الفصل السابع: اغنياء وفقراء في الكنيسة

الفصل السابع
اغنياء وفقراء في الكنيسة
2: 1- 5

إن صاحب الرسالة إلى يعقوب وقد يكون "أخَ الربّ" وَأولَ أسقف في أورشليم، أو معلّماً مسيحيّاً متهوّداً (ما زال مرتبطاً بالعادات اليهودية) نجهل اسمه، يدعو قرّاءه هنا لكي يحقّقوا الأخوّة المسيحيّة في جماعاتهم. نحن بشكل رئيسيّ أمام مجموعات مسيحيّة متهوّدة تعيش في فلسطين وسورية، وينتمي معظم أعضائها إلى الطبقات الدنيا في المجتمع. إذن، الفقر سمة تميّز هذه الجماعات التي لا يقدّرها الرأي العام حق قدرها. لاقت الاضطهادات بسبب إيمانها، فتحمّلت في المجال الاقتصادي المضايقات من الأغنياء والأقوياء، ولا سيّما الملأكين الكبار. وانعزلت هذه الجماعات عن المجتمع، فأرادت أن تترك أثراً طيّباً في الوسط الذي يحيط بها، فأخذت بقواعد سلوكه دون أي تمييز. لهذا كتب إليها يعقوب يحذّرها من هذا الخطر، ويحضّها على العودة إلى "إيمان ربّنا يسوع المسيح".

1- ملاحظات أدبية ولغويّة
إن ذكر الأرامل واليتامى دفع يعقوب إلى أن يتكلّم عن محاباة الوجوه. ذاك رباط غامض بين هذا التوجيه الرابع (2: 1 ي، محاباة الوجوه) وما سبقه من توجيه ثالث (1: 19- 27) عنوانه: واجباتنا تجاه كلمة الحقّ. والهدف: كيف يمارس المؤمن التوجيهات التي تأتيه من إيمانه. وهكذا نكون في الطريق التي تصل بنا إلى الإيمان والأعمال. أعلن يعقوب أولاً الوصيّة (آ 1): لا محاباة للوجوه. ثم أعطى مثلاً (آ 2- 4) وانتهى بقول يشدّد فيه على اختيار الله للفقراء (آ 5).
أ- الوصيّة (آ 1)
"يا إخوتي". نحن في بداية مقطوعة جديدة تأتي بعد الدعوة إلى المحبّة (1: 27) وساعة يتحدّث الكاتب عن الأخوّة المسيحيّة.
هناك فعل "بروسوبولبتاين" (2: 9): حابى الوجوه. يتألّف من "بروسوبون" الوجه. و"لبتاين": أخذ. هي عبارة عبريّة تترجم في السبعينية ن س ا. ف ن ي م: رفع الوجه. رج لا 19: 15؛ ملا 1: 8، 9؛ سي 4؛ 22. يقال رفع وجه فلان، وذلك بعد أن يكون سجد إلى الأرض. فالعبارة تعني: استقبل استقبالاً حسناً (تك 19: 21؛ 32: 11؛ ملا 1: 8). يرفع الملك رأس الشخص، ليسمح له أن ينظر إليه وجهاً لوجه، وهذا يدلّ على حظوة وتفضيل. بعد ذلك اتخذت العبارة معنى زرياً فدلّت على اللاعدالة في الأحكام (لا 19: 15؛ تث 10: 17). في العهد الجديد، يُستعمل الفعل ومشتقاته بالمعنى الاحتقاري (لو 20: 21؛ أع 10: 34؛ روم 2: 11؛ غل 2: 6؛ 1 بط 1: 17). أما هنا في آ 1 فنقرأ الأسم: بروسوبولبسيا: محاباة الوجوه. نفضّل شخصاً على آخر مع حكم من الخارج.
"إيمان ربّنا". "بستيس". العقيدة التي موضوعها يسوع المسيح. نحن أمام تعلّق عقلّي بشخص يسوع وتعليمه. هناك تعارض بين محاباة الوجوه والإيمان بالمسيح. هذا الإيمان هو المذكور في 1: 3 وهو سبب فرح في الألم. وهو يدلّ على ارتفاع المتواضع وحطّ الغني، ويجعلنا نرجو إكليل الحياة (1: 2- 12). فمن اعتبر الغنيّ لأنه غنيّ، واحتقر الفقير لأنه فقير، عارض معطيات الإيمان الأولى.
ونقرأ "دوكسا"، المجد في صيغة المضاف إلية. هل نعتبر يع مؤلّفاً يهودياً ونلغي "يسوع المسيح" ونقرأ: "ربّ المجد". هذا اسلوب اعتباطيّ لا شيء يسنده. وهناك من يربط بين "المجد" و"محاباة الوجوه". ولكن المسافة بعيدة بين الاثنين. وفئة ثالثة تربط "المجد" بـ "الإيمان": إيمان مجد ربّنا يسوع المسيح. وفئة رابعة تعتبر المجد بدلاً عن يسوع. المسيح هو في إنجيل يوحنا الطريق والحقّ والحياة (14: 6). وفي 1 تم 1: 1 هو الرجاء. لماذا لا يسمّى هنا "المجد"؟ ولكننا نقول: ربنا يسوع المسيح، ربّ المجد. أو: ربّنا يسوع المسيح المجيد. فالمسيح المجيد هو المسيح كما هو الآن في السماء منذ القيامة. والمجد صفة جوهريّة فيه (يو 17: 5). قد نكون هنا أمام عبارة ليتورجيّة (1 كور 2: 8؛ أف 1: 17؛ أع 7: 2). وقد نكون في إطار أخلاقي حيث مجد المسيح يتعارض مع فراغ المجد البشريّ الذي منه يحذّر يعقوب قرّاءه.
ب- مثل من الحياة (آ 2- 4)
ويأتي المثل في اسلوب تصويريّ يجعلنا نحسّ وكأن المشهد أمامنا.
"مجمعكم". قد تدلّ اللفظة على جماعة دينيّة (عد 27: 17؛ أع 9: 2). أو "الجماعة" اطلاقاً كما في خر 12: 3؛ أع 13: 43. وفي العهد الجديد بشكل خاص: موضع تلتئم فيه الجماعة (مت 4: 23؛ 6: 2- 5؛ 9: 35...). هي "سيناغوغي" واستعملت السبعينية "اكلاسيا" (وهو ما ترجم: كنيسة، ق هـ ل في العبريّة). في الأدب المسيحيّ صارت "اكلاسيا" لفظة خاصة بالمسيحيين و"سيناغوغي" لفظة خاصة باليهود والهراطقة. ونجد المعنى الزري في رؤ 2: 9؛ 3: 9 (مجمع الشيطان). ثم التمييز بين اللفظتين في الاترن الثاني حيث نجد أيضاً كلمة "مجمع" في معرض الحديث عن الجماعات المسيحيّة (اغناطيوس إلى يوليكربوس 4: 2). أما هنا فنستطيع أن نقول: الجماعة أو الموضع الذي تلتئم فيه الجماعة. ولكن الفكرة هي هي: دخل شخص ساعة كان المؤمنون مجتمعين.
"خريسودكتيليوس": خاتم من ذهب. لفظة ترد مرة واحدة في الكتاب المقدس وقد بُنيت مثل "خريسوستافانوس"، إكليل من ذهب. الخاتم هو علامة الغنى. ولا سيّما إذا وُضعت فيه الحجارة الكريمة. نتذكّر هنا ما حصل ليهوذا بن يعقوب مع خاتمه الذهبي (تك 38، تامار). ويترافق مع خاتم الذهب الحلّة البهيجة. هذا ما كان ليوسف من قبل فرعون (تك 41: 42). هذه "الحلّة البهيّة" تقابل "اللباس القذر" الذي يرتديه المسكين. ثوب بال ووسخ عند الفقير. قد يكون الغني والفقير من المؤمنين. وقد يكونا غريبين أرادا المشاركة في صلاة الجماعة.
في آ 3: 9 "ابيبلابو": نظر من فوق، ألقى نظرة مترفّعة تدلّ على العطف أو الشفقة. نظرة اهتمام (1 صم 1: 11؛ 1 مل 8: 28). هم ينظرون إلى الغني ولا ينظرون إلى الفقير. يهتفون بالغني فيقدّمون له أفضل مقعد، المقعد الذي وُضع لإكرام بعض الضيوف. كذا كان الأمر في المجامع، ولكن الموقف يتبدّل مع الفقير. يجلس الغني ويبقى الفقير واقفاً، وإن أجلسناه فعلى الأرض وتحت الكرسيّ لا فوق الكرسّي. الجلوس عند قدمي شخص لم يكن عمل احتقار. فالتلميذ يجلس عند قدمي معلّمه (لو 10: 39؛ مر يو؛ أع 22: 3، بولس). ولكن الوضع هنا يتغيرّ بسبب استقبال الغنيّ لأنه غنيّ، وعدم استقبال الفقير لأنه فقير. يبدو أن مثل هذا الجلوس كان معمولاً به في الجماعات المسيحيّة كما نجد في نصوص قديمة.
آ 4، بدأ يعقوب بسؤال يرتبط بشرط: "إذا دخل...". وها هو الآن يستخلص النتيجة. إن إيمانه بيسوع المسيح المجيد يجعله قاسياً على المؤمنين الذين يتصرّفون بهذا الشكل. مثل هؤلاء المؤمنين هم منقسمون بين المسيح والعالم. إنهم يؤمنون، ولكنهم يتصرّفون وكأنهم لا يؤمنون. أما الأفكار الشريرة فتكمن في تفضيل الغني على الفقير بحسب منطق البشر وأفكارهم المسبقة. هم لا يميّزون ولا يعرفون أن يحكموا. هل يعني هذا أننا نعامل الجميع بالطريقة عينها ولا نحسب حساب كرامة الأشخاص؟ كلا. فهذا ليس فكر يعقوب. فما يريد أن يقوله هو أن يكون سلّم القيم ذلك الذي يقدّمه الإيمان لا منطق البشر.
ج- البرهان: اختار الله المساكين (آ 5)
"اسمعوا". نحن أمام نداء يشدّد على أهميّة التعليم الذي سوف يُعطى. "يا إخوتي الأحباء". أخذ يعقوب لهجة الحبّ والعاطفة ليصبح كلامه مقنعاً.
نجد فعل "اكلاغاين": اختار. الله يختار في خلائقه. كما اختار شعب اسرائيل من بين الشعوب (تث 14: 1، 2؛ أع 13: 17)، هكذا يختار بعض الأفراد. وهذا الاختيار ينبثق من الحبّ. الله يختار الذين هم موضوع رضاه. هذا هو معنى "ب ح ر" الذي يترجم "اكلاغاين" في السبعينيّة. ولا يحاول الكاتب الملهم أن يوفّق بين الاختيار الإلهيّ والحرية البشريّة. انطبع بفكرة سلطان الله المطلق على الكائنات، فظلّ على المستوى الدينيّ وما اهتمّ بأمور علم النفس. إذن، المؤمنون هم موضوع اختيار من قبل الله (أع 13: 48؛ غل 1: 15؛ أف 1: 4؛ 3: 12).
"المساكين بحسب العالم". بحسب رأي العالم فيهم. لا بما في العالم من غنى، بل على المستوى الأخلاقيّ. نجد بنية مقابلة لهذه البنية في أع 7: 20: "مرضياً لدى الله" أي بحسب الله. "أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت". لقد اختار الله المساكين كي يكونوا أغنياء بإيمانهم وورثة الملكوت. هم أغنياء بسبب إيمانهم، لا لأنهم يملكون إيماناً كبيراًَ. فالإيمان هو أعظم كنز يمتلكه الإنسان في هذا العالم.
هناك تعارض بين "بتوخوس" (فقير) و"بلوسيوس" (غنيّ). ويكون ميراث الملكوت امتداداً لغنى الإيمان. كان قد نال شعبُ الله مواعيد من قبل الله واعتبر تحقيقها ميراثاً. إن ميراث الأرض (لا 20: 24؛ تث 4: 1) الذي دلّ في الأصل على تحقيق الوعد المعطى لابراهيم (تك 12: 7)، اتخذ معنى واسعاً وصار عبارة مسيحانيّة تدلّ على مشاركة في كل مواعيد الله (مز 25: 13؛ 37: 9، 11، 22، 29؛ أش 60: 21؛ 65: 9). وتلاميذ المسيح هم شعب الله الجديد والميراث الذي ينتظرونه هو ملكوت السماوات (مت 25: 34) والحياة الأبديّة (مت 19: 29؛ مر 10: 30؛ يو 4: 14؛ روم 6: 22).
استعمل يعقوب هنا عبارة من العهد الجديد "كليرونوموس تيس باسيلاياس" وهي توازي "ورث الملكوت" (مت 25: 34؛ 1 كور 6: 9، 10؛ 15: 50). نحن هنا أمام الملكوت الآتي وإكليل الحياة. وميراث الملكوت الذي يناله الفقراء هو تذكّر من عظة الجبل: "طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات".
والوعد بالملكوت يتوجّه إلى الذين يحبّون الله. فنداء الربّ واختياره لا يلغيان النشاط البشريّ، بل هما يفرضانه. فإذا أردنا أن نمتلك الملكوت، نحتاج إلى استعدادات، إلى أفعال يُجملها يعقوب في فضيلة المحبّة.

2- ملاحظات روحيّة
أ- النظام الجديد
إن الربّ الذي يعترف به المسيحيّون هو القائم من الموت، وقد نال السيادة على العالم، ونعمَ بالمجد الإلهيّ (دوكسا). إذن، لا يحقّ للمسيحيّين أن يطلبوا رباً آخر، أو أن يعميهم لمعان الغنى وظاهره. والبحث عن حظوة لدى البشر لا يليق بالمسيحيّ. فالذي يستسلم للغنى، يهمل ملكرت المسيح الذي يحرّرنا من كل خوف.
ثم إن هذا التنبّه إلى رضى البشر بما فيه من خوف، هو خيانة للأخوّة المسيحيّة. فالمسيح صار "شبيهاً بالبشر في كل شيء" (فل 2: 7). صار فقيراً بين الفقراء، واهتم خصوصاً بصغار القوم ووعدهم بالخلاص (لو 6: 20- 23). صار أخاً للجميع، فجعل من الحبّ الأخويّ شريعة كنيسته. "لكم معلّم واحد وهو المسيح، وكلكم إخوة" (مت 23: 8).
لهذا كان المسيحيون الأولون يسمّون بعضهم بعضاً "إخوة" و"أخوات" (أع 15: 23؛ روم 16: 14؛ 1 كور 9: 5). ولهذا عُرض مثالُ المسيح كقاعدة أساسيّة للخدمة المسيحيّة في الكنيسة: "ما جاء إبن الإنسان ليُخدم بل ليخدم ويبذل حياته فدية عن الكثيرين" (مر 10: 43- 45؛ رج لو 22: 25- 27). ولهذا السبب نُبّه خدّام المسيح مراراً بأن لا يقدّموا نفوسهم على أنهم أسياد القطيع، بل طُلب منهم بأن يجعلوا نفوسهم في خدمة الجميع على مثال المسيح (1 بط 5: 3).
وليس من قبيل الصدف أن تكون لفظة "محاباة الوجوه" قد وُلدت في المسيحيّة لا في العالم اليونانيّ لتدلّ على تصرّف حسن تجاه إنسان آخر، على بحث عن حظوة ورضى لدى الآخر. إن شريعة المحبّة الأخويّة تتيح للكنيسة أن تضمّ في جماعة واحدة العبيد والأسياد، الأغنياء والفقراء، اليهود والوثنيين، المتعلّمين والأميّين: في عيلة المسيح، تأتي أبوّة الله وتجمع في الأخوّة جميع البشر.
إن قوّة المحبّة التي ظهرت في المسيح قد قامت بتحوّل حقيقيّ في القيم، وبالتالي في العلاقات الشخصيّة والاجتماعيّة. وقد رأى يعقوب أن هذا النظام الأساسّي هو على المحكّ في الجماعات المضطهدة وسط الشتات المسيحيّ المتهوّد. وفي تحريض قريب من خطب الحكمة أو النبوءة التوراتيّة، نسمعه يندّد بقوّة بهذه الطريقة من التصرّف ويسند تحريضه بمثل مأخوذ من حياة الجماعة وممارستها.
ب- الواقع المشكّك
إن المثل الذي اختاره يعقوب، وفيه ما فيه من طابع مثاليّ، يقابل واقع الجماعات المسيحيّة المتهوّدة. وإلأ فكيف يستطيع أن يستخدمه لكي يدعو المؤمنين إلى التوبة؟
حين تلتئم الجماعة، وقد يكون ذلك خلال الليتورجيا، يصل شخصان غريبان ليس لهما مكان محدّد في القاعة. هل جاءا بروح فضوليّة أو طلباً لفائدة؟ هذا ما لا يقوله النصّ. ولكن الواحد يُعامل معاملة تختلف عن معاملة الآخر. فذاك الذي يبدو غنياً يعامل بالإكرام والكلام المنمّق على مثال ما يفعل العبد مع سيّده. هو على أحسن ما يُرام في جماعة أولئك الذين يعترفون بالمسيح المصلوب. فلو استطاع أن يكون من المتعاطفين مع الديانة الجديدة، لأثّرت شهرته على الجماعة. أما الفقير فلا يهتمّ أحد به. ليبحث عن موضع يقيم فيه: على الأرض، عند قدمي الناس. ففي جماعتنا كثير من الفقراء مثله. فليكن بينهم. أمّا الموضع الذي يقيم فيه الغنيّ فأمر آخر.
هو موقف نفهمه من الوجهة البشريّة. ولكن من هذه الوجهة، تكون الخيانة للمسيح كبيرة. فالمسيح جاء أيضاً من أجل "المساكين" على المستوى الدينيّ والمستوى الاجتماعيّ: هم أيضاً أبناء الآب السماوي، واخوة واخوات لنا (مت 25: 31- 46). والمسيح يهتمّ بكل إنسان، بمعزل عن وضعه الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ. لقد صار إنساناً لكي يكون أخاً لكل إنسان، حتى لذاك الذي يتجاهله المجتمع أو يحتقره. فكيف يجد نفسه في موقف هذه الجماعات مع ما فيها من تمييز؟
قد لا تكون هذه الجماعات الفقيرة والمضايقة قد قصدت هذا التصرّف الجائر والبعيد عن روح الأخوّة. ولكن مثل هذا التصرّف يجعل يعقوب يحتدّ في كلامه. فكرامة أبناء الله التي نالها لنا المسيح هي أعظم من أن تجعلنا نطلب حظوة الأغنياء والمعتبرين دون أن نستحي خجلاً؟ أي سيّد نريد أن نعبد؟ الله أم المال؟
ج- انقلاب في القيم
قال يعقوب: "أما اختار الله المساكين بحسب العالم كأغنياء في الإيمان ووارثين للملكوت" (آ 5 أ)؟ وقال بولس الرسول: "ما هو ضعيف في العالم قد اختاره الله ليخزي القويّ" (1 كور 1: 27). أجل، لقد قلب الله سلّم القيم في هذا العالم: هذا ما رأيناه في تجسّد يسوع ورسالته العلنيّة. فوعدُه بالخلاص يتوجّه إلى الفقراء وإلى الصغار الذين تواجههم الصعوبات المختلفة. ولقد حكم بقساوة على الأغنياء الذين ظنوا أنهم مباركون من الله، فاعتبروا لذلك أنهم يستغنون عن الله.
قال الربّ: "طوبى لكم أيها الفقراء، لأن ملكوت الله لكم. ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم" (لو 6: 20، 24). واستعاد يعقوب هنا روحانيّة الفقراء هذه، كما وضع الأنبياء أسسها وكمّلها يسوع وعمّقها. فوضعُ الفقير يدعوه إلى موقف من الانفتاح على نعمة الله والجهوزيّة، ولكنه يتضمّن أيضاً ضيقاً تسبّبه الظروف الخارجيّة بأشكال مختلفة. فهذا الضيق هو ما يفتح عينيه على وضع الله وموقعه أمام الله.
وتدل آ 5 ب على أن الوضع الاجتماعي يترافق مع الموقف الروحيّ في مفهوم "الفقير". نحن لا نمتدح طبقة اجتماعيّة فقط بسبب ظروف حياتها الخارجيّة. فالمعيار الحاسم لاختيار الله، هو المحبّة العارفة بالجميل. ومع ذلك فالمسيحيّون الذين اختيروا كورثة، لا يمتلكون هذا الميراث إلا بشرط واحد: أن يتصرّفوا كمسيحيين. أن يمارسوا "الناموس الملكيّ"، ناموس المحبّة، محبّة القريب. فمجانيّة محبّتنا تجاه الذين لا يسئطيعون أن يعطونا شيئاً بدل عطايانا، تدلّ على أننا نحبّ الآخرين حقاً بحسب قلب الله.
د- الاخوّة المسيحيّة
هناك خطيئة تثقل كاهل الكنيسة: أعلنت دوماً تطويبة الفقراء، ولكنها مراراً وقفت بجانب الأغنياء والأقوياء، على حساب الفقراء والجهّال والمهمّشين. كم من الوظائف الرفيعة في الكنيسة ظلّت في يد الأغنياء! كم أحسّ العمّال أن الكنيسة تخونهم. هذا ما يشجبه النصّ الذي نقرأه: لا نمزج الإيمان مع اعتبار خاص بالناس. أكرموا الفقراء واهتموا بهم.
في المجمع المسكوني، سميّت الكنيسة: خادمة وفقيرة. ولقد وعت واجباتها تجاه الذين تصيبهم ظروف الحياة الجائرة في كرامتهم وحقوقهم الإنسانيّة. هي تعرف أنها مسؤولة عن وضع يستطيع فيه أن يعيش كل إنسان حياة لائقة، مهما كان عرقه أو طبقته الاجتماعيّة أو موطنه أو ديانته. الكنيسة هي المحامية عن الفقراء والمظلومين، والمرذولين والمنسيّين. تلك هي نظرة المسيح إليها.
إن الاخوّة بين البشر ليست ممكنة إلاّ إذا أحبّ البشر بعضهم بعضاً. إلا إذا احتاج البشر بعضهم إلى بعض. إلا إذا اهتم البشر بعضهم ببعض. فالاخوّة المسيحيّة التي تريد عالماً يعرف العدالة حباً بالإنسان، تفرض على كل واحد منا أن يكون أخاً لكل إنسان. فإما أن يكون عالم الغد عالم اخوّة، وإلا لن يكون.

خاتمة
وهكذا بدت المحاباة أو اعتبار أشخاص دون آخرين، معارضة للإيمان بالرب يسوع المسيح. فالمؤمن لا يحسب حساباً لمجد إلاّ مجد الربّ أو المجد الآتي من الربّ. فالله في المسيح لا يفضّل أحداً على آخر في ممارسة الدينونة، فلماذا لا نقتدي به؟ قال بولس في روم 2: 11: "الله لا يحابي الوجوه". وفي أف 6: 9: "سيّدكم (أيها السادة) وسيّدهم (العبيد) هو في السماوات، وليس عنده محاباة للوجوه" حتى على مستوى السيّد والعبد. ذاك هو الدرس الأساسّي من النظرة إلى الأغنياء والفقراء.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM