ج- ويعرفون أني أنا الرب

 

ج- ويعرفون أني أنا الرب

هذا التعبير يتكرّر خمساً وأربعين مرّة في سفر حزقيال. وهناك ثماني عشرة مرّة أخرى يرد فيها التعبير ذاته، مع توسّع وتطويل وبواسطة عبارة تابعة أو صفة مرافقة (رج 5: 13؛ 6: 13؛ 20: 20؛ 37: 28 إلخ...). وترد العبارة ست مرات أيضاً، بتركيب مختلف بعض الشيء، ولكن بالمعنى ذاته (رج 14: 23). وأخيراً، في موضعين نجد فعل "رأى" مستبدلاً بـ "عرف" (رج 21: 4).
إن هذا التعبير، كما هو، يحمل أهميّة لها مغزاها. إن حرف العطف "و" ليس لوصل عبارتين فقط، بل هو للاستنتاج والتفسير. إنه يلمّح إلى الهدف الذي ينبغي أن يبلغه الشعب، وهو معرفة يهوه من خلال أفعاله. يمكننا أن نلاحظ، في اللغة العبرية، كما في أكثر اللغات الساميّة، أن حرف العطف "و" يتضمّن معنى الأمر: "يجب أن يعرفوا....".
إن القسم الثاني من التعبير "يعرفون أن..." يهدف إلى التحدّث عن معرفة من قبل الشعب. إن فعل "يدع" في العبريّة، يعبّر عن علاقة وجوديّة. علم بشيء ما، يعني أنه اختبره: كان يُقال: عرف الألم (أش 5: 31)؛ وعرف الخطيئة والحرب (قض 3: 1) إلخ... عرف فلان فلاناً أي دخل معه في علاقة ما. وتُستعمل الكلمة للدلالة على التضامن العائلي، والعلاقة الزوجيّة وحتى العلاقة الجنسيّة الحميمة. بهذا التعبير التصويري يعلن حزقيال عودة علاقة العهد بين الشعب وإلهه.
يتضمّن القسم الأخير "أني أنا يهوه" وحياً أخيراً يشير إلى الله بالذات. إن الضمير "أنا" المستعمل في هذا الإطار، لا يجب فهمه بمعناه الفلسفي، أي شخصيّة الله "الكائن" في ذاته. ففي كتاب حزقيال، كان رجوع يهوه إلى الهيكل، في الغمام. فقد أبرز حضوره الخفي بواسطة صوته، وليس بطريقة مباشرة. وتعبير "إني أنا يهوه" يدل على حضور إلهي يعبّر عنه التحرّكُ والكلمة: "وتعلمون أني أنا يهوه، قلت وفعلت". إن القسم الأول من كتاب حزقيال يُظهر نسيان الشعب بأن يهوه إلهه، لأنه لا يعطي أية علامة تدل على حضور يهوه وسط كل المصاعب التي قاساها إسرائيل. فإسرائيل أنكر يهوه كإله، وراح يفتش عن الأصنام. ولكن يهوه، عن طريق أفعاله وكلمته التي نقلها حزقيال، يؤكد من جديد أمانته، ويبيّن لشعبه أنه يهوه إلهه. وبالنتيجة يجب أن يستعيد إسرائيل إيمانه.
في كل الأحوال، يستعيد هذا التعبير معناه الحقيقي بواسطة إطاره. ولئلاّ نقع في التكرار، لا نحتفظ إلا ببعض النصوص الهامّة: إدانة إسرائيل (7: 2- 4)؛ إدانة عمّون (25: 3- 5)؛ ووعد بالحياة (37: 6). ونجد التعبير المقصود في نهاية كل من هذه الأقسام. وهو يدلّ على انتهاء عمل ما أو على نتيجته. إن الوسائل التي يستخدمها يهوه للتعريف بذاته تتميز بعمل تمّ إنجازه. في 7: 2- 4 يعلن الله عن ذاته بواسطة عقاب يطال شعبه. وكذلك الأمر بالنسبة لمدينة عمّون حيث أطلق عليها يهوه يد العرب المجاورين لها، ليعلم أهلها أنه هو الرب (25: 3- 5). وعندما تكون المواثيق هي المقصودة تختلف الوسائل. سيعيد يهوه إسرائيل إلى أرضه بقوة روحه، ويحييه من جديد (37: 6).
يتَّخذ الله دائماً زمام المبادرة ليعرّف بذاته بالقول والفعل. إن مجانيّة عمله تجعل معرفة الإنسان له نعمة إلهية. فهو فاعل كل الأفعال الواردة في صيغة المعلوم: "أضع"، "أفعل"، "أعطي" إلخ... ويظل الإنسان بقدرته الذاتية، عاجزاً عن معرفة يهوه. وفي النهاية، نشير إلى أن الله لا يكشف ذاته لشعبه وحده، بل لجميع الأمم أيضاً.
"إن العبارة المنمّقة والمزخرفة لا توجد بشكل دقيق، عند أي من أنبياء ما قبل المنفى. من المؤكّد أن حزقيال عرف هؤلاء الانبياء. ولكنه تبع خطاً خاصاً به، يمكننا، بالاستناد إلى 1 مل 20، أن نردّه إلى الأوساط النبوية في مملكة الشمال".
يهتم النبي خصوصاً بمعرفة يهوه أكثر من اهتمامه بقيام إسرائيل مُجدّداً. فهل كان التقليد الذي ورثه النبي يهتم بمعرفة يهوه؟ يتحدث هوشع، في 4: 1، عن فقدان الحب والإخلاص بسبب عدم معرفة يهوه في البلاد. فقد رفض الإنسان الاستجابة للعهد مع الله وقطع علاقته به. في آ 6 ينبذ الله الشعب الذي تنكّر له. وعند أشعيا (3: 1) يبدو الشعب ناكراً الجميل تجاه عطف يهوه عليه، ويثور ضد إله لا يعرفه. إن هذا الإنكار للجميل ينكشف في ترك قدّوس إسرائيل واحتقاره. وفي إر 8: 7، يتمّ التعبير عن العودة إلى معرفة حقّ يهوه على شعبه، بارتداد هذا الشعب. يتحدّث تث 32: 16 ي عن بني إسرائيل الذين يبتعدون عن الله، بتقديم القرابين للشياطين والآلهة التي تنال تقديرهم. إن المعرفة تفترض علاقة متبادلة مبنيّة على اختبار حميم بين الطرفين.
في كل هذه الحالة، يبدو الشعب عاجزاً عن معرفة الله، لأنه يتبع ميوله. في هو 8: 2 يظنّ البعض أنهم يعرفون الله، ولكنهم يبقون واهمين، والأعمال السيّئة تكشف جهلهم في الواقع. بحسب حز 6: 7؛ 7: 4، 9، سينال الشعب عقابه، ويضطرّ بالتالي إلى الاعتراف بيهوه كإله له.
ومع ذلك، فإن المعرفة التي يرجوها أشعيا في الزمن المسيحاني (أش 1: 9)، يمكن أن تتحقّق- رغم قلب الشعب الشرير الأغلف (رج إر 7: 24؛ لا 26: 41). ويشير سفر التثنية أيضاً إلى الصلة بين عطية القلب والمعرفة: يطلب التجديد الداخلي من أجل معرفة الله. وبالتالي فإن الشعب سيعود إلى ممارسة شرائع يهوه ووصاياه التي تُبنى عليها علاقة العهد: "سأكون لهم إلهاً، ويكونون لي شعباً). ومن هذه العلاقة الراسخة تشّع معرفة حميمة ومباشرة: إن حزقيال يصنّف في خانة هذا اللاهوت. فروح الله، بالنسبة لحزقيال، يرمِّم الشعب من الداخل (ف 36- 37). وخلاص الشعب يتمّ عندما يعود بيت إسرائيل إلى أرضه، ويعرف يهوه إلهه. وبتعبير آخر، عندما يستعيد بيت إسرائيل جذور إيمانه التي هي عطيّة صافية من الرب بواسطة كلمته وروحه المجدّد.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM