الفصل الثامن والعشرون: المحنة والتجربة

الفصل الثامن والعشرون
المحنة والتجربة

المحنة والتجربة عنصران أساسيّان في الحياة المسيحيّة. إنهما واقع ثقيل ومعناهما مظلم. إنهما شكّ وعار يجعلاننا نرتاب بمحبّة الله. فلا بدّ من أن يصبح سّر المحنة هذا مقبولاً حين نضعه في سّر أوسع من سّر عهد الله مع شعبه، ولا بدّ أن نكتشف تدريجياً معنى الصليب والنصر وراحة الله. هذا ما ستحاول دراستنا أن تكتشفه.

1- المحنة في العهد القديم
منذ البداية تبدو المحنة مرتبطة بالوعد والعهد. فالله ألزم نفسه إلزاماً حراً تجاه الآباء ووعدَهم بنسلٍ. إختار لنفسه شعباً أقام عهداً معه. لا لأنه وحده أهلاً للمحبّة، بل لأنه أحبّه وأراد أن يكون أميناً لما وعد به الآباء. مقابل هذا، لا يطلب الله إلاّ شيئاً واحداً: أن يدخل الشعب في عهد معه. وأن يسلّم الإنسان نفسه كلّها إلى الله تسليماً حراً في الإيمان. والمحنة هي التي تكشف أعماق قلبه وتفرض عليه الجواب.
أ- أصول التفكير الملهم
بدأ التفكير الملهم عن المحنة في حدث عاشه الشعب في البريّة: نقص الماء في البريّة، فتذمّر الشعب. حينئذٍ قال له موسى: لماذا تجرّبون الربّ وترتابون به؟ لماذا تقولون: هل الله معنا أم لا؟
نجد هنا تفاسير مختلفة. مرة يُقال: الشعب جرّب الله وامتحنه (خر 17: 1- 7). ومرة أخرى يُقال: الله جرّب شعبه: هل يريد أن يدخل في العهد أم لا؟ "هناك أضع لهم فرائض وهناك أمتحنهم" (خر 15: 25).
وانطلاقاً من هذا الحدث من تاريخ اسرائيل، سيتوسّع تعليم غنيّ حول المحنة والتجربة.
ب- محنة ابراهيم
ويبيّن الكتاب الملهم أن الله امتحن إبراهيم ليجعله يتقدّم في الإيمان، ويسير في مخافة الله. "وجرّب إبراهيم وقال له: خذ ابنك وحيدك" (تك 22: 1- 17). ففي هذه المحنة الهائلة التي فيها طلب الله من إبراهيم ابنه، أحسّ إبراهيم بأن الله يدمّر مواعيده: يأخذ بيد ما أعطاه بالأخرى. ولكنّه يطلب من إبراهيم أن يذهب إلى آخر حدود الإيمان والاستسلام. وهكذا صار ابراهيم أبَ المؤمنين وبه تحقّقت المواعيد.
سيجد هذا المشهد العظيم صدى له في التوراة (سي 44: 20). ولكنّه لن يُفهم فهماً كاملاً إلاّ بمحنة موت ابن الآب الوحيد.
ج- سفر التثنية ومحنة شعب الله
إلتزم الله تجاه شعبه في كل ظروف حياته، وطلب منه جواباً خلال المحنة التي تصيبه. وسيتوسّع سفر التثنية في هذه الحقيقة فيقدّم تحريضات حارّة ستدخل قلب التقوى اليهوديّة. لهذا لن نعجب إذا قرأنا استشهادات من هذا الكتاب على شفتي يسوع في جوابه على الشيطان الذي يجرّبه.
في الماضي امتحن الله شعبه في البريّة، بالسير في الصحراء، بالجوع والعطش، بالمنّ والماء، بالحيّات المحرقة وحتى بالخلاص العجيب من مصر. والآن، ساعة يستعدّ الشعب لدخول أرض مملوءة بسحر الشرك وعبادة الأوثان، ها هو يقدّم من جديد المحنة الحاسمة: "إحفظ جميع الوصايا التي آمرك بها اليوم... أذكر الطريق التي جعلك الله تسير فيها مدة أربعين يوماً في البريّة ليجعلك تتّضع، ليمتحنك ويعرف أعماق قلبك: هل تحفظ وصاياه أم لا؟ أجاعك وأطعمك المنّ... لكي يعلّمك أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكلّ ما يخرج من فم الربّ... كما يؤدّب المرء ولده، قد أدّبك الربّ إلهك. فاحفظ وصايا الربّ إلهك وهكذا تسير في طريقه وتعيش في مخافته" (تث 8: 1- 6).
كلمة الله تعطي الحياة. فإن إطاعه الشعب، كانت له الحياة في الماضي واليوم: "ها أنا أعرض عليك اليوم الحياة والسعادة، الموت والشقاء. فاختر الحياة" (تث 30: 15- 19).
د- تقليد التوراة ومحنة الإنسان
إنّ الأسفار التي تحدّثنا عن تقوى الشعب وحكمته تطبّق على كل إنسان الحقائق التي تلقي الضوء على تاريخ الشعب. فالتأمّل في التاريخ بروح سفر التثنية، يقودنا إلى أجمل المزامير التاريخيّة التي تشير إلى نكران الشعب لربّه: الآباء جرّبوا الله (مز 78: 18، 41- 56؛ 106: 14). وفي مز 95: 7- 9، يدعونا المرنّم إلى أن ندخل اليوم في العهد: "يا ليتكم تسمعون صوته اليوم: فلا تقسّوا قلوبكم كما في مريبة، وكما في أيام مسّة في البريّة، حين امتحنني أباؤكم وجرّبوني مع أنهم رأوا أعمالي".
ولكن، يقال أيضاً إن الربّ يمتحن الذين يحبّهم: هو يمتحنهم بأسلحته التي تكشف اختيارنا الحرّ. يمتحنهم بآلام هذه الحياة كما ينبّه أبّ ابنه ويؤدّبه (تث 8: 5؛ حك 11: 9- 10). وموت البارّ المبكّر الذي اعتبر في الماضي سبب شكّ وعثار، صار المحنة الكبرى، وانتصاراً للمؤمن يوم اعتقد المؤمنون بالخلود (حك 3: 5- 9). وهكذا صارت المحنة المناخ العاديّ الذي فيه يتفتّح حبّ الربّ. "يا ابني، إذا أردت أن تخدم الربّ فاستعدّ للمحنة. تعلّق به ولا تبتعد عنه" (سي 2: 1- 3). وتتحدّث التوراة عن محن يرسلها الله إلى عباده، إلى إبراهيم، إلى طوبيا، لينقّي إيمانهم. وستلخّص يهوديت في تحريضها للشيوخ، هذه الروحانيّات كلّها: "لهذا نشكر الربّ إلهنا الذي امتحننا كما امتحن آباءنا. تذكّروا كلّ ما فعله لإبراهيم ولإسحق، وكل ما جعل ليعقوب في بلاد الرافدين. امتحنهم ليسبر قلوبهم. المحنة ليست انتقاماً، بل تنبيه يوجّهه الربّ إلى القريبين منه" (يه 8: 25- 27).
هذا هو تعليم التقليد عن المحنة والتجربة: لسنا أمام انجذاب إلى الشر. ولكننا تركنا جانباً، بعض الحالات البشريّة وتناسينا محناً تنتهي برفض الله. هذا ما نجده في سفر أيوب وخبر البدايات اللذين يعالجان المسألة من دون خوف.
هـ- أيوب ومأساة الألم الذي يرذله الله
قدّم لنا الخبر النثري في أيوب (أي 1- 2) تفسيراً تقليدياً، فأدخل شخصاً جديداً هو الشيطان: هو من يتّهم البشر أمام محكمة الله، هو من حلف أن يوقع أيوب في الخطيئة. ولكنّه سيكون في النهاية أداة مجد لله والكاشف عن حبّه الحقيقي. إذن، يسمح الله بالألم كمحنة كاشفة عن الخير، وهو لا يريده لذاته. أما الشيطان فيرغب في تعذيب الإنسان ليجعله يجدّف على الله ويسقط في الشرّ.
هل يعني هذا أن كل الشكّ قد أبعد؟ لا، فالشاعر يحتجّ بشدّة ضد فكرة المحنة كما وردت في التوراة بعد المنفى (587 ق. م.). فأيوب بريء، وهو مقتنع أن آلامه ليست عاقبة خطيئة شخصيّة، كما أنه يعتقد كما يعتقد معاصروه أنها تكفّر عن خطايا الآخرين. هل هي يدّ الله تؤدّبه، كما يقول اليفاز (أي 5: 17- 27)؟ لا يقبل أيوب بهذا الشرح بعد أن وصلت به الأمور إلى حافة الموت. وإن كان الله يؤدّب، فهذا لا يبرّر قساوة الجلاّد. ويزداد ألم أيوب ألماً فيتوسّل إلى ديّانه ويحلم بأن يرى أمامه صديقاً يدافع عنه (أي 19: 26- 27).
وسينال أيوب جواباً في ظهور الله: أراد أن يحاكم الله، أراد أن يجادل الله. لكنّ الله يتجاوز الكلام البشري عن الأخلاق والديانة. الربّ هو إله حيّ يجتاج تاريخ الكون وتاريخ الانسان. وهو يبدو قريباً بقدر ما يختبىء. وحين تثقل المحنة بكاهلها على الانسان، فليس له أن يتوجّه إلى الحكماء، بل إلى الله ليعبده في الإيمان والتواضع. عليه أن يسلّم ذاته تسليماً كلياً إلى الله، في ظلام الليل، على مثال إبراهيم، أبي المؤمنين. "ولكنّ يسوع تعلّم وحده الطاعة بما لقي من ألم" (عب 5: 8). وهو يعرف وحده، أن يرى في الالم ما يحقّق مخطّط حبّ الله.
و- محنة البدايات، التربية على الحريّة
إن الله يطلب من الإنسان جواباً حراً. أن تكون هذه المحنة خطرة، فهذا ما يبيّنه خبر البدايات (تك 2- 3). ولكن هذه اللوحة الرائعة تدلّ بصورة خاصّة على أن المحنة هي عنصر أساسيّ في تاريخ البشريّة، وهي ضروريّة للبلوغ إلى الحياة الخلقيّة والحياة أمام الله. ففي كلمات بسيطة وصور مرئيّة يبدو الله كأب صالح يهتمّ بابنه: جبل له جسداً، أعطاه نسمة حياة، إهتمّ به وبتربيته.
زرع الربّ الجنّة بيديه، فكان الإنسان فلاّحها. وكان عليه أن ينمّي مواهبه البشرية في هذه المواجهة مع الطبيعة. وها هي الحيوانات تمرّ أمامه فيستعرضها: إنه يسمّيها بأسمائها لأنه يسود عليها. إنه أقوى منها، وهكذا يعي مكانته كإنسان. وها هي المرأة- العون التي خرجت منه تحرّك صرخة الإعجاب والدهشة وأوّل نشيد حبّ عرف ذاته فيها. وحين أحبّها، وصل إلى مرحلة النضج الإنساني فصار جديراً بأن يترك الأب والأم. وجاءت الوصية حول الشجرة أو بالأحرى، حول من يقرّر الشر والخير. هل الإنسان هو سيّد نفسه، أم أنه يرتبط بالله؟ كانت هذه الوصية أصعب تأديب، كانت المحنة الحاسمة: على الإنسان أن يكتشف الشريعة والواجب الأخلاقي، أن يتعرّف إلى إرادة الله ويلتصق بها التصاقاً تاماً وحراً.
تراجع الله تاركاً أبناءه يتّخذون خيارهم. وصعدت من الأرض قوى العدوّ. وها هي الحيّة تُضلّ حواء وبالتالي آدم. هل وصلنا إلى فشل نهائي لمخطّط الله؟ وعاد الله وظهر مرة ثانية، ليربيّ أبناءه: جعلهم يعون خطيئتهم ومسؤوليتهم السخصيّة. وأعلن حرباً لا هوادة فيها، بين نسل المرأة ونسل الحيّة. وصارت حياة الانسان موضع المحنة والاختبار. منذ اليوم. وصار طريق اللقاء بالربّ مليئاً بالظلمة والفخاخ إلى أن يشرق نور الفادي.

2- المحنة والتجربة في العهد الجديد
ننطلق هنا من تجربة يسوع في البريّة. استشهد الربّ بسفر التثنية فأعادنا إلى أغنى ما في التوراة من تعليم عن التجربة. ولكنّنا سنجد هنا وجهة جديدة: جُرّب يسوع كما جُرّب شعبه من قبله. يسوع امتُحن، دُعي إلى فعل الشرّ في أعماق قلبه، بفمّ إبليس. إنكشف العدو، وبانت المحنة على أنها تجربة. ولهذا سنحاول أن نميّز بين الإثنتين: بين المحنة والتجربة.
أ- المحنة
أولاً: محنة يسوع
تكرّس يسوع بالمعموديّة ليصير المسيح المتألّم. فانتصر على المحن التي عرفها شعبه في البربّة. بدأ مسيرته بحزم كعبد الله المتألّم الذي يتحدّث عنه أشعيا. ومنذ الآن، ستجري حياته كلّها في إطار المحنة: سيعيش بالتجرّد والطاعة حتى النزاع في بستان الزيتون والاستسلام الكامل على الصليب. ويدعونا لوقا أن نقارب بين مشهد البريّة ومشهد الجسمانيّة: "لما أتمّ الشيطان كل تجاربه (كل أنواع التجارب) ابتعد عنه ليعود في الوقت المحدّد" (لو 4: 13) أي في ساعة "سلطان الظلام" (لو 22: 53). الساعة التي فيها ظلّ الرسل معه ثابتين في تجاربه (لو 22: 28) ثمّ تركوه في ساعة عرق الدم في البستان. ونستطيع أيضاً أن نرى ظلّ المحنة يتكثّف حول الصليب، حين أطلق يسوع صرخته العظيمة إلى الآب: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (مر 15: 34).
ويرسم صاحب الرسالة إلى العبرانيين مشهدي النزاع والصليب، مع أنه يبدو غير عارف بالتجربة في البريّة: "وفيما كان لابساً الجسدَ، قرّب التضّرع والابتهال بالدموع والصراخ الشديد لمن كان يستطيع أن ينجّيه من الموت، فاستجيب له بسبب تقواه. ولأنه ابن صالح، تعلّم الطاعة بما قبله من آلام. وبعد أن صار كاملاً، صار لجميع الذين يطيعونه علّة خلاص أبديّ" (عب 5: 7- 9).
لقد أراد هذا الكاتب أن يشجّع قرّاءه، فرسم أمام عيونهم صورة يسوع الكاهن الرحيم الأمين الذي امتحن هو أيضاً: "ولأنه تألّم وامتحن (وابتلي)، فهو قادر أن يثبّت الممتحنين" (عب 2: 18). "وبما أن لنا رئيس كهنة عظيماً هو يسوع المسيح، إبن الله الذي صعد إلى السماء، فلنتمسّك بالاعتراف به، لأنه ليس لنا رئيس كهنة لا يستطيع أن يتألّم مع ضعفنا (يؤاسينا في ساعات ضعفنا)، بل قد امتحن في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة" (عب 4: 14- 15). أجل ما عدا الخطيئة. فالمحنة لا تقود يسوع إلى الفشل بل إلى الغلبة. وقد جعلته المخلّص الممجّد والرئيس القائد والكاهن الكامل (عب 2: 10؛ 5: 9) ورئيس الكهنة السامي "الذي صعد إلى السماء" (عب 4: 14).
ثانياً: محنة المؤمن
هذا ما دلّت عليه الرسالة إلى العبرانيين (2: 18). فالتلميذ يعرف المحنة، شأنه شأن المعلّم: عليه أن يسير في البريّة، حافظاً نفسه من مختلف الأخطار التي تعرّض لها آباؤه (جرّبوا الله) (1 كور 10: 9- 13). ويُطلب منه اليوم وفي كل يوم أن يختار، أن لا يقسيّ قلبه كما في مسّة (عب 3: 7- 9). فعلى المؤمن أن يسير في طريق الإيمان مثل إبراهيم "الذي امتحن فقدّم ابنه إسحق" (عب 11: 17). ومثل يسوع سيعرف أوقاتاً يبدو فيها الآب وكأنه يتخلّى عنه. ولكنه سيعرف أيضاً أنه محاط بجوقة من الشهود. ولهذا، فهو ينظر إلى "قائد إيمانه" (عب 12: 1- 2) يسوع المسيح، فيحمل صليبه ويدخل بشجاعة في مصيره مع ما في هذا المصير من محنة.
وهكذا تصبح الآلام والمحن التي نحتملها باسم يسوع علّة فرح. نقرأ مثلاً في رسالة القديس يعقوب (1: 2): "إعتبروا نفوسكم فرحين أيها الأخوة حين تهاجمكم كلّ أنواع المحن". وفي 5: 11 "نحن نطوّب الذين يصبرون، وأنتم قد سمعتم بصبر أيوب". وقال القديس بطرس في رسالته الأولى (4: 12- 13): "يا أحبّائي، لا تعجبوا من التجارب التي تقع عليكم، وكأنها شيء غريب يعرض لكم من أجل امتحانكم، بل افرحوا لأنكم صرتم شركاء في آلام المسيح". ويقول القديس يعقوب (1: 12) أيضاً: "طوبى للرجل الصابر على المحنة، فإنه إذا جرّب (كالمعدن في النار) نال إكليل الحياة الذي وعد الله به من يحبّونه". أجل، يفرح المؤمن، لأنه، حين يشارك المسيح في آلامه، يستعدّ للانتصار معه في يوم الدينونة بعد أن أختبر إيمانه وجُرّب.
ب- التجربة
إذن، المحنة ضروريّة وصالحة. إنها تشكّل المناخ الذي فيه يولد وينمو إيمان أحبّاء الله. ولكن العهد الجديد يشدّد أيضاً على أن المحنة خطرة. فإن كانت نداء إلى التقدّم في الإيمان فهي، في الوقت عينه، تجربة أي نداء (إغواء) داخلّي لنعمل الشّر. التجربة هي عمل الشيطان.
ما استطاع العهد القديم أن يسبر (ينزل إلى) أعماق الشر، ويكتشف فيه هذا الوجه المرعب. يسوع وحده هو الذي تجاسر فواجهه. نزع القناع عن وجه المجرّب، وكشف في الوقت عينه، كل وجهات المحنة. لسنا فقط أمام متّهم في البلاط الإلهي، أمام الشيطان الذي يتحدّث عنه سفر أيوب. لم نعد فقط أمام حيّة سفر التكوين المقلقة. ها قد بدأ شخص خفيّ له قوّة تفوق قوى الطبيعة. إنه خصم الله، العدو الحاضر في كل مكان ليدمّر عمل الله. هو سلطان هذا العالم. هو "التنين العظيم، الحيّة القديمة، المدعوّ المفسد والشيطان. وهو الذي يُضلّ المسكونة كلها" (رؤ 12: 9). حين يمتحن الله إبراهيم أو شعبه ليتمّ مقصده في الحياة والمحبّة، يجد المجرّب مناسبة إغواء وتضليل ليتمّ مخطّطه في الموت والبغض. ولقد أبرز يسوع في البريّة، الهوّة السريّة، هوّة الشرّ والحريّة البشريّة، كخلفيّة للعمل الفدائي.
إذن، كلّ التجربة هي اختيار بين الله والشيطان (أف 6: 11). فما يمنعنا من اختيار الطاعة لله، ليس مأكولات مصر الشهيّة ولا ديانات كنعان الغاوية، ولا محتلّون أقوياء أو ممالك مضطهدة. وليس الضعف البشري مع أهوائه، ليس اعتداد الإنسان بنفسه وإرادته بأن يكون قوياً حتى في وجه الله. فوراء كلّ هذا، نجد المجرّب، بعد أن نزع يسوع الاقناع عن وجهه.
الله يمتحن، أو يسمح بأن يمتحن الانسان، ولكنه لا يجرّب. هذا ما يقوله القديس يعقوب في رسالته (1: 13- 14): "هنيئاً للرجل الذي يتحمّل التجربة... وإذا جُرّب أحدكم فلا يقل: الله جرّبني. فالله لا تجرّبه الشرور، وهو لا يجرّب أحداً. فالإنسان تجرّبه شهواته التي تجتذبه وتُضلّه".
نجد هنا المعنيين: المحنة بمعنى العهد القديم، والتجربة بمعنى الانجذاب إلى الشّر. إذن، الشيطان هو الذي يجرّب. إنه يدور حولنا كأسدٍ مزمجرٍ. لقد جرّب يسوع، وهو يحاول أن يدمّر عمل الرسول فيغوي المؤمنين (1 تس 3: 5) وهو يجرّب كلّ الذين يعرفون الصعوبات ويتعرّضون لها (1 كور 7: 5)، يعرفون الاضطهادات وتقلّبات الأزمنة الأخيرة (رؤ 2: 10؛ 20: 1- 10). فكما أن هجوم الشيطان جاء متدرّجاً متنامياً في حياة يسوع، ستكون كلّ قدرته وتضليله في نهاية الأزمنة.
الحياة المسيحيّة حياة مهدّدة دوماً بالتجربة أي بالشيطان، حتى وإن رفضنا التلفّظ باسمه. تحدّث القديس يعقوب عن الأهواء ولكنه رسم هذا البرنامج: "فاخضعوا لله. وقاوموا إبليس" (يع 4: 7).
يسمح الله للشيطان بأن يعمل على مستوى اللحم والدمّ (أمراض، أحداث خارجيّة) كما على مستوى حياة الانسان الحميمة. ولكنه لا يسمح بأن تتعدّى التجربة قوانا: "الله أمين، فهو لا يسمح بأن تُجرّبوا فوق طاقتكم، بل هو يجعلُ مع التجربة مخرجاً، ويعطيكم القوّة لتتحمّلوا هجومها" (1 كور 10: 13).

خاتمة
وجد العهد القديم كماله في يسوع الذي امتُحن وجُرّب. وحياتنا كلها وجدت فيه نورها وقوّتها.
فالمحنة هي المناخ الذي يعيش ميه الإيمان. فما دُمنا نسير في الطريق إلى راحة الله، فنحن نسمع الصوت عينه يدعونا إلى الاختيار: "ها أنا أعرض عليك اليوم، الحياة والسعادة، الموت والشقاء. فاختر الحياة". ويحصل أن الله يخضعنا لهذا السؤال كما وكأنه يُعذّبنا، كما فعل مع إبراهيم وأيوب. أما نحن فقد استنرنا بمحنة النزاع والصليب، ولهذا نرى في الله دوماً أباً لم يوفّر ابنه، بل أسلمه عنّا جميعاً (روم 8: 32). ومنذ الآن، نجد الفرح في الرجاء، واليقين بأننا سننتصر.
تكشف لنا تجربةُ يسوع أن الوضع البشري أقسى مما نتخيّل. إنه صراع فيه الخطر والمخاطرة ضدّ قوى الظلمة (أف 6: 12). فإذا كان ابن الإنسان قد جُرّب، فلا يتعجّب بنو آدم إن عضّتهم الحيّة القديمة بنابها. غير أن انتصار ابن الإنسان هو عربون انتصارهم. تلك هي حالة اسرائيل الجديدة، كنيسة الله. إنها تسير وسط غوايات العالم الذي تسلّط عليه الشيطان. ولكن المسيح الذي انتصر على تجاربه في البريّة يعرّفنا إلى الأساليب البسيطة الوضيعة التي بها ينتصر مخطّط الله.
إن المسيحي يسير بثقة متواضعة، على خطى رئيسه. ويحسّ أنه سريع العطب، وأنه مجروح في أعماق أعماقه. يُحسّ أنه ضعيف "في اللحم والدم"، في الأهواء التي يجد له الشيطان فيها حليفاً. ولكنه يحسّ أيضاً بأن الروح الذي قاد يسوع إلى البريّة، يقوده ويوجّهه. قال المجرّب: "إن كنت ابن الله". ولكن "الروح نفسه ينضمّ إلى روحنا ليشهد أننا أبناء الله، وهو يهتف فينا: أبّا، أيها الآب" (روم 8: 15- 16). فنحن لسنا في اللحم والدمّ، بل في الروح (روم 8: 9). ونحن نعرف منذ الآن، أن الشيطان يُقهر بأيدينا.
ولهذا، حين يقدّم لنا يسوع توصيتين عن التجربة، يتحدّث عن السهر والصلاة والرجاء. ففي وقت النزاع وفي نهاية تجاربه، قال يسوع للرسل الذين اختارهم: "اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة (لئلا تقعوا). فالروح قويّ، أما الجسد فضعيف" (مت 26: 41). إذن، يدعونا يسوع إلى وعي ذواتنا: قد تكون إرادتنا طيّبة ولكّننا ضعفاء. قد نتشكّك حين نرى ضعف الله في الظاهر فنتراخى ونتراجع.
وفي الصلاة العظيمة التي علّمنا إياها يسوع، جعلنا نطلب من الآب: "لا تخضعنا للتجربة، ولكن نجّنا من الشرّير" (مت 6: 13). لا شكّ في أننا لا نستطيع أن نفلت من الوضع البشريّ. والكنيسة نفسها لا تستطيع أن تفلت من محن نهاية الأزمنة. ولكن، علينا أن نصلّي لئلا تحملنا التجربة بسبب ضعفنا، ولكي تقصر الأيامُ القاسيّة التي يتعرّض فيها إيماننا لنكران حبّ الله. وعلينا أيضاً أن نصلّي إلى الآب لننجو من الشرير. وهكذا نتوجّه إلى المستقبل برجاء. نتوجّه إلى الملكوت السماوي حيث يخسر الشيطان كل قدرته وحيث يصبح الإيمان عياناً، وحيث تثبت الحريّة في الحبّ، وحيث يحلّ محلّ حياة المحنة والتجربة عهدٌ أبديُّ في راحة الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM