الفصل الأول
شهود يهوه، مرحلة التأسيس والتكوين
إذا أردنا أن نفهم شيعة "شهود يهوه"، نعود إلى المناخ الذي وُلدت فيه. الولايات المتّحدة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بلدٌ يتأرجح بين الفوضى والانتشار والبناء. بلدٌ نبت فيه في تلك الحقبة عددٌ من الحركات الدينيّة المختلطة، وهي كلّها لا تدعو إلى الثورة بل الإصلاح. وهذه الحركات لا تعود إلى أرضٍ ولا إلى سلالة ملكيّة ولا إلى تاريخ طويل، بل إلى طريقة حياة وتفكير تأسّست على دستور الاستقلال في الولايات المتحدة الأميركيّة.
1- ألف سنة
في هذا الجوّ، عاد شهود يهوه إلى الكتّاب المسيحيّين في القرون الأولى كما عادوا إلى الهراطقة وما عرفوا أن يميّزوا. وما أخذوه بشكل عام هو الكلام عن ملك ألف سنة يعيشه المؤمنون وهم بعيدون عن كل محنة، بل يعيشون مع المسيح ويدعون إلى الجلوس على اثني عشر كرسيُّا. نقرأ عن الألف السنة في رؤ 20: 1- 6. قرأ بعض الكتاب المسيحيّين الأولين هذه الآيات وفهموها بطريقة حرفيّة. ولكن بتأثير من أوغسطينُس، أعطى المسيحيّون هذا العدد مدلولاً رمزيًّا. فهذه الألف سنة (10× 10× 10= مكعّب 10- عدد كبير جدًّا) تدلّ على الزمن الذي بدأ مع المسيح ويمتدّ حتى عودته في المجد.
أما شهود يهوه فيفهمون هذا العدد حرفيًّا. يضربونه بـ 12 الذي هو عدد الكمال (3× 4، 3 هو عدد الألوهة، و4 هو عدد الكون بأقطاره الأربعة)، فيصبح 12000. ويضربون أيضاً هذا العدد بـ 12 (عدد قبائل إسرائيل أو عدد الرسل) فيكون لهم: 144000، هذا هو عدد "الممسوحين" (بالزيت المقدّس)، هذا هو عدد المخلّصين. هنا نشير إلى تبدّل في النظرة لدى شهود يهوه: رأي راسل (Russell) مؤسّس شهود يهوه، أن جميع شهود يهوه يذهبون إلى السماء سواء توقّفنا عند العدد 144000 أو سواء تحدّثنا عن جمهور كبير لا يعدّ ولا يُحصى (رؤ 7: 9). مع روترفورد (Rutherford) منظّم شهود يهوه بعد راسل، لا يُقبل في السماء سوى 144000 شخص لا أكثر ولا أقل. أترانا عدنا كما في التاريخ القديم إلى نظرية البسطاء والكمّال؟ الكمّال وحدهم ينعمون بسعادة السماء. أما الباقون من شهود يهوه فيتحوّل رجاء السماء بالنسبة إليهم إلى أمل بحياة أبديّة على الأرض. يأكلون ويشربون وينامون. ويُطرح السؤال من يكون 144000؟ لا جواب بل لفّ ودوران كالعادة.
كان هذا التعليم الألفيّ في قلب اجتماعات عدد كبير من التجمّعات الدينية في نهاية القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، ولم يكن شهود يهوه شواذاً في هذا الخضمّ من الحركات الدينيّة. بل ورثوا أولئك الذين انتظروا مجيء المسيح، ورثوا الأدفنتيست (Adventistes) الذين ينتظرون المجيء (Advent) وهم الذين نسمّيهم السبتيّين. إن هذا الغليان الدينيّ يتأصل في واقع عاشته البلاد وبدلاً من أن ينعش الدينُ بروحه الوضع الاجتماعيّ السياسيّ القلق في البلد، أخذ هذا القلقَ وجعله في قلوب الناس فملأهم خوفاً ورعبة، وقدّم لهم ديانة بسيطة على قياسهم، ودعاهم إلى زرع هذا الخوف في قلوب الناس لكي يستعدّوا لمجيء يسوع.
2- نهاية العالم
خلط هؤلاء الممسوحون بين "نهاية عالم" و"نهاية العالم" واستندوا إلى الكتاب المقدّس وأخذوا يقومون بعمليّات حسابية ليعرفوا متى تكون هذه النهاية. هي سنة 1914. ولكن الحسابات لم تتحقّق. سنة 1914 خاب أمل الناس فترك هذه الشيعة عددٌ كبير من المنضوين تحت لواء راسل. أمام هذا التراجع، عادوا إلى حسابات وما زالوا، وبانت كلّها خاطئة. أما كيف وصلوا إلى سنة 1914؟ فإليك الحسابات التي تنطلق من خطإ تاريخيّ فتصل بنا إلى ضلال دينيّ يعارض الإنجيل كلَّ المعارضة. قال راسل: "دمّرت مملكة يهوذا سنة 606 (في الواقع، دُمّرت سنة 587 ق. م.)، وحسب دا 4: 20 (تمرّ عليه سبعة أزمنة)، هذا التاريخ هو بداية أزمنة الأمم (الوثنيّة) السبعة، بداية تسلّط الممالك الوثنيّة على العالم. وكل زمن من أزمان النبوءة يمتدّ على 360 سنة. فإذا ضربنا 7 بـ 360 يكون لنا 2520، وعندما نطرح 606 من 2520 يكون لنا 1914. هذا هو الرقم السحريّ. في سنة 1914 ستدمّر الدول والكنائس ويبدأ الملكوت الألفيّ الذي سيكون فيه شهود يهوه الأولين.
هنا نعود إلى الإنجيل. سُئل يسوع عن نهاية العالم فحدّث الرسل عن نهاية عالم هو دمار أورشليم، سنة 70 م.، وهذا الدمار للعالم اليهوديّ يرمز إلى دمار آخر، دمار العالم الوثنيّ بقوة الإنجيل. في الواقع، حين تكون الحروب والزلازل والمجاعات، ليست هي الآخرة (مت 24: 6). حين تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، ليست هي الآخرة، بل بدء المخاض (آ 7)، بل بدء الآلام التي ترافق ولادة عالم جديد بدأ بموت يسوع وقيامته ويمتدّ إلى نهاية العالم. فالأرض الجديدة والسماء الجديدة (رؤ 21: 1) التي نتطلّع إليهما، قد بدأ يسوع يعمل من أجلهما. وعلى خطاه جميع المؤمنين، بل جميع البشر من ذوي الإرادة الصالحة.
ولكن متى تكون النهاية؟ أجاب يسوع: "حين يُعلن الإنجيل على المسكونة كلّها، شهادةً لدى الأمم أجمعين، حينئذٍ تأتي الآخرة" (مت 24: 41). وحتى الآن، لم يصل الإنجيل بعد إلى ربع المسكونة. فالمسيحيّون ليسوا اكثريّة في العالم، ولا سيّما إذا تطلّعنا إلى آسيا الكبيرة، أو إلى الصين التي يفوق عدد سكانها المليار. وسواء كانت النهاية قريبة أو بعيدة، فلا أحد يعرفها إلاّ الله وحده. نقرأ في مت 24: 36: "فأما ذلك اليوم وتلك الساعة فما من أحد يعلمهما، لا ملائكة السماء ولا الابن إلاّ الآب وحده". فإذا كان الملائكة لا يعرفون، أترى شهود يهوه يعرفون؟ وإذا كان الابن نفسه الذي دخل عالم البشر لا يعرف، لأنه أراد ان يلبس الضعف، فهل صار شهود يهوه مساوين لله الآب ليعرفوا "ذلك اليوم وتلك الساعة"، وفي أي حال، نهاية العالم بالنسبة إليّ هي ساعة الموت. ساعة المثول أمام الله من أجل الدينونة. ساعة الانتقال من هذا العالم إلى الآب (يو 13: 1). فسواء متُّ في مرض أو في حادث سيارة، أو في حرب طويلة الأمد، أو في زلزال مدمّر، فأنا سأقف وحدي أمام الديّان ولو كان قد مات معي 40 مليوناً أو أكثر كما حدث في الحرب العالمية الثانية. ولو حصلت نهاية العالم اليوم ومات 5 مليارات من البشر في لحظة واحدة، فعلى كل واحد أن يحضر أمام الديّان ليؤدّي حساباً عما فعل من خير أو شّر. وفي تلك الساعة لا يستطيع أحد أن يسعف الآخر. لا يسعفه إلاّ حنان الله ورحمته. فالعذارى الحكيمات ما استطعن أن يفعلن شيئاً من أجل الجاهلات. لم يكن لهؤلاء زيت الأعمال الصالحة فبقين في الظلمة البرانية (مت 25: 1- 13). هنا نتذكّر كلام القديس بولس في الرسالة إلى رومة (14: 12): "كلُّ واحد منا (وليس بأجمعنا) يؤدّي حسابا لله عن نفسه" (لا عن الآخرين).
من أجل هذا، بعد أن حدث يسوع تلاميذه عن نهاية "العالم" أو بالأحرى نهاية عالم، وبعد أن حدّثهم عن مجيئه القريب في المجد، دعاهم إلى الثبات حتى المنتهى: "من يصبر إلى المنتهى فذاك يخلص" (مت 24: 13). دعاهم إلى ذلك رغم الاضطهادات المريرة التي سوف يقاسونها. ودعاهم إلى السهر لا إلى الخوف. فأعطانا مَثل العذارى الذي ذكرناه. ومثل الوزنات (مت 25: 14- 30). ومثل الدينونة الأخيرة (مت 25: 31- 46). كيف نكون ساهرين؟ نستثمر المواهب التي أعطانا الله إياها، نغتني بالفضائل، لا نكون كسالى مثل العبد الشرير. كيف نكون ساهرين؟ حين نعيش المحبّة اليوميّة مع إخوتنا، ولا سيّما الجياع والعطاش والعراة: "تعالوا يا مباركي أبي... إني كنت جائعاً فأطعمتموني". وهكذا نكون حقاً من أهل الملكوت ونكون في سعادة مع الله، مع يسوع المسيح.
3- طريقة تفسير الكتاب
هنا نشير إشارة عابرة إلى أن شهود يهوه "يفصّلون" الكتاب المقدّس على قياسهم، بدلاً من أن يقرأوا الكتاب لكي يجدوا فيه نوراً لحياتهم على ضوء الزمن الذي يعيشون فيه. نراهم يفرضون نظرتهم إلى الكتاب المقدّس ويشلّعونه كما يشاؤون. فهم بتعاليمهم يغيّرون الكتاب المقدّس. مثلاً، نجد في مت 24: 3 عبارة "نهاية العالم"، فيقرأونها: "نهاية نظام الأشياء". ويتلاعبون في قواعد الصرف والنحو عائدين إلى فتافيت تعلّموها من العبريّة أو اليونانيّة. مثلاً، نقرأ في يو 1: 1: في البدء كان الكلمة، (الذي هو يسوع المسيح)، والكلمة كان لدى الله (أي الله الآب، مع أل التعريف في اليونانيّة) (ho theos)، وكان الكلمة الله (أي مساوٍ لله الآب في الجوهر، ولكن بدون أل التعريف) (theos). يقولون: كان الكلمة "إله" لا الله، أو "كان إلهياً". إذن هناك آلهة كثيرون ويسوع واحد منهم. هنا يعود شهود يهوه إلى يو 10: 33- 34. "قال اليهود: لا نرجمك للعمل الصالح ولكن للكفر، لأنك ما أنت إلاّ إنسان، فجعلت نفسك الله". فأجابهم يسوع: "ألم يُكتب في شريعتكم: قلت إنكم آلهة؟ فإذا كانت الشريعة تدعو من نزل عليهم وحي الله آلهة، فكيف تقولون للذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم: أنت تكفر، لأني قلت أنا ابن الله؟" وهكذا يلغون صفة الألوهة عن يسوع المسيح ويعودون بنا إلى الهرطقة الأريوسية التي جعلت الابن أدنى من الآب لأن طعامه كان بأن يعمل مشيئة الآب.
أترى ليس إلاّ هذا البرهان عن لاهوت المسيح في الأناجيل عامّة، وفي إنجيل يوحنا بشكل خاصّ: نأخذ مثلاً عابراً من مت 8: 23- 27. هدّأ يسوع البحر والرياح، فمن يستطيع وحده أن يهدّئها؟ الله. وحين مشى على البحر الذي يرمز إلى الشّر، فدلّ على أنه تغلّب على الشّر، جاء إليه الذين كانوا في السفينة فسجدوا له وقالوا: "حقاً أنت ابن الله" (مت 14: 33). فلمن يكون السجود إلاّ لله وحده؟ وفي يو 8: 58، قال يسوع: "قبل أن يكون ابراهيم، أنا هو" (أنا يهوه، أنا الربّ الإله)، أنا الكائن (اسم الله في اللغة اليونانيّة). فأخذوا حجارة ليرجموه، لأنهم فهموا ما يعني بكلامه. ولكن يسوع لم يتراجع (كما تقول بعض التقاليد الكاذبة، كما في إنجيل برنابا مثلاً)، بل توارى عنهم، وخرج من الهيكل.
4- معلّمون كذبة
نجد نفوسنا حقاً هنا أمام المعلّمين الكذبة. هذا ما حذّرنا منه يسوع ثلاث مرّات في خطبة مت 24. قال في آ 4: "إياكم أن يضلّكم أحد! فسوف يأتي كثيرٌ من الناس باسمي ويقولون: أنا هو المسيح" (أي أحمل الخلاص). وفي آ 11: "يظهر كثير من الأنبياء الكذّابين ويضلّون أناساً كثيرين". وفي آ 24: "سيظهر مسحاء دجّالون وأنبياء كذّابون". هذا هو وضع الكنيسة منذ أيام الرسل، وسوف يبقى وضعها كذلك حتى نهاية العالم. فإلى متى سيبقى المسيحيّون غير واعين للأخطار التي تحيق بهم من هؤلاء المبشّرين الكذّابين سواء أكانوا من شهود يهوه أو من شيع غيرها. يقتربون من شخص فقير فيربحونه بالمال. يقتربون من شخص يعيش القلق فيستغلّون قلقه وخوفه. يقتربون من شخص يمرّ في الصعوبات، فيصوّرون نفوسهم مخلّصين له. ويغسلون له دماغه. ويسلبون له حريته. فإذا حصل ووعى حقيقة أمره وأراد أن يتخلّص من وضعه الجديد، أحسّ أنه صار عبداً للشيعة، بل هو مهدّد إن تركها.
5- يوم الربّ
كل هذا الخوف يرتبط بيوم الربّ. يوم الربّ نخاف منه إذا كنّا خطأة. ولكن إذا كان ضميرنا لا يؤنّبنا، إذا كنا عائشين بحسب وصايا الله، فلماذا نخاف من يوم الله، من مجيء الله؟ قال يوحنا في رسالته الأولى: "إن كانت محبّتنا بالعمل والحق لا بالكلام واللسان فقط، نعرف أننا من الحقّ، وإذا وبّخنا ضميرنا، فالله أعظم من ضميرنا" (3: 18- 20).
تحدّث الأنبياء عن يوم الربّ فرأوه مظلماً قاتماً بسبب خطايا البشر. قال عا 5: 18: "ويلٌ للذين يراهنون (يجعلون ثقتهم) على يوم الربّ. يوم الربّ هو لكم ظلمة لا نور". وقال صف 1: 14- 15: "قريب هو يوم الربّ العظيم. قريبٌ وسريع جداً. يصرخون بمرارة في يوم الربّ. والجبّار نفسه يطلب العون. يوم حنق ذلك اليوم. يوم ضرر وضيق. يوم إبادة وإتلاف. يوم ظلمة وديجور. يوم غياب وضباب". هذا ما قاله النبي صفنيا بعد أن رأى ويلات الحرب الأشوريّة. ولكنه مع ذلك يهتف في النهاية هتاف الأمل والرجاء: "فالبقيّة لا تصنع الإثم، ولا تنطق بالكذب، ولا يوجد في أفواههم لسان مكر، لأنهم يسرعون ويستريحون ولا أحد يذعرهم. إهتفي هتاف الفرح يا ابنة (شعب) صهيون، إفرحي وتهلّلي... في ذلك اليوم يقال لأورشليم (ولنا نحن أيضاً): لا تخافي. لا تسترخ يداك. فالرب الإله هو في وسطك. هو يخلّصك، ويسرّ بك فرحاً، وفي حبّه يجدّدك، ويبتهج ويترنّم من أجلك" (صف 3: 13- 17).
وفي العهد الجديد، صار يوم الربّ يوم الفرح، يوم الخلاص. لا شكّ في أن يوحنا يتحدّث عن ساعة يسوع، ساعة موته وآلامه، ولكن هذه الساعة هي في الوقت عينه ساعة قيامته وتمجيده، لهذا، سيعلن بولس الرسول: "أودّ أن أنحلّ، أن أموت، لأكون مع المسيح" (فل 1: 23)، لأكون في سعادة مع الله. فعودتنا إلى الآب تشبه ذهاب الحجّاج إلى أورشليم. "فرحت بالقائلين لي إلى بيت الربّ ننطلق" (مز 22: 1).