الفصل الثاني عشر: الصداقة للعالم عداوة لله

الفصل الثاني عشر
الصداقة للعالم عداوة لله
4: 1- 10

بعد الحكمة الحقة والحكمة الكاذبة التي انتهت بالسلام لأجل فاعلي السلام، بعد الحكمة الكاذبة وثمارها، والحكمة الحقّة وثمارها، وصل الكاتب إلى موضوع التعارض بين صداقة وصداقة. هل أنت صديق الحكمة الحقّة؟ إذن أنت صديق الله. هل أنت صديق العالم؟ أنت عدّو الله. نحن ولا شكّ أمام نظرة إلى العالم وما فيه من شرّ على ما نقرأ في إنجيل يوحنا ورسائله. لماذا هذا التعارض التام؟ لأن روح العالم هو سبب جميع الخصومات. لأن الله يريد الانسان كلّه. لأن الله يريد الجدّ في إيماننا بالارتداد الصادق إليه.
إن التنبيه الذي به تبدأ يع 4 (4: 1- 3) لا يرتبط بالمقطع السابق حول الحكمة (3: 13- 18). كل ما هناك هو استعادة كلمة "غيرة" (4: 2). ويبدو الكلام بشكل أسئلة، وتصبح اللهجة قاسية قاطعة. لم يعد الكاتب يذكر الحكمة بل الأهواء التي تحرّك الخصومات وتجعل صلواتنا باطلة. وإذ جعل الكاتب هذين المقطعين الواحد بإزاء الآخر، فقد أراد أن يعارض بين الحكمة الحقّة (3: 16) والأهواء البشريّة، بين نتائج الحكمة الحقّة وما فيها من خير، ونتائج الأهواء وما فيها من شرّ، بين السلام والحرب.
يعالح ف 4 الأهواء والحروب والصلوات غير المتسجابة (آ 1- 3). ثم التعلّق بالعالم الذي يقف حاجزاً في الطريق إلى محبّة الله (41- 6). بعدها، واجب العودة إلى الله وشروطها (آ 7- 10). وفي المقطع الذي ندرسه في ما بعد، نجد كلاماً عن النميمة والافتراء (آ 11- 12)، واكتفاء التجار والاعتداد بنفوسهم. غير أننا نجد منطقاً داخلياً بين الأقسام التي تشكّل المقطوعة التي ندرس في هذا الفصل: إن البحث عن الملذّات الذي هو ينبوع فوضى خطيرة (آ 1- 3)، يذكّرنا بحبّ العالم الذي يبعدنا عن الله (آ 4- 6)، ويدعونا إلى أن نعلن أهميّة العودة إلى الله (آ 7- 10).

1- البحث عن الاهواء (4: 1- 3)
وبدأ يعقوب يبحث عن جذور الحكمة الكاذبة وثمارها المفسدة، فكشفها بدون مواربة. استعمل أسلوباً مضخّماً وعاد إلى لغة الحرب. فكأننا أمام حرب أهليّة داخل الجماعة التي يتوجّه إليها. يجب أن نبحث عن أسباب الخصومات والتوتّرات في إطار الضائقة الاجتماعية التي تعيشها الجماعة، في التعارض بين قلّة من الأغنياء تملك كل شيء وكثرة من الفقراء لا تملك شيئاً. وتحاول قلّة الفقراء أن تمتلك بعض الشيء، ولكن الطريق الذي تأخذه ليس بالسليم: هو طريق الحسد والخصومة والحرب، وكل هذا يدلّ على أنانيّة متأصّلة في الانسان.
أجل، البحث عن الأهواء والملذّات هو ينبرع فوضى خطيرة. وليست الحكمة الكاذبة وحدها، سبب التشويش والشرّ في الجماعات المسيحيّة (آ 1). وتقديم الكلام بشكل سؤال يعطي الجملة قوّة، ويفرض علينا أن نفكّر، ولا يسمح لنا بأن نتهرّب فنجد لنفسنا أعذاراً.
حروب وخصومات بين المسيحيّين. في قلب الجماعات. لسنا هنا على مستوى القتل، بل في معنى استعاريّ. ولكن الأمر أخطر ممّا هو في وضع الحكمة الكاذبة. البحث عن اللذة. الهوى. الرغبة الشرّيرة (لو 8: 14؛ تي 3: 3؛ 2 بط 2؛ 13). يأكلنا حسد وغيرة، ولكننا لا نستطيع أن نمتلك. نطلب "الملذّات" في الصلاة ولا نحصل على شيء. كل هذا يحرّك داخل الجماعـة الخصومات والمنازعات، كما يحرّكها في قلب الانسان. في هذا المجال نتذكّر روم 6: 13، 19؛ 7: 23؛ كو 3: 5؛ 1 بط 2: 11.
انتظرنا في آ 2 أن يحدّد الكاتب طبيعة الملذات التي يطلبها المسيحيّون. ولكن لا شيء من ذلك. هو يريد للمؤمنين خيرات مفيدة وضروريّة نصلّي إلى الله كي ننالها. ولكننا لا نحصل على خيرات نرغب فيها لأننا نهمل الصلاة، أو لأننا لا نعرف كيف نطلب. وهكذا يدعو الكاتب قرّاءه، كما دعاهم على مستوى الحكمة (1: 5- 6)، إلى أن يتّكلوا على الله لا على نفوسهم لكي ينالوا ما يرغبون فيه.
ليس خطأ المسيحيين في أنهم يرغبون في خيرات الأرض، بل في أنهم يطلبونها دون العودة إلى الله الذي هو أبو كل عطيّة كاملة (1: 17). هذا ما علّمنا التقليد الإنجيليّ ولا سيّما في الصلاة الربيّة مع طلب الخبز اليوميّ (مت 6: 9 ي). وقال الربّ أيضاً: "إسألوا فيُعطى لكم... أبوكم الذي في السماوات يعطي العطايا الصالحة لمن يسأله" (مت 7: 7- 11). وقال: "كل ما تسألون في صلاة واثقة تنالونه".
واستبق الكاتب قرّاءه الذين قد يعترضون بأنهم يصلّون أسبوعياً بل يومياً، على مثال كل يهوديّ متديّن (أع 2: 42- 47)، فميّز بين صلاة وصلاة (آ 3). لا شكّ في أنكم تصلّون. ولكن بما أن صلاتكم لا تستجاب، فهذا يعني أنها ليست صلاة الأبرار. "تطلبون ولا تنالون، لأنكم تسيئون الطلب، إذ تبتغون الانفاق في ملذّاتكم". فالصلوات تكون رديئة حين لا تخضع في البدء لإرادة الله ومجده ومجيء ملكوته (مت 6: 7- 11). حين تطلب فقط ما يرضي الأنانيّة والشهوات الشخصيّة. في العهد القديم، أعلن الله أنه لا يستجيب إلاّ صلاة الأبرار، أي صلاة أولئك الذين يبحثون عن مشيئته (مز 34: 15- 17؛ 145: 18؛ أم 10: 24).
وهكذا كشف يعقوب خطراً كبيراً يتربّص بالمسيحيين. هو تجربة أساسيّة لدى الانسان، ولا سيّما المؤمن وصاحب التقوى: يريد أن يجعل الله في خدمته. يماهي بين رغباته ورغبات الله. فمن "يعاتب" الله لأنه لم يعطه ما طلبه بأنانيّة، يدلّ على أنه لم يأخذ إيمانه يوماً على محمل الجدّ. فالايمان هو استسلام كليّ بلا قيد ولا شرط إلى إرادة الله، فنقول له في كل الظروف كلام الطفل لأبيه: "لا مشيئتي بل مشيئتك" (مر 14: 36). إذن، تصعد الصلاة نقيّة حين يلهمها الروح، حين تتضمّخ بالإيمان الحقيقيّ.

2- حب العالم وعداوة الله (4: 4- 6)
ولكن حين يستسلم المسيحيّ للعالم، ولروح أركون هذا العالم، يميل بقلبه عن الله. فالمساومة مع أعداء الله هي زنى وخيانة لله. استعاد يعقوب صورة الحبّ والزواج التي استعملها الأنبياء ليدلّوا على علاقة الله بشعبه (أش 1: 21؛ إر 3: 1 ي؛ هو 1- 3؛ حز 10: 22). وطبّق هذه الصورة، شأنه شأن بولس الرسول، على علاقة الله بالكنيسة التي هي شعب الله الجديد، التي اقتناها المسيح بدمه ملكاً خاصاً. "خطبتكم لرجل واحد، لأهديكم للمسيح عذراء لا عيب فيها" (2 كور 11: 2).
واستعاد يعقوب هذه الصورة التقليديّة من الكتاب المقدّس، فقال: "أيهّا الفجّار" (آ 4). فكل المعمّدين والمفديّين، يشاركون في جماعة حياة وحبّ ثابت مع الله. فمن لا يتجاوب بكل قلبه مع حبّ الله. فمن يطلب "أحبّاء" آخرين. من يطلب حبيباً آخر غير الربّ. من يطلب في هذا الظرف "العالَم" الذي هو عدّو الله، لأنه سقط وانحط. من فعل ذلك، أحبّ نفسه، طلب نفسه، وهكذا قطع شراكة الحبّ مع الله.
هذه الكلمة تؤثّر فينا وتذكّرنا دوماً بخياناتنا حين نساوم مع روح العالم مساومة تقودنا إلى خيانة عميقة. ومن خلال هذا النداء وهذه الدينونة نستشفّ كلام الربّ لكنيسة أفسس: "ولكن آخذ عليك أنك أهملت محبّتك الأولى" (رؤ 2: 4). لهذا، من فضّل في قرارة نفسه روح العالم على الله، صار بالضرورة "عدوّ" الله. صار خائناً لله. صار زانياً وفاجراً في المعنى البيبليّ.
فبين "العالم الذي يسود عليه روح عدوّ الله (يو 8: 34- 35؛ 15: 18 ي؛ 17: 4- 5؛ 1 يو 2: 15- 16)، وبين الله، لا موضع للمساومة والمهادنة. فمن لا يخضع لله، من لا يتعلّق به طائعاً خاضعاً، لا يمكن إلاّ أن يكون خائناً لحبّه.
بعد مناخ من الخصومات داخل الجماعة يبعد المؤمنين عن الراحة الداخليّة، ها قد وصلوا إلى حالة من العداء تجاه الله. قال الربّ عن شعبه إنه زانٍ لأن خان حبّه. وقال يسوع الكلام عينه لهذا الجيل الفاسد الذي يرفض أن يتبعه. قال: "جيل شرير فاجر" (مت 12: 39). نشير هنا إلى أن النصّ لا يشجب تعلّق المؤمن بعجائب العالم المخلوق، كما لا يشجب اعجابه بما في الكون من جمال. ولكنه يرفض صداقة للعالم ترفض الله، وتتعلّق فقط بخيرات الأرض كأنها منتهى الخير الذي يطمح إليه الانسان.
وإذ أراد الكاتب أن يثبت مقاله، قدّم برهاناً كتابياً: "أو تظنّون أن الكتاب يقول عبثاً: إن الله يحبّ حتى الغيرة الروح الساكن فينا" (آ 5)؟ لا نجد هذه العبارة في العهد القديم، بل في أحد الكتب اليهوديّة التي دوّنت في عالم هلنستي. ينتج عن هذا أن لائحة أسفار العهد القديم لم تكن بعد ثابتة حين كتب يعقوب رسالته. وهذا ما جعل الكاتب يعتبر هذا النصّ غير القانونيّ وكأنه كتاب مقدّس، كتاب نبويّ، نجهله اليوم كل الجهل. هنا نقارب هذا المقطع مع آخر في رسالة يهوذا (آ 14- 15) حيث نجد أيضاً إيرادات من كتب نعتبرها منحولة. لا شك في أننا لا نجد في يهوذا العبارة: "قال الكتاب"، ولكننا نفهم أن الكاتب يقدّم برهاناً كتابياً.
ما معنى هذه الجملة التي فيها يتحدّث يعقوب عن "غيرة" الله؟ إن روح الله الصالح الذي يملأ الانسان الذي هو "أنا جديد" ومسيحيّ، لا تطرده أهواء الشرير أو تفشّله. إذن، المسيحي في هذا العالم هو في وضع من الحرب الدائمة، حرب في داخل قلبه. وهذا "الأنا الجديد" الذي وُلد ثانية بالايمان والمعمودية، عليه أن يتجاوز كل الميول الشريرة التي تجد سنداً لها في أعضائنا.
من المهمّ أن نعرف في هذه الظروف أن الله يسهر على روحه الصالح. هذا الروح هو حبّه الذي اختار الانسان ليشاركه مشاركة حميمة في هذا الحبّ. أجل، الله يسهر "بغيرة" على هذا العهد، على هذا الرباط من الحبّ الذي يربطه بكل من المعمّدين. وهو يطلب حساباً من كل من تعامل بخفّة أو بالخيانة مع جماعة الحبّ هذه، من كل من أغاظ هذا الحبّ. فكيف نستطيع أن نردّ على هذا الحبّ إلاّ بحبّ تامّ ومطلق يرفض كل تعلّق بشخص أو بشيء آخر؟
وبعد التحذير القاسي في آ 4- 5، نقرأ تأكيداً يملأنا ثقة بالله واتكمالاً: "الله يعطي نعمة أعظم... يقاوم المتكبرّين ويعطي المتواضعين نعمة". إذا كان الله يحبّ أخصّائه، فمن أجل خيرهم وخلاصهم. هذا ما أراد يعقوب أن يعبّر عنه مستنداً إلى الكتاب المقدّس. "لذلك يقال" أو: يقول الكتاب. فغيرته وحبّه ودينونته، كل هذا هو في خدمة حبّه الخلاصيّ. وحين يتدخّل للدينونة والعقاب، حين يفرض كل الانسان أن يكون كله له، فلكي يكون الانسان موضوع نعمة. فمن أراد أن يتسلّم هديّة فتح يديه. ومن أراد أن يتسلّم حبّ الله فتح له قلبه، وحرّره من عبادة الذات ومن كل تعلّق بالعالم.
فروح العالم يجد ذروته في عبادة الذات وكأنه صنم، في التكبرّ المكتفي بنفسه، هذا التكبّر الذي يجعل نفسه على مستوى الله، يجعل من نفسه محور كل شيء. لهذا يقاوم الربّ المتكبرّين وقلبهم الرديء، ولا يعطي حبّه إلاّ للمتواضعين. فكل ما هو صالح، وما هو رفيع، وما هو قيّم، يأتي من العلاء، والمتواضعون ينتظرونه. هذا ما نكتشفه في نشيد التعظيم المريمي: "حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين" (لو 1: 52؛ رج 1 صم 2: 7؛ 2 صم 22: 28؛ مز 75: 8؛ 147: 6؛ أي 5: 11؛ سي 10: 14- 15؛ مت 23: 12؛ لو 14: 11؛ 14:18).
"لذلك قيل". هي طريقة قصيرة في إيراد الكتاب كما في أف 4: 8؛ 5: 14؛ عب 3: 7. هذا النصّ الكتابي الذي أورده يعقوب هنا يعود إلى أم 3: 34 حب السبعينية مع اختلافة قصيرة: جُعل "الله" (تيوس) موضع "الربّ" (كيريوس). ونجد هذه العبارة مع الاختلافة في 1 بط 5: 5 (وفي رسالة اكلمنضوس الأولى 30: 2). نحن أكيدون من النعمة العظيمة التي يعطيها الله. فقد وعد بها في الكتاب. ولكن لا ننعم بها إن كنا من المتكبرين (هيبريفانوس) بل من المتواضعين (تاباينوس). لفظة "المتكبرين" هنا تترجم اللفظة العبرية "ل ص ي م"، وهي تدلّ على الكفّار والساخرين، الذين يعارضون الله وشريعته. وفي يع وحسب السياق، تدلّ على المسيحيّين الذين يفضّلون صداقة العالم على صداقة الله (4: 4)، الذين يطلبون ملذّات هذا العالم (4: 8)، الذين تبدو نفوسهم مقسومة (4: 8) (من ذوي النفسين، رجل في البور ورجل في الفلاحة، يعرجون كما قال إيليا في 1 مل 18: 21، بين الله وبعل. هم تارة مع الله وطوراً مع بعل)، الذين لا يخضعون خضوعاً تاماً لله (4: 7) ولا لمتطلّبات غيرته (4: 5)، الذين لا يرضون بأن يطردوا الشيطان المجرّب (4: 7).
ولفظة "المتواضعين" في نصّ أم كما في نصّ يع، تعارض "المتكبرين". تدلّ على الوضعاء، على الذين يخضعون لمشيئة الله سواء كانوا أغنياء أم فقراء. هم وحدهم ينالون "نعمة أعظم" تجعلهم يرتبطون ارتباطاً تاماً بالله. في أم، تضمّنت النعمة الموعود بها، فكرة المجازاة على هذا الأرض. أما مع يع، فالمجازاة هي إكليل الحياة.

3- فداء إلى التوبة (4: 7- 10)
وبعد أن تحدّث الكاتب عن ضرورة التعلّق بالله، لا بالعالم، قدّم عدداً من التحريضات القصيرة تدلّ عْلى السلوك الواجب اتباعه لكي نكون وضعاء أمام الله. أقوال وُجدت مفصولة وقد ضُمّت في رسمة فقاهة. يبقى علينا أن نتوسّع فيها.
"إذن، اخضعوا". ففي خطّ الخيار الذي يفرض نفسه على المسيحيّين، والوعد بمساعدتهم في هذا الاختيار، تسلّموا في شكل تعارضيّ توصيتين اثنتين: أن يطيعوا الله. أن يقاوموا إبليس (آ 7). أطيعوا، اخضعوا، تواضعوا أمامه لكي يستطيع أن يعطيكم نعمته. ونقرأ في آ 10: "تواضعوا أمام الربّ فيرفعكم". نجد مراراً في العهد الجديد هذا النداء إلى الخضوع والطاعة. مثلاً، 1 كور 14: 34؛ 16: 16؛ روم 13: 1 ي؛ 1 بط 2: 13، 18؛ 5: 5. والنداء الثاني (قاوموا) يدعونا إلى أخذ موقف المقاومة الذي يتّخده الله تجاه المتكبرّين.
الشيطان هو خصم الله وخصم عباده (أي 1: 1 ي؛ زك 3: 1 ي). هو الذي يعلّمنا أن نحب العالم، ونفضّل هذا الحب على الخضوع المتواضع لله. سمّته 1 بط 5: 8 الخصم (انتيديكوس) ودلّت على نواياه المعادية لعباد الله. وإذ أشار يعقوب إلى أن المقاومة للشيطان تجعله يهرب، كان صدى للتقليد الإنجيلي الذي أرانا يسوع مقاوماً إبليس. "إليك عني يا شيطان" (مت 4: 10 وز؛ 8: 28- 34 وز).
أجل، لا مساومة ممكنة مع الشيطان. فالحرب على تجارب الشيطان المتواصلة، على التهديد الدائم الذي يشكّله تجاهنا، هي جزء مهمّ من الحياة المسيحيّة. ولن يفلت أحد من هذا الصراع، إذا فهم أنه لا يستطيع أن يعبد سيّدين (مت 6: 24). ولكننا نعلم كل العلم أننا لسنا وحدنا في هذه الحرب. فالله يسندنا بأسلحة قوّته التي لا تُقهر (1 تس 5: 8؛ أف 6: 1 ي؛ روم 13: 14). وقد قال بولس في روم 8: 31: "إذا كان الله معنا فمن يقدر علينا"؟ لن نُقهر في ذلك الوقت. وسنجد الشيطان هارباً كما في صراعه مع المسيح.
وجاء تحريض آ 8 يشدّد على وجهة وجدناها في آ 6- 7، على المبادرة التي تعود إلى الانسان في حياته الدينيّة. من أراد أن ينال نعمة الله، وجب عليه أن يقبل مشيئته ويرفض مشيئة إبليس. وتعلن بداية آ 8 أن الله ينتظر من الانسان أن يهب ذاته بكليّتها له. "اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم" (آ 8 أ). هذا القول الذي يستعيد تعليم الأنبياء حول التوبة (زك 2: 3؛ ملا 3: 7؛ 2 أخ 15: 2- 4؛ مرا 3: 57)، يتوقّف فقط عند نقطة خاصة من علاقات الانسان بالله. غير أنه لا يستبعد مبادرة الله في خلاص الانسان (1: 17- 18؛ 2: 5؛ 3: 9؛ رج أش 65: 1؛ إر 2: 6).
اقترب موسى إلى الله حين صعد إلى جبل سيناء (خر 24: 2) وتقبّل منه الوصايا. واقترب الكهنة من الله في شعائر العبادة. وبنو إسرائيل في حجّهم إلى الهيكل (خر 19: 22؛ تث 16: 16؛ مز 122)، وفي صلاتهم الشخصيّة (مز 145)، وفي رجوعهم إلى الله كما في زك 1: 3: "إرجعوا إليّ فأرجع إليكم". حين نفضّل صداقة الله على صدافة العالم نقترب من الله. والله يقترب منا فيمنحنا غزير نعمه.
ولكن كيف نقترب من الله؟ هنا نجد تحريضين جديدين يستلهمان الكتاب المقدّس (آ 8 ب- 9). في التحريض الأول عبارتان متوازيتان ومترادفتان: "طهّروا أيديكم أيها الخطأة. نقّوا قلوبكم يا ذوي النفسين" (آ 8 ب). كان على الكهنة اليهود قبل أن يقوموا بخدمتهم الدينيّة، أي قبل أن يقتربوا إلى الله، أن يغسلوا أيديهم وأرجلهم (خر 30: 19- 21). وقد أبرز الأنبياء الرمزيّة الأخلاقية لهذه الاغتسالات الطقوسيّة. قال أش 1: 16: "فاغتسلوا وتطهّروا وأزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عينيّ، وكفّوا عن الاساءة". وحرّض إر 4: 14 أورشليم: "إغسلي من الشرّ قلبك يا أورشليم لكي تُخلَّصي. إلى متى تبيت في داخلك أفكارك الأثيمة"؟ وربط مز 24: 4 وسي 38: 10 اليد بالقلب حين أوصى بالطهارة.
وهكذا عاد يعقوب إلى لغة الكتاب المقدّس ليدعونا إلى النقاوة، إلى التحرّر من الشرّ الذي يعارض الله (مت 5: 8؛ مر 7: 21 ي). ونادى "الخطأة" (هامرتولوي) فدلّ على الذين يعصون الله، ينفصلون عنه، ويعارضون مشيئته. ونقول الشيء عينه عن النفوس المنقسمة بين الله وبين ما يعارض الله. فالله يريد كل شيء، يريدنا كلنا وكل ما فينا.
ويذكّرنا التحريض الثاني (آ 9) بطريقة الاقتراب من الله، فيستلهم الكرازة النبويّة ويعبّر عنها بألفاظ من الواقع (يوء 1: 8، 13). كانت هذه الكرازة قد شدّدت على وعي الانسان لشقائه الأدبيّ، فيعبّر عن هذا الوعي بالبكاء والحزن (نوحوا وابكوا). هناك فعل "تالايبوراين" (أحسّ بشقائه، تألّم) الذي لا يرد في العهد الجديد إلاّ هنا. إنّما نجده في السبعينيّة وهو يعني "تألّم بإماتات إراديّة" (إر 4: 8). أو: "اعتبر نفسه تعيساً"، "وعى شقاءه الأدبي" (روم 7: 24).
يرتبط هذا الفعل مع "ناح" (بنتيو) و"بكى" (كلايو)، فدلّ على مظاهر الحزن العميق. رج 2 صم 19: 1؛ نح 8: 9؛ لو 6: 25؛ مر 16: 10؛ رؤ 18: 11، 15، 19؛ رج مز 69: 11- 12: أش 32: 11. وهكذا نعي شقاءنا الأدبي، ونعبّر عن وعينا بالنواح والبكاء اللذين يظهران في الخارج.
وتحدّد آ 9 ب هذا الانقلاب الخلقيّ بلغة واقعيّة مأخوذة من الكرازة النبويّة. "لينقلب ضحككم نوحاً، وسروركم كآبة" (رج 5: 1). نتذكر هنا عا 8: 10: "أحوّل أعيادكم نوحاً، وجميع أغانيكم رثاء" (رج أم 14: 13؛ طو 2: 6؛ 1 مك 9: 41). وقد يكون الكاتب في خطّ التقليد الإنجيلي الذي هدّد الأغنياء الأردياء: "الويل لكم أيها الضاحكون الآن، فإنكم ستنوحون وتبكون" (لو 6: 25 ب). غير أن يعقوب لا يهدّد، بل يدعو المؤمنين ليتّخذوا موقفاً آخر، ليبدّلوا سلوكهم السابق.
وتنتهي هذه المقطوعة (4: 1- 10) بقول يجمل آ 7- 9 بشكل خاتمة. ونحن نستطيع أن نضعه بعد آ 6: "تواضعوا أمام الرب فيرفعكم". هذا ما نجده في 1 بط 5: 6. فالتعليم الذي نجده في هذه الآية نكتشفه في الأسفار الحكميّة (أم 3: 34؛ 29: 23؛ سي 2: 1- 18؛ رج مز 17: 24) وفي الفقاهة الإنجيلية (مت 23: 12؛ لو 14: 11؛ 18: 14). فالرفعة التي وُعدنا بها هي سند يتيح لنا أن ننتصر على الأهواء وصداقة العالم (4: 6)، ويوجّه قلوبنا إلى الجزاء الأخير (1: 12؛ 5: 7- 11).
أجل، التواضع ضروريّ. وهو يقول لنا بأن نتحرّر من ذواتنا، بأن نقطع كل رباط مع الأنانيّة الآمرة ومع روح هذا العالم. وينبغي أن نعترف بأننا خطأة وتعساء وضعفاء. فالذي ينحني خاضعاً لإرادة الله، يستطيع أن يختبر شريعة الخلاص الأساسيّة في حياته الملموسة. فالذي يطلب نفسه يخسرها لا محالة. والذي يقدّم نفسه لله يجدها بلا شكّ (رج يو 12: 25).
إذا أردنا أن نفهم تبدل القيم هذا، يجب أن "نكيل" الأمور بـ "كيل" الله، لا بكيل البشر. فهذه الرفعة لا تُرى بالعين المجرّدة، بل بعين الله. المؤمن وحده يراها، لأنه ينظر إلى الامور على ضوء الله. وهو يعرف أن الرفعة النهائيّة لا تتمّ إلاّ في مجيء الربّ، في نهاية الزمن. ولكنه يعرف أيضاً أن لنهاية الزمن هذه تأثيراً حاسماً على الحاضر الآني. "الديّان هو على الباب" (5: 9) فلا مجال للتردّد على مستوى العودة إلى الله. لأن ذلك الذي يدقّ الباب وينتظر منا أن نسمعه ونفتح له، قد لا يتأخّر فيمضي ويتركنا نبحث عنه مثل عروس نشيد الأناشيد.

خاتمة
ارتبطت الحروب والخصومات في الجماعة بشرّ اللسان وبما يحمله المعلّمون الكذبة. فيبقى علينا أن نصلّي ونعرف كيف نصليّ. وأمام هذا الشرّ، لم ينادِ الكاتب المؤمنين "اخوة"، بل "فجّار"، لأنهم خانوا الربّ وعهده وحطّموا الجماعة التي يعيشون فيها. وسوف يسمّيهم "خطأة" فيدعوهم إلى تطهير أيديهم من الدماء وأعمال الشرّ، وقلوبهم من نوايا السوء. وكما عارض بين حكمة وحكمة، حكمة كاذبة تكون حيوانيّة وشيطانيّة، وحكمة حقّة تكون مسالمة، حليمة سهلة الانقياد، ها هو يعارض بين صداقة تجاه العالم ومحبّة الله، على ما نعرفه في جماعات قمران. فيبقى على المؤمن أن يتحاشى الانفصام في شخصه: هو مع الله وهو مع العالم! هو مع المتواضعين وهو مع المتكبرين، هو يقترب من الله ولا يريد أن يقرّ بشقائه! يبقى على المؤمن أن يعود حقاً إلى الله فيعود الله إليه ويغمره بأعظم نعمه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM