الفصل الأول: الله الحي كما كشف لنا
 

الفصل الأول
الله الحي كما كشف لنا

الايمان باله واحد هو آب وابن وروح قدس، هذا الايمان يميّز المسيحي عن غيره من المؤمنين. فوحي أبوّة الله بيسوع ابنه الوحيد في الروح، هو ذروة تربية طويلة انطلقت من "إله ابراهيم واسحق ويعقوب" فوصلت إلى أبي ربّنا يسوع المسيح. غير أنّ ما نجده في العهد الجديد هو جديد وجذريّ وهو يحدّثنا عن سر يسوع نفسه. فإيمان الكنيسة الرسوليّة تجمّع في وقت من الأوقات في اعلان واحد: "يسوع هو ربّ". فشخص يسوع ابن الله الحيّ، يكفينا لكي نحدّد العهد الجديد. ولكن لا نخطىء حين نفسّر مضمون هذا القول. فحين نؤمن بابن الله، ندخل بطريقة أعمق في سّر الله الحيّ والحقيقي. ومن صار تلميذ المسيح عرف في الروح الرباط الفريد الذي يوحّد الابن بأبيه.
سنحاول هنا أن نتتبّع وحي الله الآب والابن والروح القدس في ثنايا العهد الجديد. ينبع هذا الوحي في تعليم يسوع وتصّرفه، ويتثبّت في كرازة الكنيسة الرسوليّة وصلاتها. وسيعبرّ بولس ويوحنّا عن الحياة الثالوثيّة التي بها نؤمن ومنها نحيا.

1- يسوع يكشف عن الآب ويعد بالروح
أ- "لا يعرف أحد الآب الاّ الابن..."
ورث يسوع ايمان الجماعة اليهوديَّة. تذكّر الاعتراف الايماني الذي يردّده اليهودي صباحاً ومساء: "اسمع يا اسرائيل: الربّ الهنا هو الربّ الواحد" (مر 12: 29). هذا هو التعليم الأساسيّ في حياة يسوع التي لا تستطيع ان تتوجّه عكس ارادة الله الواحد: "الربّ الهك تعبد وله وحده تسجد" (مت 4: 10؛ لو 4: 8). إنّ مرسل الله يقف في خطّ الوحي الذي وصل إلى موسى في العلّيقة المتّقدة: "أنا إله ابراهيم، إله اسحق، إله يعقوب" (مر 12: 24- 27).
ويتوافق يسوع مع هذا التقليد توافقاً تاماً فيسمّي الله أباه: هو الذي أوجد شعبه واختاره كابن له (مت 15: 26؛ مر 7: 27؛ يو 8: 33- 35). وفي نظر يسوع، كما في نظر معلّمي عصره، يرتبط هذا التبنّي بمتطلّبات أخلاقيّة: فالابن هو الذي يعمل ارادة أبيه الذي في السماوات (مت 7؛ 21: رج 5: 16- 48). ولكن يسوع فجّر هذا التقليد في اتجّاهين. من جهة، أعلن أن أبوّة الله مفتوحة للخاطىء نفسه (لو 15: 1- 32). واجه النظرة الفريسيّة إلى البرّ والقداسة، فكرز بملكوت يدعو فيه الآب الرحيم إلى التوبة، العشّار والزانية، ويجمع الخراف الضالّة من آل اسرائيل. ومن جهة ثانية، رفض يسوع موقف اليهود في زمانه، وكانوا يحصرون بنوّة الله بالشعب المختار، وبصورة خاصّة بالأبرار الذين يمارسون الشريعة. أمّا هو فشدّد على طابع الشمول لحبّ الآب الذي يشرق شمسه على الأشرار والأخيار، ويسكب غيثه على الأبرار والفجّار (مت 5: 15؛ 7: 11؛ لو 6: 35). فإلى الوليمة المسيحانيّة التي أعدّها الآب سيأتي الأبناء من المشرق والمغرب، من الشمال والجنوب (لو 13: 23- 29؛ رج مت 11:8- 12).
بأي سلطان يستطيع "ابن النجّار" أن يتكلّم ويتصّرف بهذه الطريقة؟ بسبب علاقته مع الآب. هو الابن وهو المرسل الذي يشهد عن الآب. ولكن يسوع لا يعلّم باحتفال هذه البنوّة، بل يلمّح عنها شيئاً فشيئاً ويجعل التلاميذ يكتشفون قوّة عبارة يتلفظّ بها فتندهش جموع الجليل: "أمّا أنا فأقول لكم".
ما يلفت نظرنا بادىء ذي بدء، هو أن يسوع لا يماثل بينه وبين أفراد شعبه حين يتحدّث عن الآب. هو لا يقول أبداً حين يعلّم التلاميذ العبارة المعروفة في أيامه: "أبانا" "أبي" و"أبوكم". وهكذا يدلّ على علاقته الخاصة بالله.
كان العهد القديم يسمّي الملك الخارج من داود ابن الله (أكون له أباً ويكون لي ابناً، 1 صم 7: 14؛ مز 2: 7). سيسمّي اليهود يسوع ابن داود مشدّدين على ناسوته ويتركون لقب ابن الله. وحين رأت جوع الجليل معجزات نبيّ الناصرة أنشدت ابن داود (مت 12: 23).
ولكن يسوع ظلّ متحفّظاً أمام هذه المظاهر المسيحانيّة. لم يعلن نفسه يوماً ابن داود، بل أفهم الشعب أنّ شخصه يتضمّن سراً أعمق من البنوَّة الداوديّة (مر 12: 35- 36). هو لم ينكر أنه المسيح الذي وعد به الله شعبه (مر 8: 27- 30؛ 11: 9- 10؛ 15: 26)، ولكنه يكشف عن الينبوع الحقيقي لقدرته كوسيط لملكوت الله. وهكذا لمّح أنه ابن الله بحسب مدلول يتعدّى الانتظار اليهودي.
أخذ يسوع مكانه بين عدد عن مرسلي الله إلى الشعب. ولكن بصفته الابن الوارث (مر 12: 1- 9). ففي مثل الكرّامين القتلة، قدّم يسوع نفسه على أنه الابن الذي أرسله الآب. واذ أراد أن يشير إلى رسالته وشخصيّته سمّى نفسه مراراً ابن الانسان وربط هذه التسمية بالآب (مر 8: 38) في الاطار المقبل للمجيء المجيد. ولكن الابن الانسان عدّ منذ الآن حامل سلطة لا تخصّ الاّ الله وحده (مر 2: 7- 10). وان كان لن يدخل في مجده قبل أن يتحمّل ذلّ عبد الله (عبد يهوه)، فهو يعي منذ البداية العلاقة الحميمة التي توحِّده بالآب. اختار يسوع صورة ابن الانسان السريّة ليبعد صورة ابن داود وما فيها من التباس، واختارها أيضاً ليدلّ على الطابع المتسامي لعلاقته مع الآب. بعد هذا نفهم انتقاله بسهولة من لقب ابن الانسان إلى لقب الابن الذي يطالب به.
وساعة أعلن مرسل الله أنه يجهل يوم وساعة المجيء المجيد، وساعة شدّد على ضعة مهمته وعلى خضوعه لإرادة الآب، جعل نفسه كالابن على مستوى سماوي وفوق الملائكة (مر 13: 32؛ مت 24: 36). وإن علاقة الآب والابن تجد نفسها في قلب الوحي الذي أتمّه يسوع (مت 11: 25- 27؛ لو: 21- 22). فإذا كان يسوع يستطيع أن يفتح أسرار الملكوت للتلاميذ الذين يقبلون نيره، فهذا يعني أنّ سلطته لا تأتي من تقليد بشري مثل تقليد الكتبة، بل من الرباط الذي يوحّده بالآب. الآب وحده يعرف الابن: والناس لا يستطيعون أن يلجوا إلى سّره الاّ بوحي من الآب (مت 16: 17). والابن وحده يعرف الآب: والبشر لا يستطيعون أن يعرفوا الآب الاّ بوحي من الابن. نحن هنا أمام معرفة كاملة ومتبادلة بين الآب والابن تنقلنا إلى مجال يتعدّى تاريخ الخلاص وتجعلنا نستشفّ هذه العلاقة السّرية بوجود المسيح الأزلي. ونحن نفهم أن يكون لوقا شدّد على اليقين عند يسوع منذ أوّل كلمة تلفّظ بها (لو 2: 49). فعمق سّر هذا الانسان يكمن في علاقته البنويّة بالله. وهذا ما يقوله لرئيس الكهنة (مت 26: 63- 64). يؤكد أنه ابن الله وأنه فوق ابن داود لأنّه يجلس عدت يمين القدرة (مز 110: 1) ولأنه ابن الانسان الآتي على سحاب السماء (دا 7: 13).
ونتوقّف عند الطريقة التي بها يتوجّه يسوع إلى أبيه وخاصّة في صلاته. هو يقول: أبّا، أيها الآب (مر 14: 36؛ غل 4: 6؛ روم 8: 15)، وهي كلمة لم يستعملها اليهودي يوماً في صلاته.
علّمتنا الأناجيل الازائيّة أنّ موقف يسوع تجاه الآب يتضمّن خضوع الابن الذي يتمّم بمحبّة ارادة أبيه، وسلطة الابن الذي يعلن هذه الارادة. وهذا الموقف يعكس سّراً سيتأمّل فيه الانجيل الرابع هو سّر الابن الذي يقيم في حضن الآب.
ب- "روح أبيكم يتكلّم فيكم..."
اذا كان يسوع قد اكتفى بكشف سّر علاقته بالآب للتلاميذ، فهو يبقى متكتّماً فيما يخصّ الروح. ويدهشنا هذا الصمت حين نتذكّر الدور الذي لعبه الروح في الأزمنة المسيحانيّة. قال الأنبياء إنّ المسيح يمتلك ملء الروح (أش 11: 2). وربطت بعض النصوص اليهوديّة فيض الروح بمجيء المسيح، فهيّأت الدرب لكرازة يوحنّا المعمدان (رج مت 3: 11؛ يو 1: 33).
اهتمّت الكرازة المسيحيّة الأولى بأن تبيّن عمل يسوع مدفوعاً بالروح (أع 10: 38). ومشهد العماد في التقليد الانجيلي يمثّل الروح نازلاً على الابن الحبيب (مت 3: 16؛ يو 1: 33). ويستبق لوقا الأحداث فيجعل الروح حاضراً على المسيح منذ الحبل به (لو 1: 35)، فاعلاً فيه منذ بداية رسالته (لو 4: 21؛ 14: 18؛ 10: 21). ولن نجد في التقليد الازائي الاّ مقطعين يجعلان الروح على شفتيّ يسوع.
حين رفض الفرّيسيون آيات مرسل الله، أعادهم يسوع إلى الاعتقاد اليهودي الذي يجعل مرسل الله يعمل بقوّة روح الله (مت 12: 28). إنّ عمل هذا الروح يجيء بالملكوت فيجابه عمل بعل زبول. وفي سياق التعليم الأخير للاثني عشر، وعد يسوع بمجيء الروح على الجماعة المسيحانيّة (مر 13: 11 وز). سيشهد الروح القدس حين يمثل التلاميذ أمام المحاكم من أجل اسم يسوع. ويؤكّد الانجيل الرابع على دور الروح هذا ويوسّعه. يسمّيه البارقليط أي المدافع الذي يستعمل شهادة التلاميذ ليوبّخ العالم على الخطيئة والبرّ والدينونة (15: 26- 27؛ 16: 7- 11). سيولد في الألم عالم جديد (مر 13: 8؛ يو 16: 21) ويكون الروح كافله حين يدفع الجماعة المسيحاويّة إلى الشهادة.
لماذا هذا التكتّم عند يسوع؟ لأنّنا أمام وعد. وتحقيق هذا الوعد، كما يقول يوحنا، يفرض وجود بداية مخاض عالم جديد في المسيح نفسه. فلا بدّ من انتظار مجيء هذا الفاعل السّري لكي يفكّر الشهود أنفسهم بمهمّته وشخصيّته.
أعلن يسوع ملكوت الله، أي تتمّة مخطّط الآب. وهذا الملكوت هو الوحي الكامل لأبوّة الله للمساكين والصغار. وقدّم لهم يسوع نموذج هذه العلاقات البنويّة مع الآب. ولكن لم يكن أحد يظنّ أن هذا المسيح هو الابن الوحيد، وأنّ الوحي التامّ للأبوّة الالهيّة يدخلنا نحن البشر في حياة الآب والابن الحميمة. فالروح الذي يحرّك الابن سيبرز سرّ الابن وانجيله.

2- شهادة الكنيسة الرسوليّة وصلاتها
أ- الكرازة الرسوليّة واعتراف الايمان
أولاً: "الله جعله ربّاً ومسيحاً..."
نستطيع أن نلتقي "بتقليد الانجيل" (1 كور 15: 1- 3) بفضل اخطب التي نقرأها في سفر الأعمال وعبارات الإيمان التي احتفظت بها رسائل القديس بولس. وهنا نميّز مرحلتين في الكرازة المسيحيّة الأولى: شهادة أمام اليهود، اعلان البشرى أمام الوثنيين. وفي كلا الحالين، سيتركّز التعليم المسيحي على شخص يسوع نفسه، وبصورة خاصّة على موته وقيامته (1 كور 15: 3- 5). ويتلخّص اعتراف الايمان بعبارات كرستولوجيّة (أي تتحدّث عن يسوع المسيح): "يسوع هو المسيح". "يسوع هو ابن الله". "يسوع هو الربّ". ولكن هذا التأكيد لا ينفصل عن إله العهد القديم: فأحداث الخلاص تدخل في مخطّط الآب منذ الأزل.
وتشير شهادة الاثني عشر في المحيط اليهودي (وهذا ما نجده في خطب بطرس في سفر الأعمال) إلى الحدث الفصحي وتتلخّص في هذه الكلمات: "فيسوع هذا قد أقامه الله" (أع 2: 32؛ 3: 15؛ 4: 10؛ 5: 30؛ 10: 40). كما أنها تعلن في الوقت نفسه جلوسه عن يمين الآب: "الله جعله ربّاً ومسيحاً" (أع 2: 36). هذا لا يعني فقط أن الآب رفعه عن يمينه، بل جعله "رئيساً ومخلصاً" (أع 5: 31) لشعبه، وحجر زاوية في هيكل يجمع كل المخلّصين (أع 4: 11)، وقاضياً جاء يبني الملكوت النهائي (أع 3: 20- 21). سمّى بولس يسوع ابن الله الذي انحدر من داود فأتمّ في شخصه قول ناثان (2 صم 7) ونبوءة داود (مز 2: 1 ي؛ رج غل 1؛ 16؛ روم 1: 1- 4).
نخطىء إن نحن فسّرنا هذه التولية الملوكيّة للمسيح والابن بمعنى التبنّي. فالألقاب المعطاة هنا ليسوع لا تعني طبيعته بل وظيفته. وهذه الشهادة تشير إلى مهمّة يسوع المسيحانيّة، دون أن تتحدّث عن وجوده الأزلي كابن الآب. ارتكزت الجماعة الرسوليّة على إيمانها بالقيامة فأعلنت أن الابن، بعد أن حقّق عمل الخلاص، شارك الآب في مجده وسيادته على شعبه (غل 2: 6- 11). وهذا الإعلان يبقى مفتوحاً على تفكير لاحق في وضع الابن الأزليّ.
ان الابن يبقى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالآب: "الذي يحيي الأموات" يقيما الابن. ثمّ إنّ أحداث الخلاص (الموت، القيامة، الصعود) تتمّ "حسب الكتب"، أي حسب مخطّط الله. تتركّز الشهادة على شخص يسوع، ولكن سّر الابن لا يُفهم خارجاً عن الايمان بإله الآباء الذي مجّد فتاه.
وسيتّخذ هذا التوسّع في الايمان المسيحي كل قوّته حين ينتقل الانجيل إلى العالم الوثني. فقد استند الشهود إلى إيمان اليهود بالاله الحيّ وإلى انتظارهم للمسيح. فبالنسبة إلى الذين كانوا بدون إله، بدون مسيح، وبدون رجاء في هذا العالم (أف 2: 12)، اتّخذ اعلان الخلاص طابعاً آخر. فإذا عدنا إلى خطبة بولس في أثينة (أع 17: 22- 31) وإلى بعض التلميحات في رسائله (1 تس 1: 9- 10)، رأينا أن الكرازة في العالم الهليني (أي الذي يتكلّم اليونانية) تقوم على نقطتين. الأولى: التخلّي عن الأصنام وعبادة الله الحيّ والحقيقي. الثانية: انتظار دينونة آتية بالايمان بقيامة يسوع.
وتثبّتت هذه الرسمة بطريقة جديدة في إعلان الايمان. فبالاضافة إلى إعلان يسوع كَرَبّ (1 كور 12: 3؛ غل 2: 11؛ روم 10: 9)، يورد بولس عبارة أخرى تجاه الشرك وعبادة الأوثان: "لا اله إلاّ الله الأحد... لنا نحن اله واحد وهو الآب الذي منه كل شيء ولأجله نحيا، وربّ واحد هو يسوع المسيح الذي به كلّ شيء وبه نحيا" (1 كور 8: 4- 6). ونحن نجد هذين التعبيرين في الانجيل الرابع: نؤمن أن يسوع هو المسيح وابن الله (يو 20: 31). نعرف الاله الواحد الحقيقي ومرسله يسوع المسيح (يو 17: 3).
إنّ انتشار الانجيل في وسط مسيحيّ قاد الكنيسة إلى أوّل توسّع ثالوثيّ. وفي هذا السياق سيرتدي اسما ابن الله والربّ قوّة، لم يصلا إليها في العالم اليهوديّ. سيدلاّن بعد الآن على تمجيد الابن وعلى مساواته مع الآب (يو 5: 18؛ 10: 33).
ثانياً: "أفاض الروح القدس"
كيف تمّت الخطوة التي نقلناها من عبارة مثنّاة إلى عبارة ثالوثيّة فقرأناها في نهاية الانجيل الأول: "باسم الآب والابن والروح القدس"؟ إنّ هذا السياق يقودنا إلى العماد. إنّ الإجمالات التي بين أيدينا عن الكرازة الأولى، لا تتيح لنا أن نؤكّد أنّ ذكر الروح انتمى إلى الانجيل. ولكن من المعقول أنّ النداء إلى التوبة تضمّن الوعد بعطيّة الروح (أع 2: 38).
يتكلّم سفر الأعمال (2: 38؛ 8: 16؛ 10: 48؛ 19: 5) عن عماد "باسم يسوع". نحن ولا شكّ أمام عبارة تدلّ على انتماء المسيحي إلى الربّ يسوع بالارتداد والعماد (1 كور 1: 13- 15؛ 10: 2). ولكنّها تشير أيضاً إلى أعتراف ايماني باسم يسوع، يرافق العماد (1 كور 6: 11؛ روم 10: 9- 13؛ أع 8: 37؛ 22: 16). فالعماد الذي نقبله حين "ندعو باسمه" يوحّد المسيحي بسّر يسوع المائت والقائم من بين الأموات. ولكن الانسان الجديد المخلوق الآن هو في الوقت عينه عمل الروح الذي يرتبط فيضه بغفران الخطايا بواسطة المعموديّة: ولهذا تتكلّم النصوص عن عماد بالروح تجاه عماد يوحنا المعمدان (أع 2: 38؛ 19: 1- 6؛ 1 كور 6: 11؛ 1 تم 3: 4- 6). فنحن لا نستطيع أن نعلن ايماننا الاّ في الروح (1 كور 12: 3).
كانت العبارة من جزئين: اله وربّ واحد، ربّ واحد، فصارت ثالوثيّة: الآب والابن والروح القدس. ونحن نكتشفها في أف 4: 4- 6 حيث نجد المعموديّة أيضاً. فوحدة جسد المسيح تتأسّس على وحدة الايمان بإله واحد، برب واحد، بروح واحد.
ب- الصلاة المسيحيّة
أولاً: "مبارك الله وأبو ربّنا يسوع المسيح"
ينطلق المسيحيّون من الصلاة اليهوديّة فيحتفلون بشعائر عبادة الربّ (أع 13: 2) ويدعون يسوع ويسمّونه الربّ (مارانا تا: تعال يا ربّ، 1 كور 16: 22؛ رؤ 22: 20) ويباركونه على أنه الله (روم 9: 5؛ 2 تم 2: 13؛ 1 يو 5: 21). فمباركاتهم وأفعال شكرهم تتوجّه طوعاً إلى الآب السماويّ. هذا ما نجده في رسائل مار بولس وفي صلاتين تردان في سفر الأعمال (1: 24؛ 4: 24- 29)، وفي أناشيد الرؤيا السماويّة (رؤ 4: 8، 11؛ 7: 12؛ 11: 17؛ 15: 3- 4؛ 19: 1- 2) التي هي صدى للعبادة المسيحيّة في يوم الربّ (رؤ 1: 10) الذي هو يوم الأحد. ويصلّي المؤمن مثل بولس نفسه "في حضرة الله" (1 تس 1: 3؛ 3: 9؛ 2 كور 3: 4؛ 4: 2؛ 7: 12؛ روم 15: 30؛ أف 1: 4). إن الصلاة تشكّل حواراً مع الآب يتمّ في الخفية، حسب طلب يسوع نفسه (مت 6: 5- 6). تنطلق من نبرة احتفاليّة "أبانا الذي في السموات" (مت 6: 9) إلى نبرة بسيطة "أبّا" (لو 11: 2)، يا أبت. ففي يسوع نال المسيحي نعمة التبنّي (غل 4: 5- 7؛ روم 8: 14- 17)، وكان له الوصول إلى الآب بثقة الابن نفسه الذي هو يسوع المسيح.
ثانياً: "بيسوع المسيح"
تكمن الميزة الجديدة للصلاة المسيحيّة بالمكانة التي تفردها للمسيح. فهي تستطيع أن تتوجّه إليه مباشرة. وتستطيع أن تقرّب بين الآب والابن (هذا ما نراه في تحيّات رسائل العهد الجديد)، فتعكس عادة الجماعات الليتورجيّة: "النعمة والسلام من الله أبينا والربّ يسوع المسيح...". وقد يكون تدرّج: فالمباركة المسيحيّة ترتفع إلى الآب بواسطة الابن (2 كور 1: 20). فالله وفى بمواعيده في ابنه. وحين تسمع الجماعة المسيحيّة إعلان البشارة، تعلن بالابن موافقتها (تقول أمين) لمجد الله. هكذا ترتسم حركة الشكر في الكنيسة. لا تبدو هذه البنية واضحة دائماً في المجدلات البولسية (روم 1: 8؛ 7: 25؛ 16: 27)، ولكن الرسول يطلب من المسيحيّين أن يقدّموا شكرهم "باسم الربّ يسوع" (كو 3: 17؛ أف 5: 20). ولهذا يندر جدّاً أن لا يظهر الربّ يسوع المسيح في صلاته (1 تس 1: 2- 3؛ 3: 11- 12؛ 1 كور 1: 4؛ 2 كور 1: 3- 5؛ غل 1: 3؛ كو 1: 3- 4؛ أف 1: 3؛ 3: 14- 21).
الصلاة المسيحيّة التي هي جواب الانسان إلى مبادرة الله، تشدّد على فعل الشكر فتتعرّف إلى كل ما أعطانا الله إيّاه في المسيح (1 كور 1: 4). والابن هو في مجيئه الأول في قلب فعل الشكر كما هو في مجيئه الأخير في قلب صلاة القلب: "تعال أيها الربّ يسوع"!
ثالثاً: "روح الله"
ليس من صلاة ممكنة الاّ في الروح. وحده روح الابن الذي يجعل من المسيحي ابناً لله، يتيح لنا أن نقول أبّا! وحده روح الله يعطينا أن ندعو باسم الربّ. فالعبادة الروحيّة تجمعنا في الليتورجيّا تحت نظر الروح (1 كور 2: 3؛ كو 3: 16- 17؛ أف 5: 18- 20؛ رؤ 22: 17).
أول عبارة ثالوثيّة واضحة نقرأها هي 2 كور 13: 13: "نعمة الربّ يسوع المسيح ومحبّة الله (الآب) وشركة الروح القدس تكون مع جميعكم". هذه التحيّة المطبوعة بالاستعمال الليتورجي ترد مرّة أخرى في فل 2: 1: "عزاء في المسيح، هناء في المحبّة (أي الآب)، مشاركة في الروح". إنّ النعمة تأتي بالمسيح، ولكنّها ترتبط في النهاية بمحبّة الآب وتظهر في "مشاركة الروح" الذي يفيضه يسوع، أو "في وحدة يحقّقها الروح".
ونلاحظ أيضاً أن بولس يعود إلى عبارة ثالوثيّة ليحثّ الكنائس على الوحدة. ذكّر المواهبيين في كورنتوس أنّ عليهم أن يبقوا متّحدين في خدمة الجسد، فاعتبر هذه المواهب تتفرّع من الروح على أنها نعم، تتفرّع من الرب الذي يدعونا إلى خدمة كنيسته على أنها خدم، تتفرّع من قدرة الله الذي يعمل كل شيء في كل انسان على أنها نشاط (1 كور 12: 4- 6). ونجد في أف 4: 1 ي عبارة ثالوثيّة: "إله واحد، ربّ واحد، روح واحد". هذه العبارة تدخل في تحريض للمسيحييّن على الوحدة من أجل بناء الجسد حتى ملء قامة المسيح. يبدو أن بولس يعود هنا إلى عبارات عرفتها الجماعات المسيحيّة. وهكذا نفهم لماذا وُجدت مقاطع عدّة تتضمّن رسمة ثالوثيّة (1 كور 2: 1- 16؛ 2 كور 1: 18- 22؛ 3: 3 ي؛ غل 4: 4- 6؛ روم 1: 1- 4؛ 5: 1- 5؛ 8: 9- 17؛ أف 1: 3- 14؛ عب 9: 14؛ 1 بط 1: 2؛ 4: 14- 16؛ 1 يو 3: 23- 24؛ 5: 5 ي).
كل هذا الغنى الذي تكتنزه الكنيسة الرسوليّة، كشف لنا اتجاهين معاكسين ومتكاملين في اعلان الايمان الثالوثيّ: في الرسالة برزت فكرة الابن الذي هو الربّ. ولكن هذا الاعلان يتطلّب الارتداد إلى الله الحيّ كما نكتشفه في المسيح. أمّا في الليتورجيا، فنحن ندعو الآب ولكننا نمرّ دوماً عبر الابن. ثمّ إن الايمان والصلاة يجدان قوامهما في الروح الذي يأخذ مكانه قرب الآب والابن كفاعل مساوٍ لهما في عمل الخلاص. إن نشاطه هو امتداد لمبادرة الآب في المهمّة التي أخذها الابن على عاتقه. هذا هو عالم الثالوث.
اكتشف بولس أن يسوع هو حقاً ابن الله، وهو كذلك في مهمّته كرئيس، ولأنه صورة الانسان الجديد. ولكن إن كان صورة فلأنه صورة الاله غير المنظور في كيان ذاته كابن الله.
يسوع هو صورة الله غير المنظور عند بولس، وهو الكلمة عند يوحنا. فملء اللاهوت حلّ فيه جسدياً. والكلمة المتجسد هو مسكن المجد الالهيّ وسط البشر، ومن ملئه نال العالم حياة أبناء الله. يربط بولس ويوحنا الروح بقيامة المسيح وصعوده المجيد. ولكن بولس يتقدّم لنا المسيح كآدم الجديد الذي ينعشه روح الله. الروح ينقل الانسان من نظام الحرف إلى نظام العهد الجديد. هو ينقلنا من عالم العبوديّة إلى حريّة أبناء تحوّلوا إلى صورة الابن الوحيد. أما عند يوحنا فالروح هو مبدأ الولادة الجديدة. هو ينقلنا من الظلمة إلى النور ويجعلنا ندرك سّر يسوع وشهادة الكتب... ينقلنا من الموت إلى الحياة فيصبح جسد المسيح ينبوع الروح الذي يعطي الحياة.
إن يسوع الناصري يقدّم لنا جدّة الحياة المسيحيّة: فالله الحيّ قد ظهر في الانسان. ولكن بشريّة الله ليست رجوعاً إلى الوراء بالنسبة إلى السّر الذي أوحيّ إلى موسى. ففي الابن الذي يتخلّى عن مجده ليلبس صورة العبد، تتمّ محبّة الآب الذي لا يريد موت ابنه بل حياته. والحوار الذي بدأ في العهد القديم بلغ ذروته مع يسوع إذ إنّ الابن الضال نفسه يستطيع أن يقول: أبّا، أيها الآب. بالابن الذي صار ينبوع حياة يفيض من أجل جماعة اخوته، أفيض الروح الذي أعلن عنه الأنبياء، أفيض في قلب الانسان: تحوّلنا بالروح على صورة الابن فاندفعنا نحو الآب ونحو اخوتنا بحبّ واحد.
صار المسيحيّ تلميذ يسوع، فحمل في ذاته صورة الاله غير المنظور. ولكنّه عرف أن صورة الله الآب والابن والروح القدس تبقى خفيّة وسريّة في يسوع إلى اليوم الذي يظهر فيه يسوع ويكون الله كلاّ في الكلّ.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM