الفصل الحادي عشر: اقتدوا بنا

الفصل الحادي عشر
اقتدوا بنا
3: 7- 12
نصّ نقرأه وكأنه يتوجّه إلينا اليوم. فهو يكشف لنا فرص الرسول، لا حول عمل المسيحيين لكي يؤمّنوا قوتهم اليوميّ، بلى حول العمل الذي يمكن أن ياقوم به خادم الربّ. وهذا ما نسميه الأتعاب الرسوليّة.
1- سياق النصّ
تشكّل هذه المقطوعة جزءاً من القسم الثالث من 2 تس، الذي هو القسم الارشاديّ. سبق لبولس وطلب أن تُتلى صلوات من أجله (3: 1- 5)، فاختتم التوسّعات على المجيء التي شكّلت القسم المركزي في الرسالة (2: 1- 12). أما الجملة التي بها تبدأ المقطوعة التي ندرس، ففيها يناشد الرسول اخوته، بقوّة وباسم المسيح، أن لا يختلطوا بهؤلاء الناس الذين يعيشون حياة من القلق والاضطراب ولا يتبعوا القواعد السلوكيّة التي أوصاهم بها (3: 6).
أما آ 7- 9 فتشكل قطعة سيرويّة صغيرة حول. إقامة بولس في تسالونيكي، وفيها يشدّد الرسول في كلامه إلى مراسليه، على ما طبع طريقة حياته في ما بينهم: روح التنظيم واندفاع في العمل. وفي آ 10، قدّم بولس المبدأ العام، وهو ضرورة تأمين أوده بعمله اليوميّ. وتعود آ 11 من جديد إلى وضع تسالونيكي اللاعادي، كما ذكره في آ 6. أما آ 12 التي تستعيد اللوم عينه (آ 6 أ)، فتنتهي بتحريض ملحّ فيه يدعو الرسول المؤمنين لكي يعيش كل واحد من تعب يديه.
هذه الوحدة الأدبيّة القصيرة هي إرشاد سببه كسل التسالونيكيين والبطالة عن العمل. تأثّروا تأثيراً مفرطاً بأخبار كاذبة حول اقتراب مجيء الربّ، فتركوا أعمالهم وشرعوا يعيشون حياة من الفوضى تتجاوز القواعد التي حدّدها بولس لهم. وهكذا تندرج العناصر السيروية (آ 7- 9) في إطار إرشادي يشكّل القسم الثالث من الرسالة الثانية إلى تسالونيكي.
2- مثال يقتدون به (3: 7- 9)
تبدو لنا جماعة تسالونيكي في هذا المقطع بشكل يختلف بعض الشيء عن الصورة التي شاهدناها في بداية الرسالة (1: 3- 4). فعلى هذه الخلفيّة المرسومة بالايمان والرجاء والمحبّة، تبرز ظلال أساسها فئة قليلة تتكوّن من أشخاص يضعون البلبلة في الجماعة. اعتبروا أن عودة الربّ قريبة، فما عادوا يعملون بأيديهم، بل أخذوا يعيشون على حساب الآخرين مثل الطفيليّين. ومع ذلك، شرعوا ينشرون الشائعات الكاذبة حوله يوم الربّ. ولكن بولس كان قد صوّر بوضوح العلامة الحقيقيّة التي تسبق تلك العودة، وحذّر الاخوة من الانخداع بسبب نواياهم الحسنة (2: 3 أ: لا يخدعكم أحد بوجه من الوجوه). وها هو يعالج الان مسألة هؤلاء الأشخاص الذين يضعون البلبلة بدون سبب، ويعيشون على حساب الآخرين.
جاء تعليم الرسول مباشراً وواضحاً. بعد ذلك، سيقدّم في كلمات قاطعة مبدأ من مبادئ الحق الطبيعي، يؤسّس تعليمه: على كل إنسان أن يعيش من تعب يديه (آ 10 ب). ولكنه يفضّل أولاً أن يقنع مراسليه مذكّراً إياهم بالمثال الذي يجدونه في حياتهم. وقد قدّم نفسه لهم قدوة في نقطتين: عشت حياة بعيدة عن الفوضى والبلبلة. ثم: لم أكن عبئاً على الجماعة، بل أمّنت بنفسي ما أحتاج إليه في حياتي عاملاً بيديّ. وكل هذا عملته لكي أعطيكم قدوة.
وُلد بولس مواطناً رومانياً (أع 22: 28)، فما خضع يوماً لشريعة العمل اليدويّ على مثال العبيد. غير أن حرّيته في هذا المجال ارتبطت كثر ما ارتبطت بوظيفته كرسول. فنقرأ مئلاً في 1 تس 2: 7: "ومع أنه كان بوسعنا أن نثقّل عليكم بوصفنا رسل المسيح، كنا ذوي رفق في ما بينكم". كان بإمكاننا أن نفرض عليكم أن تؤمّنوا لنا الأمور الماديّة بوصفنا خداماً لكم، ولكننا لم نفعل، بل عاملناكم كما تعامل "المرضع أولادها". رج 1 كور 9: 4- 6، 16؛ 2 كور 11: 8- 9. وفي غل 6: 6، يقول الرسول: "يشرك الذي يتعلّم الكلمة معلّمه في جميع خيراته". نجد هذه القاعدة أيضاً في روم 15: 27؛ 1 كور 9: 11؛ رج فل 4: 10- 18 وما فعلته هذه الجماعة من أجل رسولها الذي كان في السجن.
كان يحقّ لبولس أن "يثقّل" على الجماعات على مثال سائر الرسل، ولكنه اختار العمل يقوم به نهاراً وليلاً. هذا ما يقوله في 1 تس 2: 9: "وإنكم لتذكرون أيها الاخوة، تعبنا وكدّنا إذ كنا نبشّركم بإنجيل الله ونحن نعمل ليل نهار لئلاّ نثثقّل على أحد منكم". وسيذكّر بولس جماعاته دوماً بأنه ما أراد أن يرتبط بأية جماعة في ما يخصّ الأمور الماديّة. رج 1 كور 4: 12؛ 2 كور 11: 7- 10. فله في هذا الموضوع آراء خاصة ترسم له الخطّ الذي يسير فيه: اجرته هي بأن يكرز مجاناً بالانجيل (1 كور 9: 18: أبشّر بالانجيل مجاناً، ولا أطالب بحقّي). لهذا كان يفتخر بأنه رفض كل أجر لعمله كمبشّر (1 كور 9: 12- 18؛ 2 كور 11: 7 ي 12: 13 ي). أما في الوضع الخاص بتسالونيكي، فقد جعل من عمله مثالاً للمسيحيين ليعيشوا هم أيضاً من تعب أيديهم.
3- نعمل لنقوم بأودنا (آ 10- 12)
بعد أن قدّم بولس وسائل الاقناع هذه، لجأ إلى البرهان السلطويّ ليحرّض التسالونيكيين ويهدّدهم. ولكنه يذكّرهم أولأ بالتعليم الذي علّمهم إياه بنفسه حين كان يقيم بينهم. هذا اللااهتمام المتكاسل كان قد ظهر في ذلك الوقت، ولهذا وجد نفسه مجبراً على تذكيرهم بمبدأ من مبادئ الحقّ الطبيعيّ: "إن كان أحد لا يريد أن يشتغل، فلا يأكل" (آ 10 ب). إذن، لا يحق له أن يأكل.
حين أشار الرسول في آ 6 إلى التقليد الذي تسلّموه كقاعدة حياة لهم، وضح أنه كان يلمّح إلى الفرائض التي يذكرها هنا. وقد فسّرت هذه القاعدة البولسيّة في معانٍ مختلفة جداً. رأى فيها بعضهم "القاعدة الذهبيّة للعمل المسيحيّ". واكتشف فيها آخرون شجباً للنظام الرأسمالي الذي يعيش من تعب الاخرين. يبدو أن بولس لم يفكّر بكل هذه الأمور، وإن كانت لدى الشرّاح محاولات لتأوينها. فالرابانيون كانوا يفرضون على كل واحد أن يتعلّم مهنة يعيش منها، وهكذا لا يكون المعلّم عبئاً على أحد. وإذ يقوم بحريّة بمهمّة التعليم، يعيش من عمل يديه. تربّى بولس على هذا النظام، فبيّن قبل كك شيء أن لا أحد يستطيع أن يعيش كالطفيلي على حساب الاخرين. فعليه أن يسعى لكي يَكفي حاجاته بنفسه.
وما يؤكّد شعورنا هو آ 11 حيث يصوّر الرسول هؤلاء الناس الذين يشجبهم ويحكم عليهم بقساوة: هم يعيشون في الكسل والبطالة. وفوق ذلك، يزرعون البلبلة ويتدخّلون في أمور لا تعنيهم. ما أراد بولس أن يستخلص مبدأ اجتماعياً عاماً حول العمل، بل أن يواجه ظروفاً خاصة من التراخي والاهمال. وهذا ما فرض عليه أن يتدخل بقوّة.
قابل بعض الكتّاب حذه التوصيات البولسيّة مع نصوص برديات تعلن أحكاماً خاصة تعاقب الكسل والمتكاسلين، غير أن المقابلة تبقى محضر خارجيّة. فالرسول لا يفرض عقاباً على الذي أهمل العمل، بل يكتفي بأن يوصيّ كل واحد بأن يقوم بأوده متجنباً العيش في بطالة ليس لها ما يبرّرها.
"نوصي هؤلاء، ونناشدهم". استعمل بولس هذين الفعلين (الأمر والتحريض) وكأنه يتردّد حول الموقف الذي يتّخذ تجاههم: هل يأمرهم باسم سلطته الرسوليّة؟ عل يحرّضهم كما يحرّض الأب أبناءه؟ وإذ زاد "بالرب يسوع المسيح" أخذ اللهجة اللازمة ليخضع هؤلاء الناس الزارعين الفوضى. فأعطاهم أمرين مميّزين: أن يعملوا بهدوء. أن يأكلوا من خبزهم الخاص دون "الشحاذة" من الآخرين.
4- العمل اليدويّ لدى خدّام الربّ
بعد أن فسّرنا هذه المقطوعة، نودّ أن نستخلص وجهتين تعليميتين تحملان الغنى اليوم لنا وتلهمنا سلوكاً يليق برسل المسيح: العمل اليدوي لدى خدّام الربّ. عمل المسيحي. ونبدأ بالوجهة الأولى.
تفرّد بولس عن الرسل وسائر العاملين في العهد الجديد، فجمع خدمة الربّ إلى العمل اليدوي. هو يعظ بالانجيل وفي الوقت عينه يعمل ويكدّ. نقرأ في أع 18: 3 أنه انضم إلى أكيلا وبرسكلة وكان "يعمل معهما" في صناعة الخيام. وقال عن نفسه في 20: 34 متوجّهاً إلى شيوخ أفسس: "وأنتم أنفسكم تعلمون أن هاتين اليدين كانتا تخدمان حاجاتي وحاجات الذين كانوا معي". وقال الرسول في 1 كور 4: 12: "نتعب عاملين بأيدينا". وفي 2 كور 11: 27: "في التعب والكدّ والاسهار الكثيرة".
كل هذا يدهشنا بعض الشيء. فبولس يعطينا مثالاً يعارض بعض الشيء ما فعله يسوع حين طلب من رسله أن يتركوا شباكهم ويتبعوه. ولكنه في ذلك تبع تقليد الرابانيين الذين جمعوا الدرس والتعليم مع العمل اليدويّ. وهذا ما فعله بولس فكان قدوة للمؤمنين.
والمثال الذي أعطاه بولس يدلّ على أن العمل اليدوي لا يتنافى والمهمّة الرسوليّة. فقد يكون من المناسب لخادم الربّ أن يؤمن عيشه بتعب يديه. أما ما قدّمه بولس من دوافع فهي دوافع شخصية. وفي 1 كور 9: 18، هو يعرض برنامجه تجاه خصومه في كورنتوس الذين يعيشون من صدقات الجماعة ويعتدّون بذلك ليبرهنوا على سموّ خدمتهم. فضّل بولس أن يتبع طريقاً أخرى فيستغني عن العون المالي من الكورنثيّين (2 كور 11: 7 ي؛ 12: 13 ي). غير أنه خضع في هذا المجال لأسباب خاصة واستراتيجيّة مدروسة. ساعة أراد خصومه أن يجعلوا الناس يثقون بصدف رسالتهم لأن الجماعة تقوم بحاجاتهم، لم يقبل بولس أية عطيّة إلاّ من أهل فيلبي (فل 4: 15). وهكذا استقى من تجرّده سبب افتخار لا يستطيع أحد أن ينتزعه منه (2 كور 11: 10).
من الواضح أن ما يتدخّل في كل هذا هو نظرته الشخصيّه والحرب ضد خصومه، ساعة كان يبشّر أهل كورنتوس. ولكن لا شكّ في أنه وضع منذ البداية نصب عينيه قاعدة سلوك تفرض عليه أن يعمل كي يكفي نفسه بنفسه. ومثل هذا القصد لا يتنافى مع وظيفته الرسولية. بل أتاح لها في مناسبات عديدة أن يتّصل بعدد كبير من الناس، وأن يبعد كل شكّ عنه بأنه يطلب منفعته حين يكرز بالانجيل.
5- عمل المسيحيّ
بالإضافة إلى ذلك، قدّم بولس نفسه للتسالونيكيّين قدوة لهم في العمل، والحياة البعيدة عن الفوضى، والشغل الهادئ. بل شرح لهم القاعدة الواجب اتباعها لكي يتمّ العمل بعيداً عن كل بلبلة وتدخّل في شؤون الآخرين لا يحمل إليهم إلاّ الضرر. نحن نجد ملخّصاً لهذا التعليم في التوصيتين المذكورتين أعلاه. الأولى: "إن كان أحد لا يريد أن يشتغل، فلا يأكل" (آ 10) والثانية: "يشتغل كل واحد في سكينة ليأكل خبزه" (آ 12).
إدْا جعلنا جانباً. هاتين الاشارتين اللتين تفرضهما الظروف، هل نجد تعبيراً تعليمياً دقيقاً عن عمل المسيحي؟ قد نستطيع أن نستخلص بعض الشيء منطلقين من مجمل شهادة الرسول. فبولس، شأنه شأن يسوع، لم يتوسّع في النظريات الاجتماعيّة. غير أنهما حين عاشا وضع العمّال، أعطيا كل عامل كرامة وأملاً وسلطاناً لم يكونوا ليحلموا بها. لا حاجة إلى خطبة ثورويّة، بل إلى مثال من الخدمة والالتزام، وروح حقيقيّة من الاخوّة الشاملة: ذاك هو المنطق الجديد الذي ظهر في العالم القديم: حين يعمل المسيحي، يكون "مشاركاً لله" (كو 3: 23) في عمل الخلق. وإذ يرفض أن يطالب بكل حقوقه، لا يمكنه إلاّ أن يتعرّف إلى جنون الصليب.
خاتمة
ما قاله بولس من كلام حول العمل يرتدي قوّة خاصة بالنسبة إلينا اليوم. فالعمل يتيح لخدّام الربّ أن يكرزوا الانجيل بحريّة. كما يساعدهم على الولوج إلى مختلف الاوساط الاجتماعيّة التي يجب أن تنتشر فيها بشارة المسيح. أما في ما يتعلّق بعمل المسيحيّ، فنحن لا نجد الشيء الكثير في رسالة ذات طابع ظرفيّ، اهتمّت قبل كل شيء بأن تعلّم أهل تسالونيكي العمل الذي يعرف النظام والسكينة، ويّبعد عن الكسل والبطالة. هؤلاء الذين وجدوا عذراً لهم في اقتراب مجيء الربّ، فأهملوا واجبهم اليوميّ، طلب منهم بولس أن يهتموا بأمورهم ولا يعيشوا على حساب الآخرين. فيبقى على هذا المقطع اللاهوتي أن يجد ما يكمّله في مقاطع أخرى من رسائل القديس بولس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM