الفصل الأول
كاتب رسالة يعقوب
نتوقّف في هذا الفصل عند كاتب رسالة يعقوب. بعد أن نقدّم الرأي التقليديّ، نقدّم الاعتراضات على هذا الرأي، وننهي بكلمة حول مكان وزمان تدوين يع، حول الأشخاص الذين إليهم توجّهت هذه الرسالة.
1- الرأي التقليديّ
أ- اسمه يعقوب
إسم كاتب يع هو يعقوب. فالعنوان يقدّم لنا هذه الرسالة على أنها عمل "يعقوب، عبد الله والربّ يسوع المسيح" (1: 1). هل زيدت هذه العبارة؟ كلا على ما يبدو، بسبب ارتباط 1: 1 مع الآية التالية بواسطة لفظة "خايراين" (سلام) وعبارة: "باسان خاران". ومع ذلك نتساءل: هل نحن أمام اسم مستعار كما اعتاد الكتّاب أن يفعلوا في القديم ليجعلوا كتابهم مقبولاً؟ أما نُسبت المزامير إلى داود، والأسفار الحكميّة إلى سليمان؟ والأسفار المنحولة (أو: المكتومة) قد نسبت إلى كتّاب لم يدوّنوها. فهناك إنجيل يعقوب، كما أن هناك ثلاثة أسفار رؤى نُسبت إلى يعقوب ووُجدت في نجع حمادي.
ومع ذلك، فلسنا أمام خدعة أدبيّة واسم مستعار. فإن عدنا إلى 2 بط، نرى أن كاتب الرسالة قد ربطها بـ "سمعان بطرس، عبد يسوع المسيح ورسوله". أما في يع فليس إلاّ لقب واحد "عبد الله ويسوع المسيح". وهذا اللقب هو لقب كل مسيحيّ. أفما يتميّز يعقوب بشيء عن سائر المسيحيين وهو الذي يحكم على المعلّمين (3: 1) فيدلّ على أنه المعلّم الأول في هذه الجماعات التي ترتبط به؟
ولكن أي يعقوب هو؟ هناك إمكانيتان. الأولى: شخص معروف في الكنيسة الأولى، هو يعقوب أخو الربّ. والثانية: مسيحيّ هلّيني مثل اسطفانس أو فيلبس، جمع بين التراث البيبليّ والحضارة اليونانيّة، فدوّن بعد سنة 70 رسالة استوحاها من أقوال يعقوب، أخي الربّ. وقد يكون زاد عليها الكثير من أفكاره، وصاغ كل هذا في لغة يونانية رائعة.
ب- كاتب من أصل يهوديّ
كاتب يع هو من أصل يهوديّ. لقد عرف معرفة واسعة تعاليم التوراة وعباراتها كما نقلتها السبعينيّة اليونانيّة. ونذكر بعض هذه العبارات: إلى الأسباط الاثني عشر في الشتات (1: 1). إبراهيم أبونا (2: 21؛ رج روم 4: 16- 17). الربّ يريودس يهوه (1: 7؛ 4: 10، 15؛ 5: 7، 8، 10، 11، 14، 15). الولادة كباكورة الخلائق (1: 18؛ رج 3: 9). الشريعة الكاملة، شريعة الحرية (1: 25؛ رج مز 119: 45). الشريعة الملوكية (2: 8؛ رج لا 19: 18). الاسم الحسن الذي دُعي عليك (2: 7؛ رج عا 9: 19؛ أش 63: 9؛ أع 15: 17). حكمتم على البار وقتلتموه (5: 6؛ رج حك 2: 10، 12، 19، 20). مجيء الربّ (5: 7). الديّال الواقف على الباب (3: 9). المجمع (2: 2). الشيوخ (5: 14).
وهناك تفاصيل تجعلنا نظنّ أن موطنه هو فلسطين. التشابيه التي يقدّمها: المرتاب الذي يشبه موج البحر (1: 6). العشب وزهر العمثسب الذي ييبس بعد أن تلفحه الشمس بحرّها (1: 10- 11). إنسان بخاتم من ذهب ومسكين في لباس قذر (2: 2- 3). السفن والرياح والدفّة (3: 4). الزيتونة والجفنة (3: 12). وهناك خبرة مطر الخريف ومطر الربيع (5: 7 ب).
ج- كاتب مسيحيّ
إعتبر بعض الشرّاح أن هذه الرسالة هي في الأصل مقال يهوديّ، ثم صار مسيحياً بعد أن زادوا عليه ما زادوا. وما زاده "الكاتب" هو إسم يسوع مرتين: في 1: 1: "عبد الله والربّ يسوع المسيح. وفي 2: 1: "لا تلبّسوا يا إخوتي إيمان ربنا يسوع المسيح". مثل هذا القول لا يجد سنداً له. فالمخطوطات كلها تورد هاتين الآيتين.
ثم إن الرسالة كلها قد تشرّبت الروح المسيحيّة. فالمقابلات مع التقليد الانجيلي ولا سيّما العظة على الجبل تمتدّ على 48 آية. وهناك مقابلات عديدة بين يع ورسائل بولس وبطرس، تدلّ على أننا في إطار مسيحي غرفَ منه يعقوب كما غرف بطرس وبولس. وهي تتيح لنا أن نفهم في مناخ مسيحيّ العبارات "اليهوديّة" التي أوردناها مثل "الأسباط الاثني عشر الذين في الشتات". إنهم مسيحيّون قد انتموا إلى المجامع اليهوديّة خارج فلسطين، أو اجتمعوا في المجامع المشتّتة في العالم، فكوّنوا كنائس لها شيوجّها والمسؤولون فيها.
ونشير في هذا السياق إلى التعارض بين "الإيمان والأعمال" (2: 14- 26). تطرّق بولس إلى هذه المسألة من زاوية أخرى دون أن يناقض يعقوب (روم 3: 28؛ غل 2: 16). فالأعمال المذكورة هنا هي الأعمال المسيحيّة لا الأعمال اليهوديّة. هي أعمال المحبّة (2: 15- 16)، لا الممارسات الطقوسيّة في الشريعة الموسويّة التي لا تتحدّث عنها الرسالة أبداً.
د- كاتب الرسالة معلّم يتميّز عن المعلّمين
صاحب يع هو ملفان كلّف بالتعليم، وهو رئيس الجماعات المسيحيّة التي تتوجّه إليها الرسالة. سمّى نفسه ملفاناً ومعلّماً، وأوصى قرّاءه أن لا يطلبوا أن يصيروا معلّمين بطريقة غير شرعيّة (3: 1). واللفظة اليونانيّة "ديدسكالوس" قد ترجمت اللفظة اليهودية "رابي"، ودلّت على الخادم المخصّص في التعليم الديني كما كان يعقوب (رج يو 1: 38؛ 20: 16). مثل هذا اللقب كان يحمل لصاحبه هيبة ومكانة عند اليهود كما عند الوثنيين، وكان يحمل خطر البحث عن الكرامة لا عن الخدمة (مت 23: 7- 8). فتوصية يعقوب واللقب التعليميّ يُفهمان في إطار مسيحيّ متهوّد. بعد ذلك وقبل نهاية القرن الأول، سيُستعمل اللقب بشكل عاديّ في الكنائس.
ولا يكتفي الكاتب بأن يتكلّم كخادم كُلّف بالتعليم فنقل إلى اخوته تعليم الحكمة، كما كان يفعل الكتبة في العهد القديم. لا شكّ في أننا نجد في رسالته تسمية "اخوة" ولكننا أمام عادة مسيحيّة متهوّدة. فالكاتب يتحدّث إلى الناس كرئيس عليهم منذ بداية الرسالة حتى نهايتها. هو يأمرهم بسلطان ولا يحتاج أبداً أن يبرّر موقفه وطريقته في الكلام. ويرسل توصياته في صيغة الأمر. وما اكتفى بأن يعلّم وأن يشجّع، بل حذّر المؤمنين (2: 5؛ 3: 1 ي؛ 4: 13 ي)، ووبّخهم بقساوة (4: 1 ي). وهدّد الأغنياء بالشقاء الذي ينتظرهم (5: 1 ي)، ووجّه الكنائس المحلّية في أمور عديدة ولا سيّما على مستوى الصلاة ومسحة المرضى (5: 13- 16).
هـ- يعقوب أخو الربّ
كاتب الرسالة هو يعقوب أخو الربّ ورئيس كنيسة أورشليم كما يقول الآباء. فمنذ القرن الثاني المسيحيّ، كتب الآباء الرسوليّون أن صاحب هذه الرسالة هو يعقوب أخو الربّ ورئيس كنيسة أورشليم. هذا ما قاله أوسابيوس في التاريخ الكنسي (6/ 14: 1؛ ق 2/ 1: 2- 3). وتأثّر اكلمنضوس الاسكندراني وأوريجانس وأبيفانيوس بالأناجيل المكتومة، فقالوا إن يعقوب وُلد من أول زواج ليوسف، وإنه دُعي الصدّيق (البار) بالنظر إلى سموّ فضيلته. ودُعي كذلك لكي يميّز عن يعقوب بن زبدى الذي استشهد سنة 42 (أوسابيوس، التاريخ الكنسي 2/ 1: 1- 5؛ 2/ 23: 4). وسمّاه أوريجانس وإيرونيموس الرسول، وماهى بينه وبين يعقوب بن حلفى، أحد الاثني عشر، في خطّ هاجاسبس (التاريخ الكنسي 2/ 23: 4- 5؛ 3/ 11؛ 3/ 22: 4؛ 4/ 12: 4). غير أن عدداً من الآباء، ومنهم يوحنا فم الذهب، يسمّونه "رسول" في معنى واسع، ولكنهم يميّزونه عن يعقوب بن حلفى.
إن يعقوب، أخا الربّ، هو بحسب العهد الجديد، ابن مريم زوجة كلاوبا (مر 15: 40). هو بكر أربعة أخوة عاشوا في الناصرة (مر 6: 3؛ يهو 1). وقد يمكن أن يتماهى مع يعقوب بن حلفى (مر 3: 18). لأن بعض الشرّاح يعتبرون أن كلاوبا وحلفى هما تدوين واحد لجذر أرامي واحد. في هذه الحال، يكون أحد الاثني عشر ساعة. لم يكن اخوته بعد قد آمنوا برسالة يسوع (مر 3: 20- 21؛ 31- 32؛ يو 7: 3- 4). فيسوع الذي وُلد من أم أخرى (مر 15: 40) كان ابن عمّهم. هكذا نفهم لقب الرسول الذي يعطيه له بولس في غل 1: 19، والظهور الخاص الذي حظيَ به بعد القيامة (1 كور 15: 7).
نعمَ يعقوب بسلطة كبيرة في كنيسة أورشليم (غل 1: 19؛ أع 12: 17). وهي سلطة فرضت نفسها بسرعة (غل 2: 9- 10، 12- 14؛ أع 15: 13- 21؛ 21: 18- 25)، فحافظ عليها حتى استشهاده الذي جعله هاجاسبس سنة 66- 68 (أوسابيوس، التاريخ الكنسي 2/ 23)، وفلافيوس يوسيفوس وإيرونيموس سنة 62 (القديميّات اليهوديّة 20/ 9: 1؛ الرجال العظام 2). ويظنّ إكلمنضوس الاسكندراني أنه نال هذه السلطة حالاً بعد صعود الربّ وذلك بتفويض مباشر من قبل الرسل الأولين (التاريخ الكنسي 2/ 1: 2- 5). ومهما يكن من أمر، فبصفته بكراً لعائلة الربّ، عيّن رئيساً للمجموعة العبريّة للكنيسة الأم في أورشليم. في هذا الخط، قالت الأسفار المنحولة في نجع حمادي إن يسوع جعله خلفاً له وأوكله بنقل تعليمه إلى مجموعة محدودة من المتدرّجين. بل ذهبت بعض الكتب الغنوصيّة إلى القول بأن يعقوب هو ابن تبنّاه يسوع. ولكنها تبقى أموراً منحولة ونحن لا نستطيع أن نأخذ بها.
كان يعقوب ممارساً أميناً للفرائض الموسويّة، لا اعتقاداً بضرورتها، بل مراعاة لشعور مؤمنين لم يعرفوا أن ينتقلوا كل الانتقال إلى المسيحيّة (أع 15: 20- 21؛ 21: 20). إنه بعيد كل البعد عن تشيّع بعض العائشين في محيطه (غل 2: 1- 10؛ أع 11: 3- 4؛ 15: 1، 5، 24؛ 21: 20). وهو لا يشبه أبداً الصورة التي تخيّلها عنه بعض الابيونيين كما يقول هاجاسبس (أوسابيوس، التاريخ الكنسي 2/ 23: 4- 20). في سنة 48/ 49 وأمام جماعة أورشليم، تكلّم بعد بطرس وبولس فعفى المسيحيّين المرتدين من الختان (أع 15: 13- 14) وقدّم شهادة علنيّة عن توافقه مع رسول الأمم (غل 2: 9- 10). في سنة 58، استقبل بولس العائد من الرسالة وسط الوثنيين وابتهج بنجاحاته الرسوليّة. وما طلب منه إلاّ بعض التنازلات الطقوسيّة لكي يهدىء عواطف عدد من المتهوّدين في أورشليم (أع 21: 18- 25). أما الاستعدادات المعادية لبطرس وبولس التي ينسبها إليه بعض الشرّاح، فلأ تجد لها أساساً في العهد الجديد، ولا سيّما في غل 2: 12 حيث البلبلة جاءت من جماعة يعقوب لا من يعقوب نفسه. فلا يبقى لنا إلاّ العودة إلى الأوساط الغنوصيّة كما في كتابات نجع حمادي لنجد سلطة يعقوب مضخّمة فوق العادة، وفي المواعظ الإكليمية (ما نسب إلى البابا إكلمنضوس اسقف رومة) المنحولة لنجد سلطة يعقوب تعيد النظر في سلطة بطرس وبولس وتقاومها.
2- اعتراضات على الرأي التقليديّ
حين نسب الرأي التقليدي يع إلى يعقوب أخي الربّ، حافظ على معطيات عديدة جمُعت حول الكاتب. فأخو الربّ هذا الذي سمّي يعقوب (1: 1؛ غل 1: 19). كان من أصل يهوديّ (مر 6: 3). وكان أيضاً تلميذ المسيح (غل 1: 19؛ 1 كور 15: 7)، ومعلّماً كلّف بالتعليم، كونه رئيس المسيحيّين الذين من أصل يهوديّ. مع هذا الرأي نفهم أن يكون القرّاء "الأسباط الاثني عشر الذين في الشتات" (1: 1). غير أن هذا الرأي التقليدي يصطدم بعدة اعتراضات هامّة. وهي خمسة.
أ- الاعتراض الأول
لا يتكلّم صاحب الرسالة أبداً عن الفراض الطقوسيّة في الشريعة الموسويّة. فهو لا يهتمّ إلاّ بالرسوم الأخلاقيّة (1: 27؛ 2: 8 ي...)، ولا يعرف إلاّ "شريعة الحريّة" (1: 25؛ 2: 12). أما يعقوب أخو الربّ فقد قيل لنا إنه تعلّق تعلّقاً كبيراً بممارسات الشريعة الموسويّة وطقوسها. هذا ما نستنتجه من غل 2: 12- 14؛ أع 15: 19- 21؛ 21: 18- 25. كما نستنتجه بشكل خاص من أخبار هاجاسبس (التاريخ الكنسي 2/ 23) وأبيفانيوس التي تشدّد على الطابع التنسّكي والشريعاني لقداسة الرسول. إذن، لا يبدو أن يعقوب، أخا الرب، هو كاتب الرسالة.
لا شكّ في أنه يجب أن نقرّ أنه قد أحاط بيعقوب عددٌ كبير من المسيحيّين المتهوّدين الذين دلّوا على تعلّق كبير بالطقوس (غل 2: 4- 5؛ أع 11: 3- 4؛ 15: 1، 5؛ 21: 20- 21). ولكننا لاحظنا نظرته الواسعة حين يكون انفتاح الكنيسة هو الموضوع الطروح أمامه (أع 15: 13 ي؛ غل 2: 6- 10). أما خبر أبيفانيوس عن يعقوب فيستلهم خبر هاجاسبس الذي كان ذا ميول أبيونيّة مثل العظات الاكليمية والتعارفات المليئة بالمغالطات والتي هي أقرب إلى الأساطير منه إلى التاريخ. في هذا الخبر يُنسب إلى الانجيل ما قيل في يوحنا المعمدان، ما قالته الشريعة الموسويّة عن عظيم الكهنة، ما قالته أعمال الرسل عن اسطفانس أول الشهداء. وهكذا لا يكون لهذا الاعتراض القوّة التي تلغي ما قاله الرأي التقليدي.
ب- الاعتراض الثاني
إذا كان يعقوب أخو الربّ هو صاحب هذه الرسالة، فكيف لا نجد فيها سوى معلومات ضيئلة عن يسوع وعن عمله، ولا سيّما عن آلامه وقيامته. بالإضافة إلى ذلك، تذكر يع شخصيّات من العهد القديم كمثال للمحبّة (2: 21 ي) والصبر (5: 7 ي) والصلاة (5: 17- 18). أما وجب على قريب للمسيح أن يذكر يسوع نفسه كما فعل بطرس مثلاً (1 بط 2: 21 ي)؟ هذا ما يدهشنا.
ولكن يجب أن نتذكّر أن تعاليم يسوع الأخلاقيّة ظاهرة منذ بداية الرسالة إلى نهايتها. ويرى عددٌ من الشرّاح ما في 1: 1 و2: 1 فيتحدّث عن الحالة المجيدة ليسوع القائم من الموت، عن الدعاء باسمه في المعموديّة (2: 7) أو في مسحة المرضى (5: 14)، عن الحكم عليه وموته (5: 6)، عن مجيئه (5: 7- 9). ولاحظوا أيضاً أن شخص المسيح رفيع جداً في المجد (2: 1) بحيث لا يتجرّأ الكاتب أن يقدّمه مثالاً للمؤمنين. ثم إن أخلاقيين مسيحيين آخرين أخذوا بالنهج نفسه وعصره (عب 11: 4 ي؛ رسالة اكلمنضوس الأولى 10: 12). فلماذا يدهشنا أسلوب يعقوب؟
ج- الاعتراض الثالث
إذا كان يعقوب أخو الربّ هو صاحب الرسالة، فكيف نفهم أن تكون انتظرت إلى زمن أوريجانس لكي تعرفها الكنيسة، وأن يُناقش وضعُها قبل أن تدخل بين الأسفار القانونيّة الملهمة. ويُزاد على ذلك أن هاجاسبس، كاتب سيرة يعقوب، جهل أن هذا الرسول كتب رسالة. قد نفهم صمت الآباء على أنه اهتمام الكنيسة بتعليم الإيمان الأساسي لا بالأمور الأخلاقيّة كما في يع. كما نفهمه بسبب صفة الكاتب. هو فقط: "عبد الله والربّ يسوع المسيح". أما جهل هاجاسبس، فنفهمه في إطار اهتمام الأول بأن يبيّن أن الحكم بالاعدام على يسوع كان حكماً جائراً.
د- الاعتراض الرابع
كيف يمكن أن يكون يعقوب أخو الربّ الذي قُتل سنة 62/ 66 صاحب رسالة يبدو مناخها قريباً من كتب متأخّرة مثل رسالة إكلمنضوس الروماني أو رسالة برنالا أو راعي هرماس.
لا شكّ في أن هناك تقارباً بين هذه الرسالة وهذه الكتب على مستوى الفنّ الأدبي والأفكار والعبارات. ولكن قد نكون أمام تقليد طويل ومشترك. وإذا كان ارتباط وثيق بين يع وهذه المقالات، فهذه المقالات قد تكون استلهمت يع.
هـ- الاعتراض الخامس
كيف استطاع يعقوب أخو الربّ الذي هو من أصل آرامي، الذي كان من والدين أميّين (التاريخ الكنسي 3/ 20)، أن يدوّن رسالة تتجاوز يونانيّتها أفضل كتابات العهد الجديد، دون أن يترك الأوساط المسيحيّة المتهوّدة في أورشليم؟ فيبدو والحال هذه أن يونانياً تكلّم اليونانيّة منذ نعومة أظفاره استطاع أن يكتب مثل هذه الرسالة.
اعتراض مهمّ ولا يخفّف من قوته الأساسُ الساميّ للأسلوب. ولكنه ليس بحاسم. فقد يكون يعقوب استعان بمساعد على ما فعل غيره من الكتّاب في عصره (التاريخ الكنسي 2/ 15: 1 ي؛ 1 بط 5: 12؛ 2 تس 3: 17؛ 1 كور 16: 21؛ روم 16: 22؛ كو 4: 18).
3- ماذا نقول
بعد أن نقدّم الرأي المعاصر نتوقّف عند زمان ومكان الرسالة، عند قرّاء الرسالة الذين هم المسيحيّون العائشون في الشتات.
أ- رأي معاصر
إن الاعتراضات على نسبة يع إلى يعقوب أخي الرب ليست حاسمة حين نأخذ كل اعتراض بمفرده. ولكن حين نأخذها معاً، فهي تخلق تياراً ضدّ الرأي التقليديّ يجعلنا نفكّر في رأي يتوافق وهذه الدراسات الجديدة.
نحن أمام جماعة بعيدة عن الأصول المسيحيّة، وقد بردت حراراتها الأولى. فإيمان القرّاء ضعُف، وما عاد يتجسد في أعمال المحبّة (2: 14- 26). ثم إن السلوك الأخلاقيّ هو دون المطلوب. فالمؤمنون سريعون إلى التكلم، بطيئون عن الاستماع (1: 19- 27). وهم لا يعرفون اللسان وشرّه (3: 1- 17). وهناك الحروف والخصومات بسبب أهواء المسيحيين (4: 1- 5). وأخيراً نسيَ المسيحيون أهمية الاصلاح الاخويّ (5: 19- 20).
ماذا يقول هؤلاء الشرّاح؟ دوّن هذه الرسالة مسيحيّ من الجيل الثاني، ارتدّ من العالم اليهوديّ (وربّما من العالم الوثني). تحضّر بحضارة هلينية، وعرف الترجمة اليونانيّة كمال السبعينيّة، فكتب مقاله بين دمار أورشليم ونهاية القرن الأول. هذا المسيحيّ دوّن الرسالة بروح يعقوب أخي الربّ، الذي عرف التعليم التقليدي (لهذا وُضع اسمه في البداية). وقد يكون هذا المسيحي استعمل مواد تقليدية في جماعات يعقوب.
ب- مكان وزمان الرسالة
* يرى أصحاب الرأي التقليديّ أن يعقوب (أو سكرتيره) دوّن الرسالة في أورشليم. بعضهم قال: دوّنت بين سنة 35 وسنة 49. فإنهم اكتشفوا في الرسالة نواة التعليم المسيحي (1: 1؛ 2: 1؛ 5: 6) ونواة تنظيم الجماعة (2: 2؛ 3: 1؛ 5: 14). وهناك كلام حول المجيء القريب (2: 13؛ 5: 7- 10). وتعليم سابق لبولس الرسول (2: 14 ي). وجهل عن حمل الانجيل إلى العالم الوثنيّ والأزمة التي تلت هذا التبشير (أع 15: 1 ي؛ غل 2: 1 ي). وقال البعض الآخر في الستينات وقبل استشهاد يعقوب. فالتقارب مع التقليد الانجيلي وتعليم بطرس وبولس يفرض هذا التاريخ.
* أما أصحاب الرأي الجديد، فيقولون إن الرسالة دوّنت في أواخر القرن الاول. أما موضع تدوينها فمحيط مسيحيّ متهوّد: في فلسطين، في سورية، في مصر. وهذا المكان الأخير يفسّر مدوّنات نجع حمادي وأول الشهادات حول الرسالة (الاسكندريّة).
ج- قرّاء الرسالة
إذا عدنا إلى العنوان (1: 1) نفهم أن الرسالة توجّهت إلى "الأسباط الاثني عشر الذين في الشتات". قد نكون أمام يهود تركوا فلسطين وعاشوا في العالم الروماني. فإسرائيل القديم اعتبر نفسه متحدّراً من أبناء يعقوب الاثني عشر. كما وجد نفسه مشتتاً خارج حدود الأرض التي عرفها الآباء.
ولكن بما أننا أمام مقالة مسيحيّ، فنحن أمام قرّاء مسيحيّين. وقد يكونون مسيحيين متهوّدين. كانوا من الأسباط الاثني عشر وعاشوا مشتّتين. وقد يكونون إسرائيل الجديد، وشعب الله الجديد.
A