الفصل السادس: الحياة المسيحية الحقة

الفصل السادس
الحياة المسيحية الحقة
1: 22- 27

بدت رسالة يعقوب مجموعة من الأقوال الاخلاقيّة ذات بعد شامل، وقد تكيّفت مع حاجة القرّاء. أو هي مجموعة من الفقاهات أو العظات الحيّة والموجزة، التي قيلت في أولى الجماعات الفلسطينيّة، ثم أوّنت لكي تعلّم المسيحيّين كيف يدلّون بسلوكهم الصالح على الوداعة التي تلهمها حكمةٌ آتية من عند الربّ.

1- نظرة عامة إلى يع
نستطيع أن نكتشف في يع ثمانية دروس. كيف نتعامل مع المحنة ونفيد من حسناتها (1: 2- 12). أصل التجربة (1: 13- 18). واجباتنا تجاه كلمة الحقّ (1: 19- 25). لا محاباة للوجوه (2: 1- 13). العلاقة بين الإيمان والأعمال (2: 14- 26). السيطرة على اللسان (3: 1- 12). الحكمة الحقّة والحكمة الكاذبة (3: 13- 18). التغلّب على الرذائل التي تضرّ بالوفاق بين الإخوة (4: 1- 12). وتنتهي الرسالة بتنبيهات إلى التجّار والأغنياء (4: 13- 5: 6)، وبتوصيات أخيرة (5: 7- 20).
يبدو صاحب يع "أخاً نال كلمة الحكمة" (1 كور 12: 8)، ورجلاً أميناً في ممارسة خدمة "التحريض" والإرشاد (روم 2: 8). هو راعٍ ومعلّم" (1 تم 4: 13) دعاه الله (أف 4: 11 ي) "لينظّم القديسين لأجل عمل الخدمة في سبيل بنيان جسد المسيح". قد نستطيع أن نوجز شخصيّة هذا الكاتب بعبارة نجدها ومت 7: 24. "الانسان الحكيم يبفي بيته على الصخر".
وإذا عدنا إلى يع 3: 13 نفهم أن يعقوب هو معلّم أخلاق. لقد أراد أن يعلّم ويحرّض "الانسان الكامل" (3: 2؛ رج 1: 4) الذي يتجدّد بممارسة الفضيلة، بتحقيق "العمل الصالح" في الحياة اليوميّة (ترد لفظة "ارغون" 15 مرة الرسالة) وفي الظروف الملموسة. وكل هذا رغم الضعف الذي يحسّ به المسيحيّ منذ ولادته، رغم التجارة التي يتحمّلها، رغم فساد العالم الذي يعيش فيه. أجل، لا عذر له. فإذا أراد المؤمن أن يتم "بر" الله هذا في سلوكه (1: 20) وجب عليه أن ينال بالصلاة (1: 4- 5) ويتقبّل هذه الحكمة العمليّة التي تميّز القيم الحقيقيّة والاخلاقيّة وتتوافق مع شريعة الله. أما طابع هذا البرّ فهو الوداعة والسلام والصدق (3: 14- 17). وكل هذا يدلّ على أن "الحكيم" المسيحيّ يتعلّق بمشيئة الله، ويخضع لها، بعد أن ينكر العالم وينكر نفسه، ليزيل كل الحواجز ويحقّق "الناموس الكامل، ناموس الحريّة" (1: 25؛ 2: 12). هذا يعني أنه يُتمّ طوعاً ما تُلهمه عقيدته الإيمانيّة. وهكذا تكون حياته موافقة كل الموافقة لما به يؤمن.
وماذا قبل المقطوعة التي ندرس؟ نداء لتقبّل "كلمة الله" (1: 19- 21). فالمسيحيّون الذين هم باكورة خلائق الله في العهد الجديد، قد خلصوا ووُلدوا للحياة الإلهيّة "بكلمة الحقّ" (1: 18) أي بتعليم الإيمان (ي 6: 5) ووحي الإنجيل الذي يعمل كزرع في أرض طيّبة، شرط أن يكون مغروساً" في نفس مستعدّة. الآن السماوي هو الذي يغرس (مت 15: 13). والرسل قد زرعوا الإيمان باعلان كلمة الله (1 كور 3: 6). غير أن الشيطان يأتي لدى بعض السامعين "فينتزع الكلمة من قلوبهم لئلا يؤمنوا فيخلصوا" (لو 8: 12).
استعداد للسماع. وهكذا تصبح كلمة الله كلمة في حياتنا، نتقبّلها بالفرح حتى تنضج، نطيعها حتى تثمر. فالقبول يدلّ على الإرادة الطيّبة، والسرعة في التنفيذ، على حرارة في الحبّ. ثم يبتعد المؤمن عن كل ما هو غضب، عن كل ما هو عدائيّة ومرارة لكي يتقبّل الكلمة التي غُرست فيه، وهكذا يدلّ على طاعته لسلطة الله بالتواضع والوداعة. هو يستند إلى الله، يسلّم أمره إلى حكمته ومحبّته من أجل توجيه حياته.

2- العمل بكلمة الله (1: 22- 25)
من الواضح أن هذا السماع وتقبّل الكلمة الإلهيّة، اللذين هما موقف روحيّ متواصل يميّز المسيحيّ الحقيقيّ، سيُشرفان على كل عمل ملموس. وهذا العمل هو "تحقيق" الكلمة وتفعيل ديناميتها. في الواقع هناك بعض المرتدّين اليونانيّين وكورنتوس، الذين لم يروا في الإيمان الجديد إلاّ موضوع تنظيرات، إلا "غنوصيّة"، تساعد على صياغات عقليّة تسحر الألباب وتحمل الإثارة للعاطفة الدينيّة. وفي الصورة عينها، بدا قرّاء يع الآتون من العالم اليهوديّ، متأكّدين من خلاصهم لأنهم ينتمون إلى الكنيسة. فصدق إيمانهم يكفل لهم الأمان الذي به ينعمون. ولكنهم لا يهتمّون بأمانة عمليّة في حياتهم، لا يهتمّون بأن يطبّقوا متطلّبات الانجيل على حياتهم الخاصّة. فإلى جميع الذين يقولون ولا يفعلون يقول الرسول: نريد أعمالاً لا كلاماً.
أ- كونوا عاملين لا سامعين فتط
نقرأ في آ 22: صنعُ الكلمة، يعني تنفيذ ما هو مفروض، والتوافق مع ما قيل. هي صيغة معروفة في العالم الساميّ. رج مت 15: 5؛ 3: 8، وهناك صانع العمل، وهذا ما يدلّ على عمل ناجح (تي 2: 7؛ 2 تم 2: 15؛ 4: 15). نحن أمام شخص يقوم بعمله أحسن قيام. ويُذكر أيضاً صانع الشريعة في العهد القديم (يش 22: 5؛ 2 أخ 14: 3؛ سي 19: 20؛ 1 نك 2: 67). هنا نتذكّر يع 4: 11: "لست عاملاً بالناموس، بل أنت ديّان له". وروم 2: 13: "ليس السامعون للناموس هم أبرار عند الله، بل العاملون بالناموس يبرّرون". بما أن هذه الجملة، وإن وُجدت في سياق مختلف، توازي يع 1: 22، نستطيع أن نجد فيها قولاً تقليدياً في الكنيسة الأولى، قولاً للرب لم يكتب (اغرافون) نجد مثله عند اوريجانس حيث نقرأ: "إذن، لندع رحمة الله القدير لكي لا يجعل منا سامعين لكلمته بل صانعين لها". (عظات في تك 2: 6). وفى صلاة هرموبوليس في القرن الرابع: "ليس فقط بالكلام والسماع، بل بالعمل والقوّة".
قال يع في 4: 17: "من عرف أن يعمل الخير ولم يعمله، فقد اقترف خطيئة". اهتمّ الرسل والرعاة منذ بدايات الكنيسة بأن يغذّوا حياة المؤمنين الروحيّة بقراءة الكتب المقدسة وتفسيرها، وكل هذا "مفيد للتدريب على البرّ" (2 تم 3: 15؛ رج 1 تم 4: 13؛ عب 13: 7، 17؛ رؤ 1: 3). لا شكّ في أن بعض المؤمنين أهملوا المجيء إلى هذه الاجتماعات (عب 10: 25). ولكن أفضلهم اعتاد أن يجيء إليها فسمّوا "سامعين للكلمة" وهكذا دلّوا على نضيلتهم. ومع ذلك لا يكفي أن نسمع بشكل منفعل (لا نفعل شيئاً)، ولا حتى أن "نتذوّق حلاوة كلام الله" (عب 6: 5)، بل يجب أن نضعها موضع العمل: المسيحيّون الحقيقيون ليسوا أصحاب نظريات بل رجال عمل.
هذا أمر أساسيّ في أخلاقيّة العهد الجديد. ويعقوب ينقل إلينا هنا تعليم يسوع الصريح. فبعد أن علّم الربّ عن برّ الملكوت السماوي الذي يتلخّص جوهرياً في المحبّة تجاه القريب، انتهى بضرورة العمل بهذه الوصيّة بشكل صادق وملموس. فإن حقّقناها كنّا تلاميذ صادقين: "ليس من يقول لي: يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات... فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، يشبّه برجل حكيم بنى بيته على الصخر... وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يشبّه برجل جاهل بنى بيته على الرمل" (مت 7: 21، 24، 26؛ رج لو 6: 46- 49). هذا الارشاد هو حضّ على العمل. نقرأ مثلاً في لو 8: 21 (رج 11: 28): "أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها". وفي 12: 47: "فالعبد الذي يعرف إرادة سيّده، ولا يستعدّ ولا يعمل بحسب هذه الإرادة يُضرب ضرباً كثيراً". رج يو 9: 41؛ 13: 17؛ 15: 14: "أنتم أحبّائي إن عملتم بما آمركم". حوالي سنة 100، قالت اليعازر بن عزريا: "ذلك الذي يتغلّب العلم عنده على الأعمال، بماذا اشبّهه؟ بشجرة لها أغصان واسعة وجذور صغيرة، فحين تأتي الريح فهي تقتلعها وتطرحها على الأرض (إر 17: 6). ولكن الذي تتغلّب أعماله على علمه، بماذا اشبّهه؟ بشجرة ذات أغصان صغيرة وجذور عديدة، فإن انصبّت الرياح عليها وعلى العالم كله، فهي لا تحرّكها من مكانها" (إر 17: 8) (الآباء3: 17) وحوالي سنة 120 قال أليشاع بن ابويا: "انسان عمل أعمالاً كثيرة، ودرس النوراة كثيراً، بماذا يشبّه؟ برجل جعل لبيته أساساً من الحجارة وبنى فوقها قرميدات طُبخت في الشمس. فإن جاءت المياه الكثيرة وحاصرت البيت من كل جهة فهي لا تزعزع الحجارة الصلبة من أماكنها. والرجل الذي لا يعمل عملاً واحداًَ صالحاً، مع أنه درس التوراة كثيراً بماذا يشبّه؟ برجل جعل في بيته القرميدات أولاً ثم الحجارة، وفيضان صغير يكفي لكي يسقط كل شيء" (أبوت، رابي ناتان 24).
ووصف يسوع السامع الكسلان والمتهامل، بأنه بليد وجاهل (موروس): فالتلميذ الذي لا يتحرّك يشبه بنّاء لا لبّ له ينسى ما هو رئيسيّ ويبني بناء آخرته الدمار السريع. وترجم يعقوب فكر المعلّم بدقّة: فالسامع الذي لا يضع موضع العمل ما يسمع، يكون أمام منطق خاطىء وحسابات خاطئة. فإن كان التعلّق بكلمة الله يشكّل طريق الخلاص الوحيد (1: 21)، فهذا يكون بشرط أن يصل إلى الأمانة الصادقة. والمسيحي الذي يتوقّف عند العقيدة ولا يصل إلى الأخلاق الموافقة لهذه العقيدة، الذي وُلد للحياة الإلهيّة ولم تكن له أخلاق أبناء الله، مثل هذا المسيحيّ يغشّ نفسه حول إيمانه وخلاصه الأبديّ. لا شكّ في أن الكاتب يشير إلى الأعذار والتبريرات الكاذبة التي يقدّمها هذا أو ذاك ليجعل لنفسه "ضميراً مرتاحاً". ولكن هذا السراب الخاطىء يعارض معارضة جذريّة الصدق الذي يميّز أبناء النور. هنا نتذكّر غل 6: 3: "من ظنّ نفسه أنه شيء وهو ليس بشيء، فإنه يغشّ نفسه". و1 يو 1: 8: "إن قلنا إننا بغير خطيئة، فإنّما نضلّ أنفسنا، وليس الحقّ فينا". أجل، ان التلميذ الذي لا ينفّذ الكلمة يشبه ذلك الذي لا يصنع الحقّ (رج يو 3: 21؛ أف 4: 15؛ 1 يو 1: 6؛ 2 يو 4؛ 3 يو 4): إنه يسير في الظلمة، وحياته هي كذب عملّي متواصل. هذا هو الرياء الذي ندّد به يسوع عند الفريسيين (لو 12: 1): "يقولون ولا يعملون" (رج لا 23: 3).
ب- الانسان والمرآة
إن أخلاقيّة يعقوب، شأنها شأن أخلاقيّة بولس ويوحنا، هي أخلاقيّة النور، وفيها تستند الفضيلة إلى المعرفة: فكل واحد ينظّم سلوكه حسب الوحي وحسب ما يعرف من هذا الوحي، والولادة من "أبي الأنوار" (1: 17) تحدّد اسلوب حياة. والطلاق بين المعرفة الدينيّة والممارسة العمليّة هو عبث ومحال كما يقول مثل المرآة: "من يسمع الكلمة ولا يعمل بها، يشبه انساناً ينظر في مرآة وجهه الذي جُبل عليه، وما إن رأى نفسه ومضى حتى نسيَ في الحال كيف كان" (آ 23- 24).
هناك فعل "كاتانواين" الذي يعبرّ عن نظرة عميقة على مستوى البصر أو البصيرة (لو 12: 24، 27). من هنا: "وضع في فكره، تنبّه مطوّلاً" (أع 7: 31؛ روم 4: 19؛ عب 3: 1؛ 10: 24). إذن، المشاهدة في المرآة تفترض نظرة طويلة ومدقّقة. لهذا يجب أن نقول: بعد أن نظر إلى ذاته مطولاً، ومع فعل "نسي" في الماضي، نعرف أن العمل تمّ وانتهى. ذهب دون أن ينظر إلى الوراء. وهكذا يترافق النسيان والذهاب. كان السامع كله انتباهاً وحماساً، ولكن بقي التعليم الذي سمعه على مستوى العقل والعاطفة، فلم يصل إلى العمل.
من نظر إلى نفسه في مرآة توخّى هدفاً محدّداً: أن يكتشف لطخة أو عيباً لا بدّ من إزالته بطريقة صحيحة. قد نستطيع أن نلقي على المرأة نظرة سريعة أو نتوقّف أمامها طويلاً. أما هنا في يع، فنحن أمام الموقف الثاني: لقد تفرّس الرجل بكل سمة في وجهه. أراد أن يرى نفسه كما هو، كي يعالج كل نقص في وجهه، حرفياً: المنظر الذي وُلد فيه. الذي منحته اياه الطبيعة. يشدّد الكاتب على الوجه الطبيعيّ، وسيعود إلى اعتبار أخلاقيّ حين يطبّق المثل.
ولكن ماذا انتظر هذا الرجل حين تفحّص نفسه بكل هذه الدقّة؟ لا شيء. فهو قد أدار ظهـره للمرأة، وما عاد يتذكّر ما رأى، بحيث "نسي كيف كان". قد نكون أمام تشتّت بسيط. أما هنا فنحن أمام جهل وجنون. فهذا الرجل استعمل أداة وأهمل الهدف الذي لأجله جُعلت هذه الاداة. نجد هنا فعل "نسي" "ابيلنتانوماي" (مت 16: 5)، وهو يعني أيضاً: أهمل، ترك (رج لو 12: 6؛ فل 3: 13؛ عب 13: 2، 16) أو: لم يحسب حساب شيء (عب 6: 10).
ونقول الشيء عينه عن المسيحيّ الذي تعلّم الانجيل بحرارة، فسمع تعاليمه وتقبّلها، ولكنه لم يعمل بها. فهو يدلّ على أنه ليس بمنطقيّ، بل هو خاطىء. فكلمة الله تشبه مرأة تكشف له ما كان عليه، تكشف له ضعفه وخطاياه، تكشف له ما يجب أن يتجنّبه ويصلحه. وذكّرته أيضاً ما يجب أن يكون: وجه ولد يعكس قسمات أبيه... كان هذا النور خلاصه، لأنه يفترض من قبله أن يأخذ على محمل الجدّ هذه المعرفة وهذه الرغبة بالتنقية. ولكن من عرف دون أن يُتبع المعرفة بالعمل، يخسر ظرفاً أعطي له بأن يصلح ذاته. هذا يعني أنه بدّد نعمة الله وعطيّة الإيمان والنداء إلى الخلاص. "اليوم إن أنتم سمعتم صوته" (عب 3: 7 ي).
هنا نتذكّر كلام الرواقيّين: "الفحص الأخلاقيّ يشكّل أساس كل تقدّم على مستوى السلوك. حين يعرف الإنسان نفسه معرفة أحسن، يتحسّن سلوكه" (ابيكتات، 2/ 14: 21). ونقرأ في موشّحات سليمان (13: 1): "مرآتنا هي الربّ، افتحوا عيونكم وانظروا فيه، وتعلّموا كيف هي وجوهكم". ونقرأ في أعمال يوحنا 95: "ما إن يترك المرآة حتى لا يعود يتذكّر صورته الخاصّة. إذن، ما كانت هذه المرأة؟ اسمع: المرآة تمثّل روح الله. حين تنظر النفس فيها ترى العار الذي فيها فترذله، وتزيل كل اللطخات بحيث تصبح بلا لوم. وعندما تتنقّى، فهي تقتدي بالروح القدس وتجعله مثالاً لها".
ج- شريعة الحريّة
إذن، ما هو الموقف المسيحيّ الصريح؟ انه ينتج من التوافق بين حريّة كاملة وأمانة تامّة لمشيئة الله. توافق وتناسق مع ما فيه من مفارقة. أما من يدقّق النظر في الناموس الكامل، ناموس الحريّة، ويداوم، لا كمن يسمع فينسى، بل كمن يكبّ على العمل، فهذا يكون سعيداً في عمله (آ 25).
قيل عن الله أنه انحنى من السماء لينظر (مت 26: 15). وعن الملائكة أنهم نظروا إلى سّر التجسّد (1 بط 1: 12)، وعن يوحنا ومريم المجدليّة أنهما انحنيا فوق قبر يسوع كي يتأكّدا أنه فارغ (يو 20: 5، 11). كذا نقول عن تلميذ الربّ الذي يلقي بنظره على الناموس الانجيليّ الذي هو تعبير عن إرادة الله بالنسبة إليه. فالفعل المختار لا يدلّ فقط على تنبّه مراقب المرآة الذي يراقب في الواقع نفسه، بل نحن أمام مجهود موضوعيّ وبحث دقيق، فلا نتوقّف عند الحرف بل نصل إلى معنى التعليم الإلهيّ. عند ذاك نكتشف كمؤمنين أن هذا التعليم توخّى أن يعلّمنا، بل أن يجعلنا نعيشه ونعمل به.
الانجيل في نظر الحكيم (1: 5) هو أولاً وقبل كل شيء، قاعدة سلوكه. لا نستطيع أن نتخيّل قاعدة أكثر كمالاً من هذه القاعدة، لأن المسيح أعلنها، فرسمت الطريق الاكيدة، طريق الخلاص والسعادة، وتجاوبت مع كل الحاجات في كل الظروف. تُصوّر على أنها "شريعة الحريّة" (2: 12)، لأنها تمنح الحرية أو تحترم وجودها في كل أبناء الله إذ توجّههم نحو مثال رفيع من القداسة.
الكمال أمر خاص بالتوراة التي أعلنها الرب (مز 19: 8؛ 119: 1 ي؛ رج روم 7: 12). ولكنها كانت موقتة. وستجد ملئها وتمامها في المسيح (مت 5؛ 17؛ روم 10: 4: كمال الشريعة هو المسيح) الذي أبرز قيمتها الروحيّة الدائمة من خلال التربية الموقتة في فرائض جسديّة. بعد الآن، تعليم يسوع يشكّل القاعدة الاخلاقيّة (غير مكتوبة) للعهد الجديد: "ناموس المسيح" (1 كور 9: 21؛ رج غل 6: 2). وهذا الناموس يتكوّن لا من مجموعة من الوصايا، بل من الطاعة للروح القدس والاقتداء الحيّ بالمخلّص، وتفعيل النعمة الباطنيّة التي تتفتّح في المحبّة. والمحبّة هي التي تُشرف على جميع الفضائل (مت 22: 37- 39؛ رج روم 13: 8- 10؛ 1 كور 13).
ونقرأ في "كتاب القاعدة" (10: 6، 8، 10) عن "شريعة الحريّة". ولكن لا نجد لفظة حريّة في الكتاب المقدّس، بل في المشناة والتلمود. ولفظة "ح ر و ت" تدلّ على الشريعة المكتوبة والمحفورة (خر 32: 16؛ سي 45: 11). وبحسب الفلسفة الرواقيّة الشعبيّة، يدلّ الحكيم على الحريّة حين يمارس الشريعة طوعاً، فيخضع لأوامر الطبيعة، ويقبل بالموضع الذي حدّدته له الآلهة في الكون، مسترشداً بالعقل (إبيكتات 1/ 4: 32؛ 4/ 1: 1؛ 4 مك 14: 2).
إن قاعدة لسلوك المسيحيّة تستلهم كلمة الربّ: "إحملوا نيري عليكم وتعلّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا الراحة لنفوسكم. فنيري طيّب وحملي خفيف" (مت 11: 29- 30، هو لا يجرح الرقبة، ليس بقاسٍٍ للصغار). هذا النير يتعارض مع الثقل الساحق الذي تشكّله الممارسات الفريسيّة، مع إرهاق الفرائض الموسويّة (سي 6: 24 ي؛ 40: 10؛ 51: 26) التي تؤلم العبيد (غل 3: 24- 27). في هذا الروح عينه، رفض بطرس أن "يفرض على التلاميذ نيراً نستطع نحن ولا آباؤنا أن نحمله" (أع 15: 10، النير هنا هو رمز العبوديّة؛ رج 1 تم 6: 1. في غل 5: 1 نقرأ: "لقد حرّرنا المسيح لننعم بهذه الحريّة. فاثبتوا إذن فيها، ولا تعودوا ترتبطون بنير العبودية"، نير الممارسات الموسويّة. ويلاحظ يوحنا أن فرائض المعلّم ليست مرهقة (1 يو 5: 3: "وصاياه ليست بثقيلة")، بل هي تتعارض مع ما في العالم الفريسيّ من فتاوى (مت 23: 4: "أحمال ثقيلة على أكتاف من الناس").
إن نير المسيح يرفض أن يخنق النفس في سلسلة من الممنوعات والأوامر المتعدّدة، بل هو يحترم حريّة المبادرة ويحرّك العفويّة والطوعيّة. في العهد الجديد، لا قيمة لشيء إن لم يأتِ من القلب. وكان النبي إرميا قد تنبَّأ عن الأخلاقيّة المسيحانيّة التي نعيشها في الداخل: "هذا هو العهد (الميثاق) الذي أقطعه مع بيت اسرائيل... أضع شرائعي في ضميرهم وأحفرها في قلوبهم" (إر 31: 31- 34؛ عب 8: 10؛ 2 كور 3: 3 ي).
هنا نعود إلى "المجمع" الذي جعل الفرائض الموسويّة: 613 فريضة. وزاد عليها عدداً كبيراً من الفرائض الرابانيّة التي جاءت أكثر قساوة من الشريعة نفسها. أما الربّ فرفض أن يفرض أثقالاً جديدة على جماعة تياثيرة (أع 2: 24). وسيكون هذا اهتمام بطرس بالنسبة إلى الكنيسة في مجمع أورشليم (أع 15: 28). وممارسة بولس في تسالونيكي وكورنتوس (1 تس 2: 7؛ 2 كور 1: 24). ليس من استبداد في مشيئة الله الذي يحبّ النفوس (حك 11: 26)، الذي يعاملها دوماً باحترام كبير (12: 18)، كما يعامل الأب أبناءه.
ولكن يبدو من الصعب أن نتحدّث عن الحريّة بمناسبة الكلام عن شريعة هي في حدّها أمرٌ وإكراه. ولكن من جهة، يجب أن نفهم لفظة "شريعة" (أو: ناموس) في معنى: "مبدأ منظّم، نظام، تدبير روحيّ" (يو 1: 17: أعطيت الشريعة بموسى. وجاءت النعمة والحق بالمسيح". ومن جهة ثانية إن التجديد الذي حمله العهد الجديد على مستوى الحياة الاخلاقيّة، هو أنه منح كل مسيحيّ الروح القدس الذي ينيره وينعشه من الداخل. "وحيث يكون روح الربّ فهناك الحريّة" (2 كور 3: 16). وبدلاً من أن نطيع غصباً عنا كالعبد المجبر على الطاعة أو الذي يخاف سيّده، فنحن كأبناء الله نملك في ذاتنا معرفة الخير ومحبّته. وننطلق طوعاً إلى ما يطلبه منّا الآب السماويّ. وقد قال بولس في 1 تم 1: 9: "لم توضع الشريعة للبارّ". وإن كانت بعض الفرائض الإيجابيّة ضروريّة لتحديد مجمل الحياة المشتركة، فهي تتوخّى قبل كل شيء "إنماء المحبّة" (1 تم 1: 5).
نتذكّر في هذا المجال ما قاله بولس عن الحريّة، حريّة أبناء الله، فقابل بين "أبناء الحرة" و"أبناء الأمة" (أو: العبدة) أو أهل العهد القديم (غل 4: 22 ي). فحدّد من جهة عمل المسيح الذي توخّى أن يحرّرنا من عبوديّة الشريعة الموسويّة (روم 7: 3 ي؛ غل 3: 13؛ 4: 1)، من تسلّط الخطيئة (6: 16، 18)، من الخوف من الموت (عب 2: 15). ومن جهة ثانية، تحدّث عن عطيّة الروح الذي هو ينبوع الحياة الإلهيّة في كل مؤمن فقال: "إن ناموس الروح الذي يهب الحياة في المسيح يسوع، قد حرّرك من ناموس الخطيئة والموت" (روم 8: 2).
هكذا نفهم أن يندّد يعقوب بقوّة ببطلان إيمان لا يفعل (2: 14- 26)، ويتحدّث في الوقت عينه عن استقلاليّة المؤمنين وطواعيّتهم في خضوعهم الدقيق لكلمة الله. بدا يعقوب راعياً مختبراً فقسم المسيحيّين فئتين: السامع الذي ينسى (حرفياً: سامع النسيان. كما في لو 16: 8: قاضي الظلم. وفي 18: 6: قاضي الاثم). و"صانع العمل" (أي الانتقال من القول إلى العمل). كلاهما يعرف الانجيل معرفة تامة. ولكن الأول ينظر بعقله ويذهب دون أن يصل هذا الكلام إلى حياته. أما الثاني فيدخل في الانجيل ويقيم فيه، بحيث يوجّه هذا النور أقلّ أعماله. إنه ينعم بالتطويبة المحفوظة للمؤمنين (أش 56: 2؛ مز 1: 1- 3؛ سي 50: 28) التي أعلنها المعلّم فقال: "طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها" (لو 11: 28؛ رج يو 13: 17).
إن هذه التطويبة التي تسند القول، تدلّ على أن هذا القول هو تحديد للمسيحيّة في كمالها. فمن يعمل يستطيع أن يحسب نفسه تلميذ يسوع المسيح. لا شكّ في أنه يجد سعادته في ما يعمل كالعامل الصالح. ولكن نتيجة هذه الأمانة هي خلاص النفس (يع 1: 21). فالمؤمن الذي يصبر على البلوى "ينال إكليل الحياة الذي وعد به الله محبّيه" (1: 12).

3- ما تطلبه كلمة الله (1: 26- 27)
إذا كان جميع المسيحيين الجديرين بهذا الاسم (2: 7) قد فهموا متطلّبات عطاء الذات، والتحقيق العملّي الذي يفرضه الانجيل، فهناك عدد كبير منهم يجهلون تراتبيّة القيم التي يتضمّنها تدبير النعمة، فيجعلون الثانويّ محل الجوهريّ. هناك من يكثر من بعض الاعمال، وينسى ممارسة الفضائل التي ترتبط بالقريب ومساعدته. ندّد يعقوب بهذا الضلال (آ 26: يغرّ قلبه)، وذكّر "صانع العمل" بشكل سلبيّ وإيجابيّ أن لا عبادة صحيحة نكرّم بها الله، إن كنّا لا نسود على ميولنا، ولا سيّما في ما يتعلّق باللسان. فالحياة المسيحيّة كلها محبّة للاخوة ونقاوة كبيرة في النوايا.
أ- التديّن وخطايا اللسان
إن آ 26- 27 تفسّران آ 22، فتبدوان تحديداً للأمانة التامة لكلمة الله كما أمرنا بها في آ 23- 25، تحديداً لديانة يسوع المسيح كما نعيشها بشكل ملموس. هذه الديانة تسمى "تراسكايا"، التديّن. هي تعني الحفاظ على الطقوس والممارسات الدينيّة (الوجهة الخارجيّة من الدين). وقد استعملت لتنير "صانع العمل" على ما يحقّقه لكي يعبرّ عملياً عن إيمانه. ولكننا لسنا أمام ليتورجية احتفالات فقط، بل أمام أعمال فضيلة تكرّم الربّ حقاً وتقابل العبادة بالروح والحقّ كما في يو 4: 23- 24. وفي اللغة المسيحيّة، المتديّن الحقيقي هو ذلك الذي يتممّ بدقّة إرادة أبيه الذي في السماء. الذي يحرّكه احترام عميق تجاهه (روم 12: 1)، الذي يتصرّف بحب وطواعيّة الطفل الذي يلتصق "بشريعة الحريّة".
مثل هذا الموقف الروحيّ يجهل كل مساومة وانقسام (مت 6: 24)، ويقدّم لله أقلّ أفعاله وأقواله في كل دقيقة من دقائق حياته، يقدّم له أفكاره وقلبه (مت 22: 37). فإذا كان المسيحيّ يعتبر أنه يمارس ديانته ممارممة دقيقة حين يتهرّب من وصايا الله، ويهمل هذه الفضيلة أو تلك، ويسمح لنفسه بانحراف في السلوك، ولا يهتمّ لتجاوزات اللسان، مثل هذا المسيحيّ يضلّ نفسه ضلالاً قاتلاً مهما كان سلوكه الباقي بلا عيب. تقول آ 26: "يضلّ قلبه"، وجدانه وضميره (رج مر 6: 52؛ أع 14: 17. مثل هذا الضلال هو ثمرة الكلام الباطل كما في أف 5: 6؛ روم 16: 18).
والضلال يقوم بأن نحسب خطيئة اللسان بأنها خطيئة خفيفة، خطيئة لا تضرّ أحداً. يستعمل الكاتب فعل "اباتاين" (غوى، خدع) الذي يدلّ على جوهر الخطيئة وعلى الشهوة التي لا نسود عليها. نحن أمام "خدعة" (2 تس 2: 10؛ أف 4: 22؛ عب 3: 13) تشبه تلك التي بسببها سقط أبوانا الأولون (1 تم 2: 14). مثل هذا الاغواء يجعل جميع أعمال الفضائل وكأنها لم تكن. قالت يع 2: 10: "من حفظ الناموس كله وزلّ في وصيّة واحدة، صار مجرماً في الكلّ". إذن، الحياة الدينيّة لدى هذا المسيحيّ المزعوم قد أفرغت من محتواها الحقيقيّ، فقادت إلى لا شيء. نقرأ في آ 26: "ديانته باطلة". "ماتايوس". تستعمل اللفظة في الحديث عن عبادة الأوثان (إر 2: 5؛ 8: 9؛ 10: 3؛ أع 14: 5. فكأنه يعبد الأوثان، فماذا ينتفع منها؟). وتعني لا جدوى المجهودات التي نقوم بها لكي نرضي الله ونحترمه، حين لا تتوافق حياتنا مع مشيئته (مت 15: 8؛ رج ملا 3: 14؛ 1 بط 1: 18). وهكذا نخسر تعبنا ووقتنا. هذا ما يصل إليه "صانع العمل" الذي ينسى روح يسوع المسيح.
ماذا يعني الكاتب حين يتحدّث عن انحراف اللسان؟ نحن هنا أمام جدالات قاسية ولاذعة (آ 19- 20)، افتراء ونميمة، واندفاع إلى أن نتكلّم في كل جهة فلا نحسب حساب الآخرين. نحن أمام كلام فارغ لا تفكير فيه فنحاسَب عليه في يوم الدينونة (مت 12: 36؛ رج روم 14: 22: كل ما لا يصدر عن اعتقاد إيمانيّ فهو خطيئة). قد ندهث حين نرى الحكم القاسي على اللااعتدال في اللسان. ولكن اللسان يتكلّم من فيض القلب (مت 12: 34). والرجل الذي يستطيع أن يلجم لسانه يستطيع أن يلجم جسده كله (يو 3: 2 ي). ثم إن "تربية الفم" هي من الدروس التقليديّة في الاخلاقيّة اليهوديّة (سي 23: 7- 15؛ 28: 13- 26) التي ستنتقل إلى العالم المسيحيّ (أف 5: 4؛ 1 بط 3: 10).
ب- التديّن والمحبّة
إذن، ما هو التديّن الحاتيقيّ، التديّن المقدس الذي لا عيب فيه، والذي يرضى عنه الآب السماوي؟ نجد تحديداً عنه في آ 27: إن حياة المسيحيّ تبدو كليتورجيا تقام في الهيكل أمام الله. ويذكّرنا يعقوب بطقوس هذه الليتورجيا التي نلخّصها في فريضة واحدة في العهد الجديد هي فريضة المحبّة بأقوى تعابيرها: الرحمة.
قبل أن نعود إلى آ 27، نتوقّف عند بعض الملاحظات اللغويّة. نجد أولاً لفظة "تديّن" بدون آل التعريف: "تديّن زكي وبلا عيب". هناك صفتان: "كاتارا" (نقيّة، طاهرة). "اميانتوس" (بلا عيب). رج 1 بط 1: 4؛ عب 7: 26؛ 13: 4. كلمتان مترادفتان تقريباً. نستطيع القول: الطهر الطاهر. نحن هنا أمام كمال أخلاقيّ لا عيب فيه (مي 6: 8). فكل نجاسة أو شرّ (آ 21) يلغيان فيمة العمل العبادي الذي يتوخّى إكرام الله. في هذا المجال، الخطيئة هي أكثر من إساءة إلى "عدالة الله" (آ 20)، إنها تدنيس له.
وذكر أبوّة الله كموضوع عبادة، يعود إلى يوحنا 4: 21- 23 (رج أف 5: 20). كما يعود إلى أبي الأنوار الذي ولد عبّاداً له (يع 1: 17- 18)، وإلى النموذج الإلهي في العهد القديم: "أبو الأيتام وحامي الأرامل هو الله في مسكنه المقدس" (مز 86: 6). فعلى المسيحيّين الذين هم أبناء الله، أن يكون قلبُهم كقلب أبيهم فيقتدوا به في عنايته ومحبّته. وهكذا يجد التلميذ مثال "الكمال" في عظة الجبل (مت 5: 43- 48).
وهناك عبارة "في نظر الله، أمام الله" (آ 27). فهي تدلّ مراراً على دينونة الله الذي يجلس على كرسيّ قضائه وتقف أمامه الشعوب والأمم (2 تس 1: 6؛ روم 2: 13؛ غل 3: 11). وهكذا نكون أمام عبادة وأخلاقيات يقيّمها الله بحسب نظرته الخاصة (1 كور 3: 19؛ 1 بط 2: 4، 20). ولكن تدلّ العبارة أيضاً على القرب من الله والحياة الحميمة معه (1 كور 7: 24؛ أف 1: 4). في هذا المعنى ربطتنا الحياة الأخلاقيّة المُحبّة بالله وساعدتنا على إدراكه.
"افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقهم" (آ 27). نحن هنا أمام فئة يذكرها التقليد (تث 27: 19؛ مز 68: 6؛ 146: 9؛ أي 31: 17؛ سي 4: 10؛ 35: 11- 18)، هي ترمز إلى جميع المساكين في المجتمع. منذ الأرملة الفقيرة التي أعطت كل ما تملك (مر 12: 42- 44) حتى طابيته (دركاس) التي كانت غنية بالأعمال الصالحة والصدفات (أع 9: 36- 39). فالأرامل في العهد الجديد هن في الكنيسة "المتخصّصات" في الأعمال الحسنة (1 تم 5: 10). وهكذا نفهم آ 27 عن الحزانى والصغار والضعاناء والوضعاء (رؤ 18: 7)، عن كل شخص ليس له من يدافع عنه فيظلمه الناس بسهولة.
هؤلاء نزورهم (ابسكابتستاي، أع 15: 36. افتقد، ساعد، خدم، سي 7: 35)، كما زار الله شعبه ليخلّصه (لو 1: 78). وكما زار الابن الوحيد البشر فأقام وحيد ارملة نايّين (لو 7: 16). نحن هنا أمام تلميح إلى مثل الدينونة الأخيرة حيث ينال مباركو الآب الملكوت ميراثاً، لأنهم حين زاروا المرضى، خدموا المسيح في أصغر إخوته (مت 25: 36، 40). وهكذا أتمّوا في فعلة واحدة "الشريعة والانبياء" (مت 22: 40). أتمّوا "الناموس الملكيّ" (يع 2: 8).
يشدّد النصّ على العلاقة الخارجية كما على العاطفة تجاه الآخرين. فهناك المحن أو الضيقات التي يتخبّط فيها الفقراء. أمام مثل هذا الألم تتحرّك أحشاء تلاميذ المخلّص، فيحملون العزاء كما يحملون المساعدات التي يرضى الله عنها وكأنها فعل عبادة نرفعه إليه. وهذه العاطفة هي ليتورجيا تتفوّق بجمالها على جميع الذبائح التي لا عيب فيها (مر 12: 33؛ رج "ليتورجيّة الإيمان"، فل 2: 17، 30). فهي تعبرّ عن "أغابي" هي محبّة وعبادة في الوقت عينه، هي رحمة وإحسان نحو الاخوة داخل عيلة الله (1 بط 1: 22- 23).
ج- التديّن والنقاوة
إذا كانت المحبّة تدفع المسيحيّ لكي يضحّي ويساعد القريب، فهي بالتالي تدفعه إلى أن يتجنّد للخدمة في العالم. ولكن العالم فاسد ومفسد (في سلطة المثرير، 1 يو 5: 19). وليس من ديانة جديرة بهذا الاسم إلاّ وتفرض على اعضائها نقاوة تامّة: "اطلبوا القداسة التي بدونها لا يستطيع أحد أن يرى الربّ" (عب 12: 14). لهذا، بعد أن شدّد يعقوب على جوهر الأخلاقيّة الجديدة التي هي المحبّة الأخويّة، ذكر المتطلّبة الثانية: "ديانة طاهرة وبلا عيب". ثم: "صيانة النفس من دنس العالم" (آ 27). وصيّة تعود مراراً في العهد الجديد لأن الخطر يتهدّدنا دائماً، ولأن المحافظة على النقاوة أمر حيويّ لمعمّدين قد سمّوا "قديسين". هنا نقرأ 1 تس 5: 22: "احترسوا من كل شبه شرّ"؛ 1 تم 5: 22: "احفظ نفسك نقياً"؛ 2 بط 1: 4: "حتى تصيروا بها شركاء في الطبيعة الإلهيّة، إذا ما تخلّصتم من الفساد الذي في العالم بالشهوة"؛ 2: 20: "بعد أن نجوا من نجاسات العالم بمعرفة ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح" (رج 1 كور 7: 31؛ تي 2: 12).
الديانة هي اقتراب من الأقداس وانفصال جذريّ عن الدنيويّ والدنس. لهذا، فالتعارض مطلق بين الله والعالم كما بين الحبّ والبغض. كان قد شدّد الربّ على عدم التوافق هذا (مت 6: 24: لا يستطيع أن يضي سيّدين). وقال يع 4: 4: "أما تعلمون أن الصداقة للعالم عداوة لله. فمن أراد أن يكون صديق العالم يصبح عدواً لله". وقال يوحنا في رسالته الأولى: "لا تحبّوا العالم ولا ما في العالم، فإن أحبّ أحد العالم لم تكن محبّة الآب فيه" (2: 15). نحن هنا أمام تعلّق بالعالم ورضى به. "حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم" (لو 12: 34).
كل هذه النصوص تبيّن أن المحبّة هي كل شيء في المسيحيّة. وتفهمنا أن القداسة ليست فضيلة تُزاد على سائر الفضائل. بل صفة تجعل حبّنا لله وللقريب على مستوى النبل والطهارة. فالديانة الطاهرة والتي لا عيب فيها هي محبّة عباديّة، هي حبّ وتديّن، هي سجود لا عيب فيه ولا دنس.

خاتمة
كل شيء في الحياة المسيحيّة يجد أصله في الإيمان، يرتبط بالقلب. ويُثمر في أعماله المحبّة. فتلميذ يسوع المسيح يتعلّق بكلمة الله كما أعلنها المسيح ورسله (عب 2: 3- 4)، يهضمها ويتذوّقها (6: 4- 5) بحيث تُغرس فيه فتنمو لتصل إلى الحصاد. وكل هذا يتمّ، شرط أن يكرّس المؤمن قلبه لله بشكل واعٍ وحاسم يحرّره من عبوديّات الخطيئة والعالم. هو لا يكتفي بأن يكتشف مشيئة الله فيه، بل يسعى إلى تحقيقها في طواعيّة محُبّة يجد فيها سعادته. ولا يكون في وفاق مع الله حين يكثر الفرائض والمحرّمات، بل حين يحبّ قريبه حبّه لنفسه، والقلب الصادق يعرف كيف يحبّ. دعانا يعقوب إلى أن نتجنّب خطايا اللسان، كما دعانا إلى المحبّة الأخويّة التي تتجسّد في أعمال الرحمة. هكذا تكون ديانتنا طاهرة زكيّة لا عيب فيها، هكذا يضيء نورنا أمام النالس فيمجّدون بسببنا الله في السماء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM