الفصل العاشر: جاءت دينونة هذا العالم

  الفصل العاشر
جاءت دينونة هذا العالم

هذا ما يقول الربّ: سيقومون في وسط ضيقهم ويأتون إليّ باكراً ويقولون: "هلمّوا نرجع إلى الربّ. ضربَنا وهو يعتني بنا. جرحَنا وهو يشفينا. يُحيينا بعد يومين، وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه. يعلّمنا الربّ فنتبعه لنعرفه. أعدّ مجيئه كالفجر وهو يأتي إلينا كالمطر المتأخّر الذي يخصب الأرض".
- ماذا أصنعُ لكَ، يا أفرائيم (أي مملكة الشمال، بعاصمتها السامرة)؟ ماذا أصنع لك يا يهوذا؟ إنّ محبّتكم لي كسحابة الصبح وكالندى الذي يزول باكراً. لذلك قاتلتكم بتعليم الأنبياء وأعلنت لكم بفمي أنّكم ستموتون.
- سيتفجّر حكمك بارزاً كالنور.
- أريد الرحمة (أو المحبّة) لا الذبيحة، وأفضّل معرفة الله على تقديم الذبائح (هو 6: 1- 6).
أوّل ما يلفت انتباهنا قول النبيّ: "يجرحنا ويشفينا. بعد يومين يحيينا، وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه". إنّ هذه الكلمات تصبح على شفتي الكنيسة تطميحاً شفافاً إلى حقيقتين: الله هو الفاعل الرئيسي والخفيّ في ذبيحة المسيح. والثانية: القيامة ستتبع الصليب.
نحن لا نأتي قرب الصليب لنعزّي شخصاً غُلب على أمره. نحن لا نأتي إلى الصليب يجتذبنا سجود للألم نحبّه لذاته فنبيّن أننا مرضى وضالّون. بل نحن نأتي لنحتفل بانتصار ابن الله على الخطيئة والموت والشيطان، ومن أجل هذا الانتصار لم يتردّد يسوع في أن يسفك دمه.
نحن نبكي عند هذا الصليب لأنه يُفهمنا مرةً أخرى كم كلّف خلاصنا غالياً لفادينا. غير أننا نبكي ونحن ننشد مع المرتّل: "الذين يزرعون في الدموع يحصدون في التهليل" (مز 126: 5). الحصاد هو مصالحتنا مع الآب: "يعلّمنا فنتبعه لنعرفه... يأتي إلينا كالمطر المتأخّر الذي يخصب الأرض".
وهناك أمثولة ثانية أساسية من أجل تفسير الصليب، وهي الأولى في نظر النبيّ، ونحن نقرأها في هذه الآيات التي جُعلت على فم الله: "ماذا أصنع لك، يا أفرائيم؟ ماذا أصنع لك، يا يهوذا؟ إنّ محبّتكم لي كسحابة الصبح وكالندى الذي يزول باكراً. لذلك قاتلتكم بتعليم الأنبياء وأعلنت لكم بفمي أنّكم ستموتون". فأجاب النبيّ: "سيتفجّر حكمك بارزاً كالنور".
ونجد صدى لهذه الكلمات في أقوال حبقوق: "يا ربّ، سمعت بما عملتَ فخفتُ. أعِده في أيّامنا وعرّف به، وفي غضبك اذكر رحمتك" (3: 2).
إنّ الفكرة التي تسيطر على هذين النصّين النبويّين هي فكرة دينونة الله أو بالأحرى غضب الله. أثارته خيانة الناس، فنزل عليهم هذا الغضب. سمعنا، في كلمات النبوءة، بني إسرائيل الذين علّمتهم المحنة فأعلنوا عن استعدادهم وعن ثقتهم بأن يجدوا في ذلك الذي ضربهم، الاله الذي سيشفيهم. ولكنّ الله يشكّ في صدق هذه التوبة التي ستزول سريعاً كما الندى على الأرض في أيام الصيف. وتصبح الرؤية دينونة نهائيّة سيجد فيها اسرائيل دماره لا تبريره. وهذا ما يقوله مز 78: 34- 37: "إذ كان يضربهم كانوا يلتمسونه. يتوبون ويعودون إليه سريعاً. يتذكّرون أن الله هو خالقهم الذي صوّرهم (لا صخرتهم)، وأن العليّ هو فاديهم. ولكنهم كانوا يحبّونه بأفواههم: يخادعونه بألسنتهم، أمّا قلوبهم فلم تكن مستقيمة وصادقة، ولم يكونوا أمناء لعهده".
تاريخ شعب اسرائيل كلّه هو تاريخ هذه الخيانات التي تتبعها ارتدادات لا تدوم سريعاً. يأتي الشقاء فيرتدّ الشعب. يزول الشقاء فيعود الشعب إلى خطيئته. وأمام تكرار الخطيئة، أعلن الأنبياء بقوّة متزايدة، أنّ الله لا يُستهزأ به، وأن صبره قد نفد. صبره ليس ضعفاً بل محبّة تعرف أن تنتظر أطول وقت ممكن حتى يعود الخائن، حتى يتوب الخاطىء. ولكن، إن استفاد الانسان من صبر الله فعاش في طمأنينة كاذبة وأعلن أن الشّر لا يصيبه، إن قسّى قلبه ورفض نداءات التوبة، فسيتحوّل الحبّ الذي هزئنا به إلى غضب يحرق الناس بناره بدل أن يضيئهم بنوره. هذا ما ردّده أشعيا (1: 11- 20؛ 29: 13- 14) وإرميا (7: 3- 4). وسيلخّص يوحنا المعمدان أقوالهما في هذه الكلمات القاسية: "يا نسل الأفاعي! من علّمكم على الهرب من الغضب الآتي" (مت 1: 7)؟
نتوقّف هنا، عند هذه الفكرة التي تذكّرنا بها الكنيسة يوم الجمعة العظيمة: المخلّص هو عينه الديّان. ظنّ اليهود أن الصفتين لا تجتمعان في الله، فكانوا على ضلال. قالوا إن الله وعدهم بمخلّص، فلا يمكن أن يكون هذا المخلّص ديّاناً لهم. هو سيدين الأمم الوثنيّة ويخلّص شعبه وحده.
هذه تجربة نقع فيها نحن أيضاً، بل ازدادت خطورةً في حياتنا. نجد في الأنجيل وحي محبّة الله، محبّة سخيّة لا حدود لها، فيميل بنا فكرنا إلى القول إن وَحي الحبّ كسف بصورة نهائيّة وحي الغضب الذي أعلنه الأنبياء. ولكنّ نظرة العهد الجديد مغايرة لهذا القول: شدّد يوحنا، أكثر من سائر الأنجيليين، على المحبّة. ولكنّه شدّد أيضاً أكثر منهم على الدينونة: إنّ حبّ الله لا يُلغي الديخونة، بل يبرزها في وجه جديد. وما دمنا نضلّ في هذا المجال، فنحن لم نفهم بعدُ هذا الحبّ.
فالحبّ نفسه يُتمّ الدينونة بمجرّد حضوره. وسيكون الحكم قاسياً ولا رجوع عنه، ولا شيء ينجّينا منه في تلك الساعة الرهيبة: اذا كان الحبّ هو الديّان، فمن ينجينا؟
تعرّف الأنبياء إلى التعارض بين هذا العالم والعالم الآتي، بين مملكة الشيطان وملكوت الله، فاكتشفوا وجه الديّان. وسوف يتحيّر يوحنا المعمدان عندما يرى أن يسوع لا يمارس هذه الوظيفة. فقد قال يسوع في إحدى المناسبات: "أنا لا أدين أحداً" (يو 8: 15). وقال في مناسبة ثانية قولاً أوضح: "ما جئت لأدين العالم، بل لأخلّص العالم" (يو 12: 47). فقد بدا الأنجيل يعلن هذا الأمر على الشكل التالي: كلّ البشر خطأة، وهم لا يقدرون أن يكفّروا عن خطيئتهم. فأراد الله بنفسه أن يخلّصهم من دينونته المسلّطة عليهم. إذن، قدّم لهم عوناً علوياً جعلهم قادرين على هذا التكفير الذي يخلّصهم من الشيطان ويصالحهم مع خالقهم. هذه هي البشرى، هذا هو الانجيل.
ولكن، هذا لا يعني أن الدينونة ألغيت. فيسوع يعلن بوضوح في إنجيل يوحنا: "الآب أعطى الحكم كلّه للابن" (يو 5: 22).
وقال في موضع آخر: "فمن احتقرني ولم يقبل أقوالي فله ديّانه: الكلمة التي نطقتُ بها هي تدينه في اليوم الأخير" (يو 12: 48). وكان قد علّم أنّ الآب سلّم إليه الحكم، فأعلن: "من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله الحياة الأبديّة. ولا يخضع لدينونة، لكنّه قد انتقل من لموت إلى الحياة" (يو 5: 24). ما معنى هذا التعارض؟ معناه أنّ الدينونة تتمّ بهذه الكلمة عينها حيث يعلن المسيح انجيل المحبّة الخلاصيّة. وتتلخّص الدينونة في ما نقرأه من مطلع انجيل يوحنا: "النور يضيء في الظلمة والظلمة لم تقبله" (يو 1: 4).
وبعبارة أخرى، إن تجاوب "الايمان العامل بالحبّ" مع نداءات الله عند ذاك، أن تطرح بالنسبة إلينا مسألة الدينونة: لنا الحياة الأبديّة. إذن، لن نأتي إلى دينونة، بل قد انتقلنا من الموت إلى الحياة. ومقابل هذا، إذا رفضنا هذه النداءات، إذا تذرّعنا بالتأخّر الذي تفرضه رحمة الله على عدالته، فلبثنا على خلاف مع الله وتنكّرنا لكلّ مصالحة معه، حينئذٍ سنُدان في اليوم الأخير. وكلمة المحبّة الالهيّة التي سمعناها في أعماق قلوبنا ورذلناها، هي ستديننا، ولا رجوع عن حكمها. فالذين يفضّلون الظلمة على نور المسيح، يجعلون نفوسهم خارج الخلاص، ويحوّلون الحبّ الذي يخلّص إلى غضب يحكم ويشجب.
وبكلام آخر، لا تتأخّر الدينونة إلاّ في الظاهر. فهذه الدينونة ليست إلاّ نتيجة قبولنا أو رفضنا للحبّ الوحيد الذي يقدر أن يخلّصنا. وهكذا فالصليب الذي يخلّص الخاطىء التائب هو الذي يحكم، في الوقت عينه، على المستكبر الذي لا يؤمن. لهذا نجد معاتبات الله لشعبه: "ماذا أصنع لك"؟ "أي شيء يصنع للكرم ولم أصنعه لكرمي؟ انتظرت أن يثمر عنباً فأثمر حصرماً برِّياً" (أش 5: 4).
إنّ الدينونة تنبع من المحبّة، لأننا سنُدان على المحبّة: إن رفضناها، حُكم علينا. إن قبلنا بها، كان لنا الخلاص. وقد يتساءل بعض الناس: أما نضع حدوداً لمحبّة الله حين لا يخلّصنا رغماً عنّاً؟ إن مخيّلتنا تخدعنا حين نعتبر أن الله يستغني عن قبولنا ورضانا لكي يخلّصنا. فبما أن حبّ الله هو الملء والكمال في عطيّة الكائن الالهي، فالمخلوق الذي يرفض أن يسير معه لن يلتقي بهذا الزخم إلاّ ويتحطّم. فمحبّة الله هي موجة لا تقاوم، موجة تحمل حتى السماء القوارب التي تستسلم إليها، وتحطّم تلك التي ظلّت على الشاطىء تقيّدها فطنة لا تعرف السخاء.
ليس غضب الله استعارة، ولكنّ ضُعف فكرنا يجعلنا نتصوّره متميّزاً عن حبه وكابحاً لهذا الحب. المحبّة لا تتبدّل في ذاتها، ولهذا تنقلب غضباً حين نعارضها ولا نستسلم لها. ولنتّخذ صورة أخرى: إنّ نور الشمس يعمي عيناً غير مهيّأة لاستقباله ولا ينيرها. هذا لا يعني أنّ النور تبدّل إلى ظلمة، ولكنّ ضعف عيننا حوّل الضياء إلى عتمة. ونقول الشيء عينه عن الهالكين: هم لا يتألّمون لأنه لم يعودوا محبوبين، بل لأنهم ما زالوا محبوبين حبّاً لا يقدرون أن يتقبّلوه. فنار الحبّ تدرك الانسان، كلّ إنسان، ولكنّها إن لم تَلِجْ قلوبنا فستُحرقها.
ونحن نكتشف أفضل صورة عن سخاء هذا الحبّ اللامتناهي في صليب يسوع. هذا لا يعني أن الحبّ يكون هنا أعظم لو لم تكن الخطيئة. ولكن، لأن هذه الخطيئة تبرز عظمته أمام عيوننا، فصليب يسوع هو الحبّ الذي قبل أن يتحمّل بنفسه ألم العداوة، هو الحبّ الذي تحمّل ألم "البغض" وعدم المحبّة ليخلّص محبّيه وينشلهم من الوهدة. قال القديس بولس: "إنّ المسيح افتدانا من لعنة الشريعة فصار لعنة لأجلنا" (غل 3: 13). وقال أيضاً: "الذي لم يعرف الخطيئة جعله (الله) خطيئة من أجلنا. لكي نصير نحن به برّ الله" (أو لكي نتبرّر به) (2 كور 5: 21).
هذا ما فهمه أبوانا الأولان: لم يعد اللقاء بالله خيراً وسعادة (تك 3: 8). لم يعد الانسان يستطيع أن ينظر إلى الله دون أن يموت (خر 23: 20). وإن الهنا هو للخاطىء نار آكلة (عب 10: 31). ومع هذا لا نستطيع أن نعيش دون ذلك الذي يعطينا الموت بنظره. فذلك الذي اتّخذ طريق العودة التي لم يتجرّأ أحد أن يتّخذها، قدّم نفسه لهذا الغضب. جاء من عالم الخطيئة فحمل جسد الخطيئة (روم 8: 3). ما استطاع أن ياقترب من النور الذي لا يُدنى منه دون أن يحرقه شعاعه. ولكن يا للمعجزة! فالذي أحزنّاه بأعمالنا، قدّم ذاته لضرباته الخاصّة. والحبّ الذي هُزىء به والذي يُحرق ما يريد أن يحيي، هذا الحبّ جعل نفسه مع الذين دعاهم فهزئوا به، فعاد فينا إلى نفسه، وتحمّل لأجلنا الضربة التي استحققناها نحن.
إنّ صليب يسوع هو حبّ الله الذي يسلم نفسه لغضبه. فلولا الصليب، من يستطيع أن يتصوّر حبّاً يذهب إلى هذا الحدّ من الجنون في عطاء ذاته؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM