الفصل العشرون: رسالتا بطرس الأولى والثانية

الفصل العشرون
رسالتا بطرس الأولى والثانية

إذا كانت الرسالة إلى العبرانيّين مد دعتنا إلى اندفاع جديد في سبيل الإنجيل، فرسالة بطرس الأولى تحدّثنا عن معنى وجودنا المسيحي في العالم، ورسالة بطرس الثانية تجعل تعليم المعلّم حاضراً في حياة المؤمنين بعد أن غاب الفوج الأوّل من الشهود.

أ- رسالة بطرس الأولى
1- من كتبها وإلى من كتبت
لا تعطينا 1 بط تفاصيل عديدة عن كاتب الرسالة وعن الكنائس التي توجّهت إليهم.
كتبها بطرس من رومة: فبابل (3:5) تدلّ بشكل رمزي على عاصمة الأمبراطورية الرومانية (رؤ 18: 2): "سقطت بابل العظيمة".
إلى من وجّه رسالته؟ إلى مؤمنين "مشتتين" في العالم (1: 1). إنهم يقيمون في خمس مقاطعات رومانية واقعة في آسية الصغرى (تركيا الحالية). معظم هؤلاء المسيحيّين هم من أصل وثني: فالكتاب يحضّهم على التخلّي عن حياتهم السابقة: "كفاكم ما قضيتم من الوقت في مجاراة الأمم، سالكين سبيل الدعارة والشهوة والسكر والخلاعة والعربدة وعبادة الأوثان الكريهة" (3:4).
كان هؤلاء المسيحيون من أصل وضيع: فالرسالة تشدّد على عظمة الضعفاء، وتتحدَّث مطولاً عن تصرف هؤلاء العبيد الذين صاروا مسيحيين: "إخضعوا لأسيادكم بكل رهبة، سواء كانوا صالحين لطفاء أو قساة" (18:2).
من أسَّس هذه الجماعات؟ معاونون لبولس لا نعرف اسمهم. إنطلقوا من المراكز الرئيسيّة التي بشرّها الرسول، فانتشروا في المدن الصغيرة. أما هكذا فعل إبفراس حين حمل الإنجيل إلى كولسي (كو 1: 7)؟

2- مضمون الرسالة
لا تقدّم 1 بط مقالاً كاملاً في اللاهوت. كما أنها لا تصبو إلى عرض أسس الإيمان الأولى. فهذا العرض قد تم، وهناك أناس حملوا البشارة، يؤيدهم الروح القدس (1: 12). ثم إن هؤلاء المؤمنين يبدون ملّمين بالأسفار المقدسة: المزامير، سفر الأمثال، اشعيا (عبد الله). فلماذا كتب إليهم بطرس؟
هذه الجماعات تتألم الآن في سبيل إيمانها. قال لهم الرسول في 4: 12: "لا تتعجبّوا ممّا يصيبكم من محنة تصهركم بنارها (كالمعدن) لامتحانكم، كأنه شيء غريب يحدث لكم". وفي 9:5: "أثبتوا في إيمانكم وقاوموا ابليس، عالمين أن إخوتكم المؤمنين في العالم كلّه يعانون الآلام ذاتها". فوجود مجموعات مسيحية صغيرة لا يميّزها الوثنيون من الشيع اليهودية، بدأ يقلق السلطات المدنية. لا شك في أنّنا لسنا بعد في مرحلة الاضطهادات الرسمية مع الإجراءات الإدارية والقضائية. ولكن المسيحيين هم ضحيّة أعمال سوء تتخفّى وتظهر: الهزء، الوشاية، الافتراء، التعيير (2: 12). وهذا يُسبّبه اليهود والوثنيون على السواء.
بطرس هو "رسول يسوع المسيح" (1: 1) "والشاهد لآلام المسيح" (5: 1) الذي أنكر معلّمه. أحسّ أنه مسؤول عن هذه الجماعات، فأراد قبل استشهاده أن يساعد هذه الكنائس الفتية أن تبقى ثابتة وقوية وراسخة (5: 10) ساعة بدأت تدخل في آلام تشبه آلام المسيح.
ذكّرهم بطرس بجوهر العقيدة، ثم وجّه نظرهم إلى المسيح، وهكذا يعون قدرة الحياة التي فيه. قال لهم: تيّقظوا واسهروا. أثبتوا وقاوموا. وهكذا شجّع راعي الكنيسة أولئك الذين بدأوا يتراخون بسبب الظروف التي تحيط بهم.
قدّم بطرس تشجيعاته وأدخل فيها عناصر تعليم تبرّرها أو تسندها. وذكّر المسيحيين بما يعيشون في الليتورجيا: فالتلميحات عديدة إلى سر العماد الذي يحتفلون به ليلة الفصح. نقرأ في 1: 3- 3: "تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح لأنه شملنا بفائق رحمته، فولدنا بقيامة يسوع من بين الأموات ولادة ثانية لرجاء حي (لا الموقف الداخلي، بل موضوع الرجاء) ولميراث لا يفسد (الميراث هو هنا الملكوت الذي وعد الله به المؤمنين) محفوظ لكم في السماوات".
نستطيع أن نرى في 1 بط اربعة تحريضات عامة تتبعها تحريضات خاصة تتوجّه إلى رؤساء الجماعة فتدعوهم لكي يرعوا رعية الله (5: 1- 4)، وإلى الشبان ليخضعوا للشيوخ (5: 5- 7) وإلى الجميع ليتيقظوا ويسهروا (5: 8- 11).
التحريض الأول يتوجّه إلى مسيحيّين جاؤوا من العالم الوثني. يدعوهم ليتخلّوا عن طريقة حياتهم في الماضي (13:1- 2: 10). التحريض الثاني يذكّر المسيحيين بواجباتهم ولا سيما على مستوى المحبة الأخوية (2: 11؛ 3: 12). التحريض الثالث يدعو المؤمنين ليثقوا بقدرة الله تجاه مقاومة العالم (3: 13- 4: 11). التحريض الرابع يحدّده الاضطهاد الذي صار قريباً (4: 12- 19).

3- الثقة بالله (3: 13- 22)
في من نضع رجاءنا حين تتكاثر الصعوبات؟ حين تأتي الاضطهادات؟
أولاً: يعرف الكاتب أن عدداً من قرّائه قد تألموا. كما يحسّ أن محناً أخرى قاسية تنتظرهم. فيهيّئهم ليواجهوا هذه الساعة الرهيبة بما أعطي من حكمة: إذا كان سلوكهم بلا عيب، فقد يعفو عنهم القضاة.
في آ 14، يذكر الرسول بتحفظ تطويبة مت 5: 10 (طوبى للمضطهدين من أجل البر)، ووضعاً مشابهاً في العهد القديم. إن أشعيا (8: 12- 13 لا تخافوا، لا تفزعوا) قد شجّع شعب أورشليم في الماضي ودعاه ليجعل ثقته في الرب وأن لا يحاف الملك الأشوري المهدّد. إن الإيمان هو حقاً أساس الرجاء في الحقبة الحالية الصعبة.
ويبدأ إعلان هذه البشارة بشهادة حياة مستقيمة: "حسن سيرتكم في المسيح". لسنا فقط أمام موقف يحترمه الذين في الخارج، بل أمام حياة المسيحي التي تتجذّر في علاقتنا بالمسيح. من يحمل مثل هذا الرجاء، لا يترك الأحداث تقوده وتفعل فيه دون أن يفعل شيئاً. مثل هذا الرجاء هو ينبوع تصرّف جديد في الحياة اليومية، يدل على الثبات والفرح في قلب المحن.
ونقرأ في آ 17 قولاً مأثوراً عرفه العالم الإخلاقي في ذاك الزمان: خير لكم أن تتألموا وأنتم تعملون الخير، من أن تتأتوا وأنتم تعملون الشّر. ويتخّذ هذا القول معناه العميق إذا ربطناه بنص 2: 20- 21: "إن عملتم الخير وصبرتم على العذاب، نلتم النعمة عند الله (أو: رضي الله عنكم. أو: كان سلوككم حسب نعمة الله). ولمثل هذا دعاكم الله، فالمسيح تألّم من أجلكم وجعل لكم من نفسه قدوة لتسيروا على خطاه".
ثانياً: على أي دعائم نركّز مثل هذه الثقة وسط الاضطهاد؟ هنا يكشف بطرس التضامن الذي يوحّد المؤمن بالمسيِح: فالإيمان يشركه في سرّ موت الرب وقيامته. وتستعيد آ 18 و 22 نشيداً قديماً جداً وموازياً لما في 1 تم 16:3: "فالمسيح نفسه مات مرة واحدة من أجل الخطايا، مات وهو البار من أجل الأشرار ليقرّبنا إلى الله. مات في الجسد، ولكن الله أحياه في الروح... وصعد إلى السماء وهو الآن عن يمين الله تخضع له الملائكة والقوات وأصحاب السلطان".
وتستند آ 19- 21 إلى تقاليد قديمة، فتشدّد على الجديد الذي حملته قيامة يسوع إلى العالم. ما معنى "بشرّ الأرواح السجينة؟" نزل يسوع "إلى عالم الموتى" (أع 2: 31، روم 10: 7؛ أف 4: 8- 10) وبشّر الموتى هناك كما بشّر الأحياء على الأرض، وهكذا دلّ على أن الخلاص توجّه إلى جميع البشر، الذين جاؤوا قبل المسيح والذين جاؤوا بعده. من هي هذه الأرواح؟ إمّا معاصرو نوح الذين جعلهم التقليد اليهودي شرّ الخطأة، وإما الملائكة الذين سقطوا فاعتبروا سبب خطيئة البشر، كما يقول كتاب أخنوخ.
وهكذا يجمع الكاتب آلام المسيحيّين مع موت يسوع: البار تألمّ من أجل الخطأة على مثال عبد الله في أش 53: 12. إن لهذا الموت قيمة فريدة (عب 26:9- 28)، ولهذا فهو يخلّص البشر، وينقلهم من حالة الخطيئة إلى القداسة والنور (2: 9- 10): "دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب".
إن موت يسوع في الجسد، في البدن، في الضعف البشري، وقيامة المسيح في روح الله يتيحان له أن يقرّب البشر جميعاً من الله.
عمل المسيح وذبيحته وانتصاره، هذا هو الأساس المتين الذي فيه تتجذّر الجماعة المسيحية ولا تزال تتعمّق في تجذّرها.

4- مسؤولية المعمّدين
يستطيع المؤمن أن يواجه العالم والاضطهادات بثقة واتكال على الله: إنه يشارك انتصار ربّه بالإيمان، بعماد الماء الذي يخلّص. هناك نتذكّر إعلانات الإيمان في 2: 22- 24: "ما ارتكب خطيئة ولا عرف فمه المكر. ما ردّ على الشيمة بمثلها. تألمّ وما هدّد أحداً، بل أسلم أمره للديّان العادل، وهو الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة حتى نموت عن الخطيئة فنحيا للحق، وهو الذي بجراحه شفيتم" (رج 3: 22، 4: 5: الله سيدين الأحياء والأموات).
إن هذه الرسالة تسند المسيحيّين الذين يمرّون في المحنة، فتذكّرهم بالتزامات عمادهم: كيف سيوجّهون حياتهم؟
وإن مدعوّي الله هؤلاء يشكّلون الشعب الجديد، المنتشر في العالم والحامل رسالة. يبرز بطرس بشدة مسؤولية شعب الله في العالم في الحياة الاجتماعية والسياسية والعائلية. سيتكلّم المفكّرون المسيحيون فيما بعد عن "كهنوت المؤمنين". هنا يحسن بنا أن نقرأ 2: 4- 10: لقد اختار الله شعباً يعلن في كل مكان أعماله ومعجزاته. وهكذا تصبح الحياة المسيحية كلّها ذبيحة روحية لله وعلامة للعالم.
تلك هي الأسئلة التي طرحها المؤمنون الأوّلون تجاه حياتهم اليومية: كيف يكونون مسيحيّين حتى عندما يكون الوضع صعباً؟ قدّم بطرس عناصر جواب استقاها ممّا ينشد هؤلاء المرتدون في احتفالاتهم، وممّا يعرفونه من التقليد الإنجيلي.

ب- رسالة بطرس الثانية
نحن في بداية القرن الثاني، وفي الاسكندرية (مصر). توخّى تلميذ من تلاميذ بطرس أن يذكّر المؤمنين بأهمية الحفاظ على الإيمان الذي تسلّمناه. وإذ أراد أن يعطي وزناً لتعليمه، استعمل فناً أدبياً هو "خطبة الوداع" أو "وصية" يكتبها الشخص قبل أن يموت. هذا ما أعطاه مناسبة لكي يؤون كلمات سمعها من بطرس، ويقرأها على ضوء الوضع الجديد.

1- معلّمون كذّابون
هذه الرسالة تحذّر الكنيسة وتحذّر كل مؤمن من تأثير الهراطقة: هم ينابيع جافّة. يرفضون تعليم الرب كما تعلنه الكنيسة. يظنون أنهم مُنحوا معرفة سامية. لهذا تراهم يعظون حياة متحرّرة حتى الفلتان فتصل بهم إلى الفجور. ويتوجّهون بدعاوتهم إلى المرتدين الجدد، فينجحون.
ينبّه الكاتب المؤمنين ويدعوهم لكي يبقوا متعلّقين بالتعليم الحقيقي. فمن انجرّ وراءهم صار شبيهاً بالخنزيرة التي ما أن اغتسلت حتى عادت إلى التمرّغ في الوحل (2: 22). "فالذين نجوا من مفاسد العالم، بعدما عرفوا ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، ثم عادوا إلى الوقوع في حبائلها وانقلبوا، صاروا أسوأ حالاً في النهاية منهم في البداءة" (2: 20).

2- مواضيع متفرّقة
أولاً: الكتاب المقدّس هو أساس ايمان متين، وهو يتّخذ قيمته من الإلهام. "إعلموا قبل كل شيء أن لا أحد يقدر أن يفسّر من عنده أية نبوءة في الكتب المقدسة، لأن ما من نبوءة على الإطلاق جاءت بإرادة إنسان، ولكن الروح القدس دفع بعض الناس إلى أن يتكلّموا بكلام من عند الله" (1: 20- 21). إذن، الأسفار المقدسة ملهمة، ويجب أن نفسرّها حسب التقليد الرسولي.
ثانياً: لا حاجة إلى البحث عن زمن عودة الرب. فاللّه يقدّم لكل واحد بصبر وحب، وقتاً ليتوب إليه ويعدّ أرضاً جديدة يملك عليها البرّ. "يوم الرب سيجيء مثلما يجيء السارق... يجب أن تسلكوا طريق القداسة والتقوى... إحسبوا صبر ربّنا فرصة لخلاصكم" (3: 10، 11، 15).
ثالثاً: نجد في 2 بط كيف أن أسفار العهد الجديد بدأت تتجمع بانتظار أن تسمّى قانونية على غرار أسفار العهد القديم. يتحدّث "بطرس" عن رسائل بولس ويقابلها بسائر الكتب المقدسة. الجهّال يحرّفونها وينسون أنها كنز تحافظ عليه الكنيسة (15:3- 16).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM