سفر التثنية أو تثنية الاشتراع

سفر التثنية
أو
تثنية الاشتراع
اسم الكتاب:
اسمه التثنية لأنه يُعتبر الكتاب الثاني، وتثنية الاشتراع لأنه الشريعة الثانية بعد الشريعة الأولى التي اعطيت على جبل سيناء. تثنية الأشتراع نسخة ثانية للوصايا والاحكام والفرائض التي أعطاها الرب لموسى كما تكيَّفت حسبَ المكان والزمان وتطبَّقت حسبَ الظروف.
اسمه في العبرية الكلمات، أي كلمات الله التي وصلت إلى شعبه على لسان موسى. ولا ننسى أن الكتاب المقدس بعهده القديم يتضمّن هو أيضاً كلمات الله وهو يهيّئنا لأن نسمع المسيح الكلمة في العهد الجديد.
سفر التثنية هو الكتاب الخامس بين كتب الشريعة، ويأتي بعد سفر التكوين وسفر الخروج وسفر اللاويين أو الأحبار وسفر العدد، وهو قمة الأسفار الخمسة بل هو قمة من قمم العهد القديم. وقد شبهه الشراح بانجيل يوحنا. فكما أن إنجيل يوحنا وحديثه عن الثالوث وعن المحبة هو قمة في العهد الجديد، كذلك سفر التثنية بحديثه عن محبة الله لشعبه ومحبة الشعب لالهه يُعتبر قمةً في العهد القديم ويهيّء الطريق للأنبياء الكبار أمثال أرميا وحزقيال حين يحدثاننا عن العهد بين الله وشعبه.
موضوع الكتاب:
يبدو سفر التثنية بشكل خطبة أو عظة يلقيها موسى على جبل موآب الذي يقع شرقي البحر الميت. ان كاتب سفر التثنية الذي عام مئات السنين بعد موسى قد جعل كلامه في فم موسى ليملأ المؤمنين رهبة أمام كلام الله. أما نحن المؤمنين، فسواء كَتب موسى سفرَ التثنية أم كتبه شخص آخر فلا فرق عندنا، لأنه قسم من الكتاب المقدس وهو بالتالي كلام الله يتوجّه إلينا اليوم كما توجه إلى أبناء العهد القديم. وكما حاول العبرانيون ان يجدِّدوا قراءة كلمة الله التي بلغت إليهم بر موسى، سنُحاول نحن ايضاً أن نقرأ هذه الكلمة على ضوء العهد الجديد ونجد فيها غذاء لحياتنا اليومية.
نقرأ سفر التثنية فنجد فيه أربعة أقسام. قسم أول (ف 1- 11) يتضمن خطبة أو عظة يذكّر فيها موسى الشعب بتاريخه مع الله، ويهيّئه قلباً وروحاً لتقبّل الشرائع والأحكام التي سترد في هذا الكتاب. يتحدث موسى عن حب الله وحفظ الوصايا، ويشدد على الأمانة الواجبة على الشعب حين يدخل أرض الميعاد فلا ينسى الرب الهه، بل يمارس ختانة القلب التي تنزع من الانسان كل ما يمنعه ان يفهم ارادة الله ويحبها.
القسم الثاني (ف 12- 26) يفصِّل الفرائض والأحكام والوصايا في أربعة تشعبات: شرائع العبادة، وحدة المعبد، عقاب المشركين وعبَّاد الاوثان، العشور. هذا التشعب ينتهي بدعوة المؤمن للحجّ إلى المعبد الذي اختاره الله له (في أورشليم) في أعياد الفصح والعنصرة والمظال. التشعب الثاني يتحدث عن السلطات، عن القضاء الذي يحكم في الأمور، عن الملك الذي يحتفظ له بنسخة من هذه الشريعة ليعمل بها. هذه السلطات تحارب السحر والعرافة وتلاحق كلَّ نبي كذاب. التشعب الثالث يقدم لنا شرائع مختلفة تتعلق بالحياة العائلية والحياة الاجماعية: الزواج، دور البكر في العائلة، واجبات العدالة والرأفة والمحبة بالنسبة إلى الضعيف والفقير والأجير واليتيم والأرملة. التشعب الرابع يتضمن فرائض عن بواكير الغلال والعشور والطريقة التي تقدَّم بها التقدمات. يأتي المؤمن فيقول: كان أبي أرامياً تائهاً... فأوصلنا الرب إلى هذا المكان وأعطانا هذه الأرض التي تدرّ لبناً وعسلاً. والآن ها أنا آت ببواكير ثمر الأرض التي اعطيتني إياها يا رب.
القسم الثالث (ف 27- 30). موضوعه فرائض متعلقة بالعهد: لوحا الوصايا، البركات واللعنات، تحرك على حفظ العهد مع الله.
القسم الرابع (ف 31- 34) يشمل آخر أعمال موسى حين بارك الشعب، وموته على جبل موآب.
نشير هنا إلى أن هذه الشرائع والوصايا والفرائض لا تقدَّم إلى المؤمن بشكل ناشف: لا تفعل... بل بشكل كله حرارة وعاطفة. يتحدّث الكاتب بلغة القلب ويريد ان تصل كلماتُه إلى أعماق الانسان فتخلق فيه يقيناً بأهمية ما يأمر به الرب شعبَه. ولهذا فهو يردِّد بعض العبارات فتعلق في الذاكرة وتصل إلى الحياة. من هذه العبارات: اسمع يا شعب اسرائيل، والسماع بداية الطريق إلى العمل، لأن السماع يعني ايضاً الطاعة والامتثال لأوامر الرب. الرب الهك أو الرب الهنا. هناك علاقة حميمة بين المؤمن والرب ولهذا تتردد هذه العبارة أكثر من ثلاث مئة مرة. وإذا كان الربُ الهنا فعلينا أن نحبه من كل قلبنا وكل نفسنا وكل قدرتنا، وأن نخاف الرب وتكون وصاياه في قلوبنا وحياتنا. اذا كان الشعبُ شعبَ الله الخاص، اذا كان الشعب مكرَّساً للرب فيبقى عليه ان يعرف ما يأمره به الرب وان يسير في طريق الرب.
هذا هو مشروع حياة للمؤمن أكان من العهد القديم أو من العهد الجديد، وهكذا سيُدخلنا سفر التثنية في عالم الانجيل لنفهم وصاياه ونعمل بمتطلباته.
التعليم الديني في سفر التثنية:
يتلخص التعليم الديني في سفر التثنية في هذه الكلمات التي نقرأها في 10: 12- 13: ما الذي يطلبه منك الرب الهك؟ ان تتقيه، أن تسير في جميع طرقه (أي أن تعمل بوصاياه)، أن تحبه، أن تعبده بكل قلبك وكل نفسك، ان تحفظ وصاياه وفرائضه التي يأمرك بها اليوم لتحصل على السعادة.
وتمر سنوات تاريخ الشعب وما تزال هذه الكلمات تزدد في آذان المؤمنين فتدعوهم إلى الأمانة للعهد المعقود بين الله وبينهم. اما تصرف الشعب الديني فيستند إلى التذكر الدائم بما صنعه الله لهم.
في هذا الاطار نتوقف عند موضوعين. الأول: الله وشعبه. الثاني: حياة الشعب مع الله في إطار العهد.
أولاً: الله وشعبه.
عرَّف الله ذاته إلى شعبه. ليس الشعب هو من عرف الرب بعلمه وذكائه، بل الله اتخذ المبادرة وكشف عن ذاته في وحي وصل إلى موسى وإلى غيره. وإذ عرَّف الله نفسه أظهر انه تعلَّق بشعبه تلُّقَ العريس بعروسه والمحب بحبيبه. وهذا يفرض على الشعب أن يعرف الله، أن يتعلق به في فعل عبادة دائم، أن يحبه محبة لا رجوعَ عنها.
+ هنا تبرز فكرة العهد أو المعاهدة أو الاتفاقية. قدَّم الله عهده كما يقدم الرجل كلمته لفتاة يَعِدُها بالزواج. ألزم الله نفسه بأن يحامي عن شعبه ويقوده إلى أرض الموعد. وعلى الشعب أن يُلزم نفسه بالمقابل أن لا يعبد إلاَّ الله الواحد. وهكذا كانت اتفاقية بين الله وشعبه كما بين شخص وآخر.
كانت مواعيد لابراهيم واسحق ويعقوب ألزمت الله ان يُعطيهم ولابنائهم الأرض الطيبة. بدأ الله يُحقِّق مواعيده يوم لم يكن الشعب بعد أمة، خلَّصه من العبودية وسهر عليه كما يسهر الاب على ابنه واهتم به اهتماماً خاصاً خلال مسيرته في البرية حتى أوصله إلى سيناء ثم إلى جبل موآب على أبواب أرض الموعد. فهل يحق للشعب أن ينسى؟ أما يجب عليه أن يتذكَّر دوماً ما فعله الله من إجله؟ وعاطفةُ عرفان الجميل تجعل أمامه دوماً هذا العهد الذي قطعه الله مع الآباء.
هذا العهد لم يقطعه الله فقط مع الآباء، بل ما زال يقطعه اليوم مع الأبناء. هنا تتردد عبارة "اليوم"، لأن كلمة الله ليست من الماضي بل من الحاضر. يقول الكتاب (26: 16- 18): "في هذا اليوم يأمرك الرب إلهك أن تعمل بهذه الفرائض والأحكام، فأحفظها واعمل بها بكل قلبك وكل نفسك. طلبتَ إلى الرب اليوم ان يكون لك إلهاً وأن تسير في سبُله وتحفظ فرائضه ووصاياه وأحكامه وتسمع لصوته، وطلب منك الرب اليوم أن تكون له شعباً خاصاً، كما قال لك، لكي تحفظ جميع وصاياه".
ونحن شعب العهد الجديد، بعد أن نِلنا كاملَ مواعيد الله في يسوع المسيح، أما يجدر بنا أن نتذكر ولا ننسى، نتذكر موت الرب وقيامته وننتظر مجيئه. ويشدد النص أيضاً أن الرب اختار شعباً خاصاً، لا لأنه أكثر من سائر الشعوب، لا لأنه بار ومستقيم القلب. فمع أن العبرانيين شعبٌ قليل اختارهم الرب، مع أنهم شعب قاسي الرقاب، جعلهم خاصته. ولماذا؟ اختار الله شعبه لأنه أحبه وأراد أن يفي بالقسم لابراهيم واسحق ويعقوب. هنا نفهم أن اختيار الله فعلٌ مجاني حرّ. يختار شعباً أو فرداً، يختارهم من أجل رسالة سيقومون بها. اختار الشعب العبراني ليهيِّء الطريق لمجيء المسيح. ولكن من المؤسف أن الشعب العبراني رفض استقبال المسيح فرُذل. هنا نفهم ان الاختيار لا يعطي امتيازاً، بل يفرضُ واجبات. فإن كنّا على قدر الدعوة كافأنا الله وإلا رذلنا، وكان نداؤه سببَ دينونة لنا. نحن ابناء الكنيسة المدعوين بدعوة المسيح. نحن اسرائيل الجديد وشعب الله الجديد. نتذكَّر كلام مار بولس حين يقول: لا تستكبر بل خف. حكم الله شديد على الذين سقطوا وليِّن عليك اذا ثبتَّ والا فتُقطع (روم 11: 20- 22).
+ وتبرز فكرة الله الواحد الحقيقي. آمن الشعب العبراني بالله الواحد على مرِّ تاريخه، ففتح طريق وحدانية الله امام المسيحيين والمسلمين. لا شك أنه كانت محاولات لإعلان الله الواحد في مصر وفينيقيا، ولكنَّ هذا التعلق الدائم بالله الواحد كان شأن الشعب العبراني، لأن الله أوحى بنفسه إليهم عبرَ موسى والاباء، عبرَ الملوك والانبياء.
يعبد الشعوب الالهة المتعددة، أما الشعب العبراني فاختاره الله ليكون شعبه الخاص، شعب ميراثه، الشعب المكرَّس لنه والمخصَّص له. هذا التخصيص من قِبَل الله يفرض على شعب اسرائيل مصيراً خاصاً: يتعرف اليه من خلال حياته الخاصة، من خلال الطبيعة، من خلال متطلّبات الله ووصاياه. فاللقاء في حوريب (أو سيناء) علَّم الشعب أن الله لا يُرى وأن لا صورة تعبِّر عنه تعبيراً كاملاً، وأن على الشعب أن يمتنع عن صنع الاصنام والتماثيل للاله غير المنظور. وهذا الاله قدير، وقدرته تصل إلى آخر الكون، فيبقى على الشعب أن يعرف أن يهوه (الرب) هو الله وان لا إله غيره.
هذا ما يشهد به المؤمنُ كلَّ يوم من أيام حياته فيقول: "اسمع يا اسرائيل؟ الرب إلهنا هو رب واحد" (6: 4). الرب هو الاله في السماء من فوق، وفي الارض من تحت ولا اله سواه (4: 39). إن الرب الإله هو إله السماوات وسماوات السماوات والارض وكل ما فيها.. الرب الاله هو إله الآلهة ورب الارباب الاله العظيم الجبار الرهيب، منصف اليتيم والارملة ومحب الغريب. الرب إلهك تتقي، وإياه تعبد، وبه تتعلق، وباسمه تحلف (10: 14- 20).
الله نار آكلة، الله رب غيور لا يرضى العبادة لاله سواه، ويفرض على المؤمنين ان يخضعوا لأوامره. فهو يُعاقب على مدى أربعة أجيال ويُحسن إلى الألوف الذين يحبونه ويحفظون وصاياه (5: 9- 10).
هذه الوحدانية التي يشدّد عليها سفرُ التثنية سيرددّها يسوع في انجيله ولا يزيد عليها الا فكرة التثليث. لا شك في أن العهد الجديد سيعلمنا أن الله ثالوث، آب، وابن وروح قدس، ولكنه لا يتخلَّى عن فكرة التوحيد، فيعلن أن الأقانيم الثلاثة واحد. هنا تصحّ كلمةُ يسوع الذي ما جاء ليَنقض بل ليُكمِّل. هوما جاء لينقض فكرة التوحيد بل ليكمّلها بتعليمه عن التثليث.
+ فإذا كان الله واحداً، فيجب أن نتعبد له وحده دون سواه. وتكون عبادتنا نقية إن امتنعنا أن نصوّر الله كما يصوِّر سائرُ الشعوب آلهتهم، وامتنعنا أيضاً عن الممارسات الوثنية التي كانت معروفة في أرض كنعان: لا يذبح المؤمنُ ابنَه، لا يمارس العرافَة والسحر، لا يتعاطى البغاء المكرَّس قرب المعابد الوثنية. فإن فعل المؤمن مثل هذه الاعمال استحقَّ اللعنة، وإن أدخل العبادات الوثنية في أرضه استحقَّ القتل ليزول الشرُّ من شعب الله.
نشير هنا الى وصية قاسية ظلت وصية ولم تطبق: اذا انتصرتم على الأمم فعليكم أن تفنوهم. لا تقطعوا معهم عهداً ولا ترأفوا بهم. لا تصاهروهم لأنهم يبعدون أبناءكم عن السير ورائي فيعبدون آلهة أخرى (7: 3- 4). كُتب هذا الكلام يوم لم يعد لشعب اسرائيل قوة عسكرية. ولماذا كُتب؟ بسبب شر تلوّث عبادة الله الواحد بعبادات أخرى. ولأن الأقدمين الذين أرادوا ان يزيلوا الشر ما استطاعوا أن يميّزوا بين الشر والأشرار، طلبوا إزالة الشر والاشرار. نحن هنا أمام شريعة ناقصة ولكنّها تعلّمنا أن نقطع كل رباط بين الشر وبيننا من أجل الله. والمسيح عندما يأتي سيفهمنا أن الله يشرق شمسه على الأشرار والأخيار، ويسكب غيثه على الأبرار والفجار، ونحن نكون كاملين إن اقتدينا بأبينا السماوي (مت 5: 45). نرفض الشر ولكنّنا نحب الأشرار.
والتشديد على عبادة الله الواحد أنتج شريعة وحدة المعبد. لا تُقدَّم ذبيحة ولا تُحرَق محرقة إلاَّ في الموضع الذي اختاره الله، أي في أورشليم. وهكذا ركَّز المشترع العبادةَ في هيكل أورشليم ليمنع المؤمنين من التوجّه اذ معابد الكنعانيين. وشدَّد على الحجّ الى المعبد الواحد ثلاثَ مرات في السنة ليلتقي المؤمنون حول الرب، ويشعرون أنهم شعب الله الواحد يجمعهم الايمانُ الواحد وشعائرُ العبادة الواحدة.
ثانياً: حياة الشعب مع الله في إطار العهد.
اختار الله شعب اسرائيل، بحريّة وبفعل محبة، ليكون الشعب الذي يعرفه ويتعبَّد له. نادى الله. شعباً، وهو ينتظر من هذا الشعب أن يلبّي النداء. دعا الله شعباً وهو ينتظر جواباً يعبِّر فيه الشعب عن أمانته بحفظ الوصايا. في هذا الاطار، يشدِّد سفر التثنية على إستعدادات القلب والنفس عند الشعب كله، بل عند كل فرد من أفراد الشعب أمام إرادة الله.
+ نداء الى الحب.
هذا هو نداء الاله الغيور، الاله العظيم والمجيد والمهيب. هذا الاله ينحني على المؤمن ويدعوه إلى أن يحبه. وها نحن نجد ولأول مرة تعبيراً واضحاً ونهائياً عن وصية المحبة هذه التي سيرددها الرب يسوع ويجعلها أولى الوصايا. "أحب الربَّ بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك" (6: 5). هكذا قال سفر التثنية وهكذا سيقول يسوع عندما يسأله أحد الكتبة: ما هي الوصية الأولى في الوصايا كلها. قال يسوع: احبَّ الله ربَّك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك وجميع قدرتك، وزاد عليها الوصية الثانية وهي مأخوذة من سفر اللاويين: أحبب قريبك حبَّك لنفسك. وختم يسوع كلامه: لا وصية أخرى اكبر من هاتين الوصيتين (مر 12: 28- 31).
هذا الحبُ يمسك المؤمن في أعماقه، في نشاطه العاطفي والأخلاقي والذهني، يجتذبه إلى الله حتى يحس بنفسه مرتبطاً به لأن فيه حياته. وعندما يفهم المؤمن أن الله محبة، كما يقول يوحنا في العهد الجديد، لن يعود الله شخصا بعيداً تفصلنا عنه المسافات، بل يصبح الله قريباً إلينا وتصبح العلاقات حميمة بيننا وبينه. يقول الكتاب: "الوصية التي أنا آمرك بها اليوم ليست فوق طاقتك ولا هي بعيدة منك، لا هي في السماء فتقول: من يصل إلى السماء فيتناولها لنا ويسمعنا اياها فنعمل بها، ولا هي عبر البحر فتقول: من يعبر البحر فيتناولها لنا ويسمعنا إياها فنعمل بها؟ فالكلمة قريبة منك جداً، في فمك وفي قلبك لتعمل بها" (30: 11- 14). أجل صار الله قريباً من الانسان، وألغيت المسافةُ بين الله والانسان بعد أن صارت المحبةُ الرباطَ المشترك. ولكن تبقى المخافة التي تملأ المؤمن أمام رهبة الله العظيمة، غير أن المحبة تخفِّف من حدة المخافة فتذّكر المؤمن أن عليه أن يخاف الله ويحبَّه معاً، وان مخافته ليست مخافة العبيد بل مخافة الابناء. أجل، المخافة تقوى دينية عميقة وإحترام بنوي مبني على ما يقول سفر التثنية (14: 1): "أنتم ابناء للرب الهكم".
+ الحب والوصايا
يتردد هذا النداء إلى الحب في سفر التثنية. فيحدِّد سلوك المؤمن ويؤثِّر على ممارسته لأبسط الشرائع والوصايا. ويعبِّر المؤمن عن موقف الحب هذا في تتميم صادق لفرائض العهد. يقول الكتاب: "أحبب الرب إلهك وأحفظ ما يجب حفظه من فرائضه وأحكامه ووصاياه كلَّ أيام حياتك" (11: 1). وحفظُ الوصايا يبقى عملاً خارجياً بعيداً عن الأمانة الملموسة إذا لم يصل إلى الأعماق. لتكن هذه الكلمات التي أنا آمرك بها اليوم في قلبك (6: 6). هنا نلتقي بكلمات يسوع الذي عمَّق ممارسة الشريعة فذهب أبعد من الأعمال ووصل إلى نوايا القلب. قيل: لا تقتل، أما أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه... قيل: لا تزن، أما أنا فأقول لكم: من نظر إلى إمرأة فاشتهاها زنى بها في قلبه (مت 5: 21- 22، 27- 28).
ويهيِّء المشترع قلبَ المؤمن للعمل بالوصايا فيدعوه قائلاً: "ردد هذه الكلمات على بنيك وكلِّمهم بها، إذا جلستَ في بيتك، وإذا مشيتَ في الطريق، وإذا نمتَ وإذا قمتَ. اعقدها كعلامة على يدك وعلى جبينك، لئلا تنساها. أكتبها على دعائم بيتك وأبواب مدينتك" (6: 7- 9). أجل لتكن كلمة الله في كل مكان، ولتوجِّه أعمال المؤمن أكان عاملاً في معمل أو طالباً في مدرسة أو تاجراً أو قاضياً أو محامياً. لا فصل بين الحياة الدينية والحياة الاجماعية. ولا نحصر الله داخل جدران العبد وخلال وقت محدد. فالله يريد أن يسيطر على كل جوانب حياتنا. هذا ما يعلمنا سفر التثنية.
ومحبة الله تصل بنا إلى محبة القريب. إن أحببنا الرب واتَّقيناه، عاملْنا بالمحبة الأجير والغريب واليتيم والأرملة. ولكن تجدر الملاحظة أن القريب هو ابن عائلتي وقبيلتي وشعبي. لا، لم يصل سفر التثنية إلى مستوى الانجيل الذي اعتبر كلّ انسان قريباً للانسان، كلَّ انسان اخاً للانسان، لأننا كلَّنا ابناء الاب السماوي. ومع ذلك نجد في سفر التثنية بعض التلميحات. اذكر انك كنت عبداً في مصر، ولهذا أحسِن معاملة العبيد. إحتفل باعيادك بفرح مع الغريب واليتيم والأرملة.
يشدِّد العبراني على محبته للعبراني فيقول: لا تقرض أخاك بفائدة، بل اقرض الغريب بالفائدة (23: 20- 21). ويقول: إذا باعك أخوك العبراني نفسه فليخدمك ست سنين وفي السنة السابعة أطلقه من عندك حراً. وإذا أطلقته حراً من عندك فلا تطلقه فارغ اليدين، بل زوِّده (15: 12- 14). ولكني اتساءل عن سلوكنا نحن ابناء العهد الجديد: هل نعرف ان نرفق باخوتنا، وهل نهتم بالضعفاء منهم، وكم نحن أحرى ان نقرأ سفر التثنية وغيره من أسفار العهد القديم لنتعلم الكثير عن معاملتنا بعضنا لبعض. وإليكم بعض الآيات: إعمل لكي يستريح خادمك وخادمتك مثلك (5: 14). لا تستغلَّ اجيراً مسكيناً أو فقيراً أكان من إخوتك أم من الغرباء، بل ادفع اليه اجرته في يومه (24: 14- 15). لا تحرِّف حق غريب أو يتيم ولا ترتهن ثوب ارملة. واذكر انك كنت عبداً في مصر وفداك الرب الهك من هناك (24: 17). اذا حصدتَ حصادك في حقلك فنسيتَ حزمة في الحقل فلا ترجع لتأخذها. إنها للغريب واليتيم والأرملة. وكذا تفعل اذا خبطتَ زيتونك وقطفت كرمك (24: 19- 22). وعذابات الجسد معتدلة بلا تطرف لئلا يلحق الذلُّ بالقريب (25: 2- 3). وهناك شرائع الحرب بالنسبة إلى الانسان والحيوان وحتى النبات (20: 19- 20؛ 22: 1- 7).
+ حب، طاعة وسعادة
حين يعطي الرب شريعته يُرفقها بوعد لحياة سعيدة وهادئة. فاسمع يا اسرائيل واحرص أن تعمل بهذه الوصايا، فتحصل على السعادة، وتنمو جداً في أرض تدر لبناً وعسلاً، كما قال لك الرب اله آبائك (6: 3). ان امتلاك الارض ودوام السعادة مرتبطان بطاعة الشعب وحبه لربه. فعلى الشعب ان يختار بين البركة واللعنة، بين السعادة والشقاء، بين الحياة والموت. وهو الرب يقول له بلسان موسى: انظر، إني جعلت اليوم أمامك الحياة والخير، والموت والشر. إذا سمعت إلى وصايا الرب إلهك التي أنا آمرك بها اليوم، فأحببتَ الرب الهك وسرت في سبله وحفظتَ وصاياه وفرائضه واحكامه، تحيا وتنمو وتنال بركة الرب الهك في الأرض التي انت داخل اليها لتمتلكها. أما اذا تحوَّل قلبُك ولم تسمع للرب، وانجذبتَ الى آلهة اخرى فركعتَ امامها وعبدتها، فأنا أعلن لكم اليوم أنكم تهكون هلاكاً، ولن تحصلوا على حياة طويلة في الارض التي انتم عابرون الاردن لتدخلوها وتمتلكوها. أشهد عليكم اليوم السماء والارض: جعلت امامكم النجاة والموت، البركة واللعنة. فاختاروا الحياة لتحيوا أنتم وأبناؤكم فتحبون الرب الهكم وتسمعون لصوته وتتعلقون به، لأن به حياتكم وطول أيامكم، فتقيمون في الارض التي أقسم الرب لابائكم ابراهيم واسحق ويعقوب أن يعطيكم إياها (30: 15- 20).
لا شك في أننا لا نزال في اطار سعادة مادية، من أرض نمتلكها وحياة طويلة نتمتع بها على هذه الارض. فلا نعجب من ذلك والعهد القديم لم يعرف الحياة الأخرى الا على عتبة العهد الجديد. ولكن لا نسارع الى رفض سفر التثنية، بل نفهم ان هذه السعادة ممكنة بسبب حضور الله. إذا كانت أرض الموعد تدرّ لبنا وعسلاً، أي إذا كانت ارضُ الموعد موطنَ السعادة، فلأن الله حاضرٌ فيها كما كان حاضراً في الفردوس يتمشى مع آدم عند نسيم المساء (تك 3: 8). نحن ننظر إلى خيرات الأرض، ونرى فيها رمزاً إلى خيرات اسمى، ونشكر الله على هذه وتلك. وحين وعد يسوع الودعاء بأنهم يرثون الارض فهو إنما وعدهم بأن يكونوا مع الله حيث يقيم الله، وهذا ما يسميه سفر الرؤيا الارض الجديدة والسماء الجديدة.
خاتمة:
حين نقرأ اليوم سفر التثنية، لا نزال نتأثر بالنبرة الحارة أمام كلمات تتوجه إلى قلبنا. والاله الذي يدعونا الكتاب إلى محبته ليس إلهاً بارداً وبعيداً. إنه إلاله الرحوم الذي يأتي نحو شعب تعلق به. واختار هذا الشعب لأنه احبه، واراد ان يقوده إلى السعادة فربطه بممارسة شريعة تجعله قدوساً على مثاله. في سفر التثنية يستشف الناس بعضاً من سر الله الخفي والحي: الأمور الفية للرب إلهنا والأمور المعلنة لنا ولبنينا إلى الأبد لكي نعمل بجميع كلمات هذه الشريعة (29: 28).
وحين نقرأ سفر التثنية نتوجه الى معرفة أعمق لذلك الذي قال عنه يوحنا إنه المحبة (1 يو 4: 8) والذي به يرتبط المؤمن فيحفظ وصاياه. محبة الله في حفظ وصاياه (1 يو 5: 3). ومن حفظ كلام الله اكتملت فيه محبة الله حقاً. ذلك هو الدليل على أننا فيه (1 يو 2: 5). ففي العهد الجديد كما في العهد القديم، يبدو الخلاص قريباً منا في كلمة تتوجَّه إلينا. يكفي لذلك أن نقبلها بالايمان ونمارسها، فتدل على محبتنا لذلك الذى أحبنا أولا وبذل ذاته لأجلنا.
الخوري بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM