سفر التكوين

سفر التكوين
مقدمة:
سفر التكوين هو السفر الاول من اسفار الشريعة الخمسة وهو يسبق الخروج واللاويين والعدد والتثنية، وهو أول كتب التوراة لأنه يشكّل لكل العهدِ القديم عنواناً ومقدمة. اسمُه في العبرية، في الرأس، او في البدء. اما اسمه في اللغات الحديثة فراجع الى اليونانية التي اعتبرت ان هذا السفر يتحدَّث عن تكوين العالم والانسان، وعن تكوين شعب الله.

مضمون الكتاب:
إن سفرَ التكوين يفتتح تاريخَ بني اسرائيل الديني كا ترويه اسفارُ موسى الخمسة. فالله الذي خلق الكون عرّف عن نفسه لآباء الشعب ووعدهم، بعد ان عقد معهم عهداً بواسطة ابراهيم، أن يمتلكوا ارضاً خاصةً بهم هي أرض كنعان. وبمُقتضى هذا العهد تجلَّى فيما بعد لموسى وخلَّص من عبودية مصر الشعب الذي تكاثر، واعطاه شريعة على سيناء وقاده عبر البرية الى عتبة الارض التي وعد بها، عَنيتُ أرضَ كنعان.
يصؤر لنا سفرُ التكوين بدايةَ الكون والبشرية فيوجِّهُنا الى معرفةِ القصد الذي هيَّأه اللهُ من أجل خلائقه. ولكن فسُد البشر ومالوا عن الله، فاختار اللهُ له من بين عشائر الارض رجلاً هو ابراهيم ودعاه ليكونَ اباً لأمّة عظيمة فتتبارك به كل عشائر الارض. قاده الى كنعان، واعلن له بطريقة احتفالية انه سيعطي هذه الارض لنسله. وورث اسحق ويعقوب هذه المواعيد التي لا يستطيع شيء ان ينسخها، لا المغامرات المزعجة التي عرفتها هذه العائلة، ولا التنقلات في ارض كنعان او خارجها. فاللهُ هو الربُ الامين لمواعيده. وعندما يحدِّثنا سفر التكوين عن أبناء يعقوب الاثني عشر تتوضح لنا صورةُ القبائل التي ستكوِّن شعب الله. ولكن الكتابَ يتوقف بصورة خاصة عند شخص يوسف الذي قاد عيالَ يعقوب الى مصر. وهنا ينتهي سفر التكوين. ولكن القصة العجيبة التي يعيشُها شعب الله لا تنتهي هنا، بل تتوالى في سائر اسفار الشريعة. وهذا ما نَفهمه من اقوال يوسف الاخيرة لاخوته: "انا سأموت، ولكن الله سيفتقدكم ويصعدكم من هذه الأرض، أرض مصر، الى الأرض التي اقسم أنه يعطيها لابراهيم واسحق ويعقوب" (50: 24).

المعاني الكتابية:
حين نقرأ سفر التكوين نتوقف فيه على قسمين مهمّين: تاريخ البدايات (ف 1- 11) وتاريخُ الاباء (ف 12- 50).
أ- تاريخ البدايات
نحن هنا أمام لوحة واسعة تضمّ قروناً عديدة، منذ الخلق الى دعوة ابراهيم، وتكشف لنا عن تفكير لاهوتي عميق. فقصة الكون والانسان تَجد جذورَها في إرادة الله الواحد والخالق. ومسيرتها باحداثها المتنوعة تجد تفسيرَها على ضوءِ التأمل في عمل الله، وهذا التفسير يتمتع بقيمة ازلية.
كل شيء يبدأ بخَلق الكون والاعلان انه صالح لانه خرج من يد الله، وبخَلق الانسان المصنوع على صورة الله ومثاله ليسود على هذا الكون. والرجلُ والمرأة اَللذان هما موضوع عناية الله واهتمامه وُضِعا في جنّة الله ليعيشا في السعادة ويتمتعا مع الله بحياة حميمة يُمكن ان تدوم إلى ما لا نهاية. ولكنَّ هذه الرؤية المثالية لا تطابقُ الواقعَ الذي يعيشه الانسان اليوم. فلقد حصل ما حصل، فبدأت مأساة لا نزالُ نعيشن آثارها الى الآن.
فالرجلُ والمرأة هما من مخلوقات الله، فوجب عليهما، والحالة هذه، الطاعة الكاملة للاله الذي خلقهما. ولكن قوة معادية جربتها، فتكبرا وارادا ان يكونا مُساويين لله. اعتبرا انهما يعرفان الخير والشر، ورغبا في ان يتحررا من الخضوع لأمر أُعطي لهما. فكانت الخطيئةُ الأولى التي تكمُن في العصيان لله والتمرّد على اوامره. حينئذ زالت الحياة الحميمة مع الخالق وضاعت حالةُ السعادة والبراءة. اختبر الانسان الأول الشرَّ فجرحه وطبعه بطابعه وجاء العقاب. فكان على الانسان أن يتحمَّلَ عاقبةَ عمله ويتعرَّف الى طبيعته السريعة العطب. في الماضي كان محمياً، اما الان فلا شيء يحميه من الألم والتعب والعذاب والموت. هذا هو مصيرُ البشرية. ولكن بقي بصيص أمل: سيخرج من نسل المرأة من يتغلّب على قوى الشرّ في العالم. ولقد رأى التقليدُ المسيحي في هذا القول إنباءً عن مجيء يسوع المسيح الذي سيتغلب على الخطيئة والشر والموت. قال القديس بولس في هذا الصدد: "ان الخطيئة دخلت في العالم على يد انسان واحد، وبالخطيئة دخل الوت... اذا كانت جاعة كثيرة قد ماتت بزلة إنسان واحد، فبالاولى ان تفيض على جاعة كثيرة نعمةُ الله الموهوبةُ بإنسان واحد، ألا وهو يسوع المسيح" (روم 5: 13- 15).
وتكاثرت البشريةُ على الارض، وتكاثرت معها الخطيئة، وأولها القتلُ عمداً والعنف بكل أشكاله. غير ان الانسان يقدر، إن اراد، أن يسودَ على التجربة، وأن لا يترك الشر يعشِّش فيه. ولكن سيقتل قايين اخاه، ويُمارس لامك شريعةَ الانتقام الى أبعد الحدود، ويَفسد كُل بثور على الارض. فتتدخل عدالة الله لتُعاقِب الخاطئين، والخطيئة تحمل عقابها في داخلها. ولكن افلت بارٌ من هذا العقاب، هو نوح، ونجا معه اولاده لانه سلك في شريعة الله. إلا ان الاختبارَ سيبيِّن ان نوايا الانسان شريرةٌ منذ صباه. فبعد الطوفان ستتكاثر البشرية، وتتكاثر الخطيئة معها فيكتفي الله بان يترك الخلاف يدب بين الافراد فيتشتتون على وجه الارض.
ولكن الله سيحقِّق قصدَه على العالم بواسطة الابرار الذين يتمّون ارادته فيرتبط معهم بتعهد يُلزِمُ به نفسَه ويُلزِم به الآخرين. هذا ما قال الله لنوح: "ها أنا مقيمٌ عهدي معكم ومع نسلكم من بعدآ" (9: 9). سارت البشرية من آدم الى نوح، ومن نوح الى ابراهيم فمرت عبر السلالات العديدة التي لخَّصها الكاتب الملهم بعشرة اسماء قبل الطوفان، وبعشرة اسماء بعد الطوفان، مشدا على أن العمر الطويل علامة بركة الله وعلى أن العمر القصير نتيجة تكاثر الخطيئة في العالم. تلك كانت نظرتهم الى الامور، وهم لم يتعرَّفوا بعدُ الى الحياة الثانية فحصروا سعادةَ الانسان وشقاءه في إطار هذا الكون. أجل إن الله يربي البشرية شيئاً فشيئاً فيفهمها أهمية الخطيئة التي تقتل الجسد، بانتظار ان يفهمنا أن الخطيئة تقتل بالحري النفس. قال الرب يسوع: "لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، ولا يستطيعون قتل النفس، بل خافوا الذي يقدر على ان يهلك النفس والجسد جميعا في جهنم" (مت 10: 28).
نشير ونحن نقرأ (ف 1- 11) من سفر التكوين إلى محاولات علمية حديثة تريد ان تكتشف في هذا الكتاب معلومات تاريخية أو جيولوجية. هدف الكتاب المقدس هو هدف ديني بحت. هو ينطلق من تقاليد عرفها الشرق القديم من مصر إلى العراق وإيران، فيُلقي عليها ضوءَ ايمانه. اما التعليمُ الاساسي الذي يريد ان يُعلنَه فهو أن الله الواحد هو أصل كل شيء، وأنه خلق الكون والانسان في بداية الزمن. سقطت البشرية وتحملت نتيجة سقطتها، وجرَّت وراءها خطيئة تعود الى البدايات. ولكنَّ الله لا يتخلَّى عن خليقته وهو يعملُ المستحيلَ من أجل خلاصها. لهذا ذهب الى سام ابن نوح المبارك وجد تارح فاختار له ابراهيم. وهكذا ننتقل الى تاريخ الاباء.

ب- تاريخ الاباء
القسم الثاني من سفر التكوين (ف 12- 50) يشكِّل قصةَ عائلة. عاد الرواةُ الى ذكريات تتناقلها القبائل والعشائرُ عن آبائهم فدوَّنوها: ابراهيم ابو المؤمنين وخليل الله (ف 13- 23)، اسحق مبارك الرب (ف 24- 38)، يعقوب ابو شعب اسرائيل (ف 29- 36)، يوسف بن يعقوب الوزير المصري (ف 37- 50). وتقدم لنا هذه الاخبار سيرة هؤلاء الاشخاص: اسفارٌ ومغامرات، مرورٌ في اماكن مشهورة، توقف في معابدَ مقدسة، ولادة وزواج، مؤامرات ونزاعات وخلافات، اموات ودفن ومقابر... ولكن نبقى داخل اطار العائلة بحيث إنَّ الكاتبَ الملهم يُحدّثنا عن فرعون ولا يذكر لنا اسمه.
ولكن ما نقرأه هنا خاصة هو قصة دينية نكتشفها من خلال احداث حياة الاباء. فما زال الكاتب الملهم يكشف لنا عن تدخلات الله المباشرة ليحقق مقاصده في البشرية. رسمت لنا الفصولُ الاولى الخطوطَ الكبرى والملامحَ العامة. ولقد جاء الوقت، بعد أن اختار الله ابراهيم، لأن يَدخل في علاقة مع البشر بطريقة جديدة ومن أجل هدف معيّن.
كانت البداية في دعوة الله لابراهيم: "إنْطلقْ من ارضِكَ وعشيرتك وبيت ابيك الى الارض التي ادلُّك عليها. وأنا أجعلك أمَّة كبيرة. اباركك وأجعل اسمك عظيماً فتكون بركة. أبارك الذين يباركونك وألعن الذي يلعنك. وبك تتبارك جيع عشائر الارض" (12: 1- 3).
وخرج من ابراهيم شعبٌ سيمتلك ارضاً، وعطايا الله لا ندامة فيها. والله سيسهر بعنايته لكي تتم مواعيده. وستتجاوز قدرتُه كلَّ الحواجز على مرِّ الزمن. ذهب ابراهيم الى مصر، فأعاده الله من هناك الى ارض كنعان. اخذ له فرعون زوجته فاستردها الله له. كانت سارة عاقرا ففتح الله رحمها. كاد اسحق حامل الوعد ان يموت على جبل مورية، فنجَّاه الله بواسطة كبش حلَّ محلَّه.
وتتوزع العائلاتُ حولَ ابراهيم واسحق ويعقوب تاركةً لابنٍ واحد أن يحمل البركات إلى الذين بعده. فالموآبيون والعمونيون، بنو لوط، أبعدوا الى الشرق. وبنو اسماعيل، ابن الامة هاجر، كانوا آباء عرب البرية. وابناء ابراهيم من قطورة ذهبوا الى الشرق. واقام الأدوميون بنو عيسو على جبل سعير. وهكذا انتقلت البركة من ابراهيم الى اسحق وابعد اسماعيل، ومن اسحق الى يعقوب وأُبعد عيسو، ومن يعقوب الى ابنائه الاثني عشر. ولكن لا ننسَى ان البركة لم تتوقَّف عند شعب واحد، بل وصلت إلى جميع الشعوب على ما قال الكتاب. وإنَّ بركة ابراهيم ستصل الى البشرية كاملة بواسطة يسوع المسيح. قال القديس بولس: "على ان المواعيد قد وُجِّهت الى ابراهيم والى نسله ولم يقل إلى انساله بصيغة الجمع، بل الى نسله بصيغة المفرد، اي المسيح" (غل 3: 16).
إرتبط اللهُ بعلاقات شخصية مع ابراهيم واسحق ويعقوب، وتعامل معهم بطريقة جديدة. إن السرَّ الذي يخفي اللاهوت بدأ ينفتح شيئاً فشيئاً من اجل الذين اختارهم. اما الكلمات التي سمعوها فصارت نوراً للأجيال المقبلة.
الله يختار وهو حر في اختياره، ولكنه يحوِّل حياةَ الذين يضع يدَه عليهم ويختارهم. ويبدأ الاباءُ مغامرةً دينية تقودهم إلى اختبار الله والحياة الحميمة معه. فابراهيم يبدو دوماً في مواقف مثالية من الايمان والطاعة. واسحق ظل امينا لارادة الله فباركه الله. أما يعقوب فقد حفظت لنا منه التقاليد ملامح تدلّ على مجانية الاختيار الالهي، "وهذا امر لا يعود الى الأعمال بل إلى. الذي يدعو" (روم 9: 12). اختبر ابراهيم الله يوم دعاه وسيتجدد هذا الاختبار في حياته. وعرف اسحق الله يوم قدَّمه ابوه ذبيحةً على الجبل. اما يعقوب فالتقى الرب عند مجاز يبوق (32: 23- 33) وكان لقاء سريا بدَّل له حياتَه وأفهمه ان نجاحَه لا يعود الى حِيَله أو قُواه، بل إلى عون الله.
لا تخفي التوراةُ بُعدَ نداء الله الى الاباء. اترك ارضك وعشيرتك وتعال الى أرض كنعان. وحين ترك ابراهيم ارضه أعلن أنه لازم ملازمة الايمان الاله الوحيد والحقيقي الذي تجلّى له. لقد ترك ابراهيمُ آلهةَ آبائه وتعلَّق بالله الواحد. وسترافق الاصنامُ عائلةَ يعقوب (31: 19) قبل ان يدفنها نهائيا تحت البطمة التي عند شكيم (35: 4) فيدل على انطلاقة جديدة له ولعياله.
خلال هذه المغامرة الروحية التي يعيشها الآباء، يلعب ابراهيم دوراً هاماً يَلفتُ انتباهنا. فحين طلب منه نداءُ الله ان يقطَع كلَّ صلة بمحيطه الحياتي وان يقبل بغموض مستقبلاً مجهولاً منه كلياً، تقدَّم أبو الاباء وحده في هذا العالم وسار في ظلمة الايمان للقاء الاله الحقيقي. فخضوعُه وطاعته الثابتة نالا جزاءهما، فعقد الله مع هذا الانسان عهداً يُثبت المواعيد السابقة. ولكنه أراد أن يعرف إلى أي حد يستطيع أن يتّكل كل طاعة عبده وايمانه. ولكن ابراهيم ظل أميناً مع ان وعد الله تأخر وما تحقق. وحين أعطي له اسحقُ ابنُ الوعد، طلب منه الله ان يضحّي به. لم يتردّد ابراهيمُ، وعزم على التضحية بابنه إكراماً لربه. ولكن الربَّ نفسَه اوقف يدَ ابراهيم. قال: "لا تمدُدْ يدك الى الغلام ولا تفعلْ به شيئاً، فإني الآن عرفت أنَّك تخافُ الله فلم تدَّخر ابنك وحيدك عني" (22: 12). ثم حلف الرب قال: "أُقسم بنفسي. بما أنك فعلت هذا الأمر ولم تدّخر ابنَك وحيدَك، فإني أباركك واكثِّر نسلَك كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر... ويتبارك في نسلك جميعُ أمم الارض من اجل أنك سمعت لقولي" (22: 16- 18).
عن ايمان ابراهيم هذا سوف تتكلَّم الرسالةُ الى العبرانيين (11: 8- 9، 17- 19): "بالايمان لبَّى ابراهيمُ دعوةَ الله فخرج إلى بلد قُدِّر له أن ينالَه ميراثاً، وخرج وهو لا يدري الى أين يتوجّه. بالإيمان نزل في أرض الميعاد كأنه في أرض غريبة وأقام في الخيام مع اسحق ويعقوب شريكيه في الميراث عينه... بالايمان امتُحن ابراهيمُ فقرَّب اسحق وحيده... واعتقد ان الله قادر حتى على إقامة الأموات".

المعاني الروحية:
عندما نقرأ سفرَ التكوين نكتشف اختباراً عميقاً عاشه الكاتب الملهم وجعله في بداية البشرية، في أصل الكون والانسان. وهذا الاختبارُ لا نزال نُحِسّ به اليوم نحن أبناء العهد الجديد. فالله الخالق والصالح هو هو، والإنسان الضعيف والخاطئ هو هو. لا شك في أن يسوعَ جاءنا بالخلاص يومَ مات من أجلنا وقام، ولكن اختبار الخطيئة لا يَزال عالقاً في حياتنا. ولن نتخلَّص منه إلاَّ في النهاية حين يَنتصر يسوع مع جسده السري على اعدائه، وأولُّهم الموت والخطيئة. ويصوِّر لنا الكاتبُ الملهَم كيف أن الانسان الذي يرفض الله لا يعتِّم أن يرفض أخاه. تمرَّد الانسانُ الأول على الله، أما الانسان الثاني فقتل اخاه في شخص هابيل وامتد الشر وما زال الى اليوم. وعلَّمنا سفر التكوين أيضاً أن الشر كامن في قلب الانسان ونواياه، وأنه يثور فيما يَثور بفعل ذلك الكائن الشرير الذي هو الشيطان والذي أبرزه الكاتب الملهم بشكل حيةٍ تتكلّم. لن نتوقف عندَ الصور، وقد لجأ اليها الكتاب مستعينا بالاساطير القديمة، ليفهمنا حقائقَ ازلية لا نزال نحتاج إلى معرفتها اليوم من أجل خلاصنا.
ونكتشفُ في سفر التكوين وجوهاً نستفيدُ إن نحنُ تطلَّعنا فيها لأنها تبين عمل الله في الانسان رغم وجود الخطيئة التي تغمر الكون كالطوفان. هناك وجهُ هابيل البار الذي قبِل الربُ تقدمَته، وأحنوخ الذي سلك مع الله أي سار على وصايا الله فلم يَمِل عنها يميناً ولا شمالاً، فكافأه الله وأخذه اليه (5: 24) كما سيأخذ ايليا. وهناك نوح الذي سيعزِّي قلب ابيه (5: 29) ويريح روح الله فيعمل كل ما يأمره به الرب ويعيش بالبرارة فينجو من الطوفان.
ونتعرّف خاصة إلى ابراهيم رجل الايمان وسارة امرأته، الى اسحق ورفقة، الى يعقوب وعياله. كلُ واحد من هؤلاء حاول أن يسير مع الله رغم ضعفه وخطيئته وتهرّبه من نداء الله بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فابراهيم سيبيع امرأته مرةً بل مرتين وينسى أنها ستحمل ابن العهد، وسيذهب الى مصر تاركاً الأرض التي وعده بها الله. ولكنَّ الله سيعود به من مصر وسيخلِّص حاملةَ الوعد. وسيكون يعقوب إبن الحيلة فيحسب أنه يقدر بقوته أن يوجِّه أموره، ولكنَّه سيفهم دورَ الله في حياته. كما يقتنع أن النجاح الحقيقي ليست النجاح البشري نحصل عليه بالكذب والاحتيال والسرقة، بل نجاح مخطط الله. حينذاك لم يلتحق بابنه يوسف إلى مصر إلاّ بناءً على طلب الرب وطاعة لأمره. وإخوة يوسف حاولوا أن يتخلصوا من أخيهم فباعوه وكذبوا على أبيهم. ولكن الله وجَّه الامور على غير ما كانوا يرغبون. وسوف يستخلص يوسف نفسُه العبرةَ من كل هذه المغامرة التي عاشها والتي كادت تقودة الى العبودية إن لم يكن الى الموت. قال: انتم بعتموني إلى هنا، ولكن في الواقع الله بعثني امامَكم لئلاَّ تموتوا من الجوع... الله بعثني قدامكم الى هذه الأرض ليكون لكم فيها نسلٌ وتحيون. انظروا أية نجاة عظيمة هيَّأها لكم (45: 4- 8). وقال: لا تخافوا. من أنا لأجعلَ نفسي مكان الله؟ فأنا أسير حسب مشيئة الله. أنتم نويتم علي شراً والله نوى بي خيراً ليصنع ما ترونه اليوم، وينجي شعباً كثيراًَ من الموت (50: 19- 20).
ومن خلال القِصص التي تُؤلِّف سفرَ التكوين نتأمَّل في مواضيعَ ثلاثة شدّدت عليها التقاليد التي كانت في أساس هذا الكتاب. فهناك تقليد أول وُلد عند حكماء أورشليم فتطرَّق إلى موضوع بركة الله لابراهيم: أنا أجعلك أُمة كبيرة وأباركك... وتكون بركة وأبارك مباركيك... ويتبارك بك جميعُ عشائر الارض (12: 2- 3). هذه البركة المخمسة تقابلها خمسُ لعنات عرفتها البشرية على مدى تاريخها قبل دعوة ابراهيم. فبعد خطيئة آدم وحواء، صارت الارضُ ملعونة (3: 17)، وبعد أن إقترف قايين جريمة القتل لعنته الأرض حين فتحت فاها لتقبلَ دماءَ هابيل (4: 11). وستُرافِق اللعنةُ الأرضَ (5: 29) بعد أفعال لامك وبسبب تصوّر قلب الانسان الشرير (8: 21). أما اللعنةُ الخامسة فهي التي أصابت كنعان إبن حام الذي كشف عورةَ أبيه. قال نوح: ملعون كنعان، ليكن عبداً لعبيد اخوته (9: 25). ولكن مع ابراهيم ستبدأ البركة وتدوم وتكون احدى قممها حين يملك داودُ باسم الله على ارض كنعان بانتظار أن يأتي المسيح. فلقد قال القديس بولس في رسالته الى أهل افسس (1: 3- 4): "باركنا الله الاب في المسيح بكل بركة روحية في السماوات، ذلك أنه اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين بلا عيب في المحبة". لم تَعُد البركة تَقتصر على هذه الدنيا، بل تعدَّتها إلى الآخرة. وما عدنا ننتظر فقط عمراً طويلاً وخيوراً كثيرة وأولادا عديدين، بل خيرات السماء. وما عادت هذه البركة تصل إلى شعب من الشعوب، بل الى كل شعوب الارض. أجل، صار المسيح لعنةً لاجلنا كما تصير الى الأمم بركةُ ابراهيم في المسيح يسوع (غل 3: 13- 14).
والتقليد الثاني وُلد في معابد الشمال وبتأثير الانبياء فحدَّثنا عن مخافة الله. هذه المخافة، حسِبَ ابراهيم أنها غير موجودة عند اهل جرار فتصرف كما تصرّف: سلم امرأته لابيملك لينجو هو بنفسه. ولما سأله الملك لماذا فعل هذا قال: قلت ليس في هذا الموضع خوف الله فيقتلونني (20: 11). ولكن تبين ان عند هذه الشعوب مخافة الله والعمل بوصاياه. وسيتعلَّم ابراهيم هذه المخافة حين يقتدي بأبناء تلك البلاد فيقدّم لله أثمن ما عنده، ألا وهو ابنه ووحيده. وسيعطيه الرب نفسُه شهادةً في ذلك فيقول له: الآن عرفت أنك تخاف الله (22: 12). هذه المخافة سيحاول موسى ان يطبعَها في قلب بني اسرائيل (خر 20: 20) وهي لا تزال ضرورية لنا رغم اننا ابناء المحبة (ايو 4: 18). فنحن لا نخاف من الله كما يخاف العبيد من اسيادهم، بل كما يخاف الابن من ابيه خوفاً مليئاً بالاحترام وبالحذَر من ضعفنا.
والتقليد الثالث اورده الكهنة فشدّدوا على عهود الله مع البشرية. كان عهد اول مع آدم. يقيم الانسان في الفردوس ويخضع لارادة الله: لا تأكل من شجرة معرفة افي والشر، أي لا تعتبر نفسك مقرِّرا ما هو خير وما هو شر، فهناك ارادة فوق ارادتك وعليك ان تخضع لها. ويوم تأكل من شجرة معرفة الخير والشر (2: 17) معتبراً نفسك مساويا لله (3: 5)، فإنك سوف تموت موتاً. ونقض آدم عهده مع الرب وأخرج من جنة عدن. وكان عهد ثان مع نوح: ها أنا مقيم عهدي معكم (9: 9)، وهذه علامة العهد الذي أنا جاعله بيني وبينكم: قوسُ الغمام. يراها الرب فيتذكّر عهده ولا يسمح من بعدُ بطوفان على الارض (9: 12- 15). وسقط هذا العهدُ في برج بابل وتشتت البشر على كل وجه الأرض (11: 9). وكان عهد ثالث مع ابراهيم، علامته الختان. قال الرب لابراهيم: اسلك أمامي، سر بحسب وصاياي، وكُن كاملاً لا عيب فيك. فأجعل عهدي بيني وبينك واعطيك نسلاً كبيراً جداً (17: 2). ونفّذ ابراهيم بنودَ هذا العهد وختنَ كلَّ ذكر بحسب ما أمره الله بهِ (17: 23). ولكن ذهب نسلُ ابراهيم إلى مصر وعاشوا عبيداً، ولما خرجوا من هناك قطَع الله معهم عهداً بواسطة موسى: يصبح أبناء ابراهيم شعب الله الحافظين وصاياه ورسومه وأحكامه. ويصبحُ الربُّ الهَ هذا الشعب فيدافع عنه ويحميه ويُباركه ويَقوده إلى أرض الميعاد.
ولكنَّ الشعبَ نقضَ هذا العهد وتمنَّى ارميا وحزقيال عهداً جديداً يحفره الله لا في لوح من حجر كما فعل بالوصايا، بل في قلوب لحمية. وبقي التمنّي تمنياً إلى أن جاء يسوع المسيح فأسس بدمه العهدَ الجديد (مت 26: 28) وصار هو علامة حضور الله في العالم. ولما سكن بيننا رأينا مجدَ الإبن الوحيد الذي أتى من لدن الآب (يو 1: 14).

المعاني المسيحية:
لاحظنا ونحن نُرافق فصولَ سفر التكوين كيف أن العهد القديم يصبُّ في العهد الجديد، كما يصب النهر في البحر. فالعهدُ الجديد هو غايةُ العهد القديم وكمالُه، ولقد قرأ المسيحيون العهدَ القديم على ضوء العهد الجديد فاكتشفوا فيه معاني جديدةً مستندين إلى حياةِ يسوع المسيح وموته وقيامته. هذا ما سنحاول ان نتطرق إليه من خلال نصوص سفر التكوين.
فموقف آدم في جنَّة عدن يُقابل موقفَ المسيح آدم الثاني: رأى القديس بولسُ في المسيح آدمَ الجديد الذي كان الأولُ صورتَه (روم 5: 14). فآدمُ القديم كان أرضياً ونفسانياً وآدم الجديد كان سماوياً ورحانياً (1 كور 15: 45- 49). وقابل القديس بولس عملَ كل من آدم الأوّل وآدم الثاني، أي آدم والمسيح: نقل آدمُ إلى البشرية الخطيئةَ والموت وأعطى المسيحُ جميعَ البشر نعمةَ الله. من جهة جاءنا العقاب، ومن جهة ثانية جاءنا التبرير. عُصيانُ آدم أغرق البشرية في حالة من الخطيئة، وطاعةُ المسيح رفعتنا الى حالة من البر (روم 5: 12- 19). والفردوسُ بأشجاره ومياهه سيمرّ في اسفار العهد القديم (حز 36: 35؛ اش 51: 3) قبل أن يتّخذ صورةً روحية في سفر الرؤيا. قال المسيح لكنيسة افسس: "إني اجعل الغالبَ يأكل من شجرة الحياة". ولقد قال يوحنا: "ثم أراني الملاك نهرَ الحياة صافيا كالبلور يخرج من عرش الله والحمل وشجر الحياة في وسط الساحة وعلى ضفتي النهر يثمر اثنتي عشرة مرة، كل شهر مرة" (رؤ 22: 1- 2)، اجل لقد صار الفردوس العدني صورة عن الفردوس الثاني الذي فيه ينتصر الرب الاله نوره على المؤمنين.
وهابيل هو صورة عن المسيح كما قال الآباء والليتورجيا. كان الراعي كما كان المسيح الراعي الصالح. قدم بواكيره لله على مثال ذلك الذي كان باكورة كل الخلائق. كان الحمل المذبوح بانتظار ذلك الآخر الذي صار حمل الله الحامل خطايا العالم. كان هابيل بريئاً فقتله بغضُ اخيه فصرخ دمُه إلى السماء طالباً النقمة، وكان يسوع بريئاً ومع ذلك صلبه اليهود فصرخ دمُه الى السماء للنعمة والمصالحة.
أمَّا حدثُ الطوفان فيبدو صورةً مسبقة لما سيحدُث في نهاية الأزمنة ونموذجاً لأحكام الله الخلاصية. كان قد قال اشعيا (54: 7- 8): "بحب ابوي أرحمك. فذلك يكون لدي كأيام نوح إذ اقسمتُ أن لا تغمُرَ مياهُ نوح الارضَ مرة ثانية". أمّا المسيح فقال: "وكما حدث في عهد نوح، فكذلك يحدث يومَ مجيء ابن الانسان. كان الناس، في الايام التي تقدمت الطوفان، يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون بناتهم، إلى يوم دخل نوحُ الفُلْكَ، وما كانوا يتوقَّعون شيئاً حتى جاء الطوفانُ فجرفهم أجمعين، كذلك يحدث عند مجيء ابن الانسان" (مت 24: 37- 39). والطوفان هو ايضا صورة عن المعمودية. فالمسيح نزل مثلَ نوح في مياه الموت العظيمة وخرج منها منتصراً مع المخلَّصين. والذين يغطسون في ماء العماد يخرجون أحياء على مثال المسيح القائم من الموت. "فالمعمودية التي يرمز اليها الفُلك تنجّيكم أنتم ايضاً" (1 بط 3: 21).
ومصير ابراهيم يبدأ بوعد سيثبِّته الله مرارا فيما بعد. وهذا الوعدُ الذي يحدِّد مصيرَ ابنائه القريبين والبعيدين قد انتظر تحقيقَه الاباءُ والملوك. أما القديس بولس فرأى أنه تحقق في المسيح. قال: "اعتمدتم جميعاً في المسيح فلبستم المسيح: فلم يبق من بعد يهودي أو يوناني، عبد أو حر، ذكر أو انثى، لأنَّكم جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح فأنتم اذاً نسلُ ابراهيم وانتم الورثة على ما قضى الوعد" (غل 3: 28- 29).
أما وجة اسحق فصورة عن وجه المسيح. قالت الليتورجيا: كما أن اسحق اقتِيد إلى الذّبح بيد ابيه، كذلك صعد يسوع إلى الجلجلة ليحقق الدعوة التي حدَّدها الآب له. وقال الآباء: حمل اسحقُ الحطب على كتفه كما حمل يسوعُ صليبَه، ورُبط كالمسيح الذي حلَّنا من قيود الخطيئة. لم يمُت اسحق بل حَلّ محلَه حملُ. أما يسوع فمات ليخلّصنا وكان الحملَ الحقيقي على مثال الحمل الذي افتدى اسحق. وقالوا ايضا: اسحق هو رمزُ العالم وقد جاء المسيح ليحلَّه من قيده ويخلِّصه بصليبه. هو ابن الله حفظ اسحقَ بن ابراهيم لما صار حملا وحل محله في الذبيحة. المائتُ نجا من الموت وماتَ الذي لا يموت.
ويوسف بن يعقوب هو ايضاً صورة عن يسوع الذي بِيع كعبد على يد اخوته. أما ساره وهاجر فهما صورة لعهدين. الأولى من طور سيناء تلد للعبودية. هي وبنوها في العبودية، وهي تمثِّل أورشليم هذا الدهر. والثانية تمثِّل أورشليم العليا، هي حرة وهي أمنا ونحن بواسطتها ننال الخيرات التي أَتانا بها المسيح (غل 4: 21 ي).
خاتمة:
هذا بعضُ الغنى الذي يجده المؤمنُ اليوم لدى قراءة سفر التكوين: على المستوى الكتابي، على المستوى الروحي، على المستوى المسيحي: يبقى علينا ان نغوص في قراءته يصحبنا قائدٌ عارف بالصعوبات فنتجاوز القشورَ العديدة لنصل الى لبِّ كلمة الله التي تمنح الغذاء لحياتنا.
الخوري بولس الفغالي

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM