سفر القضاة
 

 

سفر القضاة

مقدمة
يبدو سفر القضاة، وهو الثاني بعد سفر يشوع بن نون في سلسلة أسفار الأنبياء الأولين أو السابقين، وكأنه تتمة لهذا الأخير. فهو يواصل الإخبار على طريقته عن إحتلال بني اسرائيل لأرض ما زالت تواجههم فيها العقبات المتنوّعة، وعن أعداء كثر ينبغي التصدّي لهم والانتصار عليهم للتمكّن من الاستقرار والعيش بسلام. يتضمن السفر عرضاً عن حياة الأسباط في المرحلة التي تلي دخول أرض الميعاد وموت يشوع خليفة موسى، وحتى ولادة صموئيل وقيام النظام الملكي.
يُبرز سفر القضاة قضية استملاك الأرض على حقيقتها، لا كما سبق ووصفها سفر يشوع، فهو لا يذكر انتصارات عسكرية مفاجئة، وسريعة، وشاملة، يحققها شعب متلاحم ومتراص في كتلة واحدة، ويجمعه إيمان واحد بالإله الأحد. والواقع هو انه، بين القرنَيْن الثالث عشر والحادي عشر، عملت قبائل اسرائيل المشتّتة، وحتى أحياناً كثيرة المتخاصمة، على استعمار أرض إلى حدٍّ ما غير آهلة، وبطريقة تدريجية لا شاملة؛ وكان عليها أن تواجه باستمرار هجمات الجيران الذين كانوا معتادين على النهب والسلب، وبالتالي التنبّه الدائم لعمليات الانقضاض وخطر الاكتساح.
لكن ماذ يفيد المؤمن المسيحي أن يقرأ هذه الأمور التي حدثت قبل حوالي الثلاثة آلاف سنة، وفي بيئة تفصلها بدائيتها عن حضارتنا الحالية وعن تقدم البشرية الهائل؟ سنحاول اكتشاف الجواب شيئاً فشيئاً.
1- مَن هم القضاة؟
يعود اسم السفر إلى الرجال البارزين الذين أقامهم يهوه قادة لشعبه اسرائيل، في الفترة الممتدة بين موت يشوع ونشأة صموئيل (2/16- 19؛ 3/9- 10)، كي يخلّصه على يدهم من الضيقات المتلاحقة. لا يعني لقبهم (شفطيم في العبرية) أنهم كانوا قضاة بالمعنى القانوني للكلمة، كا نتداوله في أيامنا، حتى ولو حدث أن مارسوا هذه المهمّة بالذات، كما فعلت دبورة النبيّة (4/5). لا يرد هذا اللقب في صيغة الجمع إلاّ في قض 2/16- 18، ولكن وصف الحقبة الزمنية الممتدة من موت يشوع وحتى قيام الملكية بأنها "زمن القضاة" وارد في التقليد الكتابي (2 صم 7/11؛ 2 مل 23/22؛ را 1/1.
اقتبس العبريّون كلمة شوفطيم عن الكنعانيين. ويخبرنا عاموس النبي عن وجود قاض عند المؤابيين (عا 2/3). كما يذكر المؤرخ يوسيفوس أنه كان لدى الصوريين ثوفطيم، كما لدى أهل قرطاجة أيضاً. أما في العبرية، فتعني كلمة شفط أساساً "حكم" أي صحّح وضعاً مشبوها، أو أجرى العدل، أي نصر الحقّ المهدور، بمعنى أنه حقّق نوعاً من التحرير. يحكم القاضي بالعدل وفق الحق، أي أنه "يجعل الحق ينتصر، فيتأمّن بذلك نوع من الخلاص؛ لذلك نصادف معاً كلمتي "قاض" (شفط) و"مخلّص" (موشيع) 3/9 و15)، كما يُستعمل فعل "خلّص" بدلاً من "قاضَى" أو "حكم" (3/9 و31؛ 6/15؛ 10/1). استناداً إلى هذه النظرة يسمى عتنيئيل وأهود مثلاً "مخلِّصين" (3/9 و15).
فالقاضي إذاً هو الرجل القوي الذي يصحّح وضع اسرائيل عامة، أو وضع عدّة قبائل أو واحدة منها فقط، عندما يكون هذا الوضع عرضة لهجمات الشعوب المجاورة أو لخلل داخلي عائد إلى عدم أمانة الشعب المختار لله، يقوم بوظيفة الرئيسي الذي يقود الشعب في المعركة وينتشله من الخطر. ويُنتقى القضاة من قِبل الله الذي يساندهم في أعمالهم الحربية ويضمن لهم النصر، لأنه هو الذي يخلص بواسطتهم.
ويُظهر السفرُ القضاة وكأنهم رؤساء مارسوا سلطتهم تباعاً على كل اسرائيل (4/4؛ 10/2- 3؛ 11/27؛ 12/7- 14؛ 15/20؛ 16/31)، لكن هذه الصورة لا تتوافق مع ما توحيه القصص التي تظهرهم مبادرين إلى إنقاذ عشيرة أو قبيلة، واستثنائياً مجموعة قبائل، من وضع ما حرج ودقيق. وعند انتهاء مهمّتهم ينحصر نفوذهم، ولا يعود لهم من سلطان سوى على المنطقة التي يقيمون فيها. فهم إذاً أبطال حرب، يثيرون حيّة مَن كان ضعيفاً أو فاتراً في الأوقات العصيبة، ويوحّدون مَن كانوا متفرّقين ومشتّتين، ويعملون على استرجاع ما اغتصب إلى شعبهم؛ لذلك يُعتبرون مقاومين ومحرّرين، أعطاهم الله قدرة خارجة عن المألوف، عندما غلغل روحه في أعماقهم، أو تملّكهم روحه القدوس، ليردّوا الحق إلى الشعب، وبالتالي إلى الله. وتفسّر المآثر التي تميّز القضاة بدخول روح الله فيهم (6/34؛ 11/29؛ 14/6 و19؛ 15/14). إنّ قصّة كل قاض هي مغامرة، تشكل "حلقة" قائمة بذاتها، تتردّد فيها الصيغ ذاتها التي تذكّر بخطيئة اسرائيل، ثم بعقاب الله له على ذلك، وأخيراً بقراره بتخليصه. هذه السلسلة من الحلقات (3- 16) تقطعها لمحات وجيزة عن هذا أو ذاك من القضاة الذين لم يحفظ عنهم التاريخ إلاّ القليل.
يمثّل القضاة ذهنية عصرهم، وهذا ما تشهد عليه قساوة خلقيتهم؟ فهم أبطال مرتبطون بزمن كانت فيه العادات ما زالت على خشونتها، والمبادئ الأخلاقية على أصولية غير معتدلة. لذلك قد يسوء في عينينا احتيال أهود، ومقتل سيسرا على يد ياعيل، وتقدمة يفتاح ابنته ذبيحة، وغراميات شمشمون، لكن هذه الأمور هي صورة حقيقية ودائمة للإنسان بوجهه البشري وبنقائصه.
ويُعتبر القضاة أعلاماً وضعهم الله على طريق توصل إلى البعيد، إلى الخلاص النهائي. من هذا المنظار، يبدون كأمثلة للأمانة (أنظر سي 46/11- 12)، وكشهود للإيمان الذي يشدّنا نحو التحقيق للوعود (أنظر عب 11/32).
2- هدف سفر القضاة
يبيّن لنا سفر القضاة كم أن نشوء الوحدة بين أسباط إسرائيل كانت صعبة، واحتلال الأرض واستملاكها بطيئين، والخصومات والمنازعات بين القبائل قوية، والإيمان بدائياً، والتهديدات الخارجية جدية ومتواصلة. لكن القصص التي يتضمنّها السفر هدفت أساساً إلى إعطاء تعليم، وهو أن الصعوبات التي واجهها الشعب الاسرائيلي عند دخوله أرض كنعان، لم تكن سوى امتحان شاءه الله في سبيل التهذيب والتقويم، وعلى كل جيل جديد أن يكتشف ما سبق وتعلّمه الآباء والأجداد عند خروجهم من مصر، ومسيرهم في البرية، ودخولهم أرض الميعاد. والعبرة الأهم في هذه القصص، هي أن العقاب يكون نصيب الشعب في كل مرّة ينسى إلهه؛ على عكس ذلك، تشكّل العودة إلى الله والتوبه إليه (3/7- 9، 12- 15) ينبوع خلاص له. هكذا يصبح تأمل الماضي أمثولة للحاضر وللمستقبل.
تهدف النيّة المخبوءة وراء القصص الأقدم التي في سفر القضاة إلى التعليم بأن الله هو السيّد المطلق، والمدافع عن اسرائيل، ومخلّصه عند الضيق والخطر. بالمقابل، على اسرائيل أن يخدم الله وليس سواه من الآلهة. إنّ اللّحاق بآلهة جديدة وغريبة، أي آلهة الكنعانيين، لا يقدّم أيّ عون للشعب المختار. لأن هذه الآلهة لا تخلّص (10/14)، بل يهوه وحده الذي يفعل، وهذا ما يحقّقه على يد القضاة الذين يرسلهم من أجل هذه الغاية.
نشهد في سفر القضاة بروز نوع من القراءة الروحية لتاريخ اسرائيل. فإذا كان هذا الأخير ضحية أعدائه، فذلك بسبب خطاياه، وإذا كان الله يقبل بأن لمجرّره منهم على يد قاض يقيمه لشعبه، فذلك نعمة مجانية يهبها له بعد سماعه صراخه وتأوّهاته واستغاثته.
3- هيكلية سفر القضاة ومضمونه:
تبرز مقدمة السفر التاريخية باقتضاب عملية استيطان القبائل في كنعان (1- 2/5) وتحرّك كل منها على انفراد، وتقدمها ببطء، ثم انهزامها. وترمي إلى تبيان وضع بني اسرائيل المهدّد بالخطر أيام القضاة، بسبب عصيانهم، كما يؤكّد ملاك الرب (2/1- 5).
بعد ذلك تأتي القصص التي تخبر عن القضاة بالذات (3/7- 16/13). لكن سلسلة القصص هذه تفتتح بمقدمة عقائدية (2/6- 3/6) تدلّ القارئ على الأمثولات الرئيسية التي عليه استخلاصها منها، وهي التالية: لقد تعرّض بنو اسرائيل لظلم أعدائهم لأنهم سبقوا فتركوا إلههم وساروا وراء آلهة الكنعانيين. فالخطيئة إذاً هي سبب المأساة أو العقاب، والندم والتوبة يجعلان الله يسامح ويرحم، فيحرّر شعبه مجدداً ويخلّصه. هكذا سمع الله أنين شعبه وصراخه، فأرسل إليه القضاة. ينقذوه، ولكنّ اسرائيل لم يتّعظ ويتعلّم، فسقط مراراً وتكراراً في خطاياه السالفة، وصنع الأسوأ في عيني الرب.
بعد هذه المقدّمة، يتبع الكاتب تاريخ كل من القضاة على حِدَة (3/7- 16/31)، بهدف تبيان الفكرة التىِ في المقدمة الثانية العقائدية. العديد من هؤلاء يمرّ ذكره بسرعة، وهم القضاة "الصغار" التالية أسماؤهم: شمجر، تولع، يائير، إبصان، أيلون، عبدون. أما بالنسبة للقضاة "الكبار"، فهناك قصصٌ موسّعة تهدف خاصة إلى التأكيد على تعليم المقدمة العقائدية، وتشمل: عتنيئيل، أهود، دبوره وباراق، جدعون، أبيملك، يفتاح، شمشون.
وينتهي السفر بملحقين يذكّران بالفوضى التي كانت سائدة في اسرائيل في ذلك العصر. يخبر الأول عن ارتحال قبيلة دان باتجاه الشمال وتأسيس معبد دان هناك (17-18)، والثاني عن الجريمة المشكِّكة التي ارتكبت في جبع، وعن حرب القبائل ضد بنيامين الذي كان يرفض معاقبة المذنبين (19- 21).
4- التاريخ في سفر القضاة
كما في سفر يشوع بن نون، كذلك في سفر القضاة، لن يجد القارئ في هذا أو ذلك تاريخاً علمياً، شاملاً ومتكاملاً، بل سلسلة من وجهات النظر الجزئية، جُمعت ونُسقت من أجل إعطاء تعليم لاهوتي معيّن. بالرغم من هذا، فإن السفر يتضمّن أخباراً ومعلومات صحيحة على ما يبدو، هي المرجع الوحيد للحقبة الزمنية الممتدة من موت يشوع وحتى قيام الملكية، علماً أنها تساعد فقط على تكوين فكرة عامة ولكن غير دقيقة عن زمن القضاة. فقبل إنشاء الملكية، كانت تنقص بني اسرائيل الوحدة المتينة بين الأسباط، إذ إن الصلات بين هذه الأخيرة، باستثناء رباط القُربى، قد تتبدل بين التحالف والعداوة والتخاصم. لذلك كان لكل من هذه الأخيرة تاريخها، وهذا يعني أن الذكريات المتناقلة من جيل إلى جيل، والتي دُوِّنت لاحقاً عن تلك الحقبة، ليست هي ذاتها للجميع. لقد حفظ التقليد الأدبي الشعبي هذه الذكريات عن طريق القصص المختلفة والمتنوعة والمتوارثة، حيث نجد الطريف، والمأساوي، والهزلي، والنادر، والساخر، الخ.
إضافة إلى الاهتمام بالتاريخ، هناك اهتمام آخر مرتبط بالأول، ألا وهو، على سبيل المثال، إبراز دور المرأة الفاعلة كدبورة مثلاً (قض 4)، وشرح رتبة طقسية كنذر يفتاح لابنته وتنفيذ ما وعد به الرب (قض 11/29- 40)، وإعطاء قدوة مجسّدة كدعوة جدعون (6- 8) أو شمشون (13- 16).
إن التاريخ أو معظم التاريخ الذي نجده في السفر، وبالرغم من الإطار اللاهوتي القَشِف والصارم، يحتوي على عنصر الإثارة، إذ تشكّل الوجوه التي تملأه حياة، مثل دبورة، وجدعون، ويفتاح، وشمشون، ما يشبه استعراضاً لشخصيات هامّة من العهد القديم. فطبع هؤلاء، ومغامراتهم، وواقعية معظم أعالهم الخارقة، يسمح باعتبارهم في مصافِّ الأبطال العظام الذين نجدهم في مختلف الثقافات. وما يقرّبهم مثلاً من يشوع أو من داود عن الأبطال المذكورين من جهة ثانية، هو كون الله مرجعيّتهم في حياتهم الشخصية وفي رسالتهم.
يعطي سفر القضاة صورة عن صراعات واضطرابات ذلك العصر، فالاسرائيليون لا يعيشون في وحدة سياسية، إذ كان لكل عشيرة أو قبيلة تاريخها وتقاليدها التي عبر عنها بقصص نموذجية من الأدب الشعبي، ينبغي أن تقيَّم استناداً إلى أصلها والمواضيع التي ألهمت كاتبيها. لقد تم تجميع هذه القصص بنيّة دينية أكثر منها تاريخية، وهذا ما يمكن أن يتبيّنه القارئ المتنبّه؛ فالمقصود هو إبراز يهوه يعمل في تاريخ شعبه، وتعليم هذا الشعب طريقة الدخول في تصميم إلهه من خلال الأمانة للعهد. لذلك فالتواريخ التي نصادفها في السفر تبقى جزئية، لأنّ الكاتب لا يهتم إلاّ قليلاً بهذه الأخيرة، بالمقارنة مع هدفه اللاهوتي والتعليمي. قد يكون مصدر بعض الأرقام المذكورة قديماً، لكن معظمها من وضع الحرّرين الذين يعبّرون عن مرماهم الديني من وراء القصة بنوع من الهيكلية العامة لسردهم. لذلك يصعب الحصول على تتابع الأحداث، منذ دخول العبرانيين أرض كنعان في أواخر القرن الثالث عشر، وحتى قيام الملكية مع شاول حوالي العام 1030، لأنه ليس مستبعداً أن يكون بعض القضاة معاصرين لبعضهم البعض ولكن في أماكن مختلفة.
بالرغم من كل هذا، يبدو سفر القضاة ذا أهمية بالنسبة للمؤرخ. فالمقدمة (1- 2/5) تشكّل مصدراً قيماً من حيث المعلومات حول احتلال كنعان غير المكتمل. كما يعكس نشيد الفصل الخامس الحالة التي كانت عليها القبائل في الواقع. وبشكل عام، يمكن القول بأن القصص المدرجة في السفر تعطي صورة تاريخية مقبولة عن ذاك العصر المضطرب الذي كان فيه الإسرائيليون غير الموحّدين تحت تهديد الكنعانيين وخطرهم المتواصل والمتنوع.
5- قيمة سفر القضاة الدينية
ضمن إطار رؤية للتاريخ تستلهم فكر سفر تثنية الاشتراع الديني، يبرز سفر القضاة الموضوع الأساسي للتاريخ الاشتراعي، أي موضوع المجازاة وخطيئة الإنسان، وحكم الله على الخاطئ، ثم رحمته. لقد قدّم الله للناس عهده بمنّة مجانية منه، فيكونون سعداء إذا قبلوا هذا العهد، وتعساء إذا ما رذلوه. يأخذ الكاتب القصص القديمة التي كانت متداولة، دون أن يشذّبها، ويسبغ عليها طابعاً معيّناً ينسجم مع معتقده اللاهوتي (2/11- 19)، على شكل قراءة دينية مرتكزة على الأحداث التي يطرد. ثم يستعيد بإيجاز الأفكار ذاتها ستّ مرات، في المقدمات اللاهوتية لتاريخ القضاة الكبار، أي أهود، ودبور، مع باراق مساعدها، وجدعون، ويفتاح، وشمشون، وفي كل واحدة من هذه المراحل التي تبرز كلاًّ من القضاة، نجد التتابعية اللاهوتية ذاتها التي تتضمنها النظرة الاشتراعية للتاريخ، وهي أربعة: خطيئة بني اسرائيل، عقاب الله لهم، استغاثتهم بالله، وأخيراً يأتي الجواب الإلهي الذي يسامح شعبه ويرسل إليه محررا.
أ- خطيئة اسرائيل:
فيما كان بنو اسرائيل يحلّون في أرض كنعان، كانوا يخالطون شيئاً فشيئاً شعوب تلك الأرض، فيتأثرون بجاذبية آلهتهم التي كان رائجاً أنها تؤمّن إخصاب الأرض والعواقر، ويقتبسون عادات مخالفة لعاداتهم ولتقاليدهم. لذلك تعرّضت ديانتهم لخطر جدّي كبير، وهي التي تشكّل عامل الوحدة الأكثر فعالية، والتي تحفظ الحسّ المشترك بين أفراد الشعب وبين الأسباط، وتثير الحميّة عند بروز المخاطر الخارجية، وتكسب القادة المحرّرين إقداماً، ومهارة، وقوة جسدية، وهذا كله علامة اختيار إلهي لهؤلاء، وتدخل الله لصالح شعبه.
لم يصمد بنو اسرائيل في وجه الإغراءات الكنعانية، فخطئوا إلى الرب. وتقوم خطيئتهم، على ما يندّد به الكاتب، على ترك الإله الحق وعبادة الأصنام، وهذا ما يوازي القسم الأول من وصايا الله العشر (خر 20/2- 11)، وعلى الظلم الاجتماعي الذي يندّد به الأنبياء عامة، وهذا ما يوازي القسم الثاني من الوصايا عينها (خر 20/12- 17).
ويعبّر الكاتب عن واقع الحال من خلال قوله الذي يتكرّر باستمرار: "فعل بنو اسرائيل الشرّ في عيني الرب" (2/11؛ 3/7 و12؛ 4/1؛ 6/1؛ 10/6؛ 13/1)؛ ويضيف موضحاً: "تركوا الرب وعبدوا البعل والعشتروت" (2/11 و13؛ 3/7؛ 10/6)، وهما من آلهة كنعان. يُعتبر الأول المبدأ الإلهي الذكر أو المخصب، والثانية إلهة الحب والخصب.
ب- غضب الرب:
يأخذ غضب الرب شكل هزيمة عسكرية تلحق ببني اسرائيل نتيجة خيانتهم التي تبدو بسبب تكرارها وكأنها قدرية؟ ويعبّر الكاتب عن هذا الغضب بقوله: "أسلمهم الرب إلى أعدائهم" (3/14؛ 3/8؛ 4/2؛ 6/1؛ 10/7). لكن لا ينبغي أن يُفْهَم من هذا الكلام أن الأعداء المنتصرين هم مرسلون من الله ليكسروا الشعب؟ إن ما يحدث هو أن الله يسحب من شعبه القوة الضرورية لدفع الأعداء، تلك القوة التي يوحّد وجودها الشعب فيقوى، ويَفْقِده غيابُها الروح المشتركة فيصبح ضعيفاً وعاجزاً عن الدفاع عن نفسه.
ج- استغاثة الشعب وصلاته:
عند ظهور الخطر أو وقوع الكارثة، يصرخ بنو اسرائيل إلى الرب مستغيثين به كي ينقذهم. يلاحظ القارئ أن الصيغة ذاتها تتردّد مرات عدّة في السفر: "فيصرخ بنو اسرائيل إلى الرب" (3/9 و15؛ 4/3؛ 6/6 و7؛ 10/10). نشير هنا إلى أنّ الاستغاثة تعني مسبقاً أن الشعب قد ندم على فعلته وتاب إلى الرب.
د- الخلاص:
يستجيب الرب لتضرّع شعبه وصلاته، فيقيم له قاضياً (2/16) أو مخلّصاً (3/9 و15)، يكون نشاطه العسكري الناجح علامة مغفرة الرب له ورضاه عليه.
هـ- هل يثبت اسرائيل على أمانته؟
نستنتج ممّا تقدّم أن بني اسرائيل لم يعتادوا الثبات على وصايا الرب، فكانوا يسقطون مجدّداً في الخطيئة، فتحل بهم النكبات باستمرار. ويمكن إيجاز حلقة المصائب والويلات ثم الخلاص منها، بعدم أمانة اسرائيل لإلهه ثم بعودته إليه وبالتالي إلى نعمته. إذا كان الله يتّحد بشعبه، فإنّ ذلك يهدف إلى أن يوحي إليه بمتطلباته التي تختصر بالأمانة له عن طريق حفظ وصاياه (2/17؛ 3/4)، وبعدم تركه واتباع آلهة أخرى (2/11، 13، 19؛ 3/7؛ 6/7 و10؛ 10/6، 10، 13: وهذا ما سمّي بالزنى بالمعنى النبوي للكلمة 2/17؛ 8/27 و33)، وبعدم مخالطة عابدي الآلهة الغريبة (2/2؛ 3/6). خارج الأمانة لله لا عهد يقوم، وتشكّل الخطيئة عقبة أمام عمله الإلهي.
يبيّن سفر القضاة سرعة عطب بني اسرائيل غير الأمناء، لذلك يسلمهم الله إلى أعدائهم عقاباً لهم على خطيئتهم، لكنه يُبرز أيضاً طول أناة الله وصبره عليهم، فهو لا ينتظر سوى الندم ليسبغ عليه نعمته مجدداً، وتوحي انتصارات القضاة بأمانة الله التي لا تني؛ فهو لا يتراجع عن إرادته المنعمة (أنظر هو 11/8- 9؛ إر 31/20). هذه العقيدة ليست حكراً على الإسرائيليين وفي وقت معيّن وحسب، بل هي ملك شعب الله في كل زمان.
6- وجوه وُضعت لتعليمنا:
مواضيع لاهوتية وروحية عديدة يمكن القارئ أن يكتشفها في سفر القضاة من خلال تأصّله في نصوصه ودراستها والتعمّق بها. ولكن أيضاً من خلال التعرّف إلى بعض الوجوه التي نختار ثلاثة منها، لغناها بمدلولاتها الكتابية.
أ- دعوة جدعون:
جدعون هو نموذج القضاة من حيث دعوته التي تتميّز بالتجلّي الالهي وبالبشارة. إنه اختبار لقاء مع الله، يذكّرنا باختبار ابراهيم، وموسى، وإرميا، وخاصة العذراء مريم. وكما يحصل عادة في تجلّي الله لمختاريه، لا يُظهر الله ذاته لجدعون إلاّ ليرسله يتمّم الرسالة التي أوكلها إليه، أي تخليص شعبه: "انطلق... وخلّص اسرائيل... أفَلَمْ أرسلك؟" (6/14). نجد هنا شبهاً مع دعوة موسى (خر 3/1- 15)، وإرميا (1/4- 10) ومريم (لو 1/26- 38). هذا الأمر عينه سيحدث مع بولس، منذ طرحه السؤال "مَن أنتَ يا ربّ؟" (أع 26/15) وحتى الجواب "إني أرسلك" (أع 26/17). إن يسوع "يرسل" أولئك الذين يقبلون أن يكونوا تلامذته (يو 17/18- 21).
من ناحية ثانية، اختيار الله هو غالباً محيّر للمنطق البشري. هكذا هو انتقاؤه داود وهو الأصغر بين أبناء يسّى (1 صم 16/1- 13)، وبيت لحم من بين عشائر يهوذا (مي 5/1؛ مت 2/6)، وهذا ما يقرّ به جدعون عندما يعلن أن "عشيرته هي الأضعف" (6/15). إن الله يفضّل التعريف بذاته من خلال الضعف والجهل، أكثر منه من خلال قوة العالم وحكمته (1 كور 1/18- 31).
كما حلّ بيعقوب سابقاً (تك 32/31)، أو بأشعيا لاحقاً (6/5)، تملَك الخوف والرهبة جدعون عندما تراءى له ملاك الرب، فعبّر عن ذلك بقوله: "آه أيها السيد الرب، إني رأيت ملاك الرب وجهاً لوجه" (6/22). يحلّ على المؤمن دوماً خوف عميق عندما يكتشف شيئاً من عظمة الله، كا حصل مثلاً لحرّاس قبر يسوع (متى 28/4)، أو للتلاميذ الذين رأوا معلّمهم ماشياً على الماء (مر 6/51). حتى مريم اضطربت عندما بشّرها الملاك (لو 1/29).
في كل هذه الحالات، يأتي ردّ الربّ مطمئناً: "لا تخف" (6/23). ترد هذه العبارة مرات عدة في الكتاب المقدس، يشدّد بها الرب عزم أولئك الذين يبوح إليهم بوعده (تك 15/1)، أو يحمّلهم رسالة (إر 1/8). وسيقول الملاك الكلام ذاته للعذراء مريم (لو 1/30). إن المؤمن الذى يهبه حضور الرب الحيّ قوّة، يفقه بوضوح معنى دعوته له. لذلك، ولأن غيرة الله كانت تملأه، "وروح الرب" يتملكه (11/29)، لن يخاف جدعون أن يذهب ليحارب ضد بعل وضدّ المِدْينيّين. ونلاحظ أن الكاتب يشدّد في سفر القضاة على أن "روح الرب" كان على الرجال الذين يريد أن يجعلهم قادة لشعبه (3/9- 10). ففي نصوص عدّة من السفر، يشدّد الكاتب على أن روح الرب كان على هذا أو ذاك من القضاة. لنستعرض أولاً بعض ما ورد بهذا النصوص في السفر:
- "وكان روح الرب على (عتنيئيل)، فتولّى القضاء لاسرائيل، وخرج للحرب، فأسلم الرب إلى يده... ملك أدوم، واشتدّت يده عليه..." (3/10).
- "وحلّ روح الرب على جدعون" (6/34)، فطارد المديّنيين والعمالقة وانتصر عليهم.
- وكان روح الرب على يفتاح (11/29). "وعبر يفتاح إلى بني عمّون ليحاربهم، فأسلمهم الرب إلى يده" (11/32).
- "ويبدأ روح الرب يحرك (شمشون)" (13/25). ونزل شمشون إلى تمنة (الفلسطية)، وكان يطلب علة على الفلسطيين (14/1 و4).
-"فانقضّ روح الرب على شمشون، فشق الشبل كما يُشقّ الجدي، ولم يكن في يده شيء (14/6).
- "وانقض روح الرب على شمشون" فنزل إلى أشقلون، وقتل منهم ثلاثين رجلاً وأخذ أسلابهم (14/19).
- "فانقض عليه (أي شمشون) روح الرب، فإذا الحَبْلان اللذان على ذراعيه كأنما هما كتّان أحرق بالنار، فانحلّت القيود عن يديه" (15/14)...، وقتل بفكّ حمار ألف رجل (15/15).
يظهر "الروح" في الآيات المذكورة آعلاه وكأنه قوّة خارقة، تعطى فجأة لإنسان ما، فيصبح بفضلها قادراً على التحكّم بطريقة غير عادية بواقع أو بوضع ما، لأنها من الله، وتخبرنا النصوص أن عملاً حربياً ناجحاً يتبع عادة نوال هذه القوة، وذلك لأن هناك تدخلاً إلهياً يضمن النصر في المعركة لخاصّته.
هذه القوة التي من الله، توهَب لهذا أو ذاك من بني اسرائيل من أجل تحرير الأرض من أعداء يجب الانتصار عليهم وإبادتهم أو طردهم. ويرمي واضع سفر القضاة بكلامه عن هذا الموضوع إلى أن يبيّن لقارئه أن انتصارات كهذه إنّا هي إنعام من الله، وأن "مخلِّصي" اسرائيل لم يكونوا على ما كانوا عليه من القوة لو لم يتملكهم "روح الرب"
في هذا العمل العظيم يُشرك الله بعض الناس الذين يعمل بواسطتهم، كما هم، ومن خلال ما هم عليه، من طبع، ومواهب، ومحدودية، وفهمٍ، وقوّة جسدية، الخ. فالله يحقق تصميمه الخلاصي بوسائل بشرية جداً أحيانا، وعلى يد أشخاص يهبهم روحه الذي يحثهم على القيام برسالتهم في الوقت الذي يحدّده هو. لذلك كان هناك القضاة، والملوك، والأنبياء، والحكماء، والرسل، وجميعهم يتملّكون الروح، ويهبهم الحكمة والوة، ويجعلهم يعملون. ولكن عند تمام الزمان المحدود، تجمّع كل هؤلاء في مختار الله، في المسيح يسوع، مخلّص العالم.
ب- مأساة في نذر يفتاح:
كان "روح الرب" على يفتاح كا كان على غيره من القضاة المختارين، (11/29)، فقاد شعبه وخلّصه من الظم، بالرغم من نذره "اللاإنساني" وغير المقبول الذي نذره للرب. فَوَعَدَه بتقديم أول شخص يخرج للقائه، حين عودته بسلام من محاربة بني عمّون، محرقة للرب (11/31)، أي بإصعاد محرقة بشرية، وهذا أمرّ يرفضه كل إنسان، وبالأخص المسيحي. فهل هذه القصّة هي حقيقية وتاريخية، أم أنها أدخلت في سفر القضاة، وهي مقتبسة عن عادات الكنعانيين؟ إن الغاية ولا شك من قصة نذر يفتاح (11/30- 31 و34- 40) هي تفسير لعيد سنوي كان يُحتفل به على الأرجح في جلعاد (11/40).
بالطبع ليست قصة يفتاح ونذره ابنته لتكون محرقة للرب مثالاً يُتَّبَع. فالحياة البشرية مقدّسة، ولا يمكن التصرّف بها، حتى ولو كان ذلك لإصعادها ذبيحة لله. لقد جرّ هذا النذر على يفتاح وعلى ابنته مصيبة لا توصف، لأن موضوع النذر هو كائن بشري، وهذا ما يشجبه الكتاب المقدس: "لا تسلم إبنك إلى مولك" (أح 18/21)، أي أنه يحرّم تقديم الأبناء ذبائح للأصنام. وعندما يخبرنا سفر التكوين عن ذبيحة اسحق (تك 22)، فإنه يرمي إلى التأكيد على عدم رضى الله، لا بل على رفضه أن يضحّي أبٌ بابنه لأي سبب كان، حتى ولو كان هذا السبب دينياً. لقد طرح هذا في بعض الأحيان على بساط البحث (مي 6/7)، كما قام البعض بتنفيذ هذا الأمر الذي تشجبه الشريعة بحزم، كما فعل آحاز الذي "أمرّ ابنه في النار، على حسب عادات الأمم القبيحة" (2 مل 16/3).
تكمن المأساة في قصة ابنة يفتاح في القَسَم الذي أدّاه هذا الأخير، وهو يجد نفسه مرغماً على الالتزام به: "لا أستطيع أن أتراجع" (قض 11/25). إن القَسَم في اسرائيل هو بالطبع شيء مقدس، ولا يمكن أن يُحَلّ صاحبه منه بسهولة (أنظر تث 23/22- 24). لذلك على المؤمن بالله ألاّ يصنع نذراً يتعدّى طاقته البشرية، أو يجرّ عواقب غير مقبولة على الحياة البشرية، لأنه بالتالي يكون متعارضاً مع مشيئة الله.
ج- شمشون نذير الله:
شمشمون هو بطل محلّي، اشتهر بقوّته الجسدية الخارقة، احتال على الفلسطيين ولكنه لم ينجح في تخليص البلاد منهم، لأن الربّ سيحقّق هذا الأمر على يد شاول وداود.
في القصّة الأولى عن شمشون (13/2- 7 و24- 25 أ)، نجد قصة البشارة بهذا الأخير المشابهة لمثيلات لها في الكتاب المقدس، وهي تهدف إلى توضيح مستقبل ومصير شخص ما، حياته مثالية بشكل من الأشكال، وإلى أن تبيّن أن سرّ كائن بشري ما يبدأ حتى قبل الحبل به، في تصميم الله الذى ينظم كل شيء بحكمته.
إن لمشاهد البشارة هذه إطاراً أدبياً ثابتاً وواضحاً: يبشّر الله، وغالباً ملاكه، بولادة ابن، فيعترض الوالدان، أو أحدهما، بسبب التقدّم في السنّ، أو لأن المرأة عاقر، لكن الله يعطي علامة تؤكد ما يقوله، ويكرَّس الولد لخدمة تصميمه تجاه شعبه. وتحسن المقارنة في هذا المجال بين النصّ المتعلّق بشمشون، والنص الذي يقص بشارة العذراء مريم (لو 1/26- 38).
لقد "كانت امرأة منوح عاقراً" (13/2). كما كانت سارة زوجة ابراهيم أيضاً، عاقراً ومتقدمة في السن (تك 17/17؛ 18/11)، وحنة التي ستصبح أم صموئيل النبي (1 صم 1/2)، وأليشبع (اليصابات) والدة يوحنا المعمدان (لو 1/7). في كل هذه القصص، هناك تأكيد على مجانية عطية الله الكاملة والعجيبة.
منذ الحبل بالولد، يُفرَض على الأم نوع من الحياة القَشِفَة، وهذا ما سيتّبعه الإنسان المنذور لله أيضاً، فلا يشرب "خمراً أو مسكراً" (13/4). إن "النذير لله" (13/5) هو إنسان مكرّس لله من بطن أمّه (13/5؛ 16/17). هكذا سيكون صموئيل (ا صم 1/11)، ويوحنا المعمدان (لو 1/15)، نذيرين للرب. والنذر هو شكل من أشكال التكرس لله حتى نهاية الحياة، وقصة شمشون (قض 13- 16) تبقى نموذجية في هذا المجال. فمن العلامات الخارجية التي تدل على تكرّس النذير، الامتناع عن شرب الخمر ليس لأنه قد يسبب السكر، بل لأنه ذو طابع غير طاهر، كونه ناتج عن الاخمار الذي هو نوع من الفساد، وبالتالي يُبعد عن الله، وعدم قصّ الشعر مطلقاً لأن ما هو "طبيعي" هو أقرب إلى الله (أنظر عد 19/2؛ تث 21/3؛ 1 صم 6/7). ولدى الذهاب إلى الحرب المقدسة، كان المحاربون يتركون شعر رأسهم (5/2) لأنهم مكرّسون للرب كالنذراء (13/5؛ 16/17). وإذا كان الإيمان، والعيش في الإيمان، وخدمة الله، والصلاة والعبادة، وحفظ وصايا الله، هي التعبير عن علاقة كل مؤمن بالله وعن انتمائه إليه، فإن هناك درجاتٍ في ذلك، يمثّل النذير إحداها. وقد تكلم سفر العدد (6/1- 21) عن هذا الطقس القديم، الذي يُعتبر عملاً دينياً، وشهادة إيمان يحملها النذير ويعبّر عنها بشخصه بالذات.
أما غاية النذر فليست على الاطلاق شخصية بل هي "خلاص اسرائيل". هذه الرسالة هي التي تجعل في هذا البطل أو ذاك قاضي اسرائيل ومحرّرَه. فغالباً ما يتدخل الله في حياة اسرائيل عندما يبدو كل رجاء ضائعاً، فيختار رجلاً ما قبل ولادته كي يكرّسه لخدمته، وبالتالي لتخليص شعبه. هكذا يشكّل مختارو الله الذين عليهم يستقر روحه القدوس، من اسحق وحتى يوحنا المعمدان، أو حتى يسوع بالذات، ومروراً بشمشون، علامات حبّه المجّاني والثابت لشعبه. وشمشون، ثمرة وعد الله والمدفوع بالروح والمكرّس للخدمة، هو صورة مسبقة ليوحنا المعمدان من حيث البشارة به، ورسالته، وغيرته على ما هو الله. لكن شمشون هذا "المكرّس" ليست ناسكاً؛ إنه يبغض الفلسطيين، ولكن ليس الفلسطيّات ساكنات المدن، والأجمل من بنات قومه اللواتي يعشن حياة قشفة والمتحفظّات بشكل عام، خاصة تجاه شاب مغامر مثله، عاجز عن الصمود أمام النساء. لذلك لن يتمكن منه أحد إلا امرأة اسمها دليلة عرفت بإلحاحها وإغرائها أن تكتشف سر قوّته. ارتبطت قوّته الخارقة بالأمانة لنذره؛ وهذه القوة لم تكن كامنة في شعره، بل في استمراره على الوفاء لنذره بعدم قصّ شره (16/16- 17). ولما حصل عكس ذلك، انسحب الله منه واضمحلّت قوته، فتمكّن منه أعداؤه واستعبدوه. لكن عندما نما شعره مجدداً وهو في الأسر، تمكّن من أن يهدم البناء الفلسطي، ممهداً بذلك لتحرير البلاد على يد داود وبالتالي حلول ملكوت الله معه. وبالرغم من أن شمشون كان خاطئاً ومخطئاً في ظروف عدة، فإن سيرته توحي بأنه كان رجلاً صادقاً، عفوياً، لا يعرف الخبث والرياء. إنه رجل الحرية الذي قطّع كلّ القيود، بفضل أمانته لنذره.
خاتمة
من كل ما تقدّم، نستخلص أن تاريخ القضاة هو مخزن روحي، استودعه الكاتب وجوهاً مختلفة وعبراً متنوعة يستخرجها القارئ النبيه، ويستلهمها، ويعتبر بها، فتكون له مثالاً وتعليماً. لكن كل هذا لا يكتمل إلا بالمسيح يسوع، ولا يُفهم على حقيقته اللاهوتية إلاّ ضمن نور الروح القدس وإلهاماته. إذا كانت قصص القضاة تخلب العقول بحيويتها، وقوّتها، وجاذبيتها، وجمالها، فإنها كلّها تصبّ في صورة واحدة سابقة لملك اسرائيل الذي سينال روح الرب ليسوس الشعب بالحق والعدل؛ لكن هذا الملك لن يكون بدوره سوى صورة مسبقة للمسيح الآتي الذي عليه سيستقر الروح القدس، "ليبشّر المساكين، ويجبر منكسري القلوب، وينادي بعتق للمسبيين، وبتخلية للماسورين...، ويعزي النائحين" (أش 61/1- 2). إن أهمية سفر القضاة اللاهوتية والروحية تكمن في كونه يعدّ الطريق لرسالة الفداء والخلاص التي سيحققها الرب يسوع.
الأب أيوب شهوان

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM