الفصل الثالث: فوائد المحن

الفصل الثالث
فوائد المحن
1: 1- 8

بعد العنوان، تتوزّع رسالة يعقوب على ثمانية توجيهات وتنبيه أخير وتوصيات ختاميّة. ونحن نستطيع أن نجمل آياتها في بضعة مواضيع: الفرح في قلب المحن. الصلاة الواثقة التي هي ينبوع حكمة. تقدير الفقر والغنى تقديراً يدلّ على نظرتنا المسيحيّة. تعليم حول السيطرة على اللسان، حول حبّ العالم والارتداد إلى الله. ضرورة الصلاة وأهميّتها. التجربة والخطيئة. صلاح الله الديانة الحقّة.
أما نحن فنقف في الموضوع الأول الذي يتحدّث عن المحن التي تصيب المسيحي، وما يكون موقفه منها. هنا نحتاج إلى الحكمة والإيمان اللذين يعطينا الله إياهما مجّاناً. ونوزّع هذه القطعة في ثلاثة أقسام: العنوان (1: 1). المحنة مناسبة فرح (1: 2- 4). ونحن لا نقدر أن نفهمها إلاّ إذا أوتينا الحكمة (1: 5- 8).

1- العنوان (1: 1)
إن العبارة الأولى في يع تتبع عادات ذلك الزمان. فتدلّ على الكاتب وعلى القرّاء. من يتكلّم؟ يعقوب. من هو يعقوب هذا؟ هو "أخ الربّ" الذي خلف بطرس في قيادة كنيسة أورشليم والذي قُطع رأسه سنة 62. ما نعرفه عنه نجده في سفر الأعمال (12: 17؛ 15: 13- 21؛ 21: 8) وفي رسائل بولس الرسول (غل 1: 19؛ 2: 9- 12؛ 1 كور 15: 7)، وفي كتب فلافيوس يوسيفوس الذي روى استشهاده في القديميّات اليهوديّة. وقد يكون أيضاً يعقوب بن حلفى الذي ذكره مر 3: 17؛ أع 1: 13. وقد يكون يعقوب بن زبدى الذي يذكره مر 3: 17؛ 10: 35- 41، والذي قُطع رأسه سنة 44 (أع 12: 2). أي من الثلاثة هو كاتب الرسالة؟ يتحدّث مجمل الشرّاح عن يعقوب، أخي الربّ. ولكن لا شيء يؤكّد أنه كاتب الرسالة، كما قلنا في المقدّمة.
وسمّى "يعقوب" نفسه: "عبد الله والرب يسوع المسيح". هناك مخطوطات جرّارة تقول: "عبد الله الآب". وقالت الشعبيّة اللاتينيّة والسريانيّة البسيطة والقبطيّة البحيريّة: "ربنا يسوع المسيح" (زادت ضمير المتكلّم الجمع).
إن لقب عبد وخادم لا يعني فقط أن الكاتب يرتبط كل الارتباط بالله، بل أنه أيضاً بكلّيته في خدمته. وهكذا يعبّر عن فرحه لأن الله امتلكه واختاره وسلّمه مهمّة. تلك هي عطيّة النعمة وشرف عظيم أن يكون الواحد عبد الله وخادمه. هكذا سمّى العهد القديم أكبر الشخصيّات فيه. ابراهيم، موسى، يشوع، داود، اسحق، الأنبياء. فالله لا يفعل بشكل مباشر، بل بواسطة من اختارهم. والذين يعترفون بيسوع مسيحاً ورباً، هم عبيد الله ويسوع المسيح.
تتضمّن هذه التسمية خدمة ورسالة، اختياراً وسلطاناً خاصاً. وبولس أيضاً قد سمّى نفسه عبد يسوع المسيح (روم 1: 1؛ فل 1: 1؛ تي 1: 1؛ 2 كور 4: 5). وتحدّث أيضاً عن سلطته الرسوليّة. أما كاتب الرسالة إلى يعقوب فيسمّي نفسه فقط "عبد الله"، شأنه شأن كاتب رسالة يهوذا. غير أن هذه التسمية المتواضعة تعلن للقارىء أن ذاك الذي يكتب، هو يكتب فقط باسم الله وبالنظر إلى ملء السلطان الذي منحه إياه الله والربّ يسوع. هذا يعني أن الله نفسه يتكلّم.
"إلى الأسباط الاثني عشر الذين في الشتات". يتوجّه الكاتب إلى المسيحيّين بعبارة استُعملت للحديث عن الأسباط الاثني عشر المشتّتين وسط الوثنيّين. فبعد دمار السامرة سنة 721 ق. م.، ودمار أورشليم سنة 587 ق. م.، صار القسم الأكبر من الشعب اليهودي عائشاً في الشتات. زالت الروابط بين القبائل وحتى داخل القبيلة الواحدة، ولكن هذا التشتّت جعل اسم الله ينتشر وسط الوثنيّين. وقد أعلن الأنبياء أن الربّ سيجمع في نهاية الأزمنة شعبه ويردّ الضالين إليه. استعمل يعقوب هذه العبارة وتفرّد في استعمالها. فكأني به يقول: الآن بدأ التجمّع العظيم للضالين عن مسيح الله. والكنيسة هي الآن إسرائيل الحقيقيّ. فالأسباط الاثنا عشر في الشتات هو الآن المسيحيّون الذين يجمعهم اسم الربّ يسوع ويهتمّ بهم أولئك الذين كلّفهم الربّ بواسطة ابنه. أما العدد اثنى عشر فهو عدد رمزي ينطلق من الأسباط والرسل ليدلّ على ملء شعب الله الجديد سواء جاؤوا من العالم اليهودي أم من العالم الوثني.

2- المحنة مناسبة فرح (1: 2- 4)
ويبدأ يعقوب بدون انتقالة أولاً سلسلة من الارشادات التي تتحدّث عن المحنة. ثم يأتي إرشاد آخر حول الحكمة. ما يريده الكاتب هو توعية قرّائه أمام السراب الذي يتربّص حمم: فاليقين المسيحي لا يكفي لكي نكون مسيحيّين حقيقيّين وننال الخلاص. فالإيمان الحقيقيّ يُمتحن في الحياة اليوميّة ويكون فاعلاً من أجل الخلاص.
اختلف يعقوب عن كتّاب الرسائل في أيامه، فلم يُتبع التحيّة بصلاة، بل انطلق حالاً يحدّثنا، بل يدعونا إلى الفرح في المحن. قال: "يا اخوتي". سترد هذه التسمية مراراً في الرسالة وسيُزاد عليها كلمة "الأحباء" (أغابيتوي) (1: 16، 19؛ 2: 5). ونجد أيضاً "أيها الاخوة" (بدون ضمير المتكلّم) في 4: 11؛ 5: 7، 9، 10. قد ورث الكاتب هذه التسمية من عالم المجمع الذي جعل المؤمن في كل إسرائيلي أخاً له (خر 2: 11؛ قض 10: 23؛ 1 صم 30: 23؛ (أخ 28: 2؛ 2 مك 1: 1؛ رج أع 1: 16؛ 2: 29؛ 3: 17). غير أن تعليم يسوع الذي يرتبط به الكاتب في كل الرسالة، قد فتحه على أخوّة أوسع (مر 3: 35؛ مت 23: 8؛ لو 6: 27 ي؛ 10: 29 ي؛ غل 3: 28؛ 1 كور 12: 13) مؤسّسة على مشاركة في ذات الحياة الإلهيّة (يو 14: 23؛ 15: 1 ي؛ 17: 11) لا على الانتماء إلى الوطن الواحد أو القبيلة الواحدة. وهكذا يتّخذ نداؤه معنى روحياً عميقاً يخرجنا من ضيق العالم اليهوديّ في أيّامه.
يعقوب هو الرئيس والقائد. هو معلّم في الكنيسة (3: 1)، ومكلَّف بخدمة الكلمة. لهذا، نراه "يأمر" قرّاءه ولا يوصّيهم فقط. يطلب منهم أولاً أن يجدوا ينبوع فرح تام في مختلف المحن التي تنقضّ عليهم. وتدلّ صيغة الفعل على أن هذه المحن تحصل الآن وستحصل فيما بعد. نجد الفعل في العهد الجديد (هيجيوماي) الذي يعني حسبَ، احتسب، اعتبر (فل 2: 6، 25؛ 3: 7- 8؛ 2 كور 9: 5؛ 2 بط 1: 13؛ 2: 13). ولفظة "بايرسموس" المستعملة لتدلّ على مناسبات الفرح التام، تلتقي مع فعل "بايرازو" الذي يعني امتحن (حك 2: 17؛ 2 كور 13: 5) تميّز، حاول، جرّب (سي 37: 27؛ رؤ 2: 2)، امتحن شخصاً لاكتشاف صفاته الحسنة أو الرديئة. لهذا صارت "بايرسموس" تدل على محنة تُبرز صفات الشخص. فدلّت على المحنة- التجربة التي تسعى إلى تنقية الانسان: محنة ابراهم (تك 22: 1) ويوسف والعبرانيين (خر 16: 4؛ تث 8: 2، 16؛ قض 2: 22؛ 3: 4)، وأيوب (أي 1: 2) وطوبيا.
أما في العهد الجديد، فتتخذ اللفظة معنى آخر: محنة قد تقود إلى الضلال والشرّ والخطيئة (مر 8: 11؛ مت 4: 3؛ 19: 3؛ 22: 18، 35؛ 1 كور 7: 5؛ 1 تس 3: 5؛ يع 1: 13- 14؛ رؤ 2: 10). الله هو المسؤول بشكل غير مباشر عن جميع المحن التي تصبح تجارب، لأنه العلّة الأولى للخلق، ولأن لا شيء يحصل بدرن سماحه. ولكن الله ليس بمسؤول حين تصل المحنة إلى الشّر والخطيئة، لأن ليس من تجربة تتعدّى قدرة الانسان. فالربّ يجعل مع التجربة مخرجاً، وهكذا نستطيع أن نتحمّلها (1 كور 10: 13). وفي الصلاة الربيّة يوصي يسوع أخاءه بأن يصلّوا كل يوم لكي ينالوا من الله قوّة تمنع المحنة من أن تتحوّل إلى شّر وخطيئة (مت 6: 13). وأوصاهم بالصلاة بإلحاح حين تكون التجربة قريبة (مر 14: 38؛ لو 22: 32). وسيكون للتجربة معنى سيّىء في 1: 13- 15 حين يقول يعقوب إن الله ليس في أصل التجربة التي تقود إلى الخطيئة.
أما في المقطع الذي ندرس فلفظة "بايرسموس" تحمل معنى الاختبار الذي يدلّ على النضوج الأخلاقيّ والدينيّ لدى قرّائه. لهذا يفرح المؤمن بالمحن. وسيذكر الكاتب بعضها: الفقر (1: 9)، الاحتقار (2: 3)، النميمة (3؛ 2 ي)، الحسد 3: 14؛ 4: 2)، السرقة (5: 4)، المرض (5: 13- 14). فحين تأتي هذه المحن، على المسيحيّين أن يكتشفوا فيها مناسبة فرح تام وبلا تحفّظ.
كل ضيق يحرّك في ذاته الحزن و"القرف". فكيف يطلب منا يعقوب أن نفرح؟ لقد كان اليهود يعتبرون الضيق عقاباً من الله. وإن رأوا فيه محنة يرسلها الربّ ليختبر أمانتهم وحبّهم (تك 22: 1- 17؛ أي 1: 6 ي؛ 2: 1- 10؛ أم 3: 10- 11)، فهم يطلبون من الربّ أن ينجّيهم من هذه المحنة، ويفرحون حين ينجون منها (مز 22؛ 28: 38). أما نصوص قمران فتتحدّث لا عن فرح في الألم بل عن فرد بعد الألم.
أما المسيحيّون المتهوّدون الذين توجّهت إليهم الرسالة، فقد وجدوا سبباً آخر بأن لا يفرحوا في الضيق: يسوع قد تمجّد (2: 1). معه جاءت الأيام الأخيرة التي تصل بنا إلى العهد المسيحاني. والانبياء أعلنوا أن الأبرار سيعرفون السعادة في النهاية. فلماذا هذا الضيق الذي ما زال يثقل على صدرهم؟ وهذا السؤال الذي طرحه قرّاء يعقوب، قد طرحه قرّاء آخرون، فحدّثهم مت 5: 11- 12 عن الفرح في قلب المحن (رج روم 5: 3- 4؛ 1 بط 1: 6- 7، 19- 20؛ 4: 13؛ عب 10: 34؛ 12: 2). استعمل يعقوب عبارات العهد الجديد التي نكتشفها في الفقاهات العماديّة والاحتفالات الافخارستيّة، فدلّ على تجذّره في التقليد المسيحيّ. فيبقى على المسيحيّين أن يميّزوا الأزمنة الأخيرة، زمن الكنيسة والمجيء النهائي للملكوت الممتظر. لهذا وجب عليهم أن ينتظروا بالصبر والفرح في المحن وهم متطلّعون إلى السعادة الأبديّة.
وبرّر يعقوب دعوته إلى الفرح بعرض الحسنات التي تنتج من هذه المحن (آ 3- 4). وطبيعة هذه الحسنات تبيّن أن الافرح الذي يوصي به هو روحيّ. كما هو اسكاتولوجي على ما تقول الرسالة فيما بعد (1: 12؛ 5: 7 ي). رج 1 بط 1: 6- 9؛ روم 5: 3- 11. هذا ما يعرفه القرّاء. إنهم امام اختبار (دوكيميون) يدلّ على إيمانهم بالله وعلى ثباتهم في محبّته. هنا نتذكّر روم 5: 3: "الضيق يولّد الصبر". رج ملا 3: 3؛ أم 27: 21؛ سي 2: 1 ي.
أما الإيمان الذي يتحدّث عنه النصّ هنا، فهو الايمان المسيحي الذي هو مبدأ الانتماء إلى المسيح في الحياة العمليّة. وهو إيمان تنقّى بالمحن فأنتج الصبر. وهذا التأكيد يبيّن إذا جمعناه مع ما سيقوله يعقوب في الرسالة، أن الايمان يكون ناشطاً (1 تس 1: 3)، ولا يبقى ارتباطاً عقلياً وحسب (2: 14 ي). ولفظة "هيبوموني" التي يستعملها يعقوب ليدل على ثمرة الايمان الذي تنقيّه المحنة، قد يعني الصبر المنفعل والانصياع فيقابل "مكروتيميا" التي نجدها في 5: 7- 11، أو "أباتيا" التي نجدها عند الرواقيين. لهذا نترجم "هيبوموني": الثبات، المتانة، الصلابة. فهذه الكلمة قد استعملها العالم اليهودي الهلينيّ في القرن الأول المسيحي فدلّ بها على قوّة فاعلة، على مبدأ ناشط، كما دلّ على مجمل الحياة الروحيّة.
وهكذا نصل إلى المثابرة والثبات اللذين ينتجان العمل الكامل. فالعمل الكامل الذي يطلبه يعقوب يمثّل سائر الفضائل. فالطاعة لله تمثّل عملاً صالحاً (يو 6: 27- 29؛ 17: 4؛ روم 13: 8- 9؛ عب 10: 36) ولا سيّما إذا وصلت بنا إلى المحبّة (كو 3: 14). وسيقول بولس في روم 5: 4 إن ثمر الثبات هو الرجاء الاسكاتولوجي المرتكز على محبّة الله. وفي 2 بط 1: 6 نفهم أن الثبات يصل بنا إلى المحبّة.
شدّد يعقوب مراراً على ضرورة الكمال الأخلاقي (1: 25؛ 2: 10- 12). فطلب من قرّائه أن يكونوا بلا عيب ويظلّوا كذلك. هذا ما أعلنه هنا وزاد: "حتي تكونوا كاملين (تالايوي)، متمّمين، غير ناقصين" (آ 4 ب). فعملُ الئبات يثبّت القرّاء في النضج الخلقيّ. استعمل يعقوب لفظة "تالايوس" (في العبرية: ت م ي م. أو: ش ل م) (1: 17، 25؛ 2: 22؛ 3: 2) ليدلّ على الانسان البالغ (عب 5: 14؛ 1 كور 14: 20) أو الحيوان الذي لا عيب فيه والجدير بأن يقدّم ذبيحة (لا 1: 10؛ 3: 6؛ 1 بط 1: 19). كما استعملها ليدلّ على الانسان الذي وصل إلى الكمال الخلقيّ (تك 6: 9؛ تث 18: 13؛ أي 1: 1). وهكذا يكون النصّ صدى لما في مت 5: 48: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو". غير أن يعقوب سيقرّ في 3: 2 أن الكمال الأخلاقي يبقى شيئاً نسبياً.
التقى يع 1: 2- 4 مع 1 بط 1: 6- 7 ومع روم 5: 3- 5، فظنّ بعض الشرّاح أنه أخذ من 1 بط ومن روم بعد أن أعطى النصّ إتجاهاً أخلاقياً. واعتاقد أخرون أن لا علاقة بين هذه النصوص الثلاثة، بعد أن صارت هذه الأفكار التي توردها هذه الرسائل معروفة في الفقاهة المسيحيّة. أخذها يعقول فجعلها في أفق عمليّ. وأبرز بطرس وبولس الوجهة العقائديّة.

3- صلاة من أجل الحكمة (1: 5- 8)
بعد أن حدّثنا الكاتب عن المحنة الئي هي ينبوع الصبر والئبات، وعن الثبات الذي يقود إلى الكمال، دعانا إلى طلب الحكمة لكي نفهم المحنة. وهكذا ينتقل يعقوب في آ 5- 8 إلى موضوع آخر هو موضوع الصلاة المطلوبة لكي ننال الحكمة من الله. وانقسم الشرّاح، فقال بعضهم إن موضوع هذه القطعة هو الحكمة. وقال آخرون: هو الصلاة. ومهما يكن أن أمر، فسوف يعود الكاتب إلى هذين الموضوعين. فيميّز بين الحكمة الحقّة والحكمة الكاذبة (3: 13- 18)، كما يبرز طريقته في الصلاة (4: 3، 6- 10؛ 5: 13- 18). وهكذا تجتمع اللفظتان كما تجتمع العلّة مع السبب، في تشديد على الصلاة. وهكذا يبيّن الكاتب أولاً ضرورة الصلاة للحصول على حكمة لا نمتلكها، ثم فاعليّة الصلاة والشرط لكي تستجاب. ويشدّد في النهاية على بطلان كل صلاة ينقصها هذا الشرط.
في بداية آ 5 يستعاد الفعل "نقص" الذي قرأناه في آ 4 (لايبو، نقص). قالت فئة من الشرّاح: بعد أن حرّض الكاتب قرّاءه على العيش في الفرح وسط المحن، ها هو يقدّم لهم بشكل معترضة (آ 5- 8) الطريقة الأكيدة للوصول إليه. وتقوم هذه الطريقة بأن نطلب من الله الحكمة التي تجعلنا نكتشف القيمة المنقّية للمحن، بل قيمتها المرتبطة بالحياة الأخرى. وهكذا نكون في خطّ العهد القديم حيث يقال: "والانسان لو بلغ حدّ الكمال لا يُحسب شيئاً ما لم تكن معه الحكمة التي منك" (حك 9: 6). وهذا في الواقع ما نجده في يع مع حديث عن الحكمة التي يعطيها الله لمن يطلبها. وقالت فئة أخرى: ليس من علاقة وثيقة بين قطعة وقطعة. إنما نحن أمام موضوعين متلاصقين.
إذن، تمثّل ضرورة الصلاة لنوال الحكمة من الله، بداية قطعة جديدة: "إن كان أحدكم تنقصه الحكمة، فليسأل الله الذي يعطي الجميع في سخاء وعلى غير منّة، فيؤتاها" (آ 5). فالحكمة التي نطلبها ليست محدّدة. إنما ستحدّد في 3: 13- 18 في نتائجها. فالحكمة (سوفيا) تدلّ على الحذق والمهارة، على العلم والمعرفة، على الذوق السليم. أما عند يعقوب، فلسنا أمام المهارة والعقل والفكر البشريّ الذي هو ثمرة الفكر. فكل هذا قد يتوافق مع الشرّ والكفر (3: 15). بل أمام فهم يرتبط بالوحي الإلهي والورع الديني. مثل هذه الحكمة تأتي من فوق، وتكمّل الكائن الأدبي (3: 17). فإذا أردنا الحصول عليها، طلبناها من الله بثقة تامة.
هنا نتذكّر صلاة سليمان الذي نال حكمة عظيمة (حك 8: 21؛ 1 مل 3: 6- 9؛ سي 51: 13). وقالت لنا الأسفار الحكميّة إن الحكمة الحقيقيّة تأتي من الله وحده (أي 28: 12- 24؛ أم 8: 1 ي؛ سي 1: 1؛ حك 9: 17). وحدّدت لنا أساسها الذي هو الشريعة كوحي (سي 24: 1 ي). كما حدّدت مبدأها (حك 1: 11- 30؛ أم 8: 18- 19): رأس الحكمة مخافة الله. وحدّدت نتائجها: استقامة أخلاقيّة (أي 28: 28؛ أم 2: 10- 20؛ سي 19: 18- 27) وسعادة (سي 1: 11- 30؛ 2: 1- 18؛ أم 3: 13- 26). أما ما نجده عن هذا التعليم في الرسائل البولسيّة (1 كور 1: 18- 25؛ 2: 6- 16؛ أف 1: 17؛ 5: 15 ي)، فلا مكان له في رسالة يعقوب.
ظنّ كاتب يع أن بعض قرّائه تنقصهم الحكمة الحقة (آ 5 أ). فسلوكهم يدلّ على ذلك دلالة كافية (3: 13). فلا يجب أن يكون الأمر هكذا. وإذ اعتبر أن على المسيحيين أن يمتلكوا هذه المزيّة، أمر الذين لا يمتلكونها بأن يطلبوها من الله. فكل الذين يطلبونها يحصلون عليها من الله الذي يعطيها بدون تحفّظ، وبسخاء. نجد لفظة "هبلوس" التي تعني "ببساطة" إذا عدنا إلى اللغة التشريعيّة (برديّة بهلنسة 2: 237؛ 6: 21)، وإلى استعمال بولس للاسم "هبلوتيس" (2 كور 11: 3؛ كو 3: 2؛ رج أع 2: 46). ولكنها تعني أيضاً فكرة السخاء في العطاء (2 كور 8: 2؛ 9: 11، 13؛ روم 12: 8، والحديث عن التبرّعات من أجل المحتاجين). قد يكون هذا المعنى الأخير هو الذي يريده يعقوب الذي يزيد: "بلا تحفّظ، بلا قيد ولا شرط". هنا يتذكّر يعقوب سي 18: 15- 16: "قدّم إحسانك يا ابني بلا عيب (أو: تأنيب) ولا تصحبه بكلام جارح. كما يخفّف الندى الحر، هكذا الكلام أفضل من العطيّة". ونقرأ في 20: 15: "يعطي قليلاً ويمنّن كثيراً، ويصرخ عالياً كبائع في السوق". نحن هنا في فقاهة مسيحيّة مطبوعة بالاسلوب الساميّ وإن دُوّنت في اليونانيّة.
ونقرأ في نهاية آ 5: "تُعطى له الحكمة". هذه نتيجة صلاة من يطلب الحكمة متّكلاً على الله. عاد يعقوب إلى مثل سليمان (حك 7: 7 ب؛ 8: 21). بل إلى تعليم يسوع حول الصلاة: "إسألوا فيعطى لكم" (مت 7: 7؛ رج لو 11: 9). وهكذا نتيقّن مرة أخرى أن كاتب يع هو مسيحيّ ربط الحكمة بالصلاة، وجعل الصلاة في أساس الحياة الروحيّة.
إذا كانت الصلاة تفعل فعلاً أكيدأ إن نظرنا إليها من جهة الله، فليس الأمر كذلك من جهة الانسان. فهناك طريقة للصلاة تبدو كشرط مطلق للحصول على ما نطلب. "ولكن ليسأل (الحكمة) بإيمان وبغير ارتياب. لأن المرتاب يشبه موج البحر الذي تثيره الريح وتسوقه" (آ 6). الله يعطي الحكمة لمن يطلبها. ولكن يجب أن نطلبها بإيمان. ترتبط آ 6 مع آ 5 بواسطة الفعل "ايتايو" (سأل).
ما معنى يسأل بإيمان؟ وهل معنى الايمان هنا كما في آ 3؟ نجد الجواب في التحديد اللاحق: "بلا ارتياب، بلا تردّد". وهكذا نجد كالعادة عبارة إيجابية (بإيمان) وعبارة سلبيّة توازيها (بلا ارتياب). فالسؤال بإيمان يعني أن نصلّي إلى الله بثقة، بحيث لا نشكّ لحظة واحدة بجواب الله. فنحن سنستجاب بكل تأكيد. فلا تردّد ولا انقسام داخليّ. إيمان واثق كشرط لفاعليّة الصلاة، وهو لا يتميّز عن الايمان الذي هو اعتقاد (آ 3؛ رج 2: 1، 5، 14- 26؛ 5: 15). فهذا الإيمان الواثق يفترض الإيمان الاعتقاد ويؤسّسه ويشكّل وجهة له. وإذا عدنا إلى 2: 14- 26 نفهم أن الايمان الواثق هو انتقال إلى العمل. وهكذا نكون أيضاً في خطّ التقليد الإزائي مع مثل التينة اليابسة. فيسوع قد ربط فاعليّة الصلاة بالايمان الواثق الذي لا يقبل بتردّد واحد من قبل الطالب (مر 11: 22- 24 وز). أجل، الايمان بقدرة الله هو أساس حياتنا. والصلاة تعبّر عن هذا الإيمان، والحكمة الحقيقية هي نتيجته العمليّة.
استعاد الكاتب لفظة من الجملة السابقة فأفهمنا التردّد الذي يشجبه. وأخذ تشبيهاً من الاسفار الحكميّة. من لا يصلّي بإيمان، من تردّد في طلبه، يشبه موج البحر الذي يتحرّك بفعل الريح. تلك هي حالة النفس التي تتقلّب بين الثقة واللاثقة.
إذن، هناك طريقة للصلاة تفرض نفسها بحيث ترتبط بها فاعليّةُ الطلب (آ 7). هذه الزيادة تبرّر الأمر الذي أعطاه يعقوب بأن لا نتردّد حين نطلب من الله. "فلا يتخيّل ذلك الانسان أنه ينال من الربّ شيئاً" (آ 7). استعمل الكاتب فعل "اويوماي" (تخيّل، ظن) وهو فعل نادر في العهد الجديد (فل 1: 17؛ يو 21: 15) الذي يستعمل بالأحرى فعل "دوكاين" (1 كور 3: 18؛ غل 6: 3؛ مر 6: 49...). وعبارة "ذلك الانسان" التي نجدها في مر 14: 21 تجعلنا في إطار ساميّ، وتشدّد على أن الكاتب يشفق على مثل هذا الرجل الذي يطلب بتردّد. ولفظة "الرب" تدلّ هنا على الله الذي وحده يعطي الحكمة.
وتشكّل آ 8 توازياً مع آ 7، فتصوّر حالة نفس ذلك الانسان. "انه انسان ذو نفسين، متقلقل في جميع طرقه" (آ 8). في آ 7، الانسان هو "انتروبوس". وفي آ 8 هو "أنير". ولكن المعنى هو هو. ويعقوب يفضّل اللفظة الثانية (1: 23؛ 2: 2؛ 3: 2) في خطّ السبعينيّة.
ولفظة "ديبسيخوس" (ذو نفسين) التي تصف هذا الانسان، لا ترد إلاّ ها في كل الكتاب المقدّس وفي 4: 8. استلهمت لغة اليونان الذين رأوا في النفس (بسيخي) مركز الملكات والعواطف. الشكل هليني، ولكن الفكرة بيبليّة (ولا سيّما ما كتاب هرماس). فالعبرانيون يربطون بالقلب (ل ب)، ما يربطه اليونانيّون بالنفس، فيتحدّثون عن إنسان له قلبان، له قلب وقلب (ل ب. و. ل ب) (هو 10: 2؛ مز 12: 3؛ 1 أخ 12: 33؛ سي 1: 28؛ 2: 12- 14). أو عن إنسان له لسان ولسان (سي 5: 9)، كلمة وكلمة، وجه ووجه (وجهان). فمن كان كذلك في صلاته، دلّ على أنه ليس بكلّيته لله مع أن الكتاب يطلب منا أن نحبّ الله بكل قلبنا وكل نفسنا وكل قدرتنا (تث 4: 29؛ 6: 5؛ مت 22: 37 وز).
وتوضح نهاية الآية فكرة الكاتب. فهذا الانسان لس بثابت. هو "متقلقل في جميع طرقه". أي في مسلكه، في حياته. فحين يتّجه نحو الله، يتّجه في الوقت عينه نحو طمأنينات أرضيّة. قالت سي 2: 12- 13: "ويل للقلب الخائف. ويل للخاطىء الذي يسير في طريقين. الويل لقلب ضعيف لا يؤمن، لأنه لا يكون في أمان" (لا يكون محمياً). وهكذا يقف يعقوب في خطّ التقليد البيبليّ.
والصفة "أكاتستاتوس" (متقلقل، غير ثابت) (رج 3: 11) تعود إلى اليونانية الكلاسيكيّة. غير أن العبارة "في جميع طرقه" تعود إلى الكتاب المقدّس (مز 90: 11= مت 4: 6؛ مز 144: 17؛ تث 32: 4؛ إر 16: 17). استعمل الكاتب الملهم لفظة "طريق" (درك في العبريّة) ليدل على تعليم أو سلوك أخلاقي (أع 14: 16؛ مت 7: 13- 14). وتحدّثت كتابات قمران عن الذين يطلبون الله "بقلبين دون أن يكونوا ثابتين في الحقّ".

خاتمة
هكذا بدت هذه الماقطوعة في تحريضين صغيرين. الأول حول المحن التي نتقبّلها بفرح لأنها تساعدنا على النضوج. والثاني حول الصلاة لطلب الحكمة. عاد الكاتب إلى فكرة الفرح التي نجدها في العنوان (سلام وفرح) فطبّقها على المحنة. فإن ثبتنا في المحنة، قادنا هذا الثبات إلى الكمال لأن الله يريد كمال الانسان الذي افتداه. كل هذا لا نفهمه بقوانا، بل نحتاج إلى حكمة من عند الله لكي ننظر إلى العالم وإلى الحياة بنظر الله. ولكن لا تأتينا الحكمة إلاّ إذا طلبناها بإيمان ولم نتردّد في صلاتنا. فالله لا يرفض سؤالاً يرافقه إيمان واثق. فإذا انتقلنا من الإيمان إلى اللاإيمان، ومن الثقة إلى اللاثقة، أشبهنا موج البحر الذي تحرّكه الرياح، فسرنا في طريق وطريق، وفكّرنا بقلب وقلب. لهذا نعود إلى الإيمان، إلى الاستسلام لله إستسلاماً كلياً وواثقاً، فنبني حياتنا على هذا الأساس الذي لا يتزعزع. وتأتي الصلاة في النهاية فتعبّر أفضل تعبير عن هذا الإيمان الذي به نطلب الحكمة والنعمة وروح الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM