الفصل التاسع: الأحداث السابقة لسنة 70

الفصل التاسع
الأحداث السابقة لسنة 70

تمتد هذه الحقبة من موت المسيح، في 30 نيسان سنة 30، إلى دمار أورشليم في آب سنة 70. تنوّعت جماعة التلاميذ تدريجياً. خرجت من فلسطين وتجذّرت في مدن الأمبراطورية الرومانية. وصارت الجماعات الجديدة موضعاً فيه تُلامسُ أعمالُ يسوع وأقواله والإيمان بقيامته، حياةَ الناس. فاللقاء بين اليهود واليونانيّين المرتدين، يدلّ على أن الإنجيل لا ينحصر في شعب واحد، بل يتوجّه إلى كل الشعوب. وذاكرة المؤمنين الحية واهتمامهم بالتعامل مع ظروف الشعوب وحضاراتها، ولّدت تقاليد وكتابات ستؤلّف مجموعة أسفار العهد الجديد.
غير أنه لا يجب أن ننسى أن تاريخ هذه الجماعات هو جزء من تاريخ الأمبراطورية بل جزء من التاريخ اليهودي. فبدايات الكنيسة انطبعت بعلاقاتها بالعالم اليهودي. وسمّاها بعض المؤرخين شيعة يهودية إنفتحت على العالمين اليوناني والروماني. ما الذي هيّأ الدرب لهذا اللقاء؟ أحداث وتطوّرات حصلت في الأمبراطورية عامة وفي العالم اليهودي خاصة.
كانت سنة 70 في نظر المؤمنين الجدد نهاية حقبة وبداية حقبة. جاء تدمير أورشليم بعد الرسالات خارج العالم اليهودي، فثبّت ما اكتشفته الكنيسة الفتية: كل الناس هم في الأساس متساوون في يسوع المسيح، سواء كانوا يهوداً أم يونانيّين. أرض إسرائيل لها أهميتها والعالم أيضاً. للماضى (العهد القديم) أهميته، وللمستقبل أهميته أيضاً. إن سنة 70 تشكّل حدّاً فاصلاً له معناه، لأنها تقابل تبدّلاً داخل الجماعات: زال جيل الشهود الأولين، وبدأت حقبة جديدة في الكنيسة.

أ- الأحداث والتطورات في الأمبراطورية
سنة 37 توفيّ الأمبراطور طيباريوس الذي في عهده حكم بيلاطس على يسوع بالموت. أما خلفاؤه فهم: كاليغولا (37- 41)، كلوديوس (41- 54)، نيرون (54- 68 ). ثم جاءت فترة من الاضطراب تصادم فيها الطامحون وجيوشهم إلى أن وصل فسباسيان إلى الحكم. كان منذ سنة 66 قائداً على الجيوش الرومانية الموكلة بقمع الثورة اليهودية في فلسطين. ومن فلسطين انتقل ليكون الأمبراطور في رومة.
إن وزن الجيش في الاستيلاء على السلطة نفهمه باتساع الأمبراطورية اتساعاً كبيراً. ففي سنة 30، كان حوض البحر المتوسط تحت سلطة رومة. ولكن الدفاع عن الأمبراطورية وديمومتها، والبحث عن موارد جديدة، كل هذا فرض على رومة أن تتوسّع أيضاً. فضمّت سنة 43 بريطانيا العظمى، وأرسلت حملات عسكرية إلى خط الرين والدانوب وباتجاه البحر الأسود. وفي سنة 59، أشعلت الحرب ضد الفراتيين وضمّت إليها ارمينيا.
نلقي نظرة سريعة إلى السياسة والاقتصاد والدين.

1- السياسة
كان "السلام الروماني " قد سيطر سيطرة ثقلت يوماً بعد يوم على المناطق المحتلّة. فرضت حضارة واحدة على الحضارات المتعدّدة. ولعبت المؤمرات فأطاحت بالملوك المحليين. وفُرضت الضرائب فأثقلت كاهل الأفراد والجماعات، وكل هذا خدمة لبعض المحظوظين في عاصمة الأمبراطورية.
في هذا الإطار نفهم الطابع الجذري للثورة اليهودية، وطريقة قمعها سنة 66- 70. ما كانت الأمبراطورية تتحمّل الضعف على حدودها الشرقية التي يهدّدها الفراتيون والعرب. ثم إن اتساع الأمبراطورية استدعى تنظيماً إدارياً دقيقاً. هذا ما سيقوم به كلوديوس منذ سنة 42. وهكذا تبقى رومة قلب هذه المجموعة الواسعة، لا على المستوى السياسي والإداري وحسب، بل على المستوى الاقتصادي والمستوى الديني.

2- الاقتصاد
تطوّر الاقتصاد على مستوى التبادل والتجارة. وعملت الأمبراطورية وسعها من أجل انتقال البضائع بين المقاطعات من جهة، وبين المقاطعات ورومة من جهة ثانية. وشُيّد سنة 42 مرفأ جديد في اوستية، قرب رومة. وتكاثرت الأعمال الضخمة: الطرق، القنوات التي تربط الأنهر والبحار. واستفادت المدن المهمة من هذه التجارة. فنمت الاسكندرية وكورنتوس وانطاكية... وزاد عدد سكانها، وامتزجت الأعراق فراح أهل الشرق إلى الغرب والعكس بالعكس.

3- المستوى الديني
دخلت عبادة الأمبراطور في حياة الإنسان، وبصورة أسهل في المدن الشرقية والهلنستية التي اعتادت على تأليه ملوكها. ففي سنة 40، حاول كاليغولا أن يفرض عبادة شخصه. وسعى ليجعل تمثاله "الإلهي" في هيكل أورشليم.
وعاش الناس هذه العبادة الرسمية كتعبير عن حسّ وطني وخضوع سياسي. ومقابل هذا، إتسعت الديانات السرّانية والعبادات الشرقية فوصلت إلى رومة، بحيث إن كاليغولا فرض عبادة ايزيس سنة 40. وكلوديوس عبادة أتيس وقيبالس سنة 47.


ب- الأحداث في العالم اليهودي
عاش اليهود حتى سنة 70 في فلسطين وفي الشتات، أي في الجماعات المنتشرة في كل مدن الأمبراطورية. ولكن ثورة فلسطين (66- 70) ستنهي الوجود الوطني في فلسطين، كما ستلغي النظم السياسة والدينية التي كانت تعبرّ عنه. وهي: الهيكل، التنظيم الكهنوتي، السنهدرين.

1- الشتات قبل سنة 70
نعم العالم اليهودي بوضع الديانة المسموح بها. إنفصل اليهود عن الآخرين بديانتهم، ولكنهم امتزجوا بهم في الحياة الاقتصادية والتجارية. وكانت ردّات فعل عنيفة هنا أو هناك بسبب تأثيرهم أو تنظيمهم. في سنة 38، قامت ثورة عليهم في الاسكندرية. وفي سنة 41، دعا كلوديوس أهل الاسكندرية الى التسامح من جهة، وإلى الحدّ من المطامح اليهودية من جهة أخرى. في سنة 49، كانت اضطرابات في رومة بين اليهود بسبب شخص اسمه "كرستوس" (أي المسيح). فطردهم كلوديوس. غير أن العدد الأكبر من اليهود تأثروا بالحضارة اليونانية (تهلينوا) فتطلّعوا إلى العالم الذي يحيط بهم رغم وثنيته. ومقابل هذا، إهتمّ عدد من الوثنيّين بالعالم اليهودي. هذا ما يساعدنا على فهم شيئين. من جهة، تقبّل الناس الإنجيل في مدن الأمبراطورية. ومن جهة ثانية، قام يهود الشتات في مجامهم بحرب على الكنيسة وعلى المرسلين الجدد فقال بولس فيهم: " قتلوا الرب يسوع واضطهدونا، لا يرضون الله ويعادون الناس، فيمنعونا من تبشير الأمم بما فيه خلاصهم (1 تس 15:2- 16).

2- فلسطين قبل سنة 70
كان أغريبا الأول، سليل هيرودس وصديق الأمبراطور كلوديوس، ملكاً على مجمل الأرض اليهودية من سنة 41 إلى سنة 44. فإذا وضعنا هذه الحقبة جانباً، كانت اليهودية وعاصمتها خاضعتين لسلطة الولاة الرومان. وبعد سنة 36، سيجدون صعوبة كبيرة في ضبط المعارضة الصاعدة. والثورة التي اندلعت سنة 66 كانت تحت الرماد منذ زمن بعيد: اللصوصية، عمليّات ضد الرومان، ضد السامريين، ضد المتعاملين مع العدو. وفي قيصرية، مركز الولاة، تصادم اليونانيون واليهود مراراً. وفي أورشليم صارت الأعياد مناسبة لاشتعال النار الوطنية. وأكثر الولاة من الاجراءات القاسية، وقمعوا في الدم محاولات المقاومة، التظاهرات "المسيحانية"، أعمال الإرهابيّين. وصُلب أناس عديدون مثل يعقوب وسمعان، ابني يهوذا الجليلي المقاوم المشهور الذي قتل قبل سنة 6 ب. م.

3- الحرب اليهودية
وتنظّمت الثورة سنة 66. وانضّم إلى الحركة المتمردة وُجهاء الأرستوقراطية الكهنوتية. مطالب جذرية ووسائل مقاومة أكثر جذرية، كلّ هذا يدلّ على قوة حركة الغيورين. في نهاية 66 وبداية 67 كلّف نيرون فسباسيان وابنه تيطس بإعادة الهدوء. وسيعملان ثلاث سنين ليستعيدا مجمل البلاد. وحين صار فسباسيان امبراطوراً، ترك لابنه محاصرة أورشليم. وفي آب سنة 70 سقط الهيكل، المعقل الأخير، وأحرق. وهكذا انتهت حقبة في تاريخ العالم اليهودي.

ج- نمّو الكنيسة الفتية
لا تعود كتابات العهد الجديد مراراً إلى الأحداث التي أشرنا اليها. كان المهم بالنسبة إلينا أن نصوّر المناخ الذي أحاط بنموّ الكنيسة انطلاقاً من فلسطين. وحين نقدّم كل سِفر على حدة، نعطي تفاصيل أكثر.

1- جماعة أورشليم
نمت نمواً كبيراً منذ العنصرة. ولكنها ما عتّمت أن عرفت سلسلة من الاضطهادات من قبل السلطات اليهودية. ففي سنة 36- 37، على أثر رجم اسطفانس، رئيس مجمع المسيحيّين الهلينيين (أي: يتكلّمون اليونانية)، تشتّتت الجماعة. وبشّرت السامرة وقبرس وأنطاكية في سورية (أع 6- 11). سنة 44، قُطع رأس الرسول يعقوب بأمر من الملك أغريبا الذي حاول بذلك أن يرضي المسؤولين الدينيّين في أورشليم (أع 12: 1- 2). وفي سنة 62، قتل رئيس الكهنة يعقوب الآخر و" أخ الرب " الذي رأسَ سنوات عديدة الكنيسة المحليّة.

2- ارتداد بولس
إرتدّ سنة 36- 37 وعمل مع برنابا في أنطاكية سورية. ومن هناك انطلقا لحمل الإنجيل إلى العالم اليوناني والروماني. فبعد مهمّة في آسية الصغرى (بين سنة 45 و 49)، اجتمعت كنيسة أورشليم مع موفدين من أنطاكية ووافقت على دخول مسيحيين عديدين إلى الكنيسة. ووجدت وسائل عيش مشترك بين المرتدين من يهود ووثنيّين (أع 15: 19- 21). وقام بولس بسفرتين أخريين بين سنة 50 وسنة 58، فولدت جماعات تسالونيكي وفيلبي وكورنتوس وأفسس.
ولمّا عاد بولس إلى أورشليم أوقف هناك على أثر تدخّل خصومه اليهود. سُجن سنتين في قيصرية، ثم أُخذ إلى رومة بناء على طلبه ليمثل أمام محكمة قيصر. فوجد هناك مسيحيين منذ حكم كلوديوس. أقام بولس في رومة سنوات عديدة وفيها مات كما مات بطرس.
لا يذكر العهد الجديد تبشير أو ظهور كنائس في مصر والاسكندرية، ولا في شرقي الأمبراطورية (بلاد الرافدين) ولا في افريقيا. ولكن لا شكّ في أن الإنجيل وصل باكراً إلى هذه المناطق حيث شكل الشتات اليهودي الإطار الأول من أجل حمل الإنجيل.
ونبدأ بالتعرّف إلى بولس والجماعات التي أسّسها أو اتصل بها. ثم نعود إلى الأناجيل التي كانت آخر ما دوّن من أسفار العهد الجديد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM