الفصل الخامس: العهد، الروح والمعرفة

الفصل الخامس
العهد، الروح والمعرفة
إن الزمن المسيحاني، والروح الجديد، والأرض الجديدة، ورجوع مجد يهوه إلى الهيكل، هذه جميعها يمكن إعادة قراءَتها من ثلاث زوايا أخرى: العهد المعبرَّ عنه بتعبير خاص: "ستكونون شعبي وأكون إلهكم"؛ الروح الذي يعمل يهوه بواسطته يجدّد شعبه ويعطيه أرضاً جديدة؛ ومعرفة يهوه التي يُعبرَّ عنها، هي أيضاً بأسلوب خاص بحزقيال: "ويعلمون أني أنا الربّ".

أ- "تكونون شعبي، وأكون أنا إلهكم"

في 11: 14- 21 يردّ النبي على ادّعاءات اليهود الذين لم يذهبوا إلى المنفى فقالوا للآخرين: "إبتعدوا عن الربّ، لنا أُعطيت هذه الأرض ميراثاً" (آ 15). وعندما يتنبأ حزقيال لصالح المنفيين فهو يهدم أوهامهم. إن تشتّت الشعب بين الوثنيّين أمر أراده يهوه. وبالمقابل، فإن الله الذي يمسك بمجرى الأحداث، سيجمعهم من جديد ويعطيهم أرض إسرائيل. ففي المنفى، يوحِّد الله قلوبهم ويخلق فيهم روحاً جديداً يدفعهم لممارسة شرائع الله وعاداته. إن عطيّة يهوه تجعل إسرائيل أهلاً ليصبح شعب الله وليعيش العهد (آ 19- 20). ومن جهة أخرى، فإن التقليد الذي يستقي منه حزقيال مفهومه عن العهد "لا يفترض بالضرورة المساواة بين المتعاقدين، ولا شرعيّة الحقوق والواجبات. إن القويّ يمكنه أن يضمن حماية الضعيف مقابل بعض الشروط، ومنها محافظة الضعيف على وفائه للقويّ. وهذه هي حال المعاهدات المسمَّاة "معاهدات التبعيَّة"، التي يمكن أن تُشبَّه بها المعاهدة المعقودة بين يهوه وإسرائيل" وهكذا نجد في يش 9؛ 24؛ 1 صم 11: 1؛ حز 24 إلخ...
إن طرح حزقيال بهذا الخصوص في 11: 20 نجده في خر 6: 7، حيث يتعلّق الأمر بتحرير الشعب من نير المصريّين. لقد تذكّر الله عهده، وسيخلّص شعبه ويُدخله إلى أرض جديدة وعد بها إبراهيم واسحق ويعقوب من قبل، وبالتالي يكون بنو إسرائيل شعب الله، وهو إلههم. ينتقل الشعب إذن من وضع إلى آخر ويستعدّ لتجربة جديدة. فهل يكون إسرائيل وفياً ليهوه إلهه؟ في 11: 14- 21، يتعهد الربّ بضمان إخلاص الشعب، إذ يعطي روحه، ويسمح لإسرائيل بأن يرى في يهوه إلهه الأوحد.
إن عبارة: "يكونون لي شعباً وأنا أكون لهم إلهاً" نصادفها أيضاً في 14: 1- 11 حيث يرفع الله اتهامه ضد شيوخ إسرائيل (آ 3). فهم يحتفظون بأرجاسهم في قلوبهم ويأتون ليستشيروا النبي. يستفيد الله من هذه الثغرة ليردّ الإخلاص إلى قلب بيت إسرائيل. ان الأسلوب التشريعيّ في آ 7- 9 يشمل المقيمين الغرباء في أورشليم. والمستهدَفون بدرجة أولى، هم عبدة الأصنام الذين يأتون لاستشارة النبي، ثم النبي ذاته إذا أُخذ بضلالهم. إن يهوه بذاته سيهتمّ بمعالجة أمر المذنب ويقصيه عن شعبه. وهكذا، لن يبتعد بنو إسرائيل عن يهوه فيما بعد: "سيكونون شعبه ويكون إلههم" (آ 11). إن شعب العهد متعلّق مباشرة بالله الكليّ القدرة. بعد سقوط أورشليم سنة 587، نشأ مشروع حياة جديدة. وكما رأينا في 17: 11 ي، يعبِّر يهوه عن حبّه المجاني لإسرائيل، بواسطة عهده له. إن الخلاص يتقدّم الارتداد وممارسة الشرائع. وبالمقابل، فإن الشعب، بحسب روحيّة لا 26: 3- 13، مدعوّ إلى العيش بحسب شرائع يهوه ليحظى بالازدهار الزراعي، والطمأنينة، والسلام، والحماية ضد السيف، ونموّ الشعب الديمغرافي. وبالتالي فإن الربّ يحفظ عهده ويقيم مسكنه في وسط شعبه. وتجدر الملاحظة هنا إلى أن فسخ العهد وعدم الإخلاص مسألة طرحها إسرائيل من جهته: "وإذا رفضتم فرائضي وكرهتم أنفسُكم أحكامي فما عملتم كل وصاياي بل نكثتم ميثاقي" (آ 15). ان النقص وفقدان الحبّ غير موجودين في الله. وحتى عندما يعاقب شعبه، فلن يبيده ولن يفسخ عهده معه أبداً: "متى كانوا في أرض أعدائهم، ما أبيتهم ولا كرهتهم حتى أبيدهم وأنكث ميثاقي معهم، لأني أنا الربّ إلههم" (آ 44؛ رج آ 11- 12).
في عد 15: 37- 41، يستعين بنو إسرائيل بوسائل خارجيّة لتذكر كل وصايا يهوه (آ 38). وهذا الأمر عائد لسرعة عطب إخلاصهم للعهد. ولكن نجاسة القلب تدفع إسرائيل إلى فسخ عهده مع إلهه. إن ممارسته للشريعة وسلوكه، أمور تشهد لتكريسه ليهوه (آ 40؛ رج 36: 38؛ 44: 19؛ 45: 4 إلخ...).
في سفر التثنية، ترد عبارة العهد أربع مرات، متشابكة مع موضوع التكريس (تث 7: 6؛ 14: 2، 21؛ 26: 26): "لأنك أنت شعب مقدَّس للرب إلهك". وفي تث 7: 1- 6، يجب أن يتجنّب الشعب أية معاهدة، ليحافظ على علاقته مع يهوه إلهه، ويبتعد عن عبادة الآلهة الأخرى (آ 4). فالله اختار هذا الشعب من بين الأمم ليكون شعبه. يضاف إلى هذا الاختيار وهذا التكريس، تعبير عن النبوَّة: "أنتم أولاد للرب إلهكم" (تث 14: 1، 2). أما في تث 27: 9، فإنّ صيرورة الشعب مقدساً تتطلب أرضاً مميَّزة ومنفصلة ليعيش عليها الشعب بحسب الشريعة، وليشهد لانتمائه إلى يهوه.
إنّ حزقيال الذي تحدّث بالطريقة ذاتها، يوسِّع تأملاته اللاهوتيّة. إنّ تدخل روح الله سيعيد الأرض للشعب، وسيحوِّل القلب المتحجّر إلى قلب من لحم. فبعد الآن، سيصبح بنو إسرائيل قادرين على العيش إلى الأبد، في ميثاق سلام مع يهوه، وهم أوفياء وفاء خاصاً خاصة لشرائعه (16: 60؛ 37: 26؛ 34: 25). إنّ استمرارية قصة العهد مؤكّدة عند حزقيال. فهي متجذّرة في الماضي، وهي أيضاً موضع اختبار عميق بين الطرفين (16: 22؛ 6). أما بالنسبة إلى الله، فلم يعد الماضي مجرّد ذكرى، لأنّ يهوه يملك إمكانيّة تأوين هذا الماضي وجعله مولِّداً للمستقبل. وبعد إدخال الروح يتذكر إسرائيل خطاياه، ويرتدّ ليساهم في تأوين القول الثاني: "ستكونون شعبي، وأكون إلهكم".
إنّ الروح هو الوسيلة الفاعلة التي يروي فيها حزقيال باستمرار، الدور الأكبر لتجديد الشعب وجعله قادراً على عيش العهد الذي يطالب يهوه به دائماً. فأيّ روح هو المقصود في كلام النبيّ؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM