الفصل الرابع: المحنة والتجربة

الفصل الرابع
المحنة والتجربة
1: 9- 16

بعد أن قدّم يعقوب نفسه وذكر قرّاءه، بدأ توسعاً حول المحن التي فيها يتخبّط المؤمنون في الشتات. في فصل سابق توقّفنا عند فوائد المحنة (1: 2- 8) وانتهينا في الكلام على الصلاة. وها نحن في هذا الفصل نتطرّق إلى المحنة والتجربة (1: 9- 16).
قال يعقوب إن الانسان الذي يتردّد، يتصرّف كذلك في إيمانه وفي حياته. فنفسه مقسومة، تتجاذبها عواطف متعارضة، وتحرّكها الأحداث كما تحرّك الريح أمواج البحر. أما الصلاة الواثقة فتنال من الله الحكمة الحقيقيّة التي تتيح لنا أن نفهم معنى المحنة ونجد فيها باعثاً على الرجاء. وبعد هذا التحريض، انتقل الكاتب إلى تطبيق عمليّ: ليفرح المتواضع بضعته لأن الربّ سيرفعه. وسيجد الغنيّ في ضعفه ما يدفعه إلى تمجيد الربّ. وتنتهي كل هذه المقطوعة في مقابلة بين المحنة والتجربة. وفي كلام عن الطريق التي نسير فيها حين تحرّكنا أهواؤنا.
نتوقّف في هذه المقطوعة عند ثلاثة أقسام: الفقير والغني (آ 9- 11). سعادة الغالب (آ 12). أصل الخطيئة (آ 13- 16). في القسم الأول يتعلّم الانسان كيف يتعامل مع الوضع الذي هو فيه، سواء كان فقيراً أم غنياً. في القسم الثاني نتعرّف إلى سعادة الذي عرف أن يصبر على المحنة، بل تغلّب عليها. وفي القسم الثالث ندرس العلاقة بين التجربة والخطيئة.

1- الغني والفقير (1: 9- 11)
كان الكاتب قد دعا جميع الإخوة الذين يتعرّضون للمحن، أن يعيشوا في الفرح، وعلّمهم كيف يَصلون إلى هذا الفرح. وها هو يطبّق مقاله بثمكل خاص. يطبّقه على الفقراء الذين يعرفون محنة الفقر، وعلى الأغنياء الذين ينسون أنهم كالعشب الذي ييبس.
أ- ليفتخر الانسان (آ 9- 10 آ)
تأتي الدعوة إلى الافتخار بصيغة الأمر على ما في الحالات السابقة. وهي تتوجّه أولاً إلى الأخ الذي هو فقير، وضيع (تاباينوس). فاللفظة اليونانيّة تدلّ على ما هو وضيع، دون الوسط، حقير. ولكنها تدلّ في التوراة على ذلك الذي يتّضع بإرادته، الذي لا يبحث عن الرفعة. وبالتالي يجعل ثقته في الله. سنجد هذا المعنى الأخير فيما بعد حين يورد يعقوب أم 3: 34 فيقابل بين الوضعاء والمتكبرّين (4: 6؛ رج لو 1: 51- 52)، وحين يطلب من الخطأة أن يتّضعوا أمام الله (4: 10). أما هنا فهو يشير إلى الفقير في المعنى الاجتماعي تجاه الغني (بلوسيوس) الذي سيذبل كالعشب في مشاريعه. وفي مكان آخر سيدلّ يعقوب على الفقير بلفظة "بلوخوس" (2: 2- 5) مع الاشارة إلى الفاقة الماديّة.
كانت طبقة الفقراء الاجتماعية جدّ منتشرة في العالم العبرانيّ كما في العالم اليونانيّ والرومانيّ. وكانت تشكّل القسم الأكبر في الكنائس الفتيّة (2: 5 ي؛ 5: 4؛ 1 كور 1: 26- 31؛ 2 كور 8- 9؛ غل 2: 10). وما كانت لترضى بوضعها الحقير بعد الحماس الأول (2: 1- 25؛ 4: 1- 3؛ 5: 7- 11 أع: 4: 32 ي)، لأنها انتظرت تجدّداً تاماً لمجيء المسيح. وحين طلب منها يعقوب أن تفتخر برفعتها (هبسوس، رج أي 5: 11 حسب السبعينية)، فهو لم يتنبأ بانقلاب قريب لوضعها الماديّ، شبيه بذلك الذي نعمَ به أيوب أو طوبيا، والذي حلم به شعب اسرائيل قبل مجيء المسيح.
إن الرفعة التي يتحدّث عنها الكاتب هنا هي حاضرة. هي امتلاك الإيمان المسيحي، ورجاء السعادة الاساتولوجيّة. نقرأ في 2: 5: "أما اختار الله المساكين في هذا العالم كأغنياء في الإيمان وورثة للملكوت الذي وعد به محبّيه"؟ وهكذا نكون مع يعقوب أمام رفعة روحيّة تبرّر افتخار الذين يعيشون محنة الفقر. ونكون في فقاهة انجيلية تروحنَ فيها موضوع رفعة الفقراء كما تحدّث عنه العهد القديم (مت 5: 3؛ لو 1: 52- 53؛ 14: 11؛ 1 بط 1: 3- 5).
ويتوجّه يعقوب في آ 10 إلى الأغنياء ليدعوهم أيضاً ليفتخروا. إنه لا يتوجّه إلى جميع الأغنياء. بدون تمييز، كما قد يدلّ عليه غياب لفظة "أخ". إنه يتوجّه فقط إلى الأغنياء الذين صاروا مسيحيّين. فالفقير أخ والغنيّ أخ. هذا ما تفرضه البنية الغراماطيقيّة للجملة. وهذا ما نكتشفه في توازٍ كامل: الوضيع برفعته، والغني بوضاعته. بالإضافة إلى ذلك، نعرف أنه وُجد أغنياء ميسورون في الجماعات الأولى (مت 27: 57؛ لو 8: 3؛ يو 12: 3؛ 19: 39؛ أع 9: 36). وعنهم تتحدّث يع 2: 2- 3؛ 4: 13؛ 5: 1- 6 كما يقول بعض الشّراح.
دُعي المسيحيّون الميسورون إلى أن يفتخروا، شأنهم شأن الآخرين. أن يفتخروا لا برفعتهم بل بوضاعتهم. ما هي طبيعة هذه الوضاعة التي يجب أن تكون فخر الغنيّ المسيحي؟ نعود إلى لفظة "تاباينوس" ببعدها الاجتماعيّ أو الماديّ. ثم إلى الشّرح في آ 10 ب- 11. فعلى الغنيّ أن يفتخر بعبوريّة غناه: ينظر دوماً إلى إفلاس محتمل، إلى امكانيّة العودة إلى الفقر والوضاعة. وهذه الوضاعة التي تجعله على مستوى الفقير تفتحه على ذات الرجاء (5: 2؛ رج مت 6: 19- 20). لسنا أمام فقر حدث فجأة بعد المحن المذكورة في آ 2، لأن الأفعال هنا هي في صيغة المضارع. ولسنا أمام موت الغنيّ، لأن الموت يتربّص بالغنيّ كما بالفقير. ولسنا أمام حكم على الغنيّ في يوم الدينونة (5: 1- 6). لأن النصّ مستقلّ فلا يستبق ما سوف يقال في 5: 1- 6.
إن الاخوة الميسورين الذين وعوا سرعة عطب خيراتهم، يستطيعون أن يفتخروا لأن رجاءهم لا يخيب. وستكمّل الفقاهة الانجيليّة هذا الكلام فتدعو الغنيّ إلى الاتكال على الله وحده (مت 6: 25- 34؛ لو 12: 13- 31). وإذا قابلنا وضاعة الغني مع رفعة الفقير، نفهم أن موضوع الافتخار يتضمّن اتجاهاً روحياً أكيداً.
هنا نتذكّر بعض نصوص الكتاب حول الافتخار. نقرأ إر 9: 22- 23: "لا يفتخر الحكيم بحكمته، ولا الجبّار بجبروته، ولا الغنيّ بغناه، بل من يفنخر فليفتخر بمعرفتي ويفهم أني أنا الربّ مصدر الرحمة والحكم والعدل في الأرض. بمثل هؤلاء أرضى، يقول الربّ". وقال سي 10: 21: "مخافة الربّ فخر للغنيّ وْالرفيع والفقير على السواء". هذا المبدأ يطلب من الانسان الذي يريد أن يفتخر حقاً، أن يميل عن نفسه ويتّجه نحو الربّ. وقد قال بولس الرسول: "من يفتخر فليفتخر بالربّ" (1 كور 1: 31). فالمسيح الربّ قد أبطل بتواضعه كل افتخار بالذات لدى اليهود كما لدى الوثنيين، لئلا يفتخر أمامه بشر (1 كور 1: 25- 31). وهكذا لا يستطيع المسيحيّ أن يفتخر إلا بالمحبّة التي أظهرها له يسوع وبالعمل الخلاصّي الذي جعله غنياً في نظر الله (فل 3: 3).
كان الفقير محتقراً، فليفتخر بالأحرى لأنه مسيحيّ. وليتعلّم الغنيّ الميسور التواضع. فعظمته الحقيقيّة تكمن في أنه مسيحيّ. فليترك كل كبرياء واكتفاء ذاتي، وليفتخر فقط بالله. وليعرف أن الغنى خطر يُعمي نظر المؤمن، لأنه ينبوع سراب، لأنه يضمحلّ بسرعة.
ب- يزول كزهر الحقل (آ 10 ب- 11)
ويعود يعقوب إلى أش 40: 6- 8، فيأخذ منه صورة يطبّقها على الغنيّ الذي وُضع. كل عظمة الغنى وسحره إلى الدمار، شأنه شأن كل ما ينتمي إلى هذا العالم. فالزهور في أرض فلسطين التي تعرف ربيعاً سريعاً وصيفاً طويلاً، تزول بسرعة مذهلة بعد انتهاء زمن المطر. هكذا يزول الغني، أو بالأحرى هكذا يزول غناه كزهر العشب.
طبّق النبيّ هذه الصورة على حياة كل إنسان. أما يعقوب فطبّقها فقط على الغنيّ وعلى غناه. ثم إن 1 بط 1: 24 التي تورد نص أشعيا بشكل موسّع (كل جسد كالعشب، وكل روائه كزهر العشب. العشب يبس والزهر سقط، أما كلمة الربّ فتثبت إلى الأبد)، تستعمل هذه الصور لتشدّد على قصر حياة الانسان تجاه دوام كلمة الله. وهكذا ندرك كيف تصرّفت الفقاهة الأولى بحريّة حين قرأت ئصوص العهد القديم.
واعتبر يعقوب أن التشبيه الذي قدّمه كان قصيراً، فتوسّع فيه لكي يشرحه ويطبّقه بشكل دقيق. توسّع فيه مستلهماً أش 40: 7. إن زوال الزهرة يعني يباسها وسقوطها وفقدان جمالها بفضل الشمس والحرّ، بفضل الشمس والهواء الحارّ. نقرأ لفظة "كاوسون" التي تعني الحرّ، كما تعني الهواء الحارّ الذي يأتي من جنوب شرقي فلسطين فيحمل اليبس إلى النبات. كما نقرأ "اوبرابيا" (رواء الوجه) التي لا ترد إلا في يع.
وكما فعل في آ 10 ب، ها هو يفعل في آ 11 ب، فيطبّق الصورة على الغنيّ مع أداة "كذلك". كذلك يذبل الغني، يذوي في مساعيه. تطبيق واضح: فوضاعة الغني التي يتحدّث عنها الكاتب هي امكانيّةّ خسارة أمواله. ولن يكون الدرس ذاك الذي سنكتشفه في 4: 13 الذي يتحدّث عن موت الغنيّ.
كان موضوع بطلان الغنى متواتراً في العهد القديم (حك 5: 8- 9؛ أي 24: 24). فهو يعزّي الأبرار المحرومين من خيرات هذا العالم. غير أن هذه النصوص كانت تغذّي الأمل بانقلاب الوضع من أجل الأبرار الذين سيمنحهم الله الغنى فجأة (سى 11: 19- 20)، كما حصل لأيوب ولطوبيا. لم يشجب يعقوب هذا التعليم، ولكنه تجاوزه حين اكتشف في بطلان خيرات الأرض، موضوع فخر وفرح، فكان بذلك في خطّ التقليد الانجيل (مت 6: 19- 21؛ 19: 21).

2- سعادة الغالب (1: 12)
مع هذه الآية يستعيد يعقوب الموضوع الأول (آ 2- 4)، ويُجمل ما قاله بشكل تطويبة: طوبى للرجل الذي يصبر على المحنة. فالمحن والصعوبات تواجهه بسبب إيمانه، وهو يتحمّلها، وسيُعطى له أجر كبير: ملء الحياة مع الله. فمن لم يقاوم، لا ينال اكليل الحياة الأبديّة.
تتحدّث آ 12 عن موضوع المحنة (بايرسموس). وهو موضوع تطرّقت إليه آ 2- 4، وستعود إليه آ 13- 15. ويُطرح سؤال حول علاقة هذه الآية مع الآيات الأخرى. هنا تختلف الآراء.
يرى عدد من الشرّاح أن العلاقة وثيقة بين آ 12 والآيات السابقة. بدأ التحريض في آ 2- 4، وانتهىفي آ 12. وهكذا نكون أمام تضمين، بدأ مع آ 2- 4 والحديث عن الفرح في المحنة، وانتهى هنا بهذه التطويبة مع كلمات تتكرّر في القطعتين. ورأى آخرون أن آ 12 مستقلّة عن الآيات السابقة. فكيف نضمّ آ 5- 8 ثم آ 9- 11 إلى النصّ الاجمالي في آ 2- 12. ثم إن طريقة استغلال موضوع المحنة في آ 12، تختلف بشكل واضح عمّا نلاحظ في آ 2- 4. ففكرة الثبات (هيبوموني) تسبق فكرة المحنة ولا تتبعها. والمنفعة التي تبرّر السعادة أو الفرح، هي على مستوى اسكاتولوجيّ لا على مستوى أخلاقيّ.
وما علاقة آ 12 مع ما يلي؟ هناك تقابل بين "بايرسموس" (محنة) و"بايرازين" (امتحن). غير أن المعنى المعطى لهاتين اللفظتين يبقى مختلفاً. في آ 12، تدل المحنة (كما في آ 2- 4) على كل ضيق (أو شدّة وألم) يأتي من علّة خارجية متقلّبة. أما في آ 13- 14، فهي تدل على تجربة بالسوء تأتي من علّة داخليّة. وهكذا نستنتج أن آ 12 هي قطعة مستقلّة.
هل نستطيع أن نرى في آ 12 نشيداً أو جزءاً من نشيد (رج 5: 10) ربطه الكاتب بالنصّ بشكل مصطنع؟ ربما. وقد يعود هذا النشيد إلى ليتورجيا عماديّة نجد آثارها في 1 بط وروم. هي مواضيع وعبارات مشابهة بين يع 1: 12 و1 بط 1: 6- 9 وروم 5: 3- 5. في النصوص الثلاثة، نجد التوالي المنطقيّ الواحد: الفرح، المحن (أو: الضيق)، الثبات (أو الأمانة)، مقاومة المحنة (= مختبر)، المجد الاسكاتولوجيّ كجزاء للفضيلة المختبرة، وكل هذا هو نتيجة حبّنا لله. فرضيّة معقولة، ولكننا نلاحظ أن فكرة الثبات في 1 بط وروم تتبع فكرة المحنة ولا تسبقها (كما هو الأمر في يع). كما لا نجد فيهما العبارات التالية: "طوبى للرجل الذي. إكليل الحياة. الذي وعد به الربّ". اذن، لا نستطيع أن نتحدّث عن ارتباط مباشر، بل عن ينبوع مشترك غرف منه بطرس وبولس ويعقوب. هذا الينبوع هو جزء من الفقاهة الأولى التي نجد آثارها في 1 بط 4: 13- 14؛ عب 10: 34- 36؛ 12: 1- 2؛ مت 5: 11- 12؛ 2 كور 4: 17؛ 8: 2؛ 1 تس 1: 6؛ 2 تس 1: 4- 6.
أما العناصر التي تؤلّف آ 12 فهي واضحة جداً. دعوة إلى الفرح، ونداء يتوجّه إلى مسيحيّين تحمّلوا المحنة. والباعث هو الجزاء السماويّ. نجد هذه البنية في النصوص التي أوردناها أعلاه. "مكاريوس" (طوبى للرجل الذي) يقابل "أش ري" العبريّة. نجده في المزامير (1: 1؛ 32: 2؛ 34: 9) وفي الأسفار الحكميّة (أي 5: 17؛ سي 14: 1؛ رج دا 12: 12). إن الترجمة العاديّة للعبارة العبريّة هي "طوبى للرجل الذي" (مز 92: 12 حسب السبعينية: طوبى للرجل الذي تؤدّبه). من منافع هذه الترجمة أنها تفهمنا بشكل أفضل أن النداء إلى الفرح يتوجّه إلى جميع البشر سواء كانوا رجالاً أم نساء. لهذا أحلّت بعض المخطوطات كالاسكندراني مثلاً، لفظة "انتروبوس" (انسان) محل "أنير" (رجل). ولكن سائر نصوص العهد الجديد تقدّم بشكل موجز هذا النداء إلى الفرح (مت 5: 3 ي؛ 1 بط 4: 14). أما روم 4: 8 التي تورد مز 32: 1- 2 (طوبى للذين غفرت خطاياهم وسترت، طوبى للرجل الذي لا يحسب الربّ عليه خطيئة) فتورد العبارة الطويلة. هذا يعني أن الكاتب ظلّ مرتبطاً باسلوب العهد القديم. أما المعنى الدقيق للتطويبة، فهو تحريض اخلاقيّ ودينيّ على ما في الفنّ الحكميّ. فيعقوب يريد كما في آ 2- 4، أن يفرح المسيحي الممتحن حتى في قلب المحنة التي يتحمّلها.
والشرط الذي يحقّقه الانسان ليكون سعيداً، ليس في أن يجد نفسه في المحنة، بل أن يتحمّلها بصبر، فيبقى أميناً للحبّ الواجب لله. والمحنة المتحملة تشكّل شهادة على الأمانة. نجد هنا صورة عن البوتقة التي تدلّ على نقاوة المعدن الثمين (سي 2: 1- 5؛ أم 27: 21؛ 1 بط 1: 7). وهكذا نرى أن المفردات "محنة، صبر، مختبر" (دوكيموس) احتفظت بذات المعنى الأساسيّ الذي وجدناه في آ 2- 4. وحدها لفظة "دوكيميون" صارت هنا "دوكيموس" وتحوّلت إلى صفة بعد أن كانت موصوفاً. غر أن ترتيبها تبدّل، وارتبطت بالمحبّة لا بالإيمان. هذه الملاحظة الأخيرة هي مهمّة، لأنها تدلّ على أن الإيمان في آ 2- 4 هو الإيمان الفاعل كما رسائل القديس بولس.
وما دفع هذا النداء إلى السعادة ليس اثنين كما في آ 2- 4، بل دافعٌ واحد. لسنا أولاً أمام الارتياح الذي تمنحه الأمانة المختبرة، لأن عبارة "صار مختبراً" تدلّ على الشرط المطلوب. بل نحن أمام يقين يقول لنا بأننا سننال في يوم من الأيام إكليل الحياة لقاء الأمانة المختبرة. ونحن نجد برهاناً مماثلاً في 1 كور 9: 24- 27. لا ينال بولس الإكليل الذي لا يفسد إلاّ إن لم يوضع خارج السباق (أ- دوكيموس)، إن وجد غير مختبر. وفي 1 بط 1: 7، لا تصبح الأمانة المختبرة موضوع مديح إلاّ في تجلّي يسوع وساعة يُعطى الخلاص (آ 8).
إلى ماذا يرمز في يع إكليل الحياة الذي ينتظر المؤمنين الذين ظلّوا أمناء في محنهم؟ هو يرمز إلى أمور عديدة في العالم اليهوديّ كما في العالم الوثنيّ. كان الإكليل علامة الفرح في الولائم والأعياد (حز 18: 12؛ أش 61: 10؛ نش 3: 11). ولقد قال الكفّار في حك 2: 7- 8: "تعالوا نرتوي من الخمور الفاخرة، وبالطيوب نتعطّر... نتكلّل بالورد قبل ذبوله". ولقد كان الإكليل شعار اكرام للملوك (إر 13: 18؛ حز 21: 31؛ مز 21: 4)، وللموظفين الكبار (أس 8: 15؛ رؤ 4: 10)، وللكهنة (خر 19: 6؛ 39: 30؛ سي 45: 14). كانوا يضعونه على الرؤوس في هيكل أورشليم، في اليوم الثامن من عيد المظال وخلال الطواف حول المذبح (كتاب اليوبيلات 16: 30). وكان الإكليل رمز الجزاء والنصر الذي يناله الأبطال (أس 8: 15) والمقاتلون (1 كور 9: 24- 25؛ 2 تم 2: 5) والأبرار الذين ماتوا (حك 5: 15- 16).
أما يعقوب فاحتفظ بهذا الرمز الأخير، رمز الجزاء الأبدي الذي يُعطى للصدّيقين. تكلّم مثل سفر الحكمة حيث نقرأ: "أما الأتفباء فيحيون إلى الأبد وجزاؤهم هو في الربّ... لهذا ينالون من يد الربّ إكليل مجد ملوكياً وتاج الجمال" (5: 15- 16). واستفاد سفر الرؤيا ممّا في يع ليدلّ على الجزاء السماويّ الذي يناله الشهداء المسيحيّون: "عن أميناً حتى الموت وأنا أعطيك إكليل الحياة" (2: 10). ولجأ بطرس وبولس إلى كلام مشابه ليتحدّثا عن الواقع عينه. فبولس متأكّد بعد موته أنه سينال من الربّ إكليل المجد المعدّ له (2 تم 4: 8). وبطرس أكّد للرعاة الصالحين في الكنيسة، أنهم سينالون إكليل المجد من يد يسوع رئيسهم حين يتجلّى (1 بط 5: 4). وقد صار هذا الرمز دارجاً في القرن الثاني على ما في راعي هرماس واستشهاد بولكيربوس. ولكن لم يبرهن الشّراح على أن الديانات السّرانيّة رأت إكليل الحياة الذي يناله المتدرّج رمزاً حقيقياً إلى الحياة الأبديّة.
إذا عدنا إلى نهاية آ 12، نعرف أن الربّ أي الآب، أو يسوع المسيح (1: 1) هو الذي وعد بإكليل الحياة لمحبيّه. هناك بعض المخطوطات (السينائي، الفاتيكاني، الاسكندراني) التي لا تحمل لفظة "الربّ" فتقول: "الذي وعد به محبّيه". قد تكون اللفظة زيدت فيما بعد. ونحن نعرف أن اليهود كانوا يتحاشون ذكر اسم الله احتراماً (مت 6: 9؛ 7: 2، 7، 11؛ مر 14: 62). ولما استعاد يعقوب عبارته في شكل آخر، تحدّث عن الملكوت الذي وعد به الله محبّيه (2: 5؛ رج تث 7: 9).
كان الربّ الإله في حك 5: 15- 16 قد وعد الأبرار بإكليل الحياة. بإكليل المجد الملوكيّ. ويسوع بدوره أكّد لتلاميذه المضطهدين أنهم سينالون الجزاء السماويّ (مت 5: 12) بشكل ملكوت (مت 5: 10) أو حياة أبديّة (مت 16: 24؛ 18: 8 ي؛ 19: 29). والذين ينعمون بالوعد هم محبّو الله. وحسب التوراة، تقوم محبّة الله بأن نخضع له، بأن نكون أمناء له. "أنا الربّ إلهك أصنع رحمة للذين يحبونني ويحفظون وصاياي" (خر 2: 5- 6= تث 7: 9؛ رج رؤ 2: 10). "اثبتوا في محبّتي، إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبّتي" (يو 15: 9- 10). استفاد يعقوب من اللغة البيبليّة، فبيّن أن الاحتمال الدائم للمحن يستلهم حبّ الله بشكل عمليّ. وهكذا التقى مع بولس (1 كور 2: 9؛ روم 8: 28؛ 2 تم 4: 8) ويوحنا (يو 15: 9- 10؛ رؤ 2: 10) في هذه النقطة دون أن يشدّد على التعليم كما فعلا.

3- أصل الخطيئة (1: 13- 16)
ونصل إلى أصل الخطيئة التي نسقط فيها حين تهاجمنا التجربة. لقد أراد يعقوب أن يحذّر المؤمن الذي يعذر نفسه حين يخطأ، وأن يدلّه على كمال أخلاقيّ من أجل إكليل الحياة. فأجاب على تفكير خاطىء حول أصل التجربة. قال: الله لا يجرّب. بل هي رغبتنا الشريرة تجتذبنا إلى الخطيئة. وفي النهاية يُثبت لنا يعقوب أن الله هو صاحب كل خير. ولكننا في هذه النهاية قد تجاوزنا المقطوعة التي ندرس.
أ- لا تأتي التجربة من الله (آ 13)
كان بين قرّاء الرسالة أشخاص لم يستطيعوا أن يتجاوزوا محنهم. لم يجدوا فرحاً في نضوج دينيّ كبير (1: 2- 4، 9- 11)، ولا كفالة بحياة مجيدة (آ 12)، بل مناسبة سقوط في الخطيئة. وجدوا الموت الروحي (آ 13- 16). وكانوا يعذرون نفوسهم ملقين تبعة عملهم على الله الذي هو العلّة الأولى للتجارب والمحن (1 كور 10: 13). لم يكن ضلالهـم جديداً، بعد أن حاربته الأسفار الإلهيّة. كان ابن سيراخ قد طلب من تلاميذه ألأ ينسبوا إلى الله الذي صنع الحريّة، الاستعمال الرديء للحريّة. فالانسان هو المسؤول (15: 11- 20). "لا تقل من الربّ خطيئتي، فالربّ لا يعمل ما يبغضه. ولا تقل هو الذي أضلّني، لأن الربّ يبغض كل رذيلة". وكان أم 19: 3 قد قال الكلام عينه: "حماقة الانسان تفسد طريقه، وهو في قلبه يحنق على الربّ".
تجاه قرّاء يرون هذا الرأي، دافع يعقوب عن قداسة الله، وجعل مسؤولية الخطيئة على الضعف البشري، وختم كلامه بتحذير قال فيه: "لا تغلطوا، يا إخوتي الأحبّاء" (آ 16).
دافع يعقوب عن قداسة الله بشكل سلبي، على ما في ابن سيراخ (15: 11). "لا يقل أحد إذا ما جُرّب؛ إنما الله جرّبني" (آ 13 أ). لا يتحدّث يعقوب كما في الماضي عن محن قد تحمل الخير، لأنه يعرف وخط التوراة أن الله قد امتحن دوماً بهذا الشكل أفضل عباده لكي ينقّي أمانتهم ويجعلها ساطعة، فيصبحوا مرضيّين لديه. عرف أن الله امتحن ابراهيم والأنبياء وأيوب، لأنه سيذكرهم فيما بعد.
وإذا عدنا إلى السياق المباشر نفهم أن فعل "بايرازاين" يعني امتحن، وجرّب أكثر ممّا يستطيع الانسان، أو دفعه لكي يسقط في الضلال والشّر والخطيئة والموت الروحيّ. ولكن هناك سببين يمنعان الكاتب من أن يجعل الله مسؤولاً عن التجربة. الأول: الله لا يحرّض على الشّر، والثاني: الله لا يجرّب أحداً بهذا الشكل.
ب- الخطيئة والضعف البشري (آ 14- 15).
قال يعقوب: ان التجربة تأتي من الاهواء. وهكذا صوّر مسيرة التجربة. بعد أن قدّم برهاناً ميتافيزيقياً، عاد فقدّم برهاناً سيكولوجياً، أخذ صورة الصيد ثم صورة الولادة وقد تكون صورة البغي هي الرابط بين هاتين الصورتين.
إذ قال الكاتب إن مسؤوليّة الخطيئة تقع على الضعف البشري، لم يهتمّ إلاّ بالسبب المباشر للشّر. هو لا يتكلّم عن الأسباب غير المباشرة مثل تأثير الشيطان الذي سيشير إليه فيما بعد (4: 7)، ولا عن غياب الصلاة وبالتالي حرماننا من النعمة خلال التجربة (مت 6: 13؛ مر 14: 38). وسوف ننتظر نهاية الرسالة لكي نسمع توصية بالصلاة للذين يتألّمون (5: 13 ي).
قال يعقوب: "كل واحد تجرّبه شهوته الخاصة التي تجتذبه وتستغويه". نجد هنا "اكستوس" (كل واحد) تجاه "مادايس" (لا أحد) في آ 13. فكل مسيحيّ (بدون شواذ) يجرّب، يجرّب بشهوته الباطنيّة. إن لفظة "ايتيميا" تعني الرغبة، الشهوة. وقد تكون صالحة أو رديئة. فهناك رغبة الأبرار (مز 38: 10؛ أم 11: 23)، ورغبة يسوع (لو 22: 15: شهوة اشتهيت)، ورغبة بولس (روم 15: 23؛ فل 1: 23؛ 2 كور 5: 2)، ورغبة المسيحيّين (1 كور 7: 7، 11)، بل رغبة الخليقة (روم 8: 19). وهناك أيضاً شهوات رديئة (خر 20: 17؛ 1 كور 10: 6؛ كو 3: 6)، والرغبة في عمل الشّر (سي 8: 11؛ أم 21: 10). وهناك أخيراً رغبة الأشرار والكسالى والجهّال (مز 112: 10؛ أم 21: 25؛ 1 تم 6: 9).
لا يحتفظ يعقوب إلا بالمعنى الثاني، معنى الرغبة الشريرة والميل إلى الشرّ الذي يقود إلى الخطيئة كما تقول آ 15. وهكذا كان كلامه صدى الفقاهة المسيحيّة في عصره التي تحذّر المعمّدين الجدد من رغباتهم السابقة، البشرية واللحميّة (1 بط 1: 4؛ 2: 11؛ 4: 2؛ كو 3: 5؛ أف 4: 22)، من فساد العالم، من الكفر الذي تولّده الأهواء النجسة (2 بط 1: 4؛ 2: 10- 18؛ 3: 3؛ يهو 16، 18؛ 1 يو 2؛ 16؛ 1 تم 6: 9؛ 2 تم 2: 22).
لا يعود يعقوب في هذا المجال إلى أصول الشّر في البشريّة كما فعل بولس في روم 7: 8، فرأى في الشهوة نتيجة الخطيئة المشخّصة، وينبوع الخطايا الفرديّة (روم 7: 17- 23). وسمّاها شريعة الأعضاء التي تعارض شريعة العقل (روم 7: 23)، وإن أراد الكاتب أن يصوّر كيف تقود "اببتيميا" إلى الخطيئة، شخّص هذا الكيان الأخلاقيّ على مثال الأسفار الحكميّة التي شخصت الحكمة أو الجهالة (أم 8- 9؛ سي 24: حك 8). فالرغبة الشريرة في كل إنسان تشبه تصرّف البغيّ التي تجتذب الانسان وتستغويه (أم 6: 24- 25؛ 7: 6- 27) كما يفعل الصياد بطريدته.
وتصوّر نتائج هذه الشهوة بشكل ولادة. فالشهوة الرديئة تحبل ثم تلد الخطيئة (تك 21: 2؛ 38: 3). وتشخص الخطيئة نفسها (تك 4: 7؛ روم 7: 7- 8) حين تأتي ساعتها فتلد الموت (151). نجد هنا "ابوثالاين" (جاءت ساعتها) ثم "ابوكراين" (ولد) النادرين في الكتاب المقدس.
وهكذا تصوّر علّة التجربة (أي الشهوة الرديئة التي نقبلها) ونتائجها باستعارات معبرّة. العلّة هي في الإنسان لا في الله. والنتائج هي الخطيئة (هامرتيا) والموت (ثاناتوس) الروحيّ. وهذه النتائج تتعارض بشكل علميّ مع نتائج المحنة التي نتجاوزها بنجاح: الكمال الخلقيّ (1: 2- 4)، والحياة الأبديّة (1: 12). وكانت الأسفار الحكميّة قد قالت إن الخطيئة تقود إلى الموت، إلى الهلاك (أم 19: 5- 9؛ حك 1: 11؛ 2: 24- 25؛ 5: 7، 13- 14). أما الفضيلة فتقود إلى الحياة الأبديّة (حك 5: 15 ي). أما خلفيّة كل هذا التفكير فنجدها في سفر التكوين والخطيئة الأولى (رج حك 2: 24). كانت روم قد عادت إلى تك، فشخّصت الخطيئة، وقالت إن الخطيئة استفادت من الوصيّة لتمنح الموت (7: 10 ي). ثم قابلت بين القداسة ونتيجتها التي هي الحياة الأبديّة، والخطيئة ونتيجتها التي هي الموت (6: 22- 23). وأكّد سفر الرؤيا أن المنتصر على المحنة والتجربة، أن ذاك الذي ظلّ أميناً حتى الموت، ينال إكليل الحياة ولا يخاف الموت الثاني (2: 10- 11؛ 20: 6- 14).
وفي ختام تصوير النتائج السيّئة للشهوة، يحرّض يعقوب قرّاءه: لا تضلّوا، لا تغلطوا. ويدعوهم إلى الانتصار عليها بدل أن يتراخوا في الكسل ويلقون تبعة الخطيئة على الله.

خاتمة
بعد أن صوّر يعقوب في آ 9- 10 الظروف الاجتماعيّة المتفاوتة داخل الجماعات المسيحيّة، أعلن أن "إنزال" الغنيّ عن عرشه يعود إلى ارتداده إلى الإيمان الجديد وخسرانه الاعتبار الذي كان له في محيطه السابق. فدخوله في الجماعة يدعوه إلى التخلّي عن بعض خيراته لكي يستطيع أن يتبع يسوع. إن كان المتواضع يفتخر بالميراث الذي وُعد به، فالغنيّ لا يستطيع بعد اليوم أن يضع ثقته في خيرات عابرة. فليجد هو أيضاً افتخاره بالاسم المسيحيّ.
وفي قطعة ثانية حدّثنا الكاتب عن التجربة فقال: الله لا يجرّب. فالشّر غريب عنه. وهو لا يدفعنا إلى الشّر. فما يجتذب الانسان إلى الشّر هو الرغبة الرديئة، هو الميل إلى الشّر. أجل، الانسان الخاطىء مقسوم بين قوتين خفيّتين: الله والعالم (4: 4). الله والشرير (4: 7). فلا يبقى على الانسان إلاّ أن يقاوم، وإلأ حبلت الشهوة بالشّر وولدت الخطيئة. أما إذا تغلّبنا على المحنة، كان لنا الكمالُ والحياة الأبدية. فماذا نختار بعد ذلك؟ الموت الذي تحمله الخطيئة أم الحياة؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM