دراسة في موشّحات سليمان

دراسة في موشّحات سليمان
في بداية القرن التاسع عشر، اكتشف راندل هاريس بين مخطوطات وُضعت في زاوية من مكتبته، أناشيدَ، تبيَّنت له أنها موشّحات سليمان. عُرفت هذه الموشّحات في حواشٍ وردت في كتب منحولة، وفي نصّ قبطيّ "إيمان – حكمة"، وفي نصّ لاتيني كتبه لاكتانتيوس. ثم كُشف في المتحف البريطاني مخطوطٌ سريانيّ آخر، وترجمةُ الموشّحة الحادية عشرة في اليونانيّة. وبدأت البحوث فدلّت أن الموشّحات ليست نصوصاً غنوصيّة. بل مجموعة من المدائح المسيحيّة القديمة التي تقترب كثيراً من المدرسة اليوحناويّة. لهجتُها ونظرتُها يهوديّة، فاعتبرها العلماء، في الأصل، خارجة من العالم اليهوديّ. غير أن بعضَ الباحثين اعتبروا أن الجدال انتهى، وأن الموشّحات مسيحيّة: هي تتميّز بلهجة الفرح والشكر لمجيء المسيح الذي وُعدنا به، كما تتميّز بالخبرة الحاضرة للحياة الأبديّة، وبالمحبّة التي تنبع من الحبيب وتصل إلى الحبيب.

1- الوجهة الأدبيّة
سبق وذكرنا ما يتعلّق بالنصوص التي تورد الموشّحات كلَّها أو جزءاً منها. ولكن يبقى الأساس النصّ السريانيّ.
هذا ما يطرح سؤالاً حول اللغة التي فيها كُتبت الموشّحات. ظنّ بعضُ العلماء أن اللغة الأصليّة هي اليونانيّة. ذاك كان رأي هاريس في الطبعتين الأوليين للنشرة الرئيسيّة. ولما اكتُشفت موشّحة في اليونانيّة عاد تاستوز مثلاً وفيلوننكو وفرنكانبرغ إلى القول بأن اللغة الأصليّة هي اليونانيّة، بل إن هذا الأخبر، اقتنع بالأمر اقتناعاً جعله ينقل الموشّحات من السريانيّة إلى اليونانيّة. وتحدّث باحثون آخرون عن العبريّة كلغة أصليّة للموشّحات، فنقلها إلى هذه اللغة، واعتبر الأب كرمينياك أنها لغة قمران. ولكن يبدو شبه أكيد أن الموشّحات دُوِّنت في السريانيّة (أو الأراميّة)، وهذا ما بيّنه هاريس ومنغانا في شرحهما، وفوبوس في مقال نشره سنة 1962، وتشارلسورث وإمرتون.
لا شكّ في أن نص 7: 10 و9: 8- 9 استند إلى السبعينية حين أورد مز 51: 1 (حسب العبري، سب 50: 3) ومز 21: 3 (حسب العبري. سب 20: 4). غير أن هذه العلاقة لا يمكن أن تكون برهاناً يدلّ على أصل يوناني للموشّحات. فقد يكون المترجم أخذ النصّ اليونانيّ كما قرأه في السبعينيّة وما نقله عن النصّ السريانيّ. وفي أي حال، هناك يقين واسع بأن السبعينيّة استُعملت مراراً في جماعات ساميّة. وما يدلّ على ذلك، اكتشاف أجزاء من نسخات عديدة للسبعينيّة، في مخطوطات البحر الميت. والتوازيات مع الأدب الغنوصيّ لا تدلّ أن الموشّحات دُوِّنت في اليونانيّة، لأن الغنوصيّين استعملوا وورثوا عدداً من الوثائق ألِّفت أصلاً في السريانيّة ولغات ساميّة أخرى.
والشاهد الوحيد الذي بقي لنا من نقل يونانيّ، هو برديّة بودمر. إنه يدلّ على أنه نُقل عن لغة ساميّة. فلغتُه اليونانيّة رديئة، بحيث يبدو أنه لم يُكتب في اليونانيّة.
وأهمّ أمر في هذا المجال، هو عدد النصوص السريانيّة الذي يبيّن أن اللغة الأصليّة هي السريانيّة. ونلاحظ بشكل خاص التلاعب على الألفاظ الذي أشرنا إلى بعضه في الحواشي، والرنّة الموسيقيّة، والايقاع والقياسات الشعريّة. أما الاختلافات العديدة بين الترجمات فتفسَّر بالرجوع إلى التقليد السريانيّ.
بعد اكتشاف الموشّحات بزمن قصير، أعلن هرناك أن وراء الإضافات المسيحيّة هناك كتاب مسيحيّ متهوِّد يعود إلى بدايات المسيحيّة. رفض برنار فرضيّة هرناك، واعتبر أن الموشّحات كتاب أناشيد مسيحيّة تعود إلى القرن الثاني ب. م. وهكذا بعد عشر سنوات من الدراسات والجدالات، عاد هاريس ومنغانا بالموشحات إلى بداية القرن الأول ب م. ومع أن بولتمان كان له أثر كبير على العلماء الالمان، ومع أنه استفاد من الموشّحات لدراسة اللاهوت اليوحناوي، فالبحّاثة تبعوا باور، ورأوا في الموشّحات نتاج العالم الغنوصيّ، العائد إلى القرن الثاني.
ولكننا نقول إن التوازيات العديدة مع المدائح (قمران)، والأفكار التي نجدها هي هي في الموشّحات وفي انجيل يوحنا، وما أورده أغناطيوس الانطاكي، كل هذا يجعلنا نعتبر أن موشّحات سليمان ألّفت، في إطار مسيحيّ، حوالي سنة 100 ب م.
وقيل الكثير عن الموضع الذي دُوِّنت فيه: في فلسطين، في بلا حيث هرب المسيحيون المتهوّدون بعد دمار أورشليم سنة 70 ب م. في الاسكندريّة أو مدينة أخرى في مصر. في أفسس أو مدينة أخرى في آسية الصغرى. ولكن الأخصائيّين يتوقّفون اليوم عند فرضيتين. الأولى، دُوّنت الموشّحات في الرها، أو في إحدى الجماعات المقيمة بين الرها وأنطاكية. والثانية، في أنطاكية على العاصي. إذا كانت الموشّحات قد دُوّنت في السريانيّة، حوالي سنة 100، فقد دُوّنت في جماعة شبيهة بالجماعة اليوحناويّة وقريبة منها، في جماعة عرفت الأفكار التي أوردها أغناطيوس الأنطاكي في رسائله. وهكذا نكون في أنطاكية أو في منطقة مجاورة لها.

2- الأهميّة التاريخيّة
مئات المقالات تحدّثت عن أهميّة الموشّحات التاريخيّة. ويمكن أن نوجز الأفكار في الملاحظات التالية.
الملاحظة الأولى: إن العلماء الذين عملوا في الموشّحات في بداية القرن العشرين فانصدموا بالمفاهيم والصور التي طالعتهم أولاً، يتذكّرون أولى المحاولات تجاه خبرة عن مجيء المسيح لا يوازيها شيء. فالمرتّل يصوّر الله مع ثديين يرضعهما الروحُ فيخرج منه حليب (لبن) خلاصيّ يصوَّر على أنه الابن (19: 1ي). فأول صيغة للموشّحات، جاءت شبيهة ببعض ما ورد في الأناجيل الازائيّة (رج مت 10: 5)، فصوّرت الوثنيين بألفاظ غير لائقة. أقرّ المرتّلُ بعظمة المسيح بكلمات مثل هذه: "أنا ممجَّد في الممجّدين، وعظيم في العظماء" (36: 4). مثلُ هذا القول لا يرضى به أريوس كما لا يرضى به اثناسيوس، أسقف الاسكندريّة. غير أن المؤرّخ يرى في هذه العبارات والفكرات والاستعارات محاولات المسيحيّين الأولين ليعبّروا عمّا هو جديد كلياً بالنسبة إليهم.
الملاحظة الثانية: التوازيات اللافتة بين الموشّحات ومخطوطات البحر الميت، ولا سيّما المدائح، تعطينا فكرة عن تأثير الاسيانيّين على اللاهوت المسيحيّ الأوّل. ففي الحالين، يرى الاسيانيون والمسيحيون أنهم "الطريق"، وهو لفظ استعمله بولس ليدلّ على التلاميذ الأوائل الذين تبعوا يسوع (أع 24: 14؛ رج 24: 22)، فشكّلوا الجماعة الحقيقيّة للإيمان: هم المقدّسون، الذين أسّسهم الله على الصخر، وغرسهم من أجل مجده. وتُشدّد الموشّحاتُ، مثل مخطوطات البحر الميت، على "المعرفة"، "الاكليل"، "الماء الحيّ"، "الشمس"، كرموز لخلاص لم يتحقّق بعدُ في ملئه. من الممكن أن تكون هذه التشابهات نمطاً مشتركاً عرفه العالمُ اليهوديّ. ولكن يبدو بالأحرى أن صاحب الموشّحات تأثّر بعدد من الأفكار توسّعت فيها المخطوطاتُ القمرانيّة، وقد يكون في وقت من الأوقات انتمى إلى الشيعة التي أنتجتهم.
الملاحظة الثالثة: تبدو الموشّحات مهمّة من أجل فهم أفضل لأصل إنجيل يوحنا ومدلوله. فعبارة "من فم المسيح" التي فيها يتوقّف المرتّل عن الكلام كمؤمن ملهَم، ويتكلّم كأنه الربّ الحيّ، لها مدلولها، وهي تحتاج إلى التوقّف عندها من أجل إدراك أفضل لأقوال يوحنا التي تبدأ مع "أنا هو". ثم إن كرستولوجية "الكلمة" (لوغوس)، في الموشّحات، غنيّة، لأنها تتضمّن أفكاراً نجدها في إنجيل يوحنا. غير أن الالفاظ ليست متشعّبة بالمقدار عينه. فصاحبُ الموشّحات يستعمل اثنتي عشرة مرة "م ل ت ا" (هو لفظ يوافق لوغوس) واثنتي عشرة مرة لفظ "ف ت ج م ا" (الذي لا يوافق).
الملاحظة الرابعة: جوّ الفرح في الموشّحات، يتعارض مع مجمل الأدب المنحول. فهو لا يقول مثلهم بكوارث تصيب الأرض (4 عز؛ 2 با)، وإن كان عرف بدمار الهيكل (الموشّحة 4). ولكنه يتطلّع إلى مجيء المسيح، والفردوس ليس ببعيد، كما في مخدع الركابيين، ولا هو في السماء الثالثة كما في 2 أخن، بل هو على الأرض. وكما في مزسل وفي انجيل يوحنا، يصوَّر المؤمنُ على أنه شجرة غرسها الله. غير أن الشجرة (المؤمن) في الموشّحات، غُرست في الفردوس، وهي تشرب من الماء الحيّ الأبديّ (الموشّحة 11).
الملاحظة الخامسة: الموشّحات هي نافذة نستطيع أن نستشفّ فيها المسيحيّة الأولى في شعائر عبادتها، ولا سيّما في يتعلّق بالمعموديّة (سواء في الليتورجيا، أو مع الموعوظين أو المعمّدين الجدد) وجوّ الفرح وخبرة المسيح الحيّ والقائم من الموت، الربّ والمخلّص. وتحثُّ الموشّحات المؤمنين على عيش حياة من البرّ لا لوم فيها.

3- الأهميّة اللاهوتيّة
نتوقّف هنا عند خمسة مواضيع: وجه الله. وجه الانسان. نظرة إلى الكون. الحياة الخلقيّة. الحياة الخالدة.
أ - وجه الله
صورةُ الله في الموشّحات صورةُ الاله الحنون (9: 5؛ 33: 10)، الرحيم (3: 6). والاله الذي يُعبد هو الاله الواحد. وهو الخالق (4: 15؛ 6: 3- 5). يتذكّر المرنّم لغة مقاطع من "المدائح" التي ترتبط بمؤسّس جماعة قمران ومعلّم البرّ، فيعبّر عن شكره لله وعمله الخلاصيّ: "أفلتُّ من قيودي، وإليك هربتُ يا إلهي" (25: 1). ويُدعى الله، العليَّ والأب والربّ. ولكن يصعب علينا أن نقرّر متى يعني المرتّل بلفظ "الربّ"، الله أو الابن، لأنه يماهي بين الاثنين.
مع أن المرتّل يُبرز وجهَ المسيح، وتجسُّدَه (7: 3- 6؛ 41: 3- 4، 11- 15)، وصلبه (27: 1- 3؛ 42: 1- 2)، وقيامته (42: 6)، ونزوله إلى الجحيم (42: 6- 10)، إلاّ أنه لا يصوِّر الله كذلك الذي يعمل عبر وساطة. فهو معنيّ بخلقه كما نقرأ في 11: 2: "ختنني العليّ بروحه القدوس، وكشف كليتّي لديه، وملأني من حبه". ونجد عبارة أخرى عن نشاط الله في 17: 1: "تكلّلتُ بإلهي، وإكليلي حيّ هو".
يتعارض المرتّل مع لهجة أسفار الرؤى، ولكنه يقف في خطّ عددٍ من المزامير والمدائح والصلوات، في العالم اليهوديّ، فيشدّد تشديداً على حضور الله. هنا نقرأ 21: 6- 7: "فرُفعتُ في النور، وعبرتُ أمام وجهه. صرتُ قريباً منه (= من الربّ)، فسبّحتُه واعترفتُ له". ويتحدّث المرتّل عن نزول الكلمة، ولكنه يختلف عن إنجيل يوحنا الذي يصوّره كذاك الذي أُرسل تجاه التلاميذ الذين أرسلوا. أما المرتّل فيصوّر الوحدة بين الله والابن في ألفاظ تتكلّم عن نشاط قام به الابن، الذي ظهر في العالم. نلاحظ هنا كيف يتكلّم المرتّل في 41: 11- 14 فيقول: "كلمته معنا في كل طرقنا، المخلّص الذي يُحيي نفوسنا ولا يرذلها. الانسان الذي تواضع، ولكنه ارتفع ببرّ نفسه، ابن العليّ تراءى في كمال أبيه. والنور ظهر من الكلمة، التي من البدء كانت فيه". هذه الكرستولوجيا التي تترافق مع الإشارة إلى التواضع الذاتيّ، تقودنا إلى ما قاله بولس في الرسالة إلى أهل فيلبي: "وضع نفسه... صار طائعاً... لذلك رفعه الله" (2: 5- 11).
ب- وجه الانسان
مع أن الموشّحات ليست مقالاً لاهوتياً، أراد فيه المرتّل أن يوسّع افكاره، إلاّ أننا نستطيع أن نكتشف أن نظرته إلى الانسان تختلف عن نظرة بولس الذي رأى البشرية مقسومة إلى فئتين: فئة جاءت قبل وحي الايمان، فئة خاضعة للإيمان. واختلف فكرُ المرتّل أيضاً عمّا نجد عند يوحنا حيثُ تُقسَم البشريّةُ بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون. أما المرتّل فيقسم البشريّة قسمين: الذين يسيرون في الضلال (15: 6؛ 18: 4)، والذين يسيرون في طريق الحقّ (11: 3) أو في معرفة الربّ. ساعةَ الفئةُ الأولى، وفي مرات متقطّعة الفئة الثانية، يجرحهما الشرّيرُ (الشيطان، 14: 5؛ 33: 4)، الذي يُدعى المضلّ (38: 10) والمُفسد (331:، 7؛ 38: 9) والضلال (31: 2؛ 38: 10)، تشدّد الموشّحاتُ على المعركة الحاسمة التي يربحها الله على المضطهِدين (23: 20؛ 42: 5).
في لغة تشبه شبهاً كبيراً لغة يوحنا، يؤكّد المرتّل أن المسيح قد أمسك، منذ الآن، العالمَ الذي تمرّد على الخالق. نسمعه يتكلّم بفم المسيح، فيقول: "تقوّيتُ وتشدّدتُ وسبيتُ العالم، فصارت (السبيَّة) لي لمجد العليّ والله أبي" (10: 4؛ رج 29: 10؛ 311: - 2). يختلف المرتّل عمّا يقوله البشر، في أنه اختبر النصرَ الأخير لأن هناك مساعداً له هو الربّ (7: 3؛ رج 8: 6- 7). ينتج عن ذلك أن المرتّل يفرح بخبرته الحاضرة للحياة الأبديّة. "وأسكنَ فيَّ حياتَه الخالدة" (10: 2؛ رج 15: 10). هذه الفكرة تشبه كل الشبه ما يقول انجيل يوحنا عن خلاص تحقّق منذ الآن.
واختلفت الموشّحات أيضاً عن عزرا الرابع الذي تضايق من انهيار الهيكل وأورشليم وشعب اسرائيل، فجابه السؤالَ المستمرّ حول معنى الشرّ ومرماه في عالم خلقه الله، وتألّم في النهاية من العدد القليل جداً من الذين سوف يخلصون في نهاية الزمن. أما المرتّل فأعلن خلاصَه ووحدتَه مع خالقه ومخلّصه: "أحببتُ المحبوبَ، أحبّته نفسي، وحيث راحته هناك راحتي" (3: 5). ثم يقول في 3: 7: "مُزجتُ به (توحّدت به)، لأنّ المحبّ وجد المحبوب. بما أني أحببتُ من هو الابن، صرتُ ابناً". وقد توسّعت الموشّحاتُ في هذه الوحدة بحيث إن المرتّل تكلّم عن نفسه كأنه المسيح.
ج- نظرة إلى الكون
في الموشّحات، كما في انجيل يوحنا، نحن أمام عالمين: العالم العلويّ والعالم السفليّ. ومع ذلك، ففي هذه الثنائيّة، يتفوّق العلويّ تفوّقاً كبيراً على السفليّ (34: 4- 5). ويمكن أن يصوَّر الكونُ كمسكن لروحين: روح العليّ القدّوس (3: 10؛ 14: 8؛ 16: 5)، وروح الشرّ (14: 5).
اختلفت أفكار المرتّل عن الأفكار القمرانيّة التي نجدها في نظام الجماعة (3: 13- 4: 26)، ولكن كلامه شابه الثنائيّة اليوحناويّة، فما رسم حرباً كونيّة بين روحين يتقاتلان، لأن الروح الصالح قد خلَّص منذ الآن، من روح الشرّ، كلَّ من سار في "معرفة الربّ" (23: 4؛ 14: 4- 5). وحتّى في الموشّحة 38، التي نرى فيها عدوان المضلّ والضلال، يُنشد المرتّل نصرَه، بسبب سموّ الحقيقة. واختلف المرتّل أيضاً عن أسفار الرؤى، فصوّر الله الذي يُعنى عناية مباشرة بالخلق وبخلاص كل انسان.
د- الحياة الخلقيّة
وهناك وجهة أخرى تَبرُزُ في أكثر من خمس عشرة موشّحة: الحضّ على الحياة الخلقيّة. اختلفت هذه الارشاداتُ عمّا نجد من نظرة فلسفيّة عند أرسطو، ولكنها شابهت ما نقرأ عند فوكيليد أو في وصيّات الآباء الاثني عشر. بما أن ما نقرأه يرد في صيغة المتكلّم الجمع (نحن)، فهذا يعني أن هذه الارشادات استُعملت في صلاة الجماعة. وما يدفعنا إلى هذا القول، هو التشابه بين الطلب والارشاد من جهة، مع 14: 9 والطلب من الربّ: "فعجّل وهب سؤلنا". فمجمل الارشادات في الموشّحات هي عامّة، فتدعو الناس ليكونوا حكماء، ليفهموا، ليحضّوا، ليعترفوا، ليبتهجوا، ليقتنوا، ليتقوّوا، لينالوا الفداء. إرشادٌ واحد وُضع في فم المسيح (31: 6- 7)، وفيه يدعو المسيح كلَّ واحد منا: "اخرجوا". وما يدلّ على تماسك الموشّحات، هو ما نقرأه في موشّحة (33: 5- 11) تدعو البتولُ السامعين أن يعودوا، أن يجيئوا (33: 5- 11).
وتبدو الموشّحة 20: 5- 8 ذات أهميّة لافتة: ففيها فقط نجد صيغة الأمر المفرد (قرِّب أنت). وفيها ستة إرشادات خلقيّة مختلفة. ففي بداية اللائحة وفي نهايتها، يحثُّ المرتّلُ السامعَ على الفضيلة التي يجب أن يعيشها عيشاً روحياً. وفي داخل اللائحة، يتذكّر الدكالوغ أو الوصايا العشر كما يلي: قدّم كليتيك (أو: قلبك، أو حياتك الباطنيّة) وكن بلا عيب. لا تضايق أحداً. لا تبع عبيدك، لا تخدع جارك، لا تسرقه، إلبس نعمة الربّ، أدخل إلى الفردوس، إصنع لك إكليلاً من شجرته. إذا وضعنا جانباً البداية والنهاية، نرى أن هذه الارشادات ترد في صيغة النفي: لا تضايق، لا تلاحق... ولكننا نجد الارشادات ايضاً في صيغة الطلب والحثّ على الخير. ففي 23: 4 يُقال: "سيروا في معرفة الربّ".
لا ترتبط هذه الارشاداتُ بجزاء ماديّ. ونحن نجد في الموشّحة الثالثة والعشرين ما يدلّ على الجزاء الروحيّ: :فتعرفوا نعمة الربّ السخيّة" (آ 4). ويشدّد المرتّل بشكل خاص على الحبّ، منذ الموشّحة الثالثة إلى الموشّحة الأخيرة. والارشاد الأخير في 41: 1- 6 يعود بنا إلى المزمور الأول من مزامير داود (طوبى للرجل)، فيُحلّ الحبَّ محلّ الشريعة، ويقول: "بنوره يستنير وجهُنا، وقلوبُنا تلهج بحبّه، في الليل وفي النهار" (41: 6).
هـ- الحياة الخالدة
لا تقول الموشّحات ما يقوله العالم اليونانيّ عن نفس خالدة تنتقل من جسد إلى جسد. ولا تأخذ بالنظرة اليهوديّة حول قيامة الجسد، التي يصوّرها عملُ رازيس الذي أخرج أمعاءه وطرحها أمام الجنود اليونان ودعا ربّ الحياة أن يعيدها إليه في الوقت المناسب (2 مك 14: 46). أمّا بالنسبة إلى الموشّحات، فالقيامة هي تحرّرُ الحياة من موت يهدّد (29: 4)، أو نجاةُ الذين هم في الشيول، بيد ابن الله. فالمرتّل يبتهج بالأحرى بخلاصه وخبرة اللاموت، لأنه خلع لباس الفساد وارتدى لباس اللافساد (15: 8)، لباس النور (21: 13)، لباس الربّ (11: 11؛ 21: 3؛ 25: 8). وهناك طريقة أخرى للتعبير عن خبرة اللاهوت هي استعارة تقول بأن الخلود هو ثمرة شجرة زرعها الربّ في الفردوس (11: 6- 24: 20: 7).
كل هذا الكلام يُستعمل للتشديد على أن الخلود هو هنا، على الأرض (جغرافياً)، وهو الآن (كرونولوجيا). أما الصفة اللافتة في الخلود لدى المرتّل، فهي اللافساد الذي يتضمّنه. فالذي يتّحد (يمتزج) بالحبيب يوجد "بلا فساد في كل الأدهار" (8: 22). في الموشّحة 3، وبعد أن يقول المرتّل إن المحبّ امتزج بالمحبوب، أعلن: "من انضمّ إلى من لا يموت، صار هو أيضاً لامائتاً" (3: 8). فمشروعُ الله وارادتُه بالنسبة إلى المؤمن، هما الحياة الأبديّة والكمال الذي لا فساد فيه (9: 4). فمن وثق بالربّ، تأكّد له الفداء (40: 5)، وامتلك الحياة الخالدة واللافساد: "امتلاكه (= الربّ) حياة أبديّة، والذين يتقبّلونه لا ينالهم فساد" (40: 6).
وإذ أدرك هاريس كيف أن المرتّل ماهى بين اللاموت (الخلود) واللافساد، أعلن أنه حدّد اللاموت على أنه لا فساد، وهكذا رأى الخلود من داخل خبرة حاليّة، لا في وقت مقبل، ولا في لغة الاستمراريّة. ولكن يبدو من الأفضل القولُ بأن المرتّل صوّر الخلود (اللاموت) على أنه لافساد، فابتهج حول لافساده ولاموته، بحيث لم يرَ بعدُ حاجة إلى الكلام عن الاستمراريّة، فأنشد بالأحرى الامتلاك المستمرّ، لعطيّة أبديّة تمتدّ إلى ما لا نهاية. ابتهج المرتّل باللافساد، في كل الأدهار، كما رأينا (8: 22)، وامتدح الربّ من أجل "راحته" التي هي "إلى أبد الآبدين" (25: 12)، وتطلّع إلى المستقبل، إلى "اللافساد في العالم الجديد" (33: 12).

4- علاقة الموشّحات بالأسفار القانونيّة والمنحولة
أ- الأسفار القانونيّة
لم يورد المرتّل نصاً من نصوص العهد القديم ولا العهد الجديد. ولكنه تأثّر بالعهد القديم، وبتقليد نجده في العهد الجديد. تأثّر بما في حز 47 في الموشّحة 6، وحز 37: 4- 6 في موشّحة 22: 9. ويبدو أنه ارتبط بما في أم 8: 22 في موشّحة 41: 9، وتك 2: 2 في موشّحة 16: 12، وإش 58: 8 في موشّحة 8: 19. أما ارتباط الموشّحات الأهم، فهو بالمزامير كما نقرأها في العبريّة أو اليونانيّة. فاستعاد مثلاً المزمور الأول وأعاد كتابته، وكذلك مز 84: 10 حين قال: "ساعة واحدة تؤمن فيها، أفضل من كل الأيام والسنين" (4: 5). وتأثر المرتّل بما في مز 51: 1 (سب 50: 3)، و21: 3 (سب 20: 4) في موشّحة 7: 10 (تحنّن عليّ بحنانه الكثير) وفي موشّحة 9: 8- 9 (الحقّ هو إكليل أبديّ...). كما تأثّر بالعبريّة أو السريانيّة في مز 21: 11 و2: 4 في موشّحة 5: 8 و29: 10. ولكن مز 22 أثّر أكثر ما أثّر، ولا سيّما آ 16 (موشّحة 48: 14) وآ 18 (موشّحة 28: 18)، آ 16- 18 (موشّحة 31: 8- 13، أخذ الكلمات الصور).
وكانت محاولات تودّ أن تبيّن ارتباط الموشّحات ببعض كتب العهد الجديد. ولكن البراهين لم تكن مقنعة. هنا نتذكّر التقليد الشفهيّ الذي ظلّ حاضراً حتى دياتسارون تاتيانس، حوالي سنة 175 ب م. كل ما يمكن القول هو أن الموشّحات شاركت في عدد من التقاليد وردت في العهد الجديد، مثل ولادة يسوع في البتوليّة، العماد، السير على المياه (19: 24، 39). وإن آلام يسوع وصلبه قد ذُكرت في 8: 5، 27؛ 28: 9- 20؛ 31: 8- 13؛ 42: 2. وكما سبق وقلنا، شاركت الموشّحاتُ انجيلَ يوحنا في عدد من الأفكار، بحيث اعتبر الشرّاح أن جماعة يوحنا كانت قريبة من جماعة الموشّحات.
ب- الأسفار المنحولة
لم تورد الموشّحات نصاً واحداً من نصوص الأسفار المنحولة، ولكنها شاركت في عدد من الأفكار والرموز التي نجدها في مثل هذه الأسفار، بحيث نستطيع أن نتكلّم عن تأثير متبادل. ولكن يبدو أن الموشّحات تأثّرت تأثّراً مباشراً أو لامباشراً بمزامير سليمان وأخنوخ الحبشيّ. ففي مز سل 14، يصوّر الكاتب القدّيسين مثل أشجار حياة في فردوس الربّ. ويصوّر كيف غُرسوا وكأنهم تجذّروا إلى الأبد. في الموشّحة 11 يصبح المرتّل "كأرض تزهر وترقص بثمارها" (11: 12؛ رج 38: 17). هو يُؤخذ إلى فردوس الربّ (11: 16) ويرى "أشجاراً أفرخت وحملت ثماراً" (11: 16 أ). فجذورها من أرض خالدة، وتتماهى مع ما "غُرس في أرضك" (111: 8). قد تكون مز سل ومو سل تأثّرت بكتاب "المدائح" القمرانيّ. ولكن يمكن أن نفكّر أن الفكرة التي قرأناها في مز سل 14 قد أثّرت على كلام الموشّحات عن الفردوس الذي صار أرضاً مزهرة وجنّة غنّاء (11: 16).
في مز سل وفي مو سل، يصوَّر الأبرارُ مثل أشجار غُرست في الفردوس. قد تكون مز سل أثّرت على موشّحة 38، حيث يتحدّث المرتّل عن غرس الربّ، ويعترف أن الربّ غرَسَه، وأن ثمره يكون إلى الأبد (آ 17، 18، 20- 22). وقد يكون مز سل 15 الذي يتكلّم عن نشيد جديد ويذكر ثمرة شفتي التقيّ وقلبه البار، قد أثّر على صورة نجدها في 41: 6 (نشيد جديد) وعلى 37: 2 (شفتا قلبي). وأخيراً، صورة مز سل 12، قد تكون أثّرت على موشحه 16: 13 التي تصوّر الخلائق كيف تجري جرْيَها، وتعمل عملها، ولا تعرف أن تتوقّف أو أن ترتاح.
وهناك رؤيا أثّرت على الصور واللغة في الموشّحات، هي أخنوخ الحبشيّ. في 1 أخن 2: 1- 5: 2 و69: 20- 21 يقال أن الكواكب لا تبدّل مسيرتها، وأن الشمس والقمر يكمّلان مسيرتهما ولا يحيدان عمّا دُبّر لهما منذ الأزل، وهذا ما نجده في الموشّحة 16: 13- 17. وهناك تأثير 1 أخن على صورة ينبوع البرّ الذي لا ينفد، وصورة ابن الانسان التي نجدها في 1 أخن 48: 1- 10. في هذه الآيات، يُذكر ينبوع البرّ الذي لا ينفد، بحيث شرب منه كل العطاش وارتووا. هذا ما أثّر على موشّحة 30: 1- 2 حيث نجد صورة الينبوع الحيّ، وإرشاداً إلى العطاش لكي يشربوا. وصورة ابن الانسان (1 أخن 48: 2- 10) الذي دُعي إلى حضرة ربّ الروح (84: 3)، قد أثّرت على موشّحة 3: 16- 3 حيث يعلن المرتّل أنه رُفع إلى السماء بواسطة روح الربّ. ويتحدّث المسيحُ نفسه فيقول إنه أُخذ إلى أمام وجه الربّ، وبما أنه ابن الانسان فقد دُعي النور وابن الله. وارتباط الموشّحات بأخنوخ الحبشي يبدو يقيناً لأن هذين المرجعين يذكران وحدهما ابن الانسان، بين الأسفار الجليانيّة.
ويمكن أن تكون موسل قد أثّرت على كاتب مسيحيّ أضاف على صعود أشعيا ما سُمّي "وصيّة حزقيا" (3: 13- 4؛ 18) ورؤية إشعيا (6: 11). فوصفُ يسوع، في الموشّحات، على أنه المحبوب، قد يكون أثَّر على 3: 17 الذي نجد فيه صورة عن المحبوب الذي صُلب وقام. وقد تكون الموشّحات أثّرت على إشارات إلى اللباس (3: 25) والغرس الذي غُرس (4: 3) والنشيد عبر السماوات السبع الذي وُسِّع في صعود اشعيا في اربعة أماكن خاصة: (1) وصف المضلّ في موشّحة 38: 10- 11 الذي يقتدي بالمحبوب. رج صعود اشعيا 4: 6 حيث يصوَّر بليعار كفاعل ومتكلّم مثل المحبوب. (2) الفكرة الكوسمولوجيّة في موشّحة 34: 14 (شبه ما هو فوق، شبه ما هو تحت) أثَّرت على صعود إشعيا 7: 10، حيث يُقال ما هو فوق هو على الأرض، وشبه ما هو في الجلد هو أيضاً ما على الأرض. (3) فكرة نزول المحبوب في موشّحة 22: 1، والتماهي بين المحبوب والربّ والمسيح والعودة إلى الأكاليل واللباس، كل هذا نجده في صعود اشعيا 9: 12- 18. (4) في وصف البتول التي لا تحتاج إلى قابل والتي ولدت بدون ألم (موشّحة 19: 18- 19) قد يكون أثَّر على صعود اشعيا 11: 2- 15 حيث العذراء مريم لم تحتج إلى قابل، وولدت دون أن تصرخ من الألم.
كل هذه التوازيات مع موسل ما زالت مثار جدال بين الشرّاح، وهي تحتاج بعدُ إلى دراسة معمّقة لتكون موشّحات سليمان في الإطار الذي وُلدت فيه والمناخ الذي تغذّت منه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM