الفصل الرابع عشر: طرح أرضية للحوار والبحث

الفصل الرابع عشر
طرح أرضية للحوار والبحث

إحدى أهم أسس الحوار والبحث هو الاتّفاق على "أرضيّة" تكون منطلقاً للحوار. وبدون هذه الأرضيّة ليس هناك من حوار حقيقي، بل صراع وجدال عقيم، وسوء تفاهم كبير. كذلك سنقدّم طرحاً لأرضيّة حوار أثبتت نجاحها في خبرتنا مع شهود يهوه، وهدف هذه الأرضيّة مدّ جسور للتفاهم والتواصل بين عالمين منفصلين تتحكّم على حدودهما عداوة تمنع الواحد من فهم الآخر بشكل صحيح... والأرضيّة المقترحة تنقسم إلى مبدأين أساسيين، وهما:
أولاً: الاتفاق على المرجعية التمثيليّة، وطبيعة الحوار: كل فريق يتكلّم عن الجماعة التي ينتمي إليها ويؤمن بمفاهيمها، وذلك لأنه أفضل من يستطيع التعبير عنها (الجماعة). فممثّل الكنيسة يتكلّم عنها وعن تعاليمها وتفاسيرها، وممثّل شهود يهوه يتكلّم كذلك عن جماعته، ولا يفرض فريقٌ تعليماً أو تفسيراً على الفريق الآخر مستنداً إلى بعض الآراء أو التفاسير الخاصة دون الرجوع إلى المرجع الرسمي.
أما بخصوص طبيعة الحوار فهناك جملة اشياء، منها: عدم التعرّض للشخصيات الدينيّة أو القياديّة لكلا الفريقين بالاهانات أو السخريات. عدم التكلّم عن أشياء أو مواضيع تاريخيّة أو أي موضوع كان بلا إثبات أو مرجع رسمي. تحديد الموضوع حتى الانتهاء منه بنتيجة واضحة تعطي الموضوع حقّه. يتكلّم كل فريق عن وجهة نظر جماعته حول الموضوع المطروح للبحث بفترة لا تتعدى 10 دقائق، ويدوّن الفريق الآخر على دفتر، المراجع التي استخدمها الفريق المتكلّم. ثم يتمّ الانتقال بعد هذا العرض إلى المناقشة في المراجع والنصوص المستخدمة من قبل كلا الفريقين. وفي المناقشة تكون المداخلة أو الاعتراض لفترة 5 دقائق وذلك منعاً لاحتكار الوقت والكلام.
ثانياً: الاتفاق على كيفيّة قراءة الكتاب المقدس وتفسيره: أي إنه من المهم الاتفاق على كيفيّة تفسير الكتاب المقدس، لأن التفسير السيّء يصل بنا إلى مغالطات وضلالات، فلا نعود نعرف أهميّة كلام الله الموجّه إلينا اليوم. قد يقول البعض إن الكتاب المقدس بسيط، فالله يريدنا أن نعرف كلمته ونعمل بها لذلك فهو بسيط ويستطيع أي كان أن يفهمه. فنقول: إن هذا صحيح على مستوى الأخلاقية والسلوكيّة الايمانيّة للفرد والجماعة، ولكنه غير صحيح أبداً على مستوى التفسير وفهم المعاني. فالكلام الإلهي متوشّح بلغة البشر وبتراث جغرافي وتاريخي وفكري وأدبي... فمشكلتنا اننا نحن كقرّاء، نكون في الوقت عينه مفسرين شئنا أم أبينا، ومجرد قراءتنا لترجمة للكتاب المقدس تضعنا ضمن حلقة تفسيريّة هائلة قام بها جماعة من المتخصّصين والعلماء والمترجمين. ثمّ إنّ ذهنيّة البيئة التي نتشبّع بها لها تلعب دوراً كبيراً فتجعلنا نرى أموراً من الكتاب المقدّس يكاد لا يكون لها أساس.
وتنبع الحاجة إلى التفسير من أن الكتاب المقدس هو كلام الله في لغة البشر. فكلام الله ذو قيمة إلهيّة وهو يتوجّه إلى كل البشر. فالله يدخل التاريخ البشري ويخاطب قلب الانسان ووعيه حيثما كان وفي أي عصر أو بيئة أو حضارة. ولكن بما ان الله كلّم البشر بلغتهم، فكان على الكاتب الذي خاطبه الوحي في قلبه ووعيه أن يدوّن كلام الله بلغته ومفاهيمه وتراثه والبيئة والثقافة المحيطة والمعروفة عنده وعند قرّائه. والجماعة التي توجّه كلام الله إليها، وعت هذا الكلام فاختبرته وعاشته في حياتها أفراداً وجماعة.. ومن المعلوم أن مئات السنين تفصلنا عن تلك الحقبات التي حُرّرت الرسائل والأسفار فيها، كما وأن البيئة اختلفت، وكذلك الثقافة والحضارة والتراث... من هنا تنبع حاجتنا إلى التفسير الصحيح لمعرفة كلام الله، وذلك عبر تحليل الآداب والخلفيّات والبيئة والتراث السائدة آنذاك، وفهمها كما فهمها الناس الذين توجهت إليهم، فنرى كيف عاشوها وطبّقوها ودوّنوها تراثاً وتاريخاً خلاصيّاً لهم كجماعة. وبعد ذلك ننظر إلى كلام الله المتوجّه لنا من خلال هذا التراث الكتابي، ونعيشه ونطبّقه في حياتنا أفراداً وجماعة.. وانطلاقاً من هنا يجب علينا أن نضع مبادىء لقراءة وتفسير الكتاب المقدس لتجنّب سوء تفسيره، فلنعرف حقاً كلام الله المتوجه إلينا من خلال نصوصه، والمبادىء هي:
أ- إن الكتاب المقدس ليس كتاباً تاريخياً أو علميّاً، ونقصد بذلك أن الكتاب المقدس هو بجوهره كلام الله المتوجّه للبشر، وليس تأريخاً أو علماً بالمعنى الحديث. ولا نحاول أن نقارن أو نجعل إنسجاماً بين التاريخ والعلم وبين الكتاب المقدس. فكل محاولة من هذا النوع مصيرها الفشل وذلك لاختلاف جوهري بينهما. لأنه أي اتجاه مثل هذا يدخلنا في متاهات وتناقضات لا جواب عليها أبداً. بذلك نضرب الكتاب المقدّس تاريخيّاً وعلميّاً بغير وجه حقّ، وهكذا لن نستطيع معرفة كلام الله المتوجه إلينا. وسنورد بعض الأمثلة التي تبرهن على أن الكتاب المقدس لا يهمه التاريخ أو العلوم، وهي:
في العلم- ورد في سفر التكوين الفصل الأول أنه في اليوم الأول خلق الله النور، وأنه في اليوم الرابع خلق الله النيرّين العظيمين (الشمس والقمر)، فكيف يكون النور قبل الشمس ونحن نعرف أن نظامنا الشمسي يستمدّ نوره من الشمس؟!.. وكيف نفهم أن الله خلق كل شيء وأخيراً الانسان كما في الفصل الأول، ونرى في الفصل الثاني انه خلق الانسان وبعده كل شيء؟! ونقرأ في مكان آخر أن يشوع بن نون أوقف الشمس أثناء صراع بين العبرانيين وشعوب أخرى (يش 10: 13)، فكيف تقف الشمس عن الدوران ونحن نعلم ان الأرض تدور حول الشمس، والشمس ثابتة لا تتحرك؟! وكذلك ما ورد في أش 40: 22: "الجالس على كرة الأرض". لا يجوز أن نفهم ان العبارة تشير إلى كرويّة الأرض. فالعلم يشير إلى ان الأرض بيضاويّة تقريباً؟ فإذا رجعنا إلى إطار النص نجد أن اشعيا في هذا الفصل يجاوب على أناس اعتقدوا أن الآلهة البابليّة أنقذتهم لأنهم أكرموها. فانطلق اشعيا من الفكر السامي الذي يعتقد ان للأرض قواعد أربع ترتكز عليها وأن هناك ماء فوق الجلد وماء تحته، وان فوق الجلد توجد سماوات، وقبة فوقها (نصف دائريّة) يجلس عليها الإله الأعظم. فقال اشعيا: لا يجلس هناك إلاّ يهوه المخلص وحده، وأنه هو الذي ينقذهم لا آلهة بابل البكماء والخرساء... وهناك الكثير من الأمور التي تحمل المشاكل والصعوبات إذا أردنا تفسيرها تفسيراً علميّاً (قابل تك 1: 6 مع 7: 11/ 2: 21- 23)...
في التأريخ- إذا رجعنا إلى تك 5 نجد أن آدم ولد شيتاً، فأين أصبح قايين وهابيل؟! وإذا قارنّا مت 1 مع لو 3، نجد تنافضات بين سلسلتي النسب لا حل لها؟! وإذا تأملنا في مت 1، نجد في آ 8 أن يورام ولد عزيا، ولكن إذا رجعنا إلى 1 أخ 3: 11، نجد ان الكاتب لم يذكر أسماء ثلاثة ملوك وهم أحزيا ويوآش وأمصيا؟! كما ونقرأ في آ 11 أن يوشيّا ولد يكنيا. فإذا رجعنا أيضاً إلى نص 2 أخ 36 نجد انه لم يورد اسميّ ملكين هما يواحاز ويوياقيم!... وهناك الكثير من النص وخارجه مما يثبت أن الكتاب المقدس لا يهتم بالتأريخ أو بالعلم، بل هو كلام الله المتوجه إلى البشر. وقد يوجد فيه بعض الأمور التي تنسجم مع التاريخ والعالم، ولكنه لا يوردها بالمعنى التاريخي والعلمي الحديث.
التفسير: إن تك 1 هو نشيد يرجع إلى التقليد الكهنوتي المتشبّع بالعناصر الروائيّة البابليّة لنشأة الكون: الله هو منظّم الكون وعلى رأسه الانسان. حوّر الكاتب هذه الصور وضمّنها جوهراً يمثّل الفكر اليهودي وجعل كل هذا نشيداً طقسياً، نشيد تعظيم ليهوه تجاه الآلهة البابليّة. وهكذا ينشد الشعب ويدعو المؤمنين للمحافظة على الشريعة والبقاء أمناء للإله الخالق والمهتم بخليقته. أما بخصوص مت 1 فنرى أن متى يظهر يسوع وهو يفتتح كتاب تكوين جديد، لأنه آدم الجديد (لو 3: 38)، فنرى سجل نسب يسوع بعكس سجل نسب آدم (تك 5). وهكذا يظهر أن يسوع قد أتم معنى تاريخ إسرائيل. كما أراد متى أيضاً أن يظهر يسوع الحاضر في كنيسته إلى نهاية العالم، استخدم الفن الأدبي الخاص بالانساب ليظهر يسوع متجذراً في شعب الله. ويبرز هذا القصد بعمق وقوّة أشمل حين يجذّر يسوع في البشريّة ككل حين يضع أربع نساء، ثلاث منهنّ غريبات عن شعب الله، فيخرج يسوع من التاريخ البشريّ كله، كما يتساوى المرأة والرجل (راجع غلا 3: 38). أما بخصوص الرقم 14 الذي يحطم السلسلة البشريّة من أجله، فهناك نظرتان. إحداهما تشير إلى ان الرقم 14 يشير إلى اسم داود (4+ 6+ 4). وقد يشير إلى مجيء المسيح في نهاية الزمان والذي حددته كتب رؤيّوية قديمة بستة أسابيع رمزيّة.. ونظرة أخرى تقول ان متى عمّم العدد من القسم الأول إلى بقية الأقسام.
ب- قراءة كل سفر من أسفار الكتاب المقدس على حدة، وذلك لفهم عباراته وتعاليمه إنطلاقاً من فكر المؤَلِّف وذلك كخطوة أولى. ويتم ذلك عبر تحليل الفنون الأدبيّة، والقرائن، والخلفيّات التاريخيّة والثقافيّة، ومناسبات الكتابة وغاياتها، ومعناها للقراء آنذاك. فلكل سفر ميزته وخلفيّته وغايته التي تحدّد توجّه السفر وغايته. وسنورد بعض الأمثلة نقرأ عن الأعميين في مت 9: 27- 31، أما في مرقس (10: 46- 52) ولوقا (18: 35- 43) فهناك أعمى واحد. فإن قاربنا الأناجيل بعضها ببعض نجد تناقضات هائلة ولكن لا مقبولة. ولكن إن فهمنا أن لكل إنجيل خلفيّته وهويته وغايته المتوجهة لقراء، تغيرّ الأمر. فالأناجيل ليست سيرة حياة يسوع التاريخيّة وحسب بل هي شهادات إيمانيّة اختباريّة لجماعات مسيحيّة عاشته ودوّنته في تراث أدبي يخلّد اختبارها ويعالج مشاكلها ويشارك الآخرين بها. فالأناجبل تحف فنيّة لا يجوز تشويهها بمقارنات لتثبيت مصداقيّة تاريخيّة، مع أننا نرى أن هناك أحداثاً تاريخيّة واقعيّة حقيقيّة انطلقت منه نحو عالم الايمان والاختبار. بعد هذه الفكرة، نأتي إلى النص في متى فمتى كتب لمسيحيين يهود، وذكر أعميين لأن كل شهادة تقوم على فم شاهدين (رج مت 26: 60؛ عب 10: 28؛ تث 17: 6؛ عد 15: 30)، وهذا مهم لمصداقيّة الحدث ولمعناه الروحي الذي هو الشهادة بأن يسوع هو "ابن داود" و"ابن الله" (مت 8: 28؛ 20: 30)، وذلك مع عدم إغفالنا للمعجزة ومغزاها.. وكذلك نقرأ موضوع المجنونين في مت 8: 28- 34. رج مر 5: 1- 20؛ لو 8: 26- 39 اللذين يتحدّثان عن مجنون واحد. وكذلك الآتان والجحش في مت 21/ 2- 7 يصبح جحشاً واحداً في مر 11: 2- 7 ولو 19: 31- 35 ويو 12: 14 و15). والجاريتان في مت 26: 69 و71 تصبحان جارية واحدة في مر 14: 66 و69. وكذلك ذكر مت أن يسوع لم يمرّ بالسامرة (مت 10: 5) وذكر لوقا (9: 1) انه مرّ من هناك.
- التطويبات، هي ثمانية في مت 5: 3- 12 وفي لو 6: 20- 26 تصبح أربعة مع أربعة ويلات... نجد تناقضاً للوهلة الأولى، وسببها مقارنتنا للنصين من الوجهة التاريخيّة، وهذا لا يجوز. والجواب هو: لقد وصلتنا التطويبات على يد متى ولوقا، ونلاحظ اختلافات بينهما ترقى إلى البيئة التي يتوجّه إليها كل سفر. نجد أولاً أن كليهما يستخدمان الاسلوب نفسه وكلمة "طوبى"، ممّا يدل على أنهما استقيا من مصدر واحد من تقليد قديم في الكنيسة. ويعود الفرق في المضمون إلى تأوين كل منهما للنص المأخوذ عنه، وذلك لأسباب تعود إلى القرّاء وبيئتهم وحاجاتهم. فنرى ان للسعادة معنى يختلف بين متى ولوقا. فيتصوّر لوقا أحوالاً قاسية (طوبى للفقراء- للجياع..) بينما يتصوّر متى وضعاً روحانيّاً (طوبى للفقراء بالروح.. للجياع والعطاش للبر..) وهكذا نجدهما لا يعبرّان عن معنى واحد. فكل يتوجّه إلى حاجات شعبه. فمتى يدعو إلى الفقر الروحي أي الخروج من الذات والعطاء، بينما لوقا يدعو إلى العطاء المادي دليلاً على العطاء الروحي. والبرهان على ذلك هو الويلات الأربعة المرفقة لاحقاً.
ج- قراءة كل آية من آيات الكتاب المقدس ضمن النص الواردة فيه: وذلك على ضوء قرينتها الأدبيّة والتراثيّة المحيطة بها، وإلاّ ضللنا وفاتنا المعنى الحقيقي، وسنورد أيضاً أمثلة:
* التينة التي يبّسها يسوع (مر 11). ذات مرّة كان يسوع مارّاً بجوار تينة، فمال إليها ليأكل منها فما وجد ثمراً عليها، فلعنها، وفي الغد يبست (12- 14 و20- 26). هنا يُطرح السؤال: لماذا لعن يسوع التينة ويبّسها؟! مع أن النص يقول بأن أوان الثمر لم يحن بعد (آ 13). هل يسوع عدو الطبيعة؟! كلا. فإذا عدنا إلى النص وجدنا أن يسوع يعلّم التلاميذ الصلاة بالإيمان. هذا مستوى التفسير الأول. ولكنه لا يكفي لأن المغزى غير واضح. فلا بد أن يكون لمرقس قصد أعمق من ذلك وإلاّ لكان عملُ يسوع غير مفهوم لا بل غير مقبول. فهو ييبّس تينة ليعلّم تلاميذه صلاة الإيمان. فهل ينقل في المستقبل جبلاً ويطرحه في البحر مغيّراً ملامح البلدان جغرافيّاً ليعلم تلاميذه الثقة بالله؟! كلا، لا يجوز ذلك. فمرقس وضع بين هذين النص نصاً (15- 19) عن تطهير الهيكل من الباعة. فبعد الحدث الذي لعن فيه يسوع التينة نراه يدخل الهيكل ليطهره. ثم يعود الكاتب ليرينا أن التينة يبست. فمرقس يربط التينة بالهيكل وبالتالي بإسرائيل. فالتينة ترمز إلى إسرائيل الذين لم يثمروا. ونتأكّد من هذا المفهوم إذا رجعنا إلى جذور هذا المعنى (رج إر 8: 13؛ يوء 1: 7؛ ميخ 7: 1) حيث نجد أن التينة ترمز إلى إسرائيل، والكرمة أيضاً (رج أش 5: 7). ومرقس يعلم ذلك يقيناً، وهو لم يستخدم الصورة عبثاً، بل لغرض معيّن، لذلك نراه يتابع في 12: 1- 12 عن مثل الكرامين الذين لجشعهم وعدم أمانتهم خسروا الميراث الذي أعطي لغيرهم. وهكذا يقدّم مرقس للقارىء مجالاً واضحاً ليفهم المغزى المقصود من وراء الحادثة هذه. والقارىء هنا هو الرومانيون المسيحيون الذين يحتاجون إلى أن يعرفوا أن الملكوت قد نُزع من اليهود وأعطي لهم، فكانت هذه الكلمات مشجعة معزيّة لهم جداً. وكذلك نرى يسوع في يو 1: 47 و48 يقول لنثنائيل إنه رآه تحت التينة، وانه إسرائيلي لا غش فيه لأن اليهود يدرسون الشريعة تحت التينة (رج أيضاً مت 24: 32؛ لو 13: 6).
* ابنة ابراهيم (لو 13: 10- 17). ذات مرّة بينما كان يسوع يعلّم في الهيكل، أتت امرأة منحنية الظهر منذ 18 سنة، فشفاها يسوع، فاعترض اليهود لأنه كان يوم سبت. فاجابهم يسوع بأنها ابنة ابراهيم وهي مريضة ومأسورة ويحقّ لها أن تتحرّر في يوم السبت. ولكن ما يلفت انتباهنا هو تسمية يسوع لها "ابنة ابراهيم". فاليهود لا يقدّرون المرأة، واليهودي يشكر الله لأنه لم يخلقه عبداً أو وثنياً أو امرأة. والمرأة هي من ممتلكاتهم يتصرفون بها كما شاؤوا، ويدّعون أنهم وحدهم أبناء ابراهيم (مت 3: 9؛ يو 8: 39). ودعوة يسوع لها ابنة اسرائيل كان صدمة اجتماعيّة صعقت اليهود حين رأوا أنه ساوى المرأة بالرجل.
* عدم أكل الدم (أع 15: 20). تفسر هيئة شهود يهوه أن نقل الدم إلى مريض هو كأكله، وهذا الأمر هو ممنوع. قال الله لنوح وعائلته إن الدم يمثّل النفس، أو الحياة. ولذلك منعهم الله من أكل الدم (تك 9: 3 و4). وبما أننا متحدّرون منهم، فإننا جميعاً ملزمون بهذه الشريعة... وجرى تكرار شريعة الله عن الدم عندما أُعطي مسيحيو القرن الأول هذا الارشاد (امتنعوا عن الدم) (أع 15: 28 و29). وبدافع الاحترام لقداسة الحياة لا يقبل الأشخاص الاتقياء نقل الدم حتى ولو أصرّ الآخرون على إجراء كهذا ينقذ حياة الانسان.
لكن إذا عدنا إلى نصّ (أع 15) تبيّن لنا مفهوم آخر، حاولت هيئة شهود يهوه تأويله لصالح مفهومها المنطلق من العهد القديم... وهنا قبل الدخول مباشرة إلى الموضوع (الآية المذكورة اعلاه) ينبغي لنا أن نفهم هدف سفر الأعمال، ثم الأدب المتضمن في نص أع 15، وأخيراً معنى النص ومغزاه اللاهوتي...
- هدف سفر الأعمال: لم يُكتب سفر الأعمال بهدف تاريخي بحت، ولا يهتمّ لوقا فقط بتدوين تاريخ الجماعة الأولى. وهكذا لا يكون مجمع أورشليم المنعقد في أع 15 قد دوّن أولاً لهدف تأريخي. وبالتالي تسقط مقولة هيئة شهود يهوه عن موضوع الدم ونقله... إن سفر الأعمال هو تاريخ ديني كُتب من أجل "إعادة الزمن الحاضر إلى وحدة الحدث الذي أسس الكنيسة" وبالتالي ربط الكنائس بالجماعة الأولى ومن خلالها بالمسيح. وبذلك تجد جذورها ومعناها في يسوع وحدث العنصرة. وهنا تبرز بشدّة وقوّة أبعاد لوقا بإظهار حدث الخلاص المنطلق من يسوع: ينتقل من العالم اليهودي إلى العالم الوثني فيصبح مؤتمناً على تواصل حدث الخلاص هذا في التاريخ. ويصوّر لوقا هذه الأبعاد: أولاً: بمسيرة الكلمة ونمّوها (6: 7؛ 12: 24؛ 13: 49؛ 19: 20). ثانياً: بانتقال الحديث من بطرس (أع 12) إلى بولس رسول الأمم (أع 13)، ويلتقيان في أع 15. وهكذا تبرز وحدة رسالتهما في المسيح.
ثالثاً: تواصل إنجيل لوقا مع سفر الأعمال. فكلاها كتبهما لوقا ووجههما إلى ثيوفيلوس (لو 1: 3؟ أع 1: 1). فنرى أن خاتمة لو هي إعلان عن قيامة المسيح، وانتظار موعد الروح القدس، بينما نرى أن مقدمة أع تتحدّث عن مجيء الموعد. وهكذا يبدأ لو بمجيء المسيح ورسالته وموته وقيامته وموعد الروح القدس، ويتابع المسيرة في أع بمجيء الروح القدس ومخطّط مسيرة الكلمة من أورشليم إلى أقاصي العالم (أع 1: 8)، وينتهي في أع 28 بسجن بولس في رومة. وهنا أبقى لوقا النص مفتوحاً فلا يعلمنا هل مات بولس أم أطلق سراحه؟! وهكذا يبرز هدف كتابه، وهو تتابع مسيرة الروح القدس والكلمة من بعد بولس وذلك من خلال الجماعة التي يتوجه إليها، ومن خلالهم الينا نحن، وأيضاً من بعدنا إلى الأجيال الآتية.
- الأدب الذي نجده في أع 15: يتضمّن أع 15 نوعين من الأدب، يحملان في خلفيّتهما قرارات مجمعين لا مجمع واحد. وتبرز هذه الناحية من خلال حديث لو في أع 15، وحديث بولس في غلا 2، وكلاهما يتحدثان عن مجمع وحوار وقرارات. ولكن تبرز بينهما اختلافات تدعم وجود أدبين ومجمعين، وهي: هدف المجمع (قارن غل 2: 10 مع أع 15: 5 و10 و19). وطبيعة القرارات (قارن غل 2: 6- 18 مع أع 15: 13- 19). والزمن الذي تمّ فيه انعقاد المجمع (قارن غلا 2: 1 مع أع 11: 30؛ 12: 25؛ 15: 1 و2). وهكذا نرى بوضوح وجود نصّين أدبيّين، ومجمعين، أحدهما خاص (خطبة يعقوب) وموضوعه الختان، والثاني عام (خطبة بطرس) وموضوعه الختان وبعض الممارسات المتعلقة بالشريعة اليهوديّة.. أما لماذا جمع لوقا الاثنين في حدث واحد، فهو الترابط الموضوعي الوثيق بينهما. انطلق ليظهر مفهومين متدرجين، وهما المحافظة على السلام وسط جماعة الله من خلال احترام المسيحيّين من أصل وثني لإخوتهم من أصل يهودي.
ثم إبراز القول بأنه غير ضروري أن يتهوّد المسيحيون من أصل وثني للدخول إلى المسيحيّة. وبالتالي تمّ انفصال الشريعة اليهوديّة عن مفهوم الحريّة في المسيحيّة. وهكذا نرى كيف أن لوقا جمع الحدثين في حدث واحد، وجعل من أع 15 محطة حاسمة لانفصال المسيحيّة عن اليهوديّة، وإعلاناً لهويتها المستقلة. وبذلك أطلق لوقا أبعاداً لاهوتيّة ينبغي أن تُفهم في خلفيّتها فمن ضاع في آية حول أكل الدم وما شابه، ضيّع كلام الله المتوجّه للبشر.
- مغزى النص: قال لوقا إن مجمع أورشليم انعقد بسبب تدخّل بعض المتهودين في جماعة المسيحيين من أصل وثني. فأرسلت هذه الجماعة بولس وبعض الأخوة معه (أع 15: 1 و2) لبحث الموضوع مع الرسل والمشايخ في أورشليم. فاجتمعت الجماعة في أورشليم، ورأت انه من المناسب أن يحترم المسيحيون من أصل وثني ضمير المسيحيين من أصل يهودي وذلك للحفاظ على السلام والتعايش والوحدة في الجماعة. وتحدث بولس عن هذا الموضوع أيضاً في 1 كور 8؛ رومة 14. فيما اليهود يعتقدون بقدسيّة الحياة، والدم يرمز إليها، وهو (الدم) محرّم من الأكل في شريعتهم (لاويين 17: 14) لذلك هم يحترمون الحياة بعدم أكل الدم. ولكن المقصد الجوهري من الشريعة هو الحياة نفسها فيتكلم لا 17؛ تك 9: 5- 6 عن عدم القتل وسفك الدم، لأنه بسفك الدم طبعاً يموت الانسان. والانسان مخلوق على صورة الله وشبهه، وبالتالي لا يجوز القتل أبداً. وأفضل أسلوب ليفهم الشعب القديم ذلك هو تقديم صورة تقول إن النفس هي في الدم، وبذلك يتجنبون كل ما يمت لسفك دم الانسان بصلة، قتلاً أو ذبحاً، أو خنقاً...
ولكن يتخطّى لوقا هذا الأمر من أجل هدف لاهوتي نكتشفه من خلال كتابة سفر الأعمال.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM