين كان لبولس الوقت الكافي ليتأمّل في موته وفي القيامة مع المسيح، أظهر هناك أن التغيير الذي سيطرأ على الجسد هو أمر محتوم. فإننا سنترك الفساد وسنتحوّل إلى شبه جسد المسيح، وذلك بقدرة الله. وهكذا نراه يعبّر عن هذه الفكرة في باقي رسائله خلال هذه المرحلة فنجد القمة في خطابه إلى أهل رومة (8: 18- 23) حين يقول بأن القيامة هي نهضة وتحوّل عالمي عند الإنسان والطبيعة. فالكون سيتحوّل بقدرة الله. فما أعظم ما يفعل الله!
وهكذا ننتقل من فكر بولس في رسالته إلى فكره في رسائله كلها، فتتضح لنا خلاصة تعليمه الأساسي. ومن ثم نننقل إلى فكر القيامة في منظور باقي الرسل. وهكذا نصل إلى فكر يوحنا فقط، لأنه أعطانا مثالاً واضحاً على ذلك.
يوحنا هو آخر رسول بقي حيّاً. وواجه مشاكل أكبر من تلك التي واجهها الرسل في أيامهم، من بدع وفلسفات. فنرى يوحنا يتكلّم عن القيامة على لسان المسيح (يو 11) بقوله: "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي يحيا وإن مات. وكل من يحيا مؤمناً بي لا يموت أبداً" (آ 25 و26). وهنا نرى الموضوع وقد تعمّق به يوحنا. فإنه يقول إن الموت هو أمر مؤكّد بيولوجياً، والقيامة أيضاً أمر مسلّم به. ولكنه لا يناقش حالة القيامة بعد الموت. بل يضيء على الموت الحقيقي والقيامة الحقيقيّة بأسلوب رائع، حين يقول إن الإيمان بيسوع حياة، والموت هو عدم الإيمان. فأصبح الموت البيولوجي أمراً بسيطاً أمام الموت الحقيقيّ الذي هو جوهرياً عدم الانفتاح على حبّ الله. فالأنانيّة هي موت، والانفتاح على المحبّة هو حياة. وهذا ما يتّضح لدى قراءتنا الإنجيل ورسائل يوحنا (رج يو 3: 16؛ 5: 24؛ 1 يو 3: 14).
وهكذا نرى معنى الموت والقيامة يتطوّر اعلانياً بصورة رائعة ليبلغ جوهراً يطال عمق وقلب الإنسان... وإذا أردنا الرجوع بالموضوع إلى الوراء، نذهب إلى العهد القديم وندرس الموضوع في حقباته وتطوّره، وتأثير الفكر السامي، ثم الفلسفة اليونانيّة إلى أن نصل إلى العهد الجديد. وهكذا يكون الدرس موضوعياً ومنظّماً فيصل بنا إلى نتيجة تدلّ على غنى الكتاب المقدس وتماسكه.