الفصل العاشر: المعلمون ومراقبة اللسان

الفصل العاشر
المعلمون ومراقبة اللسان
3: 1- 12

بعد أن حدّثنا يعقوب عن التجربة، عن السماع والعمل، عن محاباة الوجوه، عن الإيمان والأعمال، ها هو يتطرّق إلى كل ما يخصّ اللسان، ويشدّد على شّر اللسان. أجل، نحن أمام شّر كبير يُفسد الحياة المسيحيّة. سبق الكاتب وأشار إليه بشكل سريع في 1: 19، 26، فتحدّث عن واجب لجم اللسان، وطلب منا أن نستمع أكثر ممّا نتكلّم. أما هنا، فانطلق من وضع ملموس هو في الوقت عينه تجربة يعرفها المسيحيّون الآتون من العالم اليهوديّ وهي: أن يقفوا في الصفوف الأماميّة ويقدّموا نفوسهم كشارحي الشريعة ومعلّمي الإيمان. بعد ذلك، عرض يعقوب القوّة الشيطانيّة التي نجدها في كلام لا نسيطر عليه. وهكذا عاد إلى أفكار يعرفها اليهود والمسيحيّون الآتون من العالم اليهوديّ، فأبرز النتائج المدمّرة للسان لا شيء يكبح جماحه. وهذا النداء إلى كبح اللسان والسيطرة عليه وإخضاعه لروح الإيمان والمحبّة، يشكّل واجباً ملحاً ومتطلّبة أساسيّة في حياة المسيحيّ. بعد نظرة عامّة، نقدّم شرحاً للنصّ يأخذ بعين الاعتبار أفكاره المتناسقة.

1- نظرة عامة
بعد أن نحدّد موقع النصّ في الرسالة، ندرس اللغة والمفردات فنفهم كم كان الكاتب قريباً من قرّائه. هنا سنتجاوز المقطع الذي ندرس، فنعالج ف 3 كله الذي فستطيع أن نعنونه: من كلام يحمل الدمار إلى عمل يقود إلى الحكمة.
أ- موضع النصّ والرسالة
مع بداية ف 3، ترك الكاتب مسألة الإيمان والأعمال، ووصل إلى موضوع آخر دون أن يستعمل أي رباط غراماطيقيّ. فأوصانا أولاً بأن لا نطمح إلى دور المعلّم، لأن هذا الدور يتضمّن مسؤوليّة كبيرة، ويحمل نحاطر الوقوع في الخطأ على مستوى الكلام. ثم توسّع في موضوع حكميّ عام، هو موضوع خطايا اللسان. فأبرز على التوالي أهميّة السيطرة على اللسان، والضرر الممكن الذي يحمله اللسان، وصعوبة السيطرة على اللسان، ومناخ العبث في استعمال متعارض للسان. تارة نمجّد الله، وطوراً نلعن البشر المخلوقين على صورته. هذا ما ينافي العقل، ويعارض عمل الطبيعة كل المعارضة.
هذا الموضوع قد عرفته ولا شكّ الفقاهة الأولى. ويعقوب نفسه كان قد أشار إليه في 1: 19 (سريعاً إلى الاستماع، بطيئاً عن التكلّم)، 26 (إن ظنّ أحد أنه متديّن ولا يلجم لسانه، فتديّنه باطل). فما يحكم على المؤمن هو شريعة الحريّة (2: 12). في هذا الاطار نتكلّم ونعمل.
هل نعتبر مع بعض الشّراح أن الكاتب يجعل علاقة وثيقة بين الموضوع الذي يعالجه الآن، والمواضيع التي عالجها في المقاطع السابقة؟ وهل نقول مثلاً إننا نجد في 3: 1- 12 توسّع الدعوة الثانية (1: 19: بطيئاً عن التكلّم)، وأننا نجد في 1: 20- 2: 26 توضيحاً للدعوة الأولى (1: 19: سريعاً إلى الاستماع، إلى الطاعة، إلى الانتقال إلى الممارسة والعمل)؟ لا نستطيع أن نقول إن يعقوب قام بهذا الترتيب الدقيق، لا سيّما وأن علامات الوصل غائبة. وهل نستطيع أن نقول مع آخرين إن يعقوب بعد أن علّم ضرورة ترجمة الإيمان بالأعمال (2: 14- 26)، أشار إلى السيطرة على الكلام واللسان كعمل أول (3: 1- 12)؟ قد يكون الكاتب لمّح إلى هذا الأمر فجعل هذين المقطعين الواحد بجانب الآخر. فإذا كان اللسان يؤثّر على الحياة كلها، فكبحُ جماحه يبدو أول عمل نستطيع أن نقوم به. وتُطرح أسئلة أخرى حول هذا التحريض الجديد الذي يبدأ في 3: 1: إلى من يتوجه النصّ بشكل خاص؟ وإذا كنا نعرف آين يبدأ فأين ينتهي؟ بالنسبة إلى السؤال الأول، يرى معظم الشرّاح أن التحريض يصيب في الأصل المعلّمين وحدهم (آ 1- 2 أ). ثم يتوجّه إلى جميع المسيحيّين. كما يرون بالنسبة إلى السؤال الثاني أن التحريض ينتهي في آ 12.
وكانت آراء أخرى نذكرها. قالوا: يتوجّه التحريض إلى المعلّمين اليهود. وغيرهم: إلى المعلّمين المسيحيّين. وقد طلب منهم يعقوب أن يتسلّطوا على لسانهم، أي أن يعرفوا ماذا يقولون في مواعظهم، وهكذا يستطيعون أن يقودوا مجموعة المؤمنين الذين يرمز إليهم الجسد أو الحصان أو السفينة. ومدّ آخرون التحريض حتى آ 18، واعتبروه موجّهاً إلى معلّمين متهوّدين. طلب منهم يعقوب أن لا يبلبلوا الجماكات بمواعظ مختلفة (آ 1- 12)، وأن يتخلّوا عن حكمتهم البشريّة ليأخذوا بالحكمة الآتية من الله (آ 13- 18). ولكننا نتوقّف عن التحريض كما حدّدناه: 3: 1- 12.
ب- دراسة اللغة والمفردات
حين ندرس اللغة والمفردات نفهم أننا أمام منعطف في هذه الرسالة. فنجد ألفاظاً ذُكرت في ما سبق، وبعضها يُذكر في ما يلي. هناك لفظة "عمل" (أعمال) في آ 13، رج 1: 4 (عمل كامل). ثم ف 2 حيث ترد اللفظة تسع مرات من أصل 12 مرة في الرسالة. ولفظة "حكمة" (آ 13، 15، 17). رج 1: 5 (تنقصه حكمة). ترد هنا ثلاث مرات من أصل أربع في الرسالة. ولفظة "لسان" (آ 5، 6 أ، 6 ب، 8). رج 1: 26 (لا يلجم لسانه). ترد هنا أربع مرات من أصل خمس في الرسالة. هذا يعني أننا أمام عنصر مسيطر في المتتالية، بحيث نستطيع أن نجعله عنوان ف 3 كله. ولفظة "محاباة" (آ 17، لا تحابي). ترد مرّتين في 2: 1، 9. ولفظة "لا ينضبط" (آ 8، 16). رج 1: 8 (متقلقل في جميع طرقه). ولفظة "كامل" (آ 2). ترد في 1: 17، 25.
ونجد في ف 2 لفظة "رحمة" (3: 17؛ رج 2: 13). ولفظة "سلام" في 2: 16 (رج 3: 18). وفي ف 5، لفظة "ثمرة" (5: 7، 18؛ 3: 17، 18). ولفظة "أرض" أو "أرضي" في 3: 15؛ 5: 7، 18. وأخيراً لفظة "برّ" (3: 18؛ 5: 6، 16).
كل هذا يدلّ على أن توجّهاً جديداً يبرز في هذه المتتالية التي تبدو في جزئين. يبدو الأول طويلاً ويتضمّن شقّين فيهما ما فيهما من تأمّل. والثاني قصيراً مع وجهة هجوميّة. في الجزء الأول، نقرأ توسّعاً حول "اللسان" (3: 1- 12) مع صور الحصان والسفينة والنار والجسد في الشقّ الأول (آ 1- 6)، وصور التين والزيتون والكرم والينبوع في الشقّ الثاني (آ 7- 12). ويتحدّث الجزء الثاني (3: 13- 18) عن الحكمة التي هي ممارسة حياة. اتّخذ الكاتب لغة الاقناع، فدعا قرّاءه لأن يحتفظوا من مخاطر "الكلام" الذي يمكنه أن يحمل ضرراً كبيراً إلى الجماعة (الجسد)، وأن يطلبوا بالأحرى "العمل" (حكمة) أو ممارسة تتطابق مع الكلام.
ج- التنافضات
إذ أراد الكاتب أن يفهمنا الخطر الذي يشجبه، أن يفهمنا هذا الشيء الصغير الذي هو اللسان، والذي يسبّب الدمار الكبير في الجماعة، قدّم ثلاث صور متعارضة: اللجام الذي يسيطر على جسد الحصان كله. الدفّة التي توجّه السفينة مهما كبرت. النار الصغيرة التي تحرق الغابة، على صورة اللسان الذي يشعل العالم بنار الظلم. هذه الصور تحيلنا إلى المحيط الحضاري الذي يعرفه القرّاء الذين يعودون إلى عالم يهوديّ وهلّينيّ.
فالكلام عن "الكمال" يجعلنا في إطار بيبليّ: نسير في طريق الله، طريق القداسة. نقرأ في مت 5: 48؛ "كونوا كاملين كما أن أباكم السماويّ كامل هو". وفي 19: 21، نقرأ النداء إلى الشاب الغنيّ: "إذا شئت أن تكون كاملاً...". لا يقوم الكمال بامتلاك الفضائل، بل بممارسة الشريعة كما أوصلها يسوع إلى كمالها. هذا على مستوى العالم اليهودي، كما أن "الانسان الكامل" هو مثال العالم الهليني. وهكذا تلتقي الحضارتان في طلب الكمال.
قد يكون اللسان صالحاً، وقد يكون رديئاً. قد يُفيدنا في البركة كما في اللعنة. والسبب ليس اللسان بل الانسان. ويستعمل الكاتب ثلاث صور بيبليّة: التين لا ينتج الزيتون. والكرم لا ينتج تيناً. والمياه المالحة لا تعطي مياهاً حلوة. مثل هذه التناقضات لا تُوجد إلاّ عند الانسان لأنه متقلّب، متقلقل، غير ثابت. ويتحدّث النصّ عن المباركة واللعنة. فالمباركة هي ما يتمّ في الاحتفالات الليتورجيّة. أما اللعنة فتجعلنا في نقيض المباركة. هؤلاء الذين باركهم الله، هل نستطيع نحن أن نمنع عنهم البركة؟
ويأتي الكلام حول "أعماله الحكمة" (3: 13- 18)، فيهاجم الحكماء الكذبة واعتدادهم بنفسهم. هناك تعارض بين حكمة "أرضيّة، حيوانيّة، شيطانيّة" وحكمة "آتية من فوق". حكمة "نقيّة، مسالمة، حليمة...". لا يلوم الكاتب بعض الناس لأنهم لا يقولون الحقيقة، بل لأنهم لا يترجمون في أعمالهم ما يقدّمونه وتعليمهم. وما يندّد به في كلامهم هو عدم التساهل، واحتقار الذين لا يشبهونهم. تلك هي الحكمة "الآتية من تحت". أما تلك "الآتية من فوق" فهي توفّق بين التعليم والممارسة الحياتيّة. وتمنح السلام للانسان الذي يتقبّلها.
إلى من يتوجّه مثل هذا الخطاب؟ إلى العالم البيبليّ والهلينيّ. نحن نعرف اهتمام اليونان بالحكمة. غير أن هذه الحكمة "هي من فوق". هي عطيّة من الله، وهي تحمل معها السلام. وهي إن زُرعت تحمل ثمر السلام. هنا نجد نفوسنا قريبين من مت 5: 4- 9؛ غل 5: 22- 25.
وإذ يتحدّث الكاتب عن حريق في غاب، عن خيل وعصافير وسمك وتين وزيتون وكرم وينبوع ماء، نفهم أننا في عالم الريف. قد نكون أمام أغنياء، ولكنهم أغنياء يعيشون في عالم الحقول لا في المدينة. ولكن بما أن اليهود لم يُجذبوا يوماً بالسفر في البحر، نجد نفوسنا أمام اخلاقيّين تأثّروا تأثّراً كبيراً بالحياة اليونانيّة.

2- النصّ (3: 1- 12)
قدّم يعقوب هنا سلسلة من التوصيات: لا تسعَ إلى تعليم الآخرين. من لا يزلّ في كلامه هو إنسان كامل، لو تعرفون قوّة الشرّ في اللسان، وهي قوّة لا شيء يلجمها. لهذا، فلا يليق بالمسيحيّ إلاّ كلامٌ به نمتدح الله، ونبارك البشر المخلوقين على صورة الله.
أ- دور المعلّم (آ 1- 2 أ)
يبدأ التحريض بتحذير ضدّ تجربة يقع فيها الكثيرون في الجماعات المسيحيّة، وهي أن نأخذ "بسهولة" دور المعلّم والواعظ. "لا يكن منكم كثيرون يريدون أن يكونوا معلّمين، يا إخوتي. فإنّا بذلك، على ما تعلمون، نجلب علينا دينونة أقسى" (آ 1). ففي العالم اليهوديّ في القرن الأول المسيحيّ، كانت لفظة "ديدسكالوس" تقابل "رابي" عند اليهود، أي سيّدي ومعلّمي (يو 1: 38؛ مت 8: 19؛ 12: 38). أعطي هذا الاسم للكتبة، لمعلّمي الناموس (مت 22: 3). مثل هذا الاسم يمنح حامله اعتباراً وهيبة، كما يمنحه امتيازات عديدة. وكان صاحبه يقوم بتفسير شريعة موسى في اجتماعات المجمع يوم السبت. ولكن حين يغيب "المعلّم الرسميّ"، كان رئيس المجمع يعيّن يهودياً بالغاً ليقوم بمهمّة التعليم (لو 4: 16؛ أع 13: 15).
في الكنيسة الأولى، قام الرسل في البداية بدور المعلّمين وملافنة الإيمان. ونحن نراهم منذ العنصرة يقدّمون مبادىء العقيدة الجديدة للامؤمنين الذين يريدون العودة إلى الربّ، (أع 2: 14 ي)، كما يقدّمون للمعمّدين فقاهة تكمّل الاعلان الإيماني الأول (أع 2: 42). ولما انتشرت الكنيسة، قام معلّمون آخرون بقوّة الروح القدس (أع 13: 1؛ 1 كور 12: 28- 29؛ روم 12: 7؛ أف 4: 11). وكلّف هؤلاء الذين نالوا هذه الموهبة بمهمّة التثقيف والتربية الدينيّة العاديّة.
ولكن اندفع بعض المسيحيّين، بعد أن رجعوا إلى عوائد أخذوها من المجمع، وانسحروا بمنافع تؤمّنها "وظيفة" المعلّم، فأخذوا يعلّمون دون أن يكلّفهم أحد بذلك. هذا ما تقوله رسالة برنابا (1: 8؛ 4: 9)، واغناطيوس الأنطاكي (الرسالة إلى أفسس، 3: 1). ونتج عن ذلك التعليم فوضى جامحة تحدّث عنها بولس (2 كور 10- 11؛ 2 تم 4: 3) وبطرس (2 بط 2: 1) في رسائلهما.
إلى مثل هؤلاء المسيحيّين الذين أحبّوا أن يسمّيهم الناس "معلّمين"، توجّه يعقوب هنا. هو لا يشجب دور المعلّم في حدّ ذاته، لأنه يسمّي نفسه "معلّماً" ويمارس هذا الدور في رسالته. ويرى أيضاً أن المعلّمين الموجودين يقومون بمهمّتهم خير قيام. بل يشجب أولئك الذين يتطفّلون فينصّبون نفوسهم معلّمين فلماذا هذا التدخّل في عمل لم ننتدب له. فهناك خطر يبلبل الكنيسة على ما حدث في جماعة أنطاكية (أع 15: 24؛ غل 2: 12- 13).
ولماذا يقوم يعقوب بهذا المنع القاطع؟ لأنه يعرف الواقع. فالأمر هو هكذا. وستكون الدينونة قاسية. جعل كلامه في صيغة المتكلّم الجمع. "علينا" نحن. فالتقليد الانجيليّ ذكر أنه في يوم الدينونة، كل مسيحيّ سيؤدّي حساباً عن كل كلمة بطالة، لا أساس لها (مت 12: 36). وأن الكتبة "ستنالهم دينونة أشدّ قسوة" (مر 12: 40؛ رج مت 23: 1- 33 وز). وأعلن بولس أن عمل الواعظين "السطحيين" سيُحرق في النار (1 كور 3: 10- 15). أما يعقوب فيكتفي بأن يذكّر بهذا التعليم (أنتم تعلمون)، فيفهم قرّاءه هذه المسؤوليّة الخطيرة التي تعرّض حاملها لأخطاء عديدة إن لم يكن مدعواً إلى هذه الرسالة ومعّداً لها.
كل إنسان يضلّ، والمعلّمون أيضاً. وستكون دينونتهم قاسية. لهذا يحذّرهم يعقوب "إنّا جميعاً نزلّ كثيراً" (آ 2 أ). لا المعلّمون فقط، بل جميع (هبنتس) البشر. قالت التوراة إنه لا انسان بلا خطيئة (1 مل 8: 46). ولا يستطيع أحد أن يقول "قلبي نقي وطاهر من كل خطيئة" (أم 20: 9؛ رج مز 19: 13؛ جا 7: 20؛ سي 19: 16؛ أي 4: 17- 19؛ 15: 14- 15). وأعلن بولس أن جميع البشر خطأة (روم 1: 18- 3: 20). فمن قال إنه بلا خطيئة كان كاذباً (1 يو 1: 8). لهذا نصليّ: "اغفر لنا ذنوبنا" (مت 6: 12). نحن هنا أمام تأكيد عام حول الخطيئة التي يمكن أن نسقط فيها، وبعد ذلك تتوقّف الرسالة عند الزلل في الكلام.
ب- السيطرة على اللسان (آ 2 ب- 5 أ)
بعد أن أشار يعقوب إلى ميل جميع المسيحيّين إلى الخطيئة، ولا سيّما أولئك الذين يقومون بدور المعلّم، عاد إلى خطايا اللسان التي هي خطبرة ولا سيّما لدى الوعّاظ. قال بلباقة: "إن كان أحد لا يزلّ في الكلام فهو رجل كامل، وفي وسعه أيضاً أن يلجم جسده كله". "إذا أحد" (اي تيس). تُستعمل هذه العبارة في يع لتدلّ على جميع المسيحيّين بدون تمييز (1: 5، 26؛ 2: 14، 16، 18؛ 3: 13؛ 5: 13- 14). يعود الكاتب إلى الأدب الحكميّ، فيتجاوز في كلامه المعلّمين وحدهم.
يصف ابن سيراخ من يحفظ لسانه بالحكيم الذي لا عيب فيه (20: 5- 8). وكذا يفعل سفر الأمثال (10: 19). "كامل" (تالايوس). "بتاياين" (زلّ). إن يعقوب يدعو المؤمن إلى موقف مثاليّ، وهو يعرف ضعفه. كل إنسان خاطىء. كل إنسان يزلّ. هناك كمال على مستوى اللسان. وهناك فضائل أخرى تحب ممارستها. ولكن قد يكون يعقوب في خطّ ابن سيراخ الذي قال: "من لم يزلّ بلسانه" (19: 16)؟ "من لا يخطأ بلسانه، طوباه" (25: 8).
وتفسّر الرسالة هذا الكمال النسبيّ الذي يمنحه اللاخطأ باللسان، بأن من لجم (خاليناغاغوساي) لسانه، يقدر (ديناتوس) أن يلجم جسده كله. فالفعل "لجم" الذي قرأناه في 1: 26 (لجم لسانه)، يعدّنا للمقابلة مع الخيل (3: 3). هنا لا نعارض "لجسد" بـ "النفس". بل ندلّ على كل إمكانيّات العمل لدى الإنسان.
في آ 3- 5، يُبرز الكاتب أهميّة السيطرة على اللسان في مقابلتين: اللجم في أفواه الخيل، والدفّة في السفينة. استعملت هاتان المقابلتان في العالم اليونانيّ، وقد طبّقهما يعقوب على اللسان: علّة صغيرة ونتائجها كبيرة.
ونبدأ مع "لجم الخيل". يقول يعقوب: "إذا جعلنا اللجم في أفواه الخيل لكي تنقاد لنا، فإنّا ندير جسمها كله" (آ 3). كان قد حدّثنا الكاتب عن "لجم الجسد" وها هو يصل إلى لجام (خالينوس) الخيل (هيبوس). في العالم اليونانيّ، بعد المقابلة باللجام، تأتي المقابلة بدفّة المركب. أمام التوراة، فنقرأ عن الحصان أو البغل: "تكبحه بلجام ورسن" (مز 32: 9). والبار هو الذي يضع لفمه لجاماً ما دام الشرير أمامه (مز 39: 2؛ رج 34: 14؛ أي 31: 30؛ أم 21: 23؛ 31: 26).
وتأتي صورة ثانية عن السيطرة على اللسان: دفّة المركب. تبدأ مع "ايدو" (في العبريّة: هـ ن هـ. "ها إن" (رج أش 7: 14؛ ملا 3: 1). يقول يعقوب: ها إن السفن، مع كونها عظيمة جداً وتسوقها الرياح الهوجاء، تديرها دفّة صغيرة جداً على ما يهوى الربّان (آ 4). وضع في البداية "السفينة". كما سبق له ووضع "الخيل". وما تفعله الدفّة نجده في فعل "ميتاغاين".
في المقابلة الأولى، لم يظهر التعارض بين صغر العلّة وكبر النتيجة. أما هنا، فهو واضح بين الدفّة الصغيرة والسفن التي قد تكون عظيمة، وتسوقها الرياح الهوجاء، ويشدّد النصّ في النهاية على "هوى" الربّان وارادته. فهو بواسطة الدفّة الصغيرة يقود السفينة إلى حيث يشاء. هنا نجد لفظة "هورمي" التي تعني الاندفاع على المستوى الجسدي، والهوى والمشيئة على المستوى الأدبي.
أفهمنا الكاتب قوّة السيطرة على اللسان في آ 2 ب، وشدّد على الافكرة بمقابلتين في آ 3- 4. وها هو يطبّق ما قاله على المؤمنين. "كذلك اللسان أيضاً، فإنه عضو صغير وهو يفتخر بعظائم الأمور" (آ 5 أ). تستعيد هذه الآية ما في آ 2 ب ولكنها لا تحعل اللسان موضع الكلام. نشير إلى أن الكاتب شخّص (جعله شخصاً حياً) اللسان، كما سبق له وشخّص الرغبة والخطيئة في 1: 15.
كان قد لمّح إلى الصغر والكبر. وها هو يوضح المقابلة بين حقارة الوسيلة وعظمة النتائج. وهذا الشرح يهيّىء آ 6- 8. أما النتائج التي حصلنا عليها فليست محدّدة. إذا عدنا إلى آ 2 ب- 4، تكون صالحة: سيطرة على الخيل، على السفينة. وإذا عدنا إلى آ 5- 8، تكون سيّئة: حريق في غابة، نجاسة في الجسم، ضربة لا استكانة فيها، سمّ قاتل. إذن، يستطيع اللسان أن يفخر بأنه قويّ في الخير كما في الشر. قوّته ملتبسة، والانسان هو الذي يحدّد كيف يوجّهه.
ج- ضرر اللسان (آ 5 ب- 8)
اللسان هو ينبوع الشّر (آ 5 ب- 6). وهو قوّة لا تُلجم (آ 7- 8). نحن هنا أمام لوحة معتمة عن الطبيعة البشريّة التي تصبح عرضة لتأثير الشّر.
أولاً: اللسان ينبوع الشرّ (آ 5 ب- 6)
بعد أن تحدّث الكاتب عن الخير الذي ينتج عن حسن استعمال اللسان من خلال صورتي اللجام والدفّة، ها هو يتحدّث عن الشرّ من خلال صورة النار المدمّرة. بعد مقدّمة جديدة (آ 5 ب)، يأتي التطبيق (آ 6): "ها إن ناراً يسيرة تضرم غابة عظيمة" (آ 5 ب). "كذلك اللسان أيضاً نار" (آ 6). ويُبرز الكاتب التعارض الذي تحدّث عنه بين علّة صغيرة (نار يسيرة) ونتيجة كبيرة (غابة مدمّرة).
لم تكن صورة النار معروفة في أيام الرسالة. فهي تعود إلى الأدب الكلاسيكي في القرن الخامس ق م. وتندّد التوراة بالشّر الذي يحرق كالنار (أش 9: 17): "شرورهم تشتعل كالنار فتأكل الأشواك والعلّيق، وتحرق أدغال الغابة، وتلتفّ كعمود من الدخان". رج مز 83: 15: "كما تشعل النار الغابة، ويحرق اللهيب الجبال". هي التوراة تقابل شّر اللسان بالنار كما في مز 120: 3- 4؛ أم 16: 27. وتعلن أن الأبرار لن يحرقوا بالنار مثل الكفّار (سي 28: 22- 23). استعمل يعقوب كلمات نادرة: "أنابتاين" (أحرق). "هيلي" (النار). واستلهم نصوص الكتاب المقدس.
ويبدأ تطبيق صورة النار المدمّرة على اللسان بعبارة: "هوتوس كاي" (كذلك). يقول يعقوب إن اللسان هو أيضاً نار، هو عالم الاثم. يُجعل بين الأعضاء فينجّس الجسد كله ويلهب دائرة العمر وتلهبه جهنّم (آ 6). فكما النار تدمّر الغابة، كذلك يدمّر اللسان النظام الأدبي وحياة الانسان، لأن ناره تنبع من نار جهنّم.
يتحدّث النصّ عن عالم (كوسموس) الاثم (اديكيا). أي العالم الأثيم، العالم الشرير (رج لو 16: 8؛ 18: 6؛ 2 تس 2: 3). العالم خاضع للشّر وهو بالتالي يعادي الله. هنا نعود إلى التقليد الانجيلي الذي يقول: إن الشّر يخرج من اللسان ويجعل الانسان دنساً (مت 15: 18- 20 وز).
وإذ أراد الكاتب أن يفهمنا ما يعني بنجاسة "الجسد" (سوما) كله (يدلّ على الشخص الحيّ والعامل) زاد: اللسان يُلهب "دائرة العمر". هذا يعني أن دمار اللسان يصيب أعماق الكائن. نجد هنا لفظة "تروخوس" (دائرة، دولاب) "غاناسيس" (الولادة، الأصل، الحياة، الوجود). وهكذا نكون أمام مسيرة الوجود البشريّ.
ولماذا كل هذا الشرّ في اللسان؟ لأن جهنّم تلهبه. لا يتحدّث يعقوب عن "وادي هينوم" جنوبي أورشليم (يش 18: 16؛ نح 11: 30)، ولا عن الشيول أو مثوى الأموات (مز 16: 10؛ أع 2: 24- 31)، بل عن موطن الشياطين والهالكين (مت 25: 41؛ رج 5: 22- 30؛ 10: 28؛ 18: 9؛ 23: 15؛ لو 8: 31؛ 16: 23- 26). رأى الكاتب في "جهنّم" شخصاً حياً، لأن النار التي تقدّمها للسان هي على المستوى الأدبي. هنا نتذكّر الانجيل وقوات الجحيم وهجماتها على الكنيسة (مت 18: 16). سيقول يع 4: 7 إن المسيحي يستطيع أن يتغلّب على إبليس. وهو بالتالي يستطيع أن يسيطر على شّر اللسان.
ثانياً: اللسان قوّة لا تلجم (آ 7- 8)
انتقل الكاتب من فكرة حول شّر اللسان إلى فكرة حول صعوبة السيطرة عليه. فالعضو يكون مضراً بقدر ما لا نستطيع أن نلجمه. هنا يقدّم يعقوب لوحة جديدة: الانسان يسيطر على جميع وحوش الأرض، ولا يستطيع أن يسيطر على لسانه.
صوّرت سيطرة الانسان بكلام مأخوذ من التوراة. "كل طبيعة للوحوش والطيور والزحّافات وحيوان البرّ (العدد 4 يدلّ على حيوان العالم كله) يمكن قمعها، وقد قمعها البشر" (آ 7). يرد فعل "دامازو" (قمع) ويتكرّر. فيدلّ على استمرار سلطان الانسان على عالم الحيوان، وعلى التأكّيد على هذه الاستمراريّة. فالله ننسمه قد أعطى الانسان هذا السلطان (تك 1: 26- 28؛ 9: 2- 3؛ مز 8: 6- 9؛ سي 17: 4). هل يبدو يعقوب صدى لهذا التعليم الكتابي، أم هو لاحظ ما لاحظه عدد من الكتّاب الدنيويّين؟ بل هو يرتبط بهذين المرجعين على مثال معلّمي الحكمة.
ويقابل سلطان الانسان على جميع حيوانات الأرض، ضعفُ الانسان لكي يلجم لسانه. "أما اللسان فما من انسان يقوى على قمعه، إنه شّر لا ينضبط، مفعم سماً قتّالاً" (آ 8). نقرأ لفظة "لسان" في بداية الآية، فيبرز التعارض بين الحيوانات واللسان، ونجد نفوسنا أمام نهج وجدناه في آ 3- 4 حيث الألفاظ الأساسيّة (خيل، سفن) وُضعت في بداية الآية.
هل نأخذ تأكيد آ 8 على حرفيّته؟ هل يستحيل على الانسان أن يقمع لسانه الذي هو شرّ لا يعرف الراحة، يبحث دوماً عن نشاط شرير؟ هل هو سمّ زعاف وينبوع فساد قاتل؟ هل نستطيع بعد هذا الكلام القاطع أن نستنئج أن الكاتب يدلّ على تشاؤم جذريّ؟ هذا ما نشكّ فيه، فالأدب الحكميّ الذي عرفه يعقوب يقرّ بإمكانيّة ضبط اللسان (أي 31: 30؛ مز 39: 2- 3)، ويعترف بأن الأبرار يستعملون اللسان بشكل صالح (أم 10: 20؛ 12: 18؛ 15: 2، 4؛ 31: 26). ويرى هذا الأدب أن لسان الأشرار وحده يحمل السمّ (مز 104: 4؛ رج 58: 5- 6). وأنهم وحدهم يستخدمونه من أجل الشرّ (سي 28: 8- 26؛ 27: 28).
ذاك هو موقف يعقوب الذي قابل اللسان باللجام والدفّة. والذي دعانا إلى أن نلجأ إلى الله لكي ننال الحكمة (1: 5- 8)، أو نتغلّب على إبليس (4: 7). أما نستطيع أن نصلّي أيضاً لكي نقمع اللسان؟ وفي آ 9- 10 نعرف أن اللسان يعرف أن يبارك. فإن شدّد الكاتب على امكانيّة اللعنة، فلكي يصل إلى المباركة. وإن شدّد على نقاط الشّر في اللسان، فلكي يحذّر المؤمنين ويدعوهم إلى الخير.
د- اللسان والتناقض في استعماله (آ 9- 12)
بعد أن أكّد الكاتب بشكل قاطع على استحالة ضبط اللسان، ها هو يحرّض ويلحّ من أجل استعماله في سبيل الخير. هذا يعني أن قمع هذا العضو وإن كان صعباً، يبقى في متناول الانسان الذي يريد ذلك بعزم ويتكّل على عون الله.
بدأ الكاتب فأعلن موقفه (آ 9- 10). ثم قدّم الصور التي تسند هذا الموقف. لاحظ أولاً تناقضاً في استعمال اللسان (آ 9- 10 أ)، فشجب هذه العادة (آ 10 ب)، ودلّ بواسطة ثلاث صور على أن مثل هذه العادة تتنافى والنظام الطبيعيّ، وتجعل الانسان على مستوى الوحوش قباحة.
إن الاستعمال المتناقض للسان يقوم بأن نقول على التوالي كلام البركة وكلام اللعنة. "به نبارك ربّنا وأبانا، وبه نلعن الناس الذين صنعوا على مثال الله" (آ 9).
أجل، اللسان يبارك "الربّ والآب" (1: 27؛ 1 أخ 29: 10)، أي الله في قدرته وحنانه تجاه البشر. المباركة هي أول صلاة في العالم اليهوديّ. وهي تقوم بأن نمتدح عظمة الله وإحسانه، وأن نعلن أن منتهى سعادتنا فيه (مز 31: 22؛ 103: 2؛ 126: 6). وقد سمّي الله "المبارك" (رج مر 14: 61). والمسيحيّون بدورهم وجّهوا إلى الله المجدلات والمباركات في صلواتهم الخاصة والجماعيّة (لو 1: 68؛ 24: 53؛ 1 كور 1: 4؛ 14: 18؛ 2 كور 1: 3؛ 11: 31؛ أف 1: 3؛ كو 1: 12؛ 1 بط 1: 3). وهكذا كانوا أمناء للتقليد الانجيليّ كما عبّرت عنه صلاة يسوع: "أباركك أيها الآب، ربّ السماء والأرض، لأنك أخفيت هذا عن الحكماء..." (مت 11: 25).
واللعنة هي ما يعارض المباركة. تقال في إنسان فتتمنّى له الشّر والشقاء. حين نقرأ أسفار الأنبياء والمزامير، نلاحظ أن اللاعن يماهي بين قضيّته وقضيّة الله، فيلوم "الشرير" لأنه يتعدّى على الحقّ الطبيعيّ أو الشريعة الموسويّة، ويدعو العدالة الإلهيّة لكي تنتقم (عا 2: 1- 16؛ أش 10: 1- 4؛ إر 7: 1- 15؛ مز 5: 11؛ 18: 38- 43). وكتب بولس في رسائله عن يسوع الذي تماهى مع الخطيئة واللعنة، فافتدى البشر من اللعنة (غل 3: 13؛ 2 كور 5: 21؛ روم 8: 1)، وطلب منهم أن يتغلّبوا على اللعنة بالمسامحة (1 كور 13: 5؛ روم 12: 14؛ رج 1 بط 3: 9؛ 1 يو 4: 20). أما التقليد الانجيليّ فذكّرنا يكلام يسوع في لو 6: 28 وز: "أحبّوا أعداءكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وباركوا من يلعنكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء".
بدا يعقوب مرتبطاً بهذا التعليم الجديد وأبرز ما يتضمّن هذا التعليم. فمن رجع إلى عادة قديمة دلّ على تناقض عميق. فبعد أن يمتدح بشكل مباشر الله كما يليق به، ها هو يلعنه بشكل غير مباشر حين يلعن الناس المخلوقين على صورته (تك 1: 26- 27؛ 5: 1؛ 9: 6؛ سي 17: 3؛ حك 2: 23). تحدّث العهد القديم عن الانسان المخلوق على صورة الله. والعهد الجديد عن الانسان الذي وُلد من جديد على مثال المسيح الذي هو الصورة المنظورة لله غير المنظور (1 كور 15: 49؛ 2 كور 3: 18؛ روم 6: 3؛ 8: 29؛ كو 1: 15؛ 3: 10).
ويعود الكاتب في آ 10 إلى الفكرة التي قالها في آ 9، ليدلّ على ما في سلوك المسيحيّين من تنافر: يصلّون فيباركون ائه. وبعد ذلك يلعنون القريب. كيف ترتبط التناقضات في العضو الواحد؟ هذا ما تبرزه الصور في آ 11- 12.
لهذا، يطلب يعقوب من المؤمنين أن يتركوا مثل هذا التصرّف الذي يغيظ الله ويسيء إلى القريب. "لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا يا إخوتي" (آ 10 ب). هذا ما يخفّف من قوّة التوصية التي جاءت في صيغة "ينبغي" (داي).
وتأتي صور ثلاث في آ 11- 12. تعبرّ الصورة الأولى عن التعليم الذي قرأناه في آ 10: "أترى النبع يفيض من المخرج الواحد الحلو والمر (أو الحلو والمالح)" (آ 11)؟ من النبع (بيغي) يخرج ماء واحد. ولكن من اللسان تخرج البركة واللعنة. مثل هذه الفوضى ترفضها الطبيعة. هل تذكّر الكاتب مياه مارّة (خر 15: 23- 25) التي كانت مرّة فصارت عذبة؟ أو هل عرف مياه بحر الميت؟ المهمّ هو التناقض بين اثنين.
في الصورة الأولى أبرز استحالة خروج ماءين مختلفين من مخرج واحد. وفي الصورة الثانية نقرأ: "وهل يمكن يا إخوتي، أن تؤتي التينة زيتوناً، والجفنة تيناً" (آ 12 أ)؟ نجد هنا علاقة طبيعيّة بين العلّة (شجرة) ونتيجتها (ثمرة). كنا ننتظر أن يقول: "هل تؤتي التينة تيناً وزيتوناً"؟ ولكنه قدّم مثلاً مستلهماً كلام يسوع: "أيُجنى عن الشوك عنب، وعن العوسج تين" (مت 7: 16؛ لو 6: 44، التعارض هنا بين الأشجار المثمرة ونبات البريّة)؟ ونتذكّر ما عند الرواقيين: "لا يخرج الخير من الشّر كما لا يخرج التين من الزيتون" (سينيكا). وقال بلوترخوس: "لا نظنّ أن الجفنة تنتج تيناً، والزيتونة عنباً".
وتعيدنا نهاية آ 12 إلى الصورة الأولى: "والنبع المالح أيضاً لا يأتي بالماء العذب" (آ 12 ب). هي أيضاً في شكل استفهام. ويكون الجواب بالنفي. "لا يمكن أن يعطي الماء المالح والماء العذب".

خاتمة
عرفت الجماعة المسيحيّة عدداً من المعلّمين. بينهم يقف الكاتب في كنيسة يرئسها الشيوخ. بدأ يعقوب فحدّثنا عن هؤلاء المعلّمين، وحمله توارد الأفكار إلى التحذير من شّر استعمال اللسان. إذا كان عقاب المؤمن كبيراً بسبب كل كلمة باطلة، فما تراه عقاب هؤلاء المعلّمين الذين لا يعرفون أن يلجموا لسأنهم، وبالتالي لا يلجمون جسدهم. لهذا نرى يعقوب يدعونا إلى الكمال، كمال السلوك البشريّ الذي يتجاوب مع كمال طريق الله. إذا كان "الكامل" صفة تدلّ على عطيّة الله وشريعة الحريّة، فهو يرتبط بالإيمان الذي يتجسّد في العمل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM