سفر يشوع بن نون

سفر يشوع بن نون

مقدمة:
يفتتح سفر يشوع بن نون ما يُسمَّى بمجموعة أسفار "الأنبياء السابقين أو الأولين"، أي من سفر يشوع وحتى سفرَيّ الملوك. ولأنّ هناك قواسم مشتركة بين يشوع والتوراة (أو الأسفار الخمسة)، وبينه وبين جموعة "الأنبياء السابقين"، فقد حصل تجاذب في الآراء حول إلحاقه بإحدى المجموعتين السابقة واللاحقة له.
بالرغم من الأخبار المتلاحقة التي في السفر، لا يمكن إعتبار سفر يشوع محضراً يسرد فيه كاتبه وقائع تاريخية متسلسلة ومثبتة علمياً. فبين الأحداث المذكورة فيه وبين تدوينها فاصلٌ زمني طويل يبلغ عدة قرون، كما أن أرض كنعان لم يتمّ احتلالها على يد الأسباط مجتمعة، بل على يد داود في القرن العاشر. ثم ان الكنعانيين لم يبادوا عن بكرة أبيهم، بل تعايشوا مع بني اسرائيل (15/63؛ 16/10؛ 17/12 و18). إن محرّر سفر يشوع هو أحد تلامذة المدرسة التي أعطت سفر تثنية الاشتراع الذي عليه يرتكز الكاتب ليتأمل في تاريخ إسرائيل على ضوء الاختبارات الجديدة (أي في القرنين السابع والسادس ق. م.)، وتظهر نتيجة هذا التأمل جليَّة في الخُطَب المطوّلة في ف 1 و23. فعندما يتكلم عن فتح أرض كنعان، يظهرها وكأنها عملية قام بها "كل بني اسرائيل" (10/28- 39)، والتلميح المتكرّر إلى أسباط عبر الأردن يرمي إلى التركيز على وحدة الشعب في وقت كان الجدل قائماً حولها (1/12- 16؛ 13/8- 32؛ 22/1- 6). وخطر إفساد أمانة اسرائيل لإلهه، الذي تسبّبه جيرة الأمم غير اليهودية ومخالطتها دفع الكاتب إلى الكلام عن عملية إبادة جاعية لهذه الأمم وإزالتها من أرض كنعان، ثم إلى تحريم شعوبها (6/17 و21؛ 11/12 و14). جاء هذا الكلام في وقت ظهر فيه خطر الوثنية مجدَّداً على بني إسرائيل.
نتيجة هذا كلِّه، يجد قارئ سفر يشوع أن هناك أموراً مستغربة وغير قابلة للتصديق، ففيه تتجمع العجائب "الضخمة" والمحيّرة، كعبور نهر الأردن كما على اليابسة، وسقوط أسوار أريحا بعد الطواف حولها، وتوقف الشمس بأمر يشوع، وغيرها. وهكذا يغور التاريخ ويضيع في أحاديث أو إحصاءات لا تنتهي. لذلك ليس سفر يشوع هو الأكثر جاذبية للقارئ المسيحي، حتى ولا الأسهل. لكنه بالمقابل يتضمن غنى ليتورجياً ولاهوتياً هاماً؛ فعبور الأردن (3- 4) بحضور تابوت العهد، هو كعبور بني اسرائيل بحر القصب بقيادة موسى، يشكل دخولا طقسياً بتطواف إلى أرض الميعاد كما إلى بيت الرب؟ ويوحي الفصح الذي يحتفل به بنو اسرائيل لأول مرة بتقادم من محصول تلك الأرض، بأننا أمام احتفال ليتورجي؟ ويدخل في هذا الإطار أيضاً الختان (5)، علامة العهد بين الله وبني اسرائيل، والصورة المسبقة للعماد المقدس.
أ- صعوبات وحلول:
مقدمة:
يعترض قارئ سفر يشوع بن نون عددٌ من الصعوبات، تتوزع بين ما هو خُلُقي، وأسطوري، وتاريخي، وغير ذلك، الأمر الذي يؤدي إلى تجربة وقع في فخاخها العديدون، ألا وهي تجربة الإعراض عن هذا السفر أو نبذه مع غيره من الأسفار التي تتضمن أموراً تبدو لأول وهلة بشرية إلى أقصى حد، وحتى مشككة أو خالية من أي إلهام الهي.
ولكن بما أن "كلّ ما كُتب من قبل إنما كُتب لتعليمنا" (روم 15/4)، وبما أن للعهد القديم دوراً تربوياً واعدادياً لما هو أكمل، وبما أنه بالفعل قد قاد شعب اسرائيل نحو القيمَ الانسانية والدينية السامية التي أصبحت في العهد الجديد شرعة كاملة (متى 5/20) "إن لم يزد بركم على الكتبة الفرّيسيين، فلن تدخلوا ملكوت السماوات"، "ما جئت لأحلّ بل لأكمل"، فالقارئ المسيحي مدعو لسبر كور الوعود والتشريعات والأحداث المدوّنة في العهد الأول أي القديم، على ضوء سر الخلاص الذي تحقق بالمسيح يسوع، لأن اسرائيل قد استطاع بواسطته أن يحيا حياة إيمان ورجاء ومحبة مماثلة لحياة المسيحي، بالرغم من كونها مقيدة بنقائص متنوّعة.
لا يتكوّن الكتاب المقدس، المنظم لإيمان المسيحيّين وممارستهم، فقط من العهد الجديد، بل أيضاً من جموعة الأسفار التي سبقته فارتبط بها، والتي كانت الكنيسة الأولى تقرأها، كونها، "الكتاب" الملهم بالرغم من العقبات والصعوبات المتنوعة التي تواجه القارئ المسيحي والتي نستعرض في ما يلي قسماً منها في سفر يشوع.
1- النظرة إلى الكنعاني:
عندما استوطن بنو اسرائيل في أرض كنعان، وجدوا مغريات حضارة يربو عمرها على الألف سنة، ومدناً كبيرة وجميلة لم يبنوها، وبيوتاً مليئة بالخيرات لم يتعبوا في جناها، وآباراً لم يحفروها، وكروماً وزيتوناً لم يزرعوها" (تث 6/10؛ 8/7- 8).
بالمقارنة مع الكنعانيين، يبدو بنو اسرائيل غرباء عن المظهر الحضارة الذي كان لهؤلاء؟ مع هذا فإن كاتب سفر يشوع بن نون يعطي أحكاماً لا عدل فيها ولا اعتدال، تجرّد المجتمع الكنعاني من أية قيمة حضارية، كما أنها بالتالي لا تفيه حقه من القدر والكرامة، وكل ذلك انطلاقاً من مرتكزات دينية معيَّنة.
فلقد بدت الديانة الكنعانية التعددية وكأنها المنافس الأكبر والأخطر للديانة اليهودية الموحّدة. لذا عمد الكتّاب الملهمون إلى إظهار ديانة غيرهم بأقصى ما يمكن من السلبية. وهكذا أخذت الرغبة في حماية الذات من الآخر منحى عدائياً متطرفاً، يهدف إلى حث بني اسرائيل على التمسك بإلههم الأحد، وعلى الابتعاد عن الإلهة الغريبة ومحاربتها.
في الواقع تبدو الديانة الكنعانية تعددية، أو بتعبير آخر "مشركة"، كونها تعطي أهمية كبيرة لمصادر الحياة ولمتطلباتها البدائية الأساسية، فتأخذ أشكالاً حسية، سمّاها الأنبياء "الزنى"، بالرغم من أن لها بحد ذاتها نصيباً هاماً من الحقيقة والكرامة، أي أنها بمعنى آخر قادرة على أن تمدّ اسرائيل بالتعليم والإيحاءات والمثُل السامية. لقد فتَّش الكنعانيون عن الإله الذي هو سيد العالم وربّ الحياة، وذلك قبل أن يتجلى لبني اسرائيل بوحدانيته، وكان تفتيشهم بالاتجاه الصحيح. فهم عبر تكريمهم للحياة، حتى بأشكال مادية ومحسوسة، لم يكونوا خارج الطريق المؤدّي إلى الحقيقة المنشودة.
2- النظرة إلى راحاب البغي:
تبدو مساعدة راحاب البغي لجاسوسي يشوع القائد وكأنها خيانة لمدينتها أريحا. نجد حَدَثاً مماثلاً في قض 1/22- 25، حيث إن أحد أفراد مدينة بيت إيل قد عمل دليلاً لجواسيس آل يوسف، الأمر الذي أدى إلى أخذ المدينة وإهلاك سكانها، باستثناء ذاك الذي خان مدينته مع عشيرته، كا حصل لراحاب وأهل بيتها.
ولأن بني اسرائيل قد اعتبروا راحاب كمرتدة إلى إيمانهم، استطاعت هذه أن تقاسمهم بركات وخيرات أرض الميعاد، وتصبح واحدة من الوجوه المثالية في العهد القديم، إلى حد مقارنة إيمانها يايمان ابراهيم بالذات.
يدفعنا هذا الواقع إلى التساؤل عن قصد يسوع عندما قال: (إن العشارين والزناة يسبقونكم إلى ملكوت الله" (متى 21/31). هل كان يسوع يلمح بكلامه هذا إلى الذين تابوا لدى سماع كلمته فقط، أم إلى راحاب البغيّ ومثيلاتها أيضاً؟
قد نجد الجواب في ما سطّره كاتب الرسالة إلى العبرانيين، ويعقوب الرسول عن تلك المرأة. فالأول يمدحها من أجل إيمانها عندما يقول: "بالإيمان راحاب البغي لم تهلك مع الكفرة، لأنها قبلت الجاسوسين بالسلام" (عب 11/31)، والثاني، أي يعقوب، يُركّز على الضيافة التي أحاطت بها الجاسوسين، وبالتالي على تبريرها، فيقول: "وكذلك راحاب البغي، ألم تبرَّر بالأعمال، إذ قبلت المرسلين وصرفتهما من طريق آخر؟" (يع 2/25). ويضيف التقليد اليهودي بأن راحاب قد نالت المغفرة لأنها أنزلت الجواسيس من النافذة بواسطة الحبل، لأن بيتها كان في السور.
ولا ننسى أن راحاب قد اعتنقت إيمان بني اسرائيل، كما جاء في 2/11، حيث تقول: "لأن الرب إلهكم هو إله في السماء من فوق وعلى الأرض من الأسفل.
إضافة إلى كل هذا، نجد اسم راحاب في متى 1/5 بين أولئك الذين يشكلون السلالة التي منها خرج يسوع بالذات؟ فهي جدّة عوبيد والد يسّى الذي أنجب داود الملك.
وأهتم بذكرها أيضاً اكليمنضوس الروماني في رسالته إلى الكورنثيين (12/1).
ربما تساءل انسان كما الرب يسوع: "هل يُجنى من الشوك عنبٌ أو من العوسج تينٌ؟ هكذا كل شجرة صالحة تثمر ثمراً جيداً، والشجرة الفاسدة تثمر ثمراً رديئاً" (متى 7/16- 17). لكن، استنادأ إلى تأكيد الرب على لسان اشعيا بأنه، "حتى ولو كانت خطاياكم كالقرمز، فإني أبيضها كالثلج" (أش 1/18)، واستناداً إلى عملية التوبة والارتداد من قبل الإنسان الخاطئ، يمكننا أن نستخلص عبرة، ألا وهي أن "أفكار الله هي غير أفكار البشر"، وأن الخلاص هو نداء موجَّه إلى الجميع ودون استثناء.
3- أعمال الإبادة:
نقرأ في تث 20/16 ما يلي: "وأما مدن تلك الشعوب...، فلا تستبقِ منها نسمة...".
نستنتج من هذا الكلام أننا أمام عملية إبادة شاملة، يستنكرها ويمجّها الشعور الإنساني، وتُعتبر عملاً منافياً للأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الشعب المختار. لكن هذا النوع من التصرف لم يكن خاصاً ببني اسرائيل، بل كان يُعتبر حقاً مكتسباً في زمن الحرب، في عصر لم يكن فيه تشريعٌ لصالح الذين يُقهرون في الحروب. على العكس من ذلك، يمكن القول بأن اسرائيل قد حقّق بعض التقدم في اتجاه التخفيف عن هؤلاء. ففي 1 مل 20/31، يتكلم الأموريون عن حلم ملوك اسرائيل فيقولون: "اننا سمعنا أن ملوك بيت اسرائيل هم ملوك رحمة..." وفي عصر كان فيه قتل الأسرى أمراً متبعاً، لم يتردد داود في كسر هذه العادة (2 صم 8/2).
وإذا عدنا إلى سفر تثنية الاشتراع الذي يضفي طابعه الخاص على سفر يشوع بن نون، نلاحظ أن هناك نَفَساً انسانياً في التشريع الحربي بالذات. فبالنسبة للشعوب البعيدة التي لا تشكل خطراً وجودياً أو إيمانياً (أي غير الكنعانيين)، كانت المعاهدة تفضَّل على المعركة. كذلك يدعو تث 20/10- 15 إلى الحفاظ على أرواح النساء والأولاد، حتى ولو اعتبرت غنيمة، فيقول: "إذا تقدّمت إلى مدينةِ لتقاتلها، فادعها إلى السلم...، (وإذا) أسلمها الرب إلى يدك، فاضرب كل ذكَر بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وجميع ما في المدينة من غنيمة، فاغتنمها لنفسك". كذلك يدعو تث 21/10 - 14 إلى معاملة الأسيرة الجميلة باللطف والحسنى.
مع هذا، فإن بني اسرائيل يُظهرون بغضاً متوقّداً تجاه سكان ارض كنعان الأصليين يبلغ حدّ التصميم على الإبادة الشاملة. هكذا نقرأ في تث 20/16- 18 ما يلي: "وأما مدن تلك الشعوب التي يعطيك الرب إلهك إياها ميراثاً، فلا تستبقِ منها نسمة، بل حرّمهم تحريماً...، كيلا يعلّموكم أن تصنعوا مثل قبائحهم التي صنعوها لآلهتهم فتخطأوا إلى الرب إلهكم.
فالدافع الأساسي إذاً لعملية الإبادة الشاملة، هو الهمّ الديني، أي أمانة اسرائيل لالهه الواحد، تلك الأمانة التي قد تفسدها معاشرة الأمم الوثنية أو العيش المشترك معها. لكن الواقع التاريخي، على ما يبدو، هو على خلاف ذلك، إذ يُعتقد أن هذا التدبير هو نظري أكثر منه واقعي، استنبطه الكاتب عندما كان خطر تغلغل الوثنية يدهم بني اسرائيل. وإذا تذكرنا أن عملية تحرير الأرض وتوزيعها بين القبائل، قد بقيت مستمرة حتى أيام داود الملك، فإننا ندرك أن الإبادة الشاملة التي يتكلّم عنها سفرُ يشوع بن نون، ليست على الاطلاق حقيقة تاريخية.
من هنا يمكننا القول بأنّ التاريخ الذي نقرأه في سفر يشوع، هو تعليمي وتوجيهي، وضعه الكاتب بعد تأمل وسابق تصميم لهدفٍ واضح، استناداً إلى أحداث دبّجها بطريقة تتناسب مع مراميه الدينية.
4- التحريم:
تعني كلمة "حرم أساساً "الفصل" أو "وضع شيءٍ ما جانباً" أو "الشيء الممنوع أو المحفوظ".
في المعنى الديني، التحريم هو الشيء الموقوف للإله، أي أنّ كلّ الغنائم التي يحصل عليها المحاربون تخصّص له: يقتل الناس والحيوانات، وأما الأشياء الثمينة فإنها تُوقف للهيكل. هذه القاعدة التي ترتكز على مبدأ ديني، تتّبع أثناء الحرب، ويجب أن تنفَّذ بدقة وإلاّ اتّقدَ غضبُ الله على المخالف.
ففي تث 13/16 (راجع 1 صم 15)، نقرأ أمراً واضحاً بوقف المدن الوثنية لله، مع سكانها وماشيتها. وكذلك في تث 7/1- 20 و 20/13 و1 صم 15/3 ويش 6/17، نرى أن الله هو الذي يأمر بذلك. أما في عد 21/2، فإن التحريم نذرٌ من أجل ضمان الانتصار، إذ يقول: "فنذر اسرائيل نذراً للرب وقال: "إنّ أسلمت هؤلاء القوم إلى يديّ، لأحرَمَنّ مدنهم".
والخطورة الكبيرة في هذا المجال تكمن في مخالفة التحريم، الأمر الذي يسبب "اتقاد غضب الرب" (ف 7؛ راجع أيضاً 1 صم 15/16- 23)، وبالتالي يجلب على الفاعل أشد العقاب.
وبالرغم من هذا، فإن التخفيف من تطبيق هذه القاعدة المطلقة أمرٌ ممكن أحياناً، كما نجد في عد 31/15- 33 (قتل النساء وتطهير الغنائم)، وفي تث 2/34- 35 و3/6- 7 و20/13- 14، وفي يش 8/26- 27 (التحريم والتخريب).
ومع الوقت، ستتبدل فكرة التحريم شيئاً فشيئاً؛ فبدلاً من فكرة السيادة المطلقة لله، ستحِلّ فكرة أبوّة الله الرحيمة. هكذا نقرأ في سفر الحكمة مثلاً أن "الله لم يصنع الموت، ولا يمرّ بهلاك الأحياء" (حك 1/13)، هو الذي "يطلع شمسه على الأشرار والأخيار" (مت 5/44- 45).
5- القصص المضخمة:
قد يبتسم قارئ سفر يشوع بن نون استهزاءً عندما يصادف فيه قصصاً هي إلى الخيال أقربُ منها إلى الواقع، وكأني به أمام مؤلّف ملحمي حيث تلعب الأسطورة دوراً رئيسياً، وتزيّن الخوارق أعمال الأبطال.
هكذا يبدو لنا عبور نهر الأردن وكأنه مسيرة على اليابسة، وإيقاف الشمس والقمر عن الدوران بأمر من إنسان، واسقاط أسوار أريحا بالتطواف حولها والنفخ بالأبواق والصراخ. كل هذه أمور تخلب عقولَ الأطفال، وتدغدغ مخيلتهم، وتثير اعجابهم ودهشتهم، لكنّها تثيرُ استغرابَ ورفض المدركين والعاقلين، لانها، وبكل بساطة، غير قابلة للتصديق.
لكن إذا تنبهنا إلى أن الكثير من أعمال يشوع هو صورة طبق الأصل لعدد من أعمال موسى، وإلى أن الله كان مع يشوع كما كان مع موسى (3/9)، وأن اسرائيل قد كرّم يشوع كما فعل تجاه موسى (4/14)، استطعنا أن نفهم أن المقصود هو القول بأن ما بدأ مع موسى، يكمله يشوع حتى النهاية. ان صورة يشوع في السفر الذي يحمل اسمه، هي صورة موسعة أدبياً وتاريخياً، وذلك من أجل التمكّن من تحميلها معنىً لاهوتياً معيناً، ومن أجل إبراز يشوع كمثال أعلى للقائد الذي بإيمانه بالله وبطاعته له، استطاع أن يحقق رسالته وأهدافه. لذلك مدحه يشوع بن سيراخ من أجل أعماله العظيمة (46/1- 8)، وعدَّد مآثره الجمّة، كما لمّح سفر عزرا الثاني المنحول إلى طاعته للشريعة وإلى شفاعته (3 عزر 71/107)؛ فهو قادر بالتالي على تحقيق ما يعجز عنه البشر من الخوارق، حسب ما يعتقد كاتب السفر.
ب- قراءة مسيحية لبعض المواضيع الرئيسية:
مقدمة:
من خلال ما تقدّم، تنفتح أمام القارئ المسيحي طريق جديدة وآفاق أرحب، ونظرة أكثر روحانية إلى سفر يشوع بن نون. ولا بدّ هنا من لفت الانتباه إلى أن نظرة أخرى إلى السفر مسيّسة، أو موجّهة عقائدياً أو قومياً، ستحرم هذا القارئ من إمكانية الاقتراب إلى مائدة الكلمة وحلّة العريس عليه، وبالتالي لن يجد طريقه إلى دخول جنّة أبناء الملكوت، بل سيبقى خارج السياج حيث لن يحظى سوى بالأشواك.
سنعالج في ما يلي بعضى المواضيع المختارة من سفر يشوع بن نون، ونحاول اكتشاف ما اكتنزته من أبعاد روحية للمؤمن باسم الرب يسوع.
1- عبور الأردن:
تتشابه قصتّا عبور بني اسرائيل البحر الأحمر بقيادة موسى، ونهرَ الأردن بقيادة يشوع بن نون خليفة موسى الذي معه يتحقق الوعد بإعطاء أرض الميعاد للشعب المختار. في كلتيهما هو الله الذي يزيل العوائق من وجه الشعب ويسمح له ببلوغ الهدف المنشود. وإذا كان "البحر رأى وهرب (مع موسى)، والأردن تراجع (مع يشوع) (مز 114/3)، فذلك لأن يد الله كانت تعمل هناك".
عند الخروج من مصر، كان الجوّ يوحي بمعركة قد تكون مأساوية، وكان الشعب يعاني من محنة في الإيمان؛ أما عند عبور الأردن فإن الجوّ يوحي بتطواف ليتورجي يقوم به الشعب بثقة واندفاع، إذ ان المسير في الصحراء جعل إيمانَه أنقى وأمتن.
بالنسبة للمسيحي، يذكّرنا عبور الأردن بدخولنا العالم الذي أعدّه الرب لنا بالعماد المقدس، منقين من كل خطيئة، وراسخين في الإيمان، وأهلاً لقبول نعمة الله. إن المياه التي كانت تهدّد بابتلاع بني اسرائيل عند العبور، قد صارت المكان الذي فيه يجدون الخلاص، كذلك يشترك المسيحي من خلال سرّ المعمودية المقدسة بموت المسيح، ويصبح بالتالي معَدّاً للدخول في قيامته المجيدة (روم 6/3- 5).
2- دخول أرض الميعاد:
كانت مسيرة اسرائيل الطويلة، بدءاً من الانعتاق من العبودية في مصر وحتى بلوغ الحرية في أرض الميعاد، قد بدأت مع العبور في مياه البحر الأحمر، واكتملت بالعبور في مياه نهر الأردن. ومن المفترض أن يكون بنو اسرائيل قد حققوا خلال الفترة الفاصلة بين العبورَيْن تقدّماً جدّياً في التعمّق في الإيمان.
هذا هو الأمر بالنسبة إلى حياة المسيحي التي يستهلّها بالعبور في مياه العماد، والتي تكتمل بالعبور بالموت إلى امتلاك الوعد والحياة مع المسيح. وبين البداية والنهاية يحقق المؤمن بالعناء والصبر والثبات ما شاء الرب يسوع له من إيمان وطيد بشخصه وبما فعله من أجله.
3- النظرة إلى الأرض:
لأرض الميعاد في سفر يشوع النصيب الأكبر، وذلك لأن ما كان في السابق وعداً من الله، قد تحقق الآن بالفعل؟ من هنا الوحدة العضوية التي تربط بين التوراة (الاسفار الخمسة) وسفر يشوع. فالأرض هي إرثٌ من الله، لذا فهي مكان أمانة الله لشعبه، وأمانة الشعب لإلهه، وهي عربون العهد المقطوع بين الله واسرائيل. فالاستيلاء على أرض كنعان وتوزيعها على بني اسرائيل، يشكّلان تحقيقاً للوعد الذي كان للآباء، والذي تجدد مع موسى. هذا هو سبب الفرح الذي يغمر الكاتب عندما يخبر بالتفصيل عن الميراث الذي وهبه الله لأسباط اسرائيل.
يتعلق الشعب الاسرائيلي بطريقة عاطفية ودينية بالأرض التي طبعته في أعماقه، بدءاً من بركة يعقوب (تك 49)، ونشيد دبورة (قض 5)، مروراً بنشيد الأناشيد، وحتى أمثال الانجيل. إنها الأرض المختارة وأرض الوعد، لذلك تغنّى بها الشعراء وأبرزوها بصور متنوّعة ومؤثرة، ولذلك أيضاً يبدو سفر يشوع وكأنه نشيدٌ "للأرض الجيدة التي وهبها الله" (23/13 و16) لشعبه المختار.
إذا كانت الأرض والنسل هما ثمرتا الوعد، فإنهما مع هذا مقيدتان بشرط، ألا وهو الطاعة لشريعة الرب.
لقد استطاع اسرائيل أن يحقق الانتصارات العسكرية بفضل طاعته لشريعة الرب، وبفضل اتضاعه أمامه: "تواضعوا أمام الرب فيرفعكم" (1 بط 5/6). وكل مرة كان اسرائيل يهمل أوامر الرب ووصاياه، كان العقاب الصارم بانتظاره، كما حصل عندما لم يتقيّد بنو اسرائيل بالتحريم الذي كان مفروضاً (راجع يش 7).
بسبب قلّة إيمانهم، هلك العديد من العبرانيين في الصحراء ولم يحظوا بدخول واحة الله، "لأنهم قسّوا قلوبهم" (مز 95/8)، "وامتحنوا الرب" (مز 95/9). يقول الرب على لسان صاحب الزامير: "أربعين سنة مَلَلْتُ من ذلك الجيل، وقلت: إنما هم شعبٌ قلوبهم في ضلال، ولم يعرفوا سبُلي، حتى أقسمتُ في غضي أن لن يدخلوا في راحتي (مز 95/11).
في الرسالة إلى العبرانيين، يوضح الكاتب أمراً هاماً، وهو أن ما وعد به الله شعبه لم يكن أرض فلسطين وحسب، بل المشاركة في راحته، التي هي صورة للعالم الآتي الروحي. وإذا كانوا قد هلكوا في الصحراء أيام موسى ولم يتسنّ لهم الدخول إلى راحة الله، فإن الذين دخلوا أرض كنعان بقيادة يشوع، لم يدخلوا في الراحة الموعودة التي هي أسمى من أرض الميعاد، أي راحة الله، من هنا القارنة والقابلة بين يشوع ويسوع:
الأول قاد العبرانيين إلى أرض فلسطين وحسب،
أمّا الثاني، فقد قاد أتباعه إلى الراحة السماوية الحقّة.
لذلك فالنداء الموجّه إلى المسيحي المؤمن هو أيضاً على لسان صاحب المزاير الذي لايقول: "اليوم إذا سمعتم صوته، فلا تقسّوا قلوبكم" (مز 95/7- 8).
إن قساوة القلب تُنتج الخطيئة لأنها مخالفة الشريعة التي يشدد عليها الفصلان الأول والأخير، ومن يعمل الخطيئة فهو عبدٌ لها (يو 5/34)، والعبد لا يثبت في البيت إلى الأبد، وإنما الابن يثبت إلى الأبد (يو 8/35). إذا كان بنو اسرائيل هم حقاً أبناء إبراهيم، فعليهم أن يعملوا أعمال ابراهيم البارة (يو 8/38)، وإلاّ فسيُطرحون خارجاً حيث البكاء وصريف الأسنان، لأن ميراث الرب هو للودعاء العاملين مشيئته، الذين وحدهم يحق لهم أن يدخلوا إلى أرض الميعاد، إلى ملكوت السماوات، إلى راحة الرب.
4- احتفال جديد بالفصح:
في الظروف الجديدة، تكتسب الطقوس التقليدية معاني جديدة. ففي مصر كان الفصح عمل رجاء وثقة بالله، أما في أرض الميعاد، فإنه يصبح إقراراً بالجميل وفعل شكران تجاه الله.
بذات المنطق والمنهجية، يجدّد المسيحي عهده مع الله، المتمّم بالرب يسوع المسيح، تبعاً لأوضاعه ولمسؤولياته التي تتعدّل دون مساس بجوهر الحقيقة، وتبعاً أيضاً لاكتشافه التدريجي لقصد الله فيه. لا يمكن إبراز طبيعة الله أو مقاصده والتعرف إليها بطريقة تجريدية، بل عن طريق الأختبار الليتورجي الذي يجدّد سنوياً ودورياً الحدث الذي اختبره الآباء والأجداد عندما تدخّل الله في مسيرة حياتهم؛ وباختبار هذا الحدث الماضي روحياً وليتورجياً، يتصل الشعب ذاته مجدداً بإلهه. وهكذا تأخذ الكلمة في الاحتفال الطقسي مع الأعمال الرمزية مكان الاختبار التاريخي.
5- احتفال جديد بالعهد:
عند نزول بني اسرائيل أرض الميعاد، أقام يشوع احتفالاً ليتورجياً جدّد من خلاله ما حرى في سيناء. نجد في هذا الاحتفال قراءة كلمة الرب، وذبيحة الاشتراك بالوليمة المقدسة. يشكِّل العنصران بالذات الهيكلية المتبعة في كل ليتورجيات شعب الله الحقيقية التي نجدها في الليتورجيا المسيحية.
يتكلم يشوع في شكيم إلى شعب لم يكن له بمعظمه اختبار شخصي لله كالذي كان لآبائهم في الصحراء. قد يكون سكان شكيم الحاضرون، وهم شعب غير اسرائيلي، جزءاً من الجماعة، يدعوهم يشوع لتبنّي كل ما ينص عليه العهد الذي كان للآباء. لذلك على الجيل الجديد، وحتى على غير بني اسرائيل الحاضرين الاجماع، أن يتخذوا قراراً فردياً، على أساس اختبار ما تمّ في سيناء (إقرأ يش 24/2 ب- 13)، ويتلقّنوا الإيمان، ليس فقط بالتعليم، بل بعيش الحدث الخلاصي أيضاً.
هكذا يصبح سيناء مفعّلاً، ومؤوناً، ومعقوداً معنا نحن قارئي سفر يشوع، كوننا أصبحنا مشاركين اليوم بما حدث بالأمس، عن طريق دخولنا في حقيقة عمل التحرير الإلهي.
6- الأمانة لله:
يجد بنو اسرائيل أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الأمانة لشريعة الله، وبالتالي العيش بطمائينة وسلام وسعادة، وإما تعدّي الشريعة وبالتالي الشقاء (تث 30/15). وتلعب اللعنات والبركات في هذا المجال دوراً فعّالاً وحاسماً في حياة الفرد والجماعة. ففي تث 27/14- 26، يُدعى الشعب إلى أن يجيب بعد كل لعنة بكلمة "أمين"، ليعلن بذلك أنه يقبل كلمة الله التي هي كسيف ذي حدّين، ثم يعطي تث 28 سلسلة طويلة من البركات واللعنات التي نجدها أيضاً في يش 8/34- 35.
وفي الكنيسة، كما في زمن اسرائيل (إقرأ يش 24/1- 2، 15- 17، 18 أ)، تتطلب الأمانة لله الإقرار بالإيمان المشترك بين أفراد الشعب المسيحي. ويعني هذا الإيمان في آن معاً إقراراً بما فعله من أجل أن يجسّد حبّه لنا، والتزاماً بخدمته وحده دون سواه. وإذا كان الرب قد اختارنا، فينبغي بالمقابل أن نختاره نحن أيضاً، حتى ولو بدأ لنا كلامه صعباً لا نطيق فهمه أو تحمّل متطلباته. لذلك فالإيمان هو اختبار متجدّد أبداً، والتزام يومي باتّباع الرب الذي يريدنا غير مجزّئين، والذي يوصينا بألا نخدم ربّين (مت 6/24). إن اتباع الرب يعني التصميم على حبّه والثبات فيه (يو 6/60- 69)، وهو الإله المخلص وحده (إقرأ يش 5/10- 12).
7- اجماع شكيم:
إذا أردنا أن نوجز ما جرى في الاجتماع الذي عقده يشوع في شكيم (ف 24) مع القبائل الاثنتي عشرة، نقول ما يلي:
- إنه تذكير بأعمال الرب العظيمة: اختيار الآباء (24/2- 4)، الخروج من مصر (5- 7)، ودخول أرض الميعاد (8- 12).
- إنه إعلان الإيمان (24/14- 24) وتجديد للعهد المبرم في سيناء (25-29).
إن الشعب يكبر وينمو عن طريق الإعلان عن إيمانه، والالتزام بالعهد، والأمانة للرب. وهذا العمل الجاعي الذي يتحقق وفق إرادة الرب، وتحت رعايته، يجعل من الجماعة جسداً واحداً مترابطاً، وبالتالي صورة لكنيسة المسيح العتيدة.
خاتمة:
إن التاريخ الكتابي هو تاريخ خلاص البشرية، الذي دشّن بابراهيم، وبلغ الملء بيسوع المسيح. ولقد تحقق ذلك بطريقة متواصلة ومتتابعة، كما يلي: الوعد مع ابراهيم، والعهد مع موسى، والمُلك مع داود... هذه الاختبارات تشكل مادة التاريخ الكتابي، لا بل عامودَه الفقري، ومن خلال هذه الاختبارات، كان الشعب الاسرائيلي يعيش بقيادة رؤسائه نوعاً من التوجّه نحو المسيح، مدفوعاً بعامل ديني يحثه باستمرار على أن يتخطى ذاته وينتظر المخلص الآتي، بإيمان ورجاء وقداسة.
بهذا المنظار ينبغي أن يُقرَأ سفر يشوع بن نون. قد يتعرض القارئ للاعتقاد بأن لا معنى دينياً مباشراً للتفاصيل الكثيرة، كلوائح المدن، والحدود، والملوك، وغيرها، لكننا لا ندرك معنى السفر على حقيقته إلا إذا فهمنا بأن المقصود هنا هو تحقيق الوعد الذي يشكل تحتية أساسية لكل الكتاب المقدس. إن كل ما يدخل في حياة شعب الله، يستمد معناه من المسيح الذي به كان كل شيء (يو 1/3) "والذي هو الملء الذي يملأ الكل" (أف 1/23).

الأب أيوب سهوان
أستاذ اللاهوت البيبلي
في جامعة الروح القدس
الكسليك. لبنان

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM