دراسة أقوال فوكيليد

دراسة أقوال فوكيليد


دُوّنت أقوال فوكيليد في لغّة يونانيّة قديمة (الايونية)، لأن الكاتب حاول أن يقلّد الشعر القديم فيعطي كتابه بعض الوزن بسبب "قدمه". هذا أمر نعرفه في الأدب العربيّ مع الشيخ ناصيف اليازجي مثلاً، وعدد من كتّاب عصور الانحطاط العربيّة. ولكن فهم الدارسون أن هذا المقال ارتبط بالعهد القديم، كما تأثّر تأثيرًا واضحًا بعالم الرواقيّين ولا سيّما في آ 63- 67. واستنتجوا إنهم أمام اسم مستعار. قد يكون اختاره صاحبُه، أو ناشرُ المقال. ولماذا التردّد؟ لأن الاسم الذي نجده في آ 1- 2 قد سقط في أكثر من مخطوط: فوكيليد، أحكم البشر. هذا يعني أن القصيدة بدأت في آ 3: "لا تقترف زنى، ولا تُقم علاقات جنسيّة". فجعل لها الناشر بدايةً ذكرَ فيها فوكيليد الذي قدّم كتاب حكمة. ولكن يمكن أن يعزى هذا السقوط إلى الناسخ الذي أراد أن يزيّن نصّه فبدأه بحرف كبير...
نشير إلى أن اسم فوكيليد ذُكر في أفلاطون، ايزوكراتيس، أرسطو (السياسة 4: 11)، شيشرون (رسالة إلى أتيكوس 4/9: 10)، سترابون (10: 5: 12)، بلوترخس، اكلمنضوس الاسكندراني (الموشيات 5/127: 4)، كيرلس الاسكندراني (ضد يوليانس 7: 224، 225). ليبانيوس (رسائل 14،3: 6). وهكذا كان اسم فوكيليد معروفًا جدًا في القديم، فورد مع مديح من أجل حكمته المفيدة. لهذا، حين دوّن الشاعر اليهوديّ قصيدته، أخذ بهذا الاسم، لأنه وجد فيه سندًا يكفل نشر نصائح مفيدة وتقديم حكمة من أجل الحياة اليوميّة.
التعليم الذي تقدّمه هذه الأقوال
بل ما هي طبيعة التعليم الأخلاقيّ العمليّ؟ لا يحصرنا الكاتبُ في العالم اليهوديّ الذي خرج منه، بل يُبرز خلقيّة على مستوى الكون، خلقيّة تناسب كل إنسان في العصر الذي يعيش فيه. ومع ذلك، يبقى مرجعُه الأول الكتابَ المقدّس في النسخة السبعينيّة، ولا سيّما البنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة، وأسفار الحكمة (الأمثال)، والتقاليد التعليميّة الغنوميّة. فالغنومة (gnome) قول قصير يعطي قاعدة سلوك في الحياة اليوميّة. اشتهر به هيسيودس في كتابه "الأشغال والأيام". وأخذ به فلاسفة سبقوا سقراط، كما أخذ به الرواقيّون، فجاء القول بمحاذاة القول الآخر بدون علاقة ولا رباط. وقد تأتي هذه الأقوالُ في شكل أبجديّ، بمعنى أن البيت الأوّل يبدأ بحرف الألف، والثاني بحرف الباء، والثالث بحرف الجيم...
كانت هناك قصائد النقد والهجاء، فوصلت إلى الكاتب في لباس عبريّ. فالأقوال الغنوميّة كانت معروفة لدى الشعب. ثم عاد هذا الكاتب إلى التوراة يستقي منها أقوالاً خلقيّة لا تكون مطبوعة بالطابع اليهوديّ، بل تتوجّه إلى كل إنسان. وهكذا نرى أن اسم إسرائيل لم يرد هنا، كما لم يرد في سفر الأمثال أو سفر أيوب. كما لم يُذكر السبت ولا الختان ولا طقوس الطهارة. هذا الإغفال جعل الباحثين الأوّلين لا يرون في الكاتب إنسانًا يهوديًا، مع أنه قرأ أسفار موسى، وأخذ بشكل خاص من سفر اللاويّين الذي يدعو المؤمن إلى القداسة في 19: 1: "كونوا قدّيسين لأني أنا الربّ إلهكم قدّوس".
وهكذا بدا الكاتب إنسانًا يهوديًا. هو معلّم حكمة يشبه بعض الشبه ابن سيراخ مع فارق هام، وهو أن ابن سيراخ توجّه إلى اليهود. أما "فوكيليد" فتوجّه أيضًا إلى الوثنيّين ليقدّم لهم الغنى الذي تحويه التوراة. وارتبط هذا المعلّم بالأدب الحكميّ متطلعًا إلى خلقيّة تتجاوز الخصوصيّة اليهوديّة، لتصل إلى أبعد من هذا العالم الضيّق، إلى المثقّف اليونانيّ، في الاسكندريّة وفي غيرها من أماكن.
بدت أقوال فوكيليد بشكل قصيدة واحدة أو عدّة قصائد، جُعلت فيها الأقوال متحازية. لهذا، يصعب علينا تلخيصها لكي نكتشف مضمونها كما يصعب اكتشاف تصميم منطقيّ. هناك كلام عن العدل والصدق والعفّة والأمانة، والاهتمام بالفقراء والمعوزين. العمل مفيد ولو كان فيه بعض التعب. والزواج ضروريّ لئلاّ يزول اسم الإنسان من على الأرض. وفي النهاية، يحذّر الكاتب قارئه من الزنى، كل زنى، ولا سيّما مع الأقارب، فيبدو قريبًا من بداية سفر الأمثال: "شفتا العاهرة تقطران العسل، وكلامها ألين من الزيت. أما عاقبتها فمرّة كالعلقم، ومسنونة كسيف له حدّان" (أم 5: 3-4).
ونتوقّف هنا بشكل خاص عند نظرة الكاتب إلى الله، ونظرته إلى الإنسان.
الله هو ذاك القدير والحكيم. إكرامه فوق كل إكرام، حتى إكرام الوالدين (آ8). إنه ينبوع كل غنى. لهذا يطلب الكاتب من الغني أن يُشرك الفقراء في غناه: "حين تغتني، مُدّ يدك إلى الفقير. وأعط المحتاج ممّا أعطاك الله" (آ 28- 29). هذا الاله يكره الحنث، يكره كل يمين كاذبة (آ 17). كما يعاقب في دينونة قاسية كل من يحكم على الآخرين ويدينهم (آ 11). هو العناية التي تمنح كل خليقة وسيلة الدفاع عن نفسها: فالطير يطير، والجواد يُسرع. والأسد قويّ، وللثور قرونه، وللنحل حمته. أما الإنسان فله العقل والحكمة، لأن الإنسان الحكيم خير من القويّ (125- 130).
روح الإنسان هو صورة الله (106). هذا يعني أن الله خلق الكون وكل ما فيه، خلق عالم الأجساد وعالم الأرواح. وخلق كل شيء في تناسق تامّ: "القمر لا يحسد الشمس مع أن شعاعها أقوى من شعاعه. والأرضُ لا تحسد الأعالي السماويّة مع أنها أدنى منها" (72- 73). في مثل هذا القول تعليم إلى البشر: يتعلّمون من الطبيعة أن ينبذوا الكذب. خلق الله السماء والأرض، ووجّه كل شيء نحو غاية. بل هو خلق العالم السفليّ حيث يقيم الأموات.
وما هي نظرة الكاتب إلى الإنسان؟ لقد أخذ عناصرَ عديدة من العهد القديم. قال: الإنسان مصنوع من تراب الأرض، وهو إلى التراب يعود (تك 2: 7؛ 3: 19). غير أن روحه على صورة الله، وهو يصعد من جديد في الهواء (106, 108). هذا الإنسان يميل إلى الشرّ، لهذا يحذّره الكاتب مع لا الناهية 85 مرّة: لا تقترف زنى... لا تبتدع كذبًا... لا تصر غنيًا بالظلم... لا تقُل كذبًا... لا تطرد الفقير جورًا... ومع أن الخطيئة حاضرة في الإنسان، فالكاتب لا يتكلّم عن غفران الله وعونه. هذا يعني أنه يرى قوّة الإرادة عند الإنسان، التي تكفيه لكي يرفض الشرّ ويصنع الخير.
ويتميّز الإنسان باثنين لكي يكون إنسانًا حقًا: بالعمل والزواج. حين يعمل الإنسان، لا يحتاج أن يتسوّل.وإن لم يعمل، يحاول أن يسرق ليعيش. من لا يعمل أكل بقايا ما يأكله الآخرون. أما من عمل، فهو يقتني الخير ويأكل ممّا حصل عليه بالكدّ والتعب. وفرصُ العمل واسعة في البحر والبرّ. ويعطي النصّ مثَل النملة والنحلة. فيتعلّم منهما الإنسان الكسول (153- 174).
والزواج هام جدًا في حياة الإنسان. وقد جعل الله الشهوة في الإنسان، لا من أجل ذاتها، بل من أجل إيلاد البنين. ويتوسّع الكاتب في هذا الموضوع فيشير إلى أنواع الزنى ولا ينسى المحافظة على الولد. فلا تقتله أمه في حشاها بالإجهاض، أو ترميه للطيور الكواسر بعد أن يُولد. هذا ما يقابل وأد البنات في العالم العربي القديم. قد يكون السبب ضيق ذات اليد. أو عدد البنات الكثيرات: المرأة لا تدمّر في حشاها الطفل الذي لم يولد بعد. ولا ترميه بعد ولادته طعامًا للكلاب وطريدة للطيور الكواسر (184- 185).
ويشدّد الكاتب على العفّة وضبط النفس، ولا سيّما في العلاقات الجنسيّة: احترام المرأة وهي حامل. الامتناع عن الزنى مع الأقارب. لا تجامع بين الذكر والذكر. لا تجامع مع الحيوان. وفي النهاية يقول: ليست الشهوة إلهًا نعبده ونخضع له. لأن هوى الانسان يدمّر كل شيء (194). ويدعو الرجل والمرأة إلى حياة من الأمانة والحبّ المتبادل، كما في أم 5: 15- 19: "امرأتك ماء مباركة نازلة في وسط بئرك. فلو فاضت الينابيع إلى الخارج، كسواقي مياه في الساحات، فلتكن لك دون سواك، دون أي من الآخرين. هكذا يبارَك نسلُك وتفرح بامرأة شبابك. فتكون لك الظبية المحبوبة والوعلة الحنون الصغيرة. يرويك ودادها كل حين، وبحبّها تهيم على الدوام". في هذا الخط يقع كلام فوكيليد: أحبب امرأتك الخاصة. فأطيب وأفضل ما يوجد، امرأة تحنّ على زوجها حتى في الشيخوخة. ورجل يعامل زوجته بدون خصام، ولا يبدّد قوّته في الزنى (195- 197).
هكذا تكون العلاقة بين الرجل والمرأة، ولا سيّما على مستوى الحياة الزوجيّة وما فيها من أمانة متبادلة. والعلاقة بين الآباء والبنين تتميّز بالعذوبة والحنان دون أن تنسى القساوة في خطّ سفر التثنية: "إذا كان لرجل ابن عقوق، متمرّد، لا يسمع لكلام أبيه وأمه، يرجمه جميع رجال مدينته بالحجارة حتى يموت. هكذا تُزيلون الشرّ من بينكم" (تث 21: 18): ويقول فوكيليد في المعنى عينه: إن خطئ ولد تجاهك، فلتقطعه أمّه قطعًا، أو شيوخ العائلة أو رؤساء الشعب (208- 209). وفي الإطار عينه، نقرأ كلامًا عن علاقة الأسياد بالعبيد: تأمين حاجات العبد الجسديّة، المحافظة على ما اتّفق عليه، عدم تحقير عبد حتى بالنميمة والافتراء. وفي النهاية، لماذا لا يقبل السيّد نصيحة عبده إن كانت لصالحه (223- 227). وهناك الحبّ بين الأصدقاء والأقارب في الأمانة والوفاق (217- 218)، واحترام للشيوخ (220- 221). ومحافظة على الفتاة قبل زواجها (215- 216)، وعلى الفتى الذي قد تقوده نزواته في طريق الزنى: إن كان الولد ذكرًا، فلا يُنم شعره فوق رأسه، ولا يجدل إكليلاً، ولا يعقد صليبًا على هامته. فالشعر الطويل لا يليق بالصبيان، بل بالنساء الفاجرات (210- 212).
ويطلب هذا "المربّي" من الشبّان أن يحافظوا على صداقاتهم حتى الموت (218). وأن يتعاملوا مع الناس كل الناس، فيحوّلوهم من العداوة إلى الصداقة، ومن البغض إلى الحبّ: أن يكون لك صديق صالح أفضل من عدوّ. اقبض على الشرّ وهو في البرعم،واشف الجرح سريعًا (142- 143).
والإنسان يكون في كل تصرّفاته معتدلاً لا مفرطًا. فالاعتدال صفة معروفة لدى الرواقيّين: الاعتدال أفضل لك، وفي الإفراط خطر (36). ويقول بشكل آخر: الاعتدال هو الخير وفي الإفراط الألم (69). ويطلب هذا الشاعر الاعتدال حتى في الحزن (98). كل هذا يعني ضبط النفس والسيطرة على الذات والحواس (76). "احفظ قلبك وأمسك به، وامتنع عمّا يؤلمك" (145).
والوجه الأخير الذي يتعلّق بالإنسان، هو النظرة إلى الحياة والموت. حين نقرأ آ 99- 115، نجد بعض التضارب. فلا نعود نعرف إن كان يتكلّم عن قيامة الأجساد كما في العالم السامي، أم عن خلود النفس كما في الفكر اليونانيّ. فنقرأ في آ 103- 104: فنحن نرجو لبقايا الذاهبين (إلى القبر) أن تعود إلى نور الأرض. وبعد ذلك تصبح آلهة. حينئذ نكون مع الله في خط مز 8 الذي يقول إن الربّ "نقّص الإنسان قليلاً عن الآلهة"، فقالت السبعينيّة: نقّصته عن الملائكة.
أما في آ 115 فنقرأ: "ولكن نفسنا خالدة، وهي تحيا بلا نهاية إلى الأبد". نحن هنا بلا شك في خط سفر الحكمة الذي تأثّر بالفكر اليونانيّ، فشدّد بالأحرى على خلود النفس، لا على قيامة الجسد: "أما نفوس الأتقياء فهي بيد الله فلا يمسّها عذاب" (3: 1). ففي الفكر اليوناني المنطلق من أفلاطون، النفس هي كل شيء وهي تنزال في الجسد كما في سجن. لذلك، فهي تعود إلى الله. بما أنها من الله وترجع إلى الله، فهي خالدة. أما الجسد فسيُرمى في التراب. ولكن النفس تعني الشخص كله، لا قسمًا منه فقط. فالمزمور الذي يقول "اشف نفسي" إنما يريد أن يقول: اشفني أنا. من أجل هذا يتكلّم سفر الحكمة أيضًا عن الأتقياء (لا عن نفوسهم) الذين يقفون أمام الدّيان (5: 1)، الذين يحيون إلى الأبد: يهتمّ بهم العليّ، فيُنيلهم كل مجد (5: 15).
ولكن ظلّ الجمعُ لا متماسكًا في الفكر اليهوديّ بين القيامة والخلود. لهذا كان خط آخر وصل إلى آباء الكنيسة الذين تساءلوا عن قيامة الأجساد: ماذا يحدث لرجل أكله السمك، أو قُطعت يده؟ كيف يقوم؟ أيرضى الربّ أن يكون المقيمون حوله مشوّهين؟ هذا الكلام عن القيامة نقرأه في دا 12: 2: "وكثير من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، بعضهم للحياة الأبديّة، وبعضهم للعار والذعر الأبديّ". ويطبّق سفر المكابيّين الثاني هذا القول على الاخوة السبعة الذين ماتوا في سبيل الإيمان. قال الأخ الثاني: "إن ملك العالمين سيقيمنا لحياة أبديّة" (2 مك 7: 9). وهكذا جمعت أقوالُ فوكيليد هذين الخطّين الفكريين دون أن تفضّل خطّا على خط: قيامة الأجساد وخلود النفس. وبهذا دلّ الكاتب على أنه يهوديّ لم يخف أن يُشير إشارة عبارة إلى الأطعمة المحرّمة (147-148). غير أنه لم يكن ذاك الفكرَ العميق، فلم يورده الآباء كما أوردوا سائر الأسفار اليهوديّة، فظلّ يقدّم مجموعة سريعة من الحكم تشبه ما في ابن الوردي مثلاً، دون أن تذهب بعيدًا في التوسّع في الأمور وتحليلها.
ونصل إلى هدف الكاتب. لماذا كتب ما كتب، وما الذي توخّاه من كتابته؟ ولمن أراد أن يوجّه أقواله هذه؟ فهناك أكثر من سؤال يُطرح: هذا الكاتب اليهوديّ تحاشى ما يميّز العالم اليهوديّ. أتراه أراد أن يهدي الشعوب الوثنيّة إلى الإيمان بالكتاب المقدّس؟ ثم، لماذا أخذ اسمًا وثنيًا، اسم شاعر يعود إلى القرن السادس ق م؟
نقف هنا أمام أربع امكانيّات
الأولى، لم يكن لهذا الكاتب من هدف معيّن. كتب لذّة بالكتابة. وأراد أن يقلّد الشعراء الأقدمين، فجاء أسلوبه الكتابي في إطار الايونيّة، في إطار اللغة اليونانيّة القديمة. تمرّن على رصف الشعر، فكانت كتابته مثالاً للطلاّب.
الثانية، كتب "فوكيليد" أقواله لليهود، لكي يشجّعهم على العيش بحسب الشريعة. فكأني به يقول لهم: أنظروا كيف يعيش اليونان حياة خلقيّة قريبة من التوراة. وأنتم ماذا تنتظرون؟ لماذا تستحون من تقليدكم؟ لا تظنّوا أنكم تكونون ناقصين إن ظللتم على الأمانة لتقاليدكم. هذا في الواقع ما فعله ابن سيراخ حين فتح مدرسته وكتب ما كتب.
الثالثة، كتب "فوكيليد" أقواله للوثنيّين. لا ليردّهم إلى الإيمان اليهوديّ، بل ليجعلهم يتعاطفون مع العالم اليهوديّ. وهكذا تتحطّم عزلة يعيشها اليهود داخل العالم اليونانيّ والرومانيّ. إذن، بيّن ما في التوراة من وجهة انسانيّة يجدر بالعالم الوثنيّ أن يأخذ بها ليصبح مناخًا تضحي فيه الحياة ممكنة. هنا نكون في خط سفر الحكمة.
الرابعة، كان الكاتب من خائفي الله. كان على الحدود بين العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ، فأراد أن يربح الوثنيّين إلى ما اكتشفه في إيمان لم يدخل فيه بعدُ، لأنه رفض الختان وسائر ممارسات الشريعة، خوفًا من إنكار هويّته.
إمكانيات أربع. يمكن أن نأخذ بها لأنها معقولة. ويمكن أن نردّ عليها، بحيث لا تقدر إمكانيّة أن تفرض نفسها بشكل مطلق.
بالنسبة إلى الثانية، يمكن أن يكون الكاتب توجّه إلى أهل دينه. ولكن يبقى البرهان. فنحن نعلم أن اليهوديّ يبقى يهوديًا حتى وإن أخذ بالحضارة اليونانيّة التي تتوافق مع مبادئ الحياة كما في التوراة. هذا ما يشرح لماذا رفض الكاتب أن يذكر اسمه، فاتّخذ اسمًا مستعارًا. كما يشرح أنه لم يردّ على عابدي الأوثان. في هذا الخط، قيل أنه كتب لطلاّب يهود "تمارينَ" يقتدون بها فيتعلّمون الكتابة من جهة، ويدخلون من جهة ثانية في أفكار خلقيّة تستوحي التوراة.
بالنسبة إلى الثالثة، نفهم أن يكون الكاتب فعل كما فعل سفر الحكمة. هو لا يكتفي بأن يستميل الوثنيّين إلى ديانة الآباء، بل يحاول أن يزرع في العالم الوثنيّ عددًا من الفرائض الخلقيّة، فيجعله أكثر انسانيّة. لهذا عاد إلى الوصايا النوحيّة، إلى وصايا أعطيت لنوح، فجاءت قبل الوصايا الموسويّة. كما عاد إلى ما قاله فيلون ويوسيفوس في اتجاه شامل لا ينغلق على الخصائص اليهوديّة. أما وصايا نوح كما يوردها الأدب الرابينيّ (تلمود بابل، سنهدرين 56 آ) فهي سبع: إقامة العدالة، الامتناع عن التجديف، وعن عبادة الأوثان، وعن الزنى، وعن سفك الدم، وعن السرقة، وعن أكل لحم حيّ. أما في هذه "الأقوال"، فهناك وصيّتان لا تردان في الأدب الرابيني: الامتناع عن التجديف، الامتناع عن عبادة الأوثان. أما سائر الوصايا، فسترد هنا وهناك.
بالنسبة إلى الرابعة، نحن أمام وثنيّ يعيش مخافة الله، ولكنه ما صار بعد يهوديًا. اكتشف الله الواحد ومتطلّباته، وأراد لأبناء دينه أن يكتشفوا ما اكتشف. وما يمارسه الآن ليس بالجديد الذي يُفرض عليهم. فهو يعود أقلّه إلى أيام فوكيليد.
والآن ماذا نختار بين هذه الامكانيّات الأربع؟ لا برهان يبرّر ولا برهان يرفض. فنحن ما زلنا في حيرة وننتظر الأبحاث اللاحقة.
الفن الأدبي في هذه القصيدة
قيل: مقال حكميّ. وقيل: مقال تعليميّ. وقيل: أقوال مأثورة، أقوال غنوميّة (gnome) تساعد الإنسان على سلوكه "الناجح" في الحياة اليوميّة.
بما أن المؤلّف يهوديّ، فهو ينتمي إلى الأدب الحكميّ الذي يبحث عن سعادة الإنسان في حياته الفرديّة وفي حياته العائليّة والاجتماعيّة. أجل، الحكمة فنّ الحياة، وفلسفة عمليّة لحياة صالحة. ونحن نصل إلى مثل هذه الحياة عن طريق سلوك أخلاقيّ نجده في الكتاب المقدّس، كما في عالم الفلسفة، ولا سيّما الرواقيّة منها: التواضع، ضبط النفس، الصدق، الأمانة، الجدّ والكدّ، احترام الرؤساء، ممارسة الحقّ والعدل... وكل هذا يتوجّه إلى البشر جميعًا، لا إلى شعب واحد، وقد وُجد في مصر وبابل... نحن هنا بشكل خاص في إطار سفر الأمثال ولا سيّما ما ورد في ف 10-22.
وأقوال فوكيليد قصيرة تعليميّة. فهناك بحر خاص يتألّف من 12 مقطعًا صوتيًا، ويُقسم قسمين متعادلين. هذا البحر يُستعمل للحكمة والتعليم. وهكذا جعل الكاتب نفسه في خط المعلّمين منذ هيسيودس إلى سائر معلّمي العالم الرومانيّ الذين تركوا الأقوال المأثورة. أما هذا الذي فعله، في إطار آخر، صاحب الأقوال السيبليّة؟
وأخيرًا، هذه القصيدة هي أقوال غنوميّة: قول قصير قد يرتبط أو لا يرتبط بما قبله أو ما بعده. أقوال متحاذية. يستطيع الواحد أن يقف عند قول دون سواه ليكتشف جذوره في المراجع، ومدى تطبيقه في حياته.
إذن، أقوال فوكيليد أقوال قصيرة، وردت في إطار حكميّ، من أجل هدف تعليميّ. يقرأها الشبان، يكتبونها، يحاولون ممارستها سواء كانوا يهودًا أو وثنيّين. فجذور هذه الأقوال نجدها في التوراة، كما نجدها في الفلسفة اليونانيّة. لذلك، يُقبل إليها الوثنيّ، فيتعلّم مخافة الله، واليهوديّ، فيتذكّر وصايا تطلب منه أن يعيش بحسبها لئلاّ يجدّف على اسم الله بسببه (روم 2: 24).
متى وأين كتبت هذه الأقوال
قيل في أول الأبحاث، بين القرن السادس ق م (زمن فوكيليد، الشاعر الايوني) والقرن الرابع ب م. ثم كان اتّفاق جعلها بين 200 ق م و 150 ب م. وأين كتبت؟ بدا تحديد المكان الذي فيه كوّنت، صعبًا، لأن لا أحداث سياسيّة فيها ولا ظروف خاصة تتيح لنا أن نتعرّف إلى موطن هذا النصّ.
ومع ذلك، فهناك سمات على مستوى اللغة، كما على مستوى المضمون.
نجد ثلاثين لفظة يونانيّة لا نقرأها قبل القرن 3 ق م، ومنها 15 لا ترد قبل القرن الأوّل ق م.
عرف هذا الشاعر نسخة السبعينيّة، ولم يكتف بالبنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة. أي عرف أسفار الأنبياء والحكماء التي نُقل بعضها في القرن الأوّل ق. م.
تأثّر الكاتب بالرواقيّين الذين بدأوا في القرن الثالث ق. م.، وظلّ تأثيرهم واضحًا في العالم الرومانيّ واليونانيّ، كما وصل إلى العالم اليهوديّ، بدليل ما نعرف من سفر المكابيّين الرابع الذي قرأ استشهاد المؤمنين في إطار "فلسفي".
كان الكاتب قريبًا من كتّاب عاشوا في القرن الأوّل ب م، أي في حقبة الامبراطوريّة، مثل روفوس، ميسونيوس، سينيكا الذي كان معلّم نيرون.
كما كان قريبًا من فيلون الاسكندراني، ووعّاظ فلاسفة عاشوا في القرن الأوّل ب م.
كل هذا يدفعنا إلى الاستنتاج بأن "أقوال فوكيليد" دوّنت بين سنة 30 وسنة 100 ب م. فهل نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك؟ إذا اعتبرنا أن هذه القصيدة دُوّنت في الاسكندريّة، يجب أن نبحث عن فترة لم تكن فيها العلاقات متوتّرة بين اليونانيّين واليهود في الاسكندريّة: في عهد الإمبراطور أوغسطس (30 ق م- 14 ب م.). وفي عهد الإمبراطور طيباريوس (14- 37 ب م). وبما أننا لا نستطيع أن نفكّر أنها كتبت في زمن كاليغولا (37- 41) الذي شنّ حربًا على اليهود فجعلهم ينغلقون على الحضارة الوثنيّة، نفترض أنها دوّنت بين سنة 30 وسنة 40 ب. م.
وما الذي يدفعنا إلى الكلام عن الاسكندريّة؟ ما نقرأه في آ 102: لا خير في تشريح جسم الانسان. قال الشاعر هذا القول في إطار قيامة الأجساد. ولكن الكلام عن تشريح الأجساد لا يُفهم إلاّ في إطار الاسكندريّة التي مارست هذا العمل الطبيّ. هذا لا يعني أننا أمام برهان نهائي، ولكن لا شيء يمنع أن تكون الاسكندريّة هي الموضع الذي نبتت فيه أقوال فوكيليد. من جهة، كان اتّصالٌ اليهود بالحضارة الهلنستيّة في تلك المدينة التي عرفت ترجمة السبعينيّة وعددًا من الكتب. ومن جهة ثانية، لا نعرف الشيء الكثير عن جماعات يهوديّة عاشت في مناطق أخرى من الشتات.
تلك هي أقوال فوكيليد. نستطيع أن نعتبر أن كاتبها يهوديّ، دوّنها حوالي سنة 30- 40 ب م، في الاسكندريّة، من أجل شبّان يهود وشبّان يونانيّين، فجاء هدفه قريبًا من هدف سفر الحكمة الذي دُوّن سنة 50- 30 ق م.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM