الفصل التاسع: الإيمان والأعمال

الفصل التاسع
الإيمان والأعمال
2: 14- 26

يشكّل القسم الثاني من يع 2 وحدة متماسكة كل التماسك. وهو يتمحور منذ البداية إلى النهاية حول العلاقة بين الايمان والاعمال والخلاص، فيتوسّع في هذه الثلاثة بشكل متناسق وفطن. يبدأ بإعلان الموضوع في آ 14: "بدون أعمال ليس من إيمان يخلّص الانسان". ويعطي وضعاً ملموساً بشكل فرضيّة (آ 15- 16) تتضمّن تطبيقاً كما في الأمثال (آ 13): "كذلك الأعمال". ويُسند موضوعه بردّ على اعتراض أو تحدّ يقف أمامه (آ 18). بعد ذلك، تأتي ثلاثة أمثلة فتدلّ على صوابيّة الموضوع: مثل سلبيّ هو مثل الشياطين الذين يؤمنون ويرتعدون (آ 19). ومثل إيجابي هو مثل ابراهيم الذي تبرّر بالأعمال (آ 21- 23). ومثل إيجابي آخر هو مثل راحاب التي برّرت بالاعمال (آ 25). ويستعيد الكاتب موضوعه محيطاً بالمثلين الأخرين (آ 20، 24، 26).
نلاحظ ان هذه الرسمة (الموضوع، حالة ملموسة، براهين) تشبه بعض الشيء رسمة 2: 1- 13. ونلاحظ أيضاً أن ليس من انتقالة بين القسم الأول (آ 1- 13) والقسم الثاني (آ 14- 26)، بل وُضعا الواحد قرب الآخر. ونشير إلى أن لفظة "إيمان" ظهرت في 1: 3، 6؛ 2: 5. ولفظة "أعمال" في 1: 4، 25. ولفظة "خلص" في 1: 21. فضرورة عيش الإيمان، والعمل بموجب الكلمة، والتديّن بديانة تمرّ في الأعمال وتنتصر على المحن وعلى الخطيئة، وعلى الغضب وعلى الاهمال، وتُترجم بالمحبّة والرحمة، كل هذا هو أساس رسالة يعقوب، ونحن نكتشفه منذ البداية. غير أن الكاتب لم يقدّم بعدُ عرضاً مباشراً للعلاقات بين الايمان والاعمال والخلاص كما سيفعل الآن. وهكذا نكون في هذا المقطع قد وصلنا إلى قلب الرسالة، فنكتشف منطق الكاتب وأسلوبه ولغته، وفي النهاية نصل إلى المقابلة المعروفة بين تعليم بولس وتعليم يعقوب حول العلاقة بين الايمان والاعمال.

1- طرح الموضوع (2: 14)
سبق ليعقوب وعلّم أنه لا يكفي أن نسمع الكلمة، بل يجب أن نعمل بها (1: 19- 27). وأنه ليس من المنطق في شيء بأن نؤمن بالمسيح ونعيش محاباة الوجوه (2: 1- 13). وهكذا بيّن في نقطتين عمليّتين كيف يجب على الإيمان أن يوجّه سلوك الانسان. وها هو الآن يطرح الموضوع.
لا يستطيع الايمان بدون أعمال أن يخلّصنا. وهكذا تربط فكرةُ الخلاص هذه المقطوعةَ بسابقتها. فالذي صنع الرحمة يكون الغالب في يوم الدينونة. والذي لا يعمل الأعمال التي يطلبها الإيمان، يُحكم عليه.
"وأي منفعة يا اخوتي"؟ يبدأ يعقوب بتوجيه كلامه بشكل سؤال، فيقدّم طرحه كما في المجادلة الرواقيّة. نظن نفوسنا في مجإدلة شفهيّة خلال فقاهة تعطى للمسيحيّين. هو يبدأ: "يا اخوتي". ويتضمّن السؤال، كما سوف نرى في آ 17، 20، 24، 26، جواباً سلبياً (رج 3: 11- 12): "أي منفعة يا اخوتي، لمن يقول إن له إيماناً ولا أعمال له؟ ألعلّ الايمان يقدر أن يخلّصه" (آ 14)؟
نرى في بداية الآية لفظة نادرة في البيبليا: أوفالوس (فائدة، أي 15: 3؛ 1 كور 15: 32). وهي ستتكرّر في آ 16 ب. حذفت بعض المخطوطات الـ التعريف من أمام "أوفالوس" فأعطت الجملة قوّة نجدها عند فيلون الاسكندراني حين كتب: "أية منفعة في أن تقول أحلى الكلمات، ساعة تفكّر بالامور البشعة وتعمل لا".
من يُحرم من المنفعة والفائدة؟ هو شخص مسيحيّ. لا يحدّده يعقوب. هو يقول أو يعتقد أن له الإيمان، ولكن ليس له الأعمال. فالايمان المذكور هنا كما في 1: 3؛ 2: 5، يبقى غير محدّد. فلا بدّ من العودة إلى السياق لكي نرى هل نحن أمام تقبّل الوحي أو التعلّق بالمسيحيّة. فمن أعلن أن له الإيمان، فقد أكّد انه مؤمن (آ 19). والاعمال (إرغا) التي بدونها لا نستطيع أن نقول إن لنا الايمان، هي محدّدة في السياق المباشر. فهي تقوم بأن نتعاطف مع شقاء القريب (آ 15- 16)، أن نقوم مثل ابراهيم بأعمال يوصي بها الله (آ 21)، أن نسدّ عوز خدّام الله كما فعلت راحاب (آ 25). وبمختصر الكلام، أن نعيش متطلّبات الإيمان الذي اعتنقناه (آ 22).
إذن، لا ينكر الكاتب ضرورة الايمان، بل هو يفترضها. غير أنه يؤكّد فقط على بطلان إيمان يبقى على مستوى الكلام، على المستوى النظريّ. هذا ما يجعلنا (1: 19- 27) في خطّ التعليم البيبليّ. في خط الأنبياء (عا 4: 1 ي؛ هو 4: 1 ي؛ أش 1: 1 ي). في خطّ يوحنا المعمدان (مت 3: 1- 10 وز) الذي طلب من سامعيه "أن يثمروا ثمراً يليق بالتوبة..."، وقال لهم: "كل شجرة لا تثمر ثمراً جيدأ، تُقطع وتُلقى في النار". في خطّ يسوع (5: 16؛ 7: 15- 27) الذي طلب من تبّاعه: "ليضىء نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات". وأبرز يسوع في حديثه فئتين: من يسمع ويعمل... من يسمع ولا يعمل. الأول بنى بيته على الصخر. والثاني على الرمل. ونحن نعرف النتيجة.
وقال يوحنا في رسالته الأولى: "من كانت له خيرات هذا العالم، ورأى أخاه في فاقة فحبس عنه أحشاءه، فكيف تثبت فيه محبّة الله؟ فلا نحبّ يا أولادي الصغار، لا بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل وحقاً" (3: 17- 18). وربط بولس في 1 تس 1: 3 عمل الايمان بتعب المحبّة وثبات الرجاء. رج 1 كور 3: 8- 10؛ غل 6: 4- 6: "فلينجز كل واحد عمله الخاص، وحينئذٍ يكون افتخاره من قبل نفسه، لا من قبل غيره".
كان السياق السابق قد تحدّث عن الأعمال (1: 4- 25)، فأعطى ذات المعنى لهذه اللفظة. وجاء في 1: 26- 27 مدلول الايمان الباطل الذي لا يحمل أعمال محبّة، جاء على مستوى التديّن (ترسكايا). لا نجد أي تلميح هنا ولا في سائر أقسام الرسالة حتى في 5: 14- 16 عن ممارسات الشريعة الموسويّة أو الرابانيّة. فالأمثلة عن أعمال ترد هنا، هي تعبير أخلاقيّ عن محبّة الله أو محبّة القريب. فلا نكتشف شيئاً من العقليّة الفريسيّة الضيّقة (لو 18: 9- 14؛ مت 23: 1- 32 وز)، ولا من العالم المسيحيّ المتهوّد (أع 15: 1- 5؛ غل 2- 5) حول ممارسة الختان أو شرائع الطهارة. ولا ينظر الكاتب إلى الأعمال وكأنها الينبوع الأول والقانونيّ الذي يتيح لنا أن نقترب من الله، ويُنتج الإيمان. بل نحن على المستوى الداخليّ، مستوى الوجدان الذي يطلق الإيمان ويعبّر عنه. ويجد فيه معيار وجودنا وحيويّة إيماننا (مت 5: 16؛ أف 2: 10).
وتحدّد نهاية آ 14 الوجه الذي فيه يكون الايمان على مستوى الكلام بدون فائدة ولا منفعة. وطُرح السؤال: هل يستطيع مثل هذا الايمان أن يخلّص (سوزو)؟ شكل استفهامي كما في بداية الآية، وهو يعطي قوّة للفكرة المقدَّمة، ويفترض جواباً سلبياً: لا يستطيع (رج 3: 12). فالخلاص (سوتيريا) الذي لا يمنحه إيمان نظريّ، بل يمنحه تقبّل سامع لكلمة زُرعت فينا (1: 21)، هو في جوهره من النوع الاسكاتولوجي، لأنه يجعلنا في جوّ عودة الربّ. هذا الخلاص هو تقبّل إكليل الحياة (1: 12) والسعادة بعد حياة مكرّسة لممارسة الشريعة الكاملة، شريعة الحق (1: 25). وهو تأكيد لدينونة ترافقها الرحمة (2: 13) في مجيء الرب (5: 7- 11). وهو اليقين بأننا ننجو من الهلاك الأبديّ (4: 12).
غير أن هذا الخلاص يتهيّأ على هذه الأرض حين نعيش حياة لا عيب فيها أمام الله (1: 4). فنحسّ برضى الله علينا. بأننا نرتفع معه ونتمجّد (1: 9). بأننا وُلدنا بكلمة الحقّ (1: 18). بأننا منحنا برّ الله (1: 20). بأننا تبرّرنا فاستحققنا لقب أحبّاء الله مثل ابراهيم (2: 21- 23) وراحاب (آ 24). بأننا نلنا غفران خطايانا مع صحّة الجسد (5: 15- 16). هذه المعاني الثانويّة تهيّىء الطريق للمعنى الأساسيّ وتوجّهنا إليه.

2- مثل من الحياة (2: 15- 17)
نحن هنا أمام مثل يجعلنا نرى بعيوننا ما عبّر عنه المبدأ بشكل جديد. نحن أمام حالة ملموسة، بشكل فرضيّة، تشرح الطرح الذي قرأناه في آ 14 وتفهمنا إياه فهماً أفضل (آ 15- 16). الأسلوب هو ذاك الذي وجدناه في 2: 2- 3 حول المحاباة وما فيها من ظلم للفقراء. قال يعقوب: "إن كان أخ أو أخت عريانين، وهما في عوز إلى قوتهما اليوميّ، فقال لهما أحدكم: إذهبا في سلام! استدفئا واشبعا، ولم تعطوهما ما هو من حاجة الجسد، فما المنفعة" (آ 15- 16)؟
هى فرضية تبدأ مع الشرطيّة "إن". هي مقابلة وسوف يتمّ تطبيقها على المبدأ (آ 14) في آ 17: "كذلك الايمان. فإنه إن خلا من الاعمال، ميت في ذاته". إستنتج بعض الشرّاح أننا لا نجد في هذه الصورة مثلاً عن الايمان بدون أعمال، قد أُخذ من الواقع المعاش. لا ننسى أن الفرضيّة قد خرجت من مخيّلة الكاتب، وهو أمر معروف في الأمثال. غير أنه يبدو أن مثل هذه اللوحة لا تأتي من العدم، بل إن الكاتب يماهي بشكل عمليّ بين موقف لا رحمة فيه وإيمان ميت.
لقد أراد يعقوب أن يستبق عودة مثل هذه الحالات إلى قرّائه. فالانسان الذي لا قلب له يحسّ، هو واحد من الجماعة، هو مسيحيّ. "أحدكم". واحد منكم. كان يعقوب قد تكلّم عن حفاوة المسيحيين بالأغنياء واحتقارهم للفقراء (2: 6). وهنا نرى إلى أين يمكن أن يصل هذا الاحتقار، هذه اللامبالاة. فهناك مسيحيون، وإن لم تصل بهم الأمور إلى ما قام به بعض الأغنياء من ظلم ضدّ المعوزين (2: 6- 7؛ 5: 1- 5)، نسوا أبسط ما في المحبّة العمليّة من أعمال يدعوهم إليها إيمانهم (2: 8- 9). وهكذا يجب أن تقرأ الاجمالات في سفر الاعمال (2: 44؛ 4: 32- 35) على ضوء يع 2: 1- 26؛ 1 كور 11: 21- 22؛ 2 كور 11: 20.
ونبدأ في آ 15. فالأخ أو الأخت اللذان يعرفان العوز، هما أعضاء في الجماعة التي توجّهت إليها الرسالة. لقد استعمل يسوع لفظتي أخ وأخت ليدل على تلاميذه الحقيقيّين (مت 12: 50 وز). وفعل بولس مثله في تسمية المسيحيّين والمسيحيّات (روم 16: 1؛ 1 كور 7: 15؛ 9: 5؛ 1 تم 5: 2). وقد أراد أن تمارَس المحبّة تجاههم فقال في غل 6: 10: "فلنحسن إذن إلى الجميع ما دامت لنا الفرصة، ولا سيّما إلى الذين هم شركاؤنا في الايمان".
إن عوز المسيحيّين الذين يتحدّث عنهم يعقوب، يظهر على مستويين. هم "عراة" (غمنوس). أي لهم اللباس الضروريّ الضروريّ (أش 58: 7؛ أي 22: 6؛ 24: 7؛ 31: 9؛ مت 25: 36؛ 2 كور 11: 27؛ يو 21: 7). لا تعني هذه اللفظة أنَّ لا لباس لهم إطلاقاً. هم محرومون من الطعام اليوميّ. إن الصفة "إفيماروس" التي تصف الطعام (تروفي)، لا ترد إلاّ هنا في الكتاب المقدس، وإن استعملها العالم اليونانيّ في المعنى نفسه. هناك غياب تامّ للطعام في الوقت المباشر، في اليوم الذين هم فيه. لا يعرفون إن كانوا يجدون ما يأكلون في يومهم.
كان بإمكان الكاتب أن يتحدّث عن غياب "الملجأ" (أو: البيت) (رج سي 29: 21)، أو عن وجهات أخرى من العوز، ولكنه كان قد حطّم تناسق الجملة، وابتعد عمّا في مت 6: 24- 35 الذي يتكلّم فقط عن اللباس والطعام.
تحاه الحالة المزرية التي يعرفها الاخوة المعوزون، نجد الموقف المعيب الذي يقفه أولئك الذين يستطيعون أن يقدّموا العلاج (آ 16). هؤلاء "الأغنياء" هم مسيحيّون في نظر يعقوب. فنحن نقرأ: "فقال لهما أحدكم". أجل، إن المسيحيّين الذين يشهدون شقاء اخوتهم المأساويّ، يكتفون بأن يردّوا على طلبهم بتمنيّات ودعاء بالخير. في الحالات العاديّة، تكون هذه الكلمات طيّبة فتدل على ما في قلبنا من محبّة. ولكنها في الظرف الحاضر، فهي تدلّ على وقاحة تشعل فينا الثورة. كان اليهوديّ يودّع رفيقه فيقول له: "إذهب بسلام" (قض 18: 6؛ 1 صم 1: 17؛ 20: 42؛ 29: 7؛ مر 5: 34؛ لو 7: 50). وكانوا يستعملون عبارة مشابهة ليحيّوا بعضهم بعضاً أو ليكتبوا الواحد إلى الآخر (1: 1؛ يو 20: 19، 26). أما التمنيان اللذان نقرأهما هنا (استدفئا، اشبعا) فلا نجدها في مكان آخر. جعلهما يعقوب بشكل موازٍ ليقابلا غياب اللباس والطعأم لدى المحتاجين، ويُبرزا ما في كلام "الأغنياء" من لؤم وشناعة.
هناك فعل "شبع" (خووتازاين) الذي يعني أيضاً "علف، حشا حتى التخمة". أما فعل "استدفأ" (ترماينو)، فقد استعمل أيضاً في معنى "تغطّى" (1 مل 1: 1؛ أي 31: 20؛ أم 31: 21). مثل هذه التمنيات لا تنفع، يقول الكاتب، إذا كان قائلها لا يعطي البائسين الوسائل لكي يصلا إليها، وهي الطعام واللبالس اللذان يحتاج إليهما الجسد. مثل هذا الموقف عند المسيحيّين جعل الكاتب يثور، لا سيّما وأن الوثنيين كانوا يشجبون مثل هذا الموقف. وأن العهد القديم كان يشجبه. تحدّث أشعيا عن الصوم: هو أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل البائسين المطرودين بيتك، وإذا رأيت العريان أن تكسوه (58: 7). وتحدّث حز 18: 7 عن البار: "أعطى خبزه للجائع. وكسا العريان ثوباً". وكان أحد المصريّين القدماء قد حفر على مدفنه: "أعطيت خبزاً للجائع، وثياباً للعريان". وقال آخر: "أعطيت ماء للعطشان، ودللت المسافر الضائع عن طريقه، وأنقذت ذلك الذي سُلب".
وفعل يعقوب كما في الأمثال (آ 17)، فطبّق المثل الذي أعطاه، قال: "كذلك الايمان. فإنه إن خلا من الأعمال، ميت في ذاته". تتضمّن يع عدداً من التطبيقات في هذا المعنى (1: 11؛ 2: 26؛ 3: 5). ذلك هو وضع الايمان أي التعلّق بالايمان المسيحيّ وإطلاق التمنيّات. فإذا ظلّ الايمان على مستوى الكلام، ولم يتحوّل إلى عمل، فهو ميت (نكروس). إنه عقيم وباطل، ولا يستطيع أن يخلّصنا على المستوى الروحي (2: 14 ب). كما أن التمنيّات وحدها هي باطلة ولا تستطيع أن تخلّصنا على المستوى الماديّ.
فالايمان بلا أعمال، الذي لا ينتقل إلى عمل المحبّة بالنسبة إلى الله وإلى القريب، هو ميت. وزاد الكاتب في نهاية آ 17 عبارة فُهمت بطرق مختلفة. قالوا: الايمان في ذاته أي وحده (2: 24)، بدون أعمال هو ميت. وهكذا نكون أمام موجز لعبارة: "إذا لم يكن له أعمال". وفسَّر آخرون: الايمان الذي لا أَعمال له هو ميت في ذاته، أي أساساً. فإذا انحصر في أقوال الانسان (2: 14، ولم يصل إلى أعماله)، فله ظاهر الحياة. إنه جسد بلا روح (2: 26).

3- اعتراض وبراهين (2: 18- 26)
قبل أن يُعلن يعقوب براهينه، يقدّم اعتراضاً قد يصله من قارىء أو سامع، أو يرسل تحدّياً للذين يريد أن يُقنعهم.
أ- اعتراض وتحدٍّ (آ 18)
وضع يعقوب أمامه محاوراً يكلّمه بشكل مباشر، فأتاح له أن يحدّد أنه من المحال أن يؤكّد الانسان أنه يمتلك الايمان إذا كان لا يمارس أعمال المحبّة التي يلهمها هذا الإيمان. "بل قد يقول قائل: أنت لك إيمان وأنا لي أعمال... فأرني إيمانك بدون الاعمال، وأنا من أعمالي أريك إيماني". يرى يعقوب أنه يستحيل أن نبرهن عن وجود إيمان لا يظهر منه شيء، لا يتجسّد في الحياة. لأننا لا نستطيع أن نفصل الايمان عن الأعمال.
كيف نفسّر هذه الآية؟ "ولكن يقول قائل". هذه العبارة تدلّ على أن يعقوب وضع أمامنا شخصاً يعترض. هذا ما نجده كما 1 كور 15: 35 (ويقول قائل) مع اعتراض حول قيامة الموتى. وفي روم 9: 19 (ولقد تقول لي) حول انتباذ إسرائيل. وفي 11: 19 (ولقد تقول) في المعنى نفسه وقبل الحديث عن التطعيم في الفروع. فالمعترض الذي تخيّله الكتاب ليقدّم برهاناً معاكساً لبرهانه، لم يكن فقط وليد المخيّلة. لا شك في أنه وُجد تيّار بين قرّاء الرسالة اعتبر أن الايمان يحلّ محلّ الأعمال.
لا نستطيع أن نتخيّل المعترض يقول ليعقوب: "عندك إيمان". أو: "عندك إيمان وعندي أعمال". بل يجب أن نكتشف الاعتراض من خلال جواب يعقوب: "تقول إن لك الايمان. أما أنا فلي الاعمال". أو: "لك الاعمال ولي الايمان". كما يقول المعترض. وقد نفهمه يتوقّف عند المواهب: موهبة الايمان تساوي موهبة الأعمال. فبّرر يعقوب موقفه قائلاً إن الايمان بدون أعمال لا يبرهن عن وجود الايمان.
كيف نواجه هذه الصعوبات في فهم النصّ؟ هل نقول بأننا لسنا أمام جملة اعتراضيّة، بل "بالحريّ". "أنت تقول لك الايمان، فأنا لي الاعمال، هذا أفضل" (آ 18 أ). لأنك لا تستطيع أن تبرهن عن وجود إيمانك إذا لم يكن لك أعمال ترتبط بهذا الايمان. أما أنا فأبرهن بأعمالي عن وجود إيماني. يبقى أن نقول: إن يعقوب في آ 18 يقدّم برهاناً جديداً لقرّائه الذين ينقصهم السخاء أو التعليم فيكتفون بإيمان نظريّ. كان قد قال لهم إن هذا الايمان لا يقدر أن يخلّصهم (آ 14). كما بيّن لهم بمثل حيّ أن لا جدوى من هذا الايمان (آ 15- 17). وهو يقول الآن أن هذا الايمان لا يُبرهن عنه إلاّ بالأعمال. قد نكون هنا أمام أسهاب للتقليد الانجيليّ الذي يقول: نعرف المؤمنين الحقيقيّين "من ثمارهم" (مت 7: 20؛ رج يو 15: 6).
ب- البرهان الاول: إيمان الشياطين (آ 19- 20)
ويقدّم يعقوب برهاناً آخر بالمحال ليقول إن الايمان النظري الذي هو مجرّد ارتباط عقليّ، لا يمنح الخلاص. فيعطي مثل الشياطين. "أنت تؤمن أن الله واحد؟ فنعمّا تفعل! والشياطين أيضاً يؤمنون ويرتعدون" (آ 19).
كان الايمان بالله الواحد أساسياً في العالم اليهوديّ. وكان يتلو المؤمن مرتين في النهار صلاة تعلن وحدانيّة الله (تث 6: 4: "إسمع يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الربّ الواحد). وقد ظنّ بعض قرّاء يعقوب أن هذا الايمان بوحدانيّة الله قد جعلهم فوق الوثنيّة التي تحيط بهم. غير أنهم فكّروا مخطئين أن هذا يكفيهم كلياً من أجل الخلاص. فسعى يعقوب إلى إزالة الضلال. هم لا يستطيعون أن يظلّوا هنا إن أرادوا أن يخلصوا. فالشياطين أيضاً يؤمنون بالإله الواحد (مر 1: 24؛ 5: 7؛ أع 16: 17؛ 19: 15). ولكن هذا الايمان لا يخلّصهم، بل يحمل إليهم رعشة الخوف (فريسو: ارتعد، اقشعرّ).
عادت يع هنا ولا شك إلى نشاط الأرواح النجسة كما في الأناجيل والكتابات اليهوديّة في ذلك العصر. كما عادت بشكل خاص إلى التقسيمات (طرد الشياطين) التي كانت تكشف الرعدة التي تحسّ بها هذه الأرواح حين ترى قوّتها قد صارت عجزاً بفعل قدرة الله (مت 8: 29). الكلمة اليونانية "دايمونس" تقابل العبري "ش د ي م" في السبعينيّة (تث 32: 17؛ مز 106: 37) وتدلّ على الأصنام التي تعارض الإله الحقيقيّ. بعد ذلك سيقول الكاتب إن الحكمة الكاذبة هي شيطانيّة، لأنها تلهم الأقوال والأعمال الفاسدة (3: 15).
وهكذا يستطيع الانسان أن يكون عدوّ الله مع إيمان نظريّ وحسب. وسيقول بولس إن المعلّمين الكذبة يعلنون أنهم يعرفون الله، ولكنهم ينكرونه في سلوكهم (تي 1: 16).
وننتقل إلى آ 20. بعد أن قدّم الكاتب براهينه ليدلّ على أن الايمان بدون أَعمال لا يهب الخلاص، عاد إلى الكتاب المقدّس. فأعطى مثل ابراهيم ثم مثل راحاب. مثل هذان المثلان حاسمان، لأنهما يعودان بنا إلى التوراة. والتوراة التي هي كلمة الله، تدلّ على الحقيقة، على الطريق الواجب اتباعها.
وتبدأ الآية بنداء فيه يدعو الكاتب القارىء لكي ينتبه إلى ما يلي فيتخلّى عن ضلاله. "أتريد أن تعرف أيها الانسان الجاهل أن الايمان بدون أعمال ميت"؟ يتوجّه الكاتب إلى القارىء المكتفي بالايمان دون الأعمال. ويعتبره معانداً في موقفه، في ضلاله. يقول له: أتريد أن تعرف بشكل لا يقبل الجدل أنك على خطأ، أنظر ما يقوله الكتاب عن ابراهيم وراحاب.
إنسان جاهل (كانوس). فارغ. يداه فارغتان، ورأسه فارغ عن الادراك السليم. قال السينائي والاسكندراني: ميتة (نكرا). ولكن يبدو أنه يجب أن نقرأ: "عقيمة (ارغي، أ- ارغوس. لا تفعل). هناك تلاعب على الكلام: ارغي (عقيم)، ارغون (عمل).
ج- البرهان الثاني (آ 21- 24)
أول مثل بيبليّ حول الايمان الذي يخلّص إذا رافقته أعمال هو مثل ابراهيم (آ 21- 23). "أفلم يتبرّر بالاعمال ابراهيم أبونا، إذ أصعد اسحق ابنه على المذبح" (آ 21)؟ الشكل الاستفهاميّ لا يدلّ على شرط ننفّذه كما في 2: 20. إن هو إلاّ طريقة نؤكّد به للقرّاء على أمر لا يحتاج إلى برهان، لأن الكتاب المقدّس يقوله (تك 22: 9؛ رج 15: 6). فابراهيم ينعم في التقليد اليهودي باسم لا يضاهيه اسم. هو أبو الآباء، والاب المثالي (أش 51: 2- 4؛ سي 44: 19 ي؛ حك 10: 5؛ 1 مك 2: 52؛ 4 مك 16: 20؛ 17: 6؛ اليوبيلات 17- 19؛ مت 3: 9 ي؛ يو 8: 33؛ 52- 53). وسارت المسيحيّة الأولى في خطّ المسيح فتحدّثت عمّا كان ابراهيم وما كان يمثّل (مت 1: 1؛ 8: 11؛ لو 13: 28؛ 19: 9). بما أن هذه الرسالة تورد مثل هذا السَلف العظيم وتسمّيه أبانا، فهذا لا يعني أن القرّاء هم يهود لا مسيحيّون. فبولس في روم 4: 16 يعطي هذا اللقب لابراهيم وفي 9: 10 لاسحاق.
كان بالامكان أن ننتظر إنطلاقاً من السياق المباشر كلاماً مثل هذا: خلص ابراهيم (2: 14). بالاعمال كان إيمانه حياً فاعلاً (آ 15- 17). والأعمال جعلت إيمانه منظوراً، جعلت إيمانه ثقة، جعلت إيمانه مثمراً لا عقيماً (آ 20). فبدل ذلك قال لنا الكاتب إن ابراهيم "تبرّر" بالأعمال. هذا التبديل في الألفاظ يرتبط بنصّ تك 15: 6 حيث يقال: آمن ابراهيم بالله فحُسب له إيمانه براً. هذا ما يرد في آ 23. أما الآن فيربط الكاتب التبرير بالأعمال ولا سيّما تقدمة اسحاق على المذبح (آ 21).
إذا عدنا إلى السياق المباشر نفهم أن ابراهيم خلص بواسطة أعماله. كان إيمانه حياً، ظاهراً، واثقاً، مثمراً. وقد حقّق باستقامته الخاضعة والواثقة البرّ الإلهيّ (1: 20)، أي ما يرضي الله، ما كان ينتظره الله. ويدلّنا ولي النصّ أن يعقوب رأى في تبرير ابراهيم بالاعمال، أكثر من موقف يرضي الله. فالله منح لابراهيم صدإقته (2: 23 ب)، دعاه إلى مشاركته في حياته الحميمة (3: 18)، وهذا ما يقوده إلى الأجر الأبديّ (1: 12؛ 2 بط 3: 13؛ 2 تم 4: 8؛ يو 8: 56).
قد نخون فكر الكاتب حين نفصل الايمان عن الأعمال في آ 21، لأن التبرير يُنسب إلى الأعمال. فإن آ 22- 23 تعلنان أن أعمال ابراهيم قد استلهمت الايمان، وجعلته ظاهراً حين عبّرت عنه وجسّدته. إذن تشدّد الرسالة هنا كما في 2: 14- 20 على ضرورة الانتقال إلى العمل لدى الذين يعتبرون نفوسهم مؤمنين.
أشار يعقوب إلى الأعمال في صيغة الجمع، وذكر عملاً واحد هو ذبيحة اسحاق. لأنه اعتبر هذا العمل حصيلة أو ذروة سائر الأعمال. اعتبره أعظم شاهد عن استقامة ابراهيم وطاعته، وذلك في خطّ التقليد القديم الذي نجده مثلاً عند سي 44: 10؛ حك 10: 5 وفيلون الاسكندراني وكتاب اليوبيلات.
أكّد يعقوب أن ابراهيم بُرِّر حين قدّم ابنه على المذبح. غير أن سفر التكوين يتكلّم عن حدث سابق: الايمان بوعد بنسل كبير (تك 15: 6). ولكن الكاتب لم يقترب خطأ. وسوف يورد 15: 6 في آ 23. وإن بدّل مضمون النصوص، فلكي يُزيل ضلال المسيحيّين. لقد أراد أن يبيّن أن إيمان ابراهيم هو أكثر من يقين عقليّ. هو موقف حياتي يوافق هذا اليقين ويستلهمه.
وإذ اعتبر الكاتب أن لا جدال في البرهان الكتابي الذي قدّمه، وجّه كلامه إلى محاوره ليجعله يقبل بأن الإيمان بدون أعمال هو عقيم. فقال: "فأنت ترى أن الايمان كان يعمل مع أعماله، وأنه بالأعمال صار الايمان كاملاً" (آ 22). نجد فعل "رأى" (بلابو) الذي يعني قبل، تحقّق. فالايمان ترافقه الأعمال (سينارغو= عمل مع). الايمان لا ينفصل عن الأعمال، وهو لا يصل إلى هدفه بدون الأعمال. بل هو لا يبلغ الكمال إلاّ بالأعمال.
ظلّ الكاتب أميناً لمقاله السابق (2: 14- 20) حول إيمان نعلنه وإيمان ترافقه الأعمال. فبيّن أنه حين ذكر ذبيحة اسحاق فكر في تك 15: 6. وها هو يورد مباشرة هذا النصّ (آ 23). "وتمّت الكتابة القائلة: آمن ابراهيم بالله فحُسب له ذلك براً". إن إيمان ابراهيم الذي انتقل إلى العمل قد حُسب له براً. أي اعتبر أنه أتمّ ما طلبه الله منه.
اختلف يعقوب عن العالم اليهوديّ، فلم يعتبر إيمان أبي الآباء وكأنه عمل. فهو يرى أن الإيمان ينضمّ إلى الأعمال لكي يلهمها دون أن يذوب فيها. وهكذا استبق تفسيراً خاطئاً لما في تك 15: 6، واعتراضاً يقول إن الكتاب لا يأخذ بعين الاعتبار الأعمال في تحقيق الخلاص، فيعلن أن إيمان ابراهيم حُسب له براً.
أخذ الكاتب تك 15: 6 من السبعينية (رج روم 4: 3). واحترم النصّ الأساسيّ، فجعل العبارتين على المستوى ذاته، وهكذا أبعد الفكرة اليهوديّة القائلة ببرّ نستحقّه بأعمالنا (فل 3: 9). فقد قال كتاب اليوبيلات مثلاً إن الملائكة يدوّنون في دفتر حساب السماء، أعمال ابراهيم.
استعمل بولس هذا الايراد عينه عن ابراهيم في روم 4: 3 (رج غل 3: 6)، ولكنه جعله في سياق آخر وفي منظار مختلف. تحدّث في روم عن التبرير الأول، أي العبور من الخطيئة إلى النعمة. تحدّث عن النعمة التي هي عطيّة من الله وموقف طاعة واثقة تتقبّل عمل المسيح وحقيقته بشكل حرّ وثابت. تحدّث عن أعمال البشر ولا سيّما الممارسات الموسويّة التي لا تستطيع أن تنقل الانسان من الخطيئة إلى النعمة. وهكذا أفهم المسيحيين أن عمل المسيح وحده هو "قوّة الله لخلاص كل مؤمن، من اليهودي أو من الوثنيين" (روم 1: 16). وهكذا حذّرهم من العقليّة اليهوديّة التي تعتبر أعمال الشريعة الموسويّة ضروريّة لخلاص المؤمن (أع 15: 1- 11؛ رج 13: 38)، وأنها تستطيع أن تبرّره. وإذ أراد بولس أن يسند طرحه أورد تك 15: 6 وبيّن مستنداً إلى هذا النصّ أن تبرير ابراهيم نفسه ارتبط بالايمان (بعمل الله، غل 3: 16)، لا بالأعمال البشريّة مثل الختان أو ممارسة الشرائع الموسويّة ولا سيّما شرائع الطهارة التي جاءت فيما بعد (روم 4: 9- 17).
إذا اعتبرنا أن للايمان وجهتين: نداء من الله وجواب من الانسان. نداء مجانيّ من الله يقابله جواب ينتظره الله لكي يفعل في المؤمن. نستطيع القول إن بولس يشدّد على نداء الله. ويعقوب يشدّد على جواب الانسان لكي يتجسّد هذا النداء في الحياة اليوميّة. نحن لا نرى الايمان بأعيننا، وإن كان حقيقة وواقعاً. ولكن إن صار عملاً، نستطيع أن نراه. ونقول الشيء عينه عن المحبّة: حين تتجسّد تصبح منظورة، ولا تعود سراباً وخيالاً، وفي أقصى الحالات كلاماً ولساناً.
ويقول يعقوب في نهاية آ 23 إن أعمال ابراهيم التي ألهمها الإيمان، نالت رضى الله فسمّي "خليل الله"، صديق (فيلوس) الله. هذه العبارة ليست جزءاً من الإيراد الكتابي، غير أنها تتأصّل في نصيّن بيبليّين (أش 41: 8؛ 2 أخ 20: 7)، وترتبط بالتقليد اليهودي القديم (تك 18: 17؛ دا 3: 35؛ اليوبيلات 19: 9؛ 30: 20؛ 4 عز 3: 14؛ فيلون). يسمّي الرابانيون هذا النوع من الايراد "رمز" أو تلميح. وسيحافظ المسيحيّون العرب والمسلمون على هذا اللقب لابراهيم: خليل الله.
وبعد أن أنهى الكاتب برهانه البيبليّ الأول، استخلص نتيجة يراها واضحة (ترون) ويريد أن يطبّقها على كل إنسان. "فترون إذن أن الانسان بالاعمال يبرّر، لا بالايمان وحده" (آ 24). لا حاجة إلى زيادة "إذن" كما فعلت بعض المخطوطات. ويأتي الظرف "مونون" وحده، فيدلّ على اللهجة الهجوميّة. إن الكاتب يعارض المعارضين الذين يعتبرون أن الايمان وحده يكفي لكي نرضي الله. ولكن الايمان يبقى ضرورياً كأساس للأعمال. تدلّ الأعمال على أن الايمان حاضر وأنه يعمل معها، كما تتوخّى هذه الاعمال أن تجعل الايمان كاملاً (آ 22).
د- البرهان الثالث (آ 25- 26)
والبرهان الثالث لإيمان يخلّص لأنه يرتبط بالاعمال، هو إيمان راحاب. عاد الكاتب إلى يش 2: 1- 24؛ 6: 17، 25 لكي يقول: "وكذلك راحاب البغيّ، أليست بالأعمال قد برّرت، إذ قبلت الموفدين وصرتهما من طريق أخرى" (آ 25)؟ هذا المثل يوازي المثل السابق، ويتوخّى الهدف عينه، ويبرهن عن ذات الطرح الذي نجده في آ 21. وضع يعقوب مثلاً بجانب الآخر لكي يعطي قوّة لتأكيده. هذا ما تطلبه شريعة موسى: شاهدان لكي تصحّ الشهادة (عد 35: 30؛ تث 17: 6؛ 19: 15). ويسوع نفسه خضع لهذه القاعدة (مت 18: 16؛ يو 5: 33- 39؛ 8: 13- 18).
وُجدت في العالم اليهوديّ لوائح تروي بإيجاز أعمال أهم الأشخاص البيبليّين (1 مك 2: 51- 60؛ سي 44- 50؛ رج عب 11). وقد وجد الكاتب في أحدها اسم ابراهيم وإسم راحاب. وإن عب 11: 31 قد أوردت مثل راحاب بعد أن تحدّثت عن ابراهيم (11: 17- 19).
عادت التقاليد الرابانيّة إلى سفر يشوع، فتوقّفت عند شخصيّة راحاب البغيّ. هي بطلة وطنيّة، لا بسبب مهنتها السابقة، بل بسبب إيمانها الجديد وما عملته من أجل الشعب العبرانيّ. لقد اقتنعت بمعجزات الله من أجل شعبه، وساعدته في مخطّطه لإيصالهم إلى أرض الموعد. وراحوا في إعجابهم فجعلوها زوجة يشوع وجدّة عدد كبير من الكهنة والأنبياء. وقد شارك التقليدُ المسيحي الرابانيين في إعجابهم، فأدخل متّى راحاب في نسب المسيح (1: 5) مع تامار وراعوت وبتشابع، لأنها ساعدت على تحقيق الوعد المسيحاني فخضعت بشجاعة لمخطّط الله.
تحدّث يعقوب عن إيمان ابراهيم، عن أعماله، عن البرّ الذي ناله. ولكنه لا يذكر إيمان راحاب بإله إسرائيل كما نجد في يش 2: 11 (رج تث 4: 39). كما لا يحدّد طبيعة البرّ الذي نالته، وهو النجاة بحياتها والانضمام إلى شعب الله (رج يش 6: 17، 25). ولكن لا شكّ في أنه يفترض كل ذلك، بسبب موازاته الدقيقة بين المثلين.
هو لم يحتفظ من الخبر البيبلي إلاّ بالأعمال التي تعبّر عن إيمان راحاب، والبرّ الذي نالته. وهذه الأعمال التي تقابل ذبيحة اسحاق هي استقباله الموفدين وحمايتهم (تك 2: 1- 7، 15- 16). هناك فعل "هيبوداخوماي": استقبل وأضاف، استقبل كضيف. رج لو 10: 38؛ 19: 6؛ أع 17: 7.
وأتبع يعقوب مثل راحاب باستنتاج يوازي ذاك الذي جعله بعد مثل ابراهيم. وهكذا أبرز الرباط الوثيق بين المثلين الكتابيّين. "فكما أن الجسد بدون روح ميت، كذلك الايمان بدون أعمال ميت" (آ 26). وهكذا نعود إلى الطرح الأول: لا يخلص الانسان إلاّ إذا وضع إيمانه موضع العمل.

خاتمة
هكذا توسّعت الرسالة في موضوع هام هو موضوع الايمان والأعمال (1: 3- 6، 25؛ 3: 13). بدا الكاتب وكأنه يعارض معارضة تامة المبدأ البولسيّ حول التبرير بالإيمان وحده (روم 3: 28؛ غل 2: 16)، لأنه أكّد أن الإيمان لا يخلّص بدون الأعمال. وأن الإيمان ميت بدون الأعمال. غير أن الأعمال التي يتحدّث عنها يعقوب، ليست "أعمال الشريعة" التي تشجبها روم وغل، بل الثمار التي يجب أن ينتجها الإيمان كما يقول بولس في روم 2: 6، 15- 16؛ غل 5: 6؛ أف 2: 8- 10؛ كو 1: 10؛ 1 تس 1: 3؛ 2 تس 1: 11. لا يماهي يعقوب بين الايمان والأعمال، ولكنه يشدّد على إيمان يتمّ في الأعمال، ولا سيّما في الصلاة ومحبّة القريب.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM