التدريب على قراءة الكتب المقدسة

التدريب على قراءة الكتب المقدسة

أمام وضع يعرف تزايد عمل الشيع في اميركا والعالم، أظنّ كما يظن غيري عديدون من المتجهّزين للعمل الرعائي في اميركا اللاتينية (بل في العالم كله)، أن تشكّي قداسة البابا، لا يمكن أن يكون صرخة في وادٍ. فنحن نلاحظ اهتماماً لقراءة البيبليا يتزايد يوماً بعد يوم لدى المؤمنين. وفي الوقت عينه، صار الاتجاه الاصولي تهديداً حقيقياً على مستوى الانجلة والتبشير.
أما نحن الذين نهتمّ بتنشئة الكهنة، فنحسّ بنفوسنا في عمل يوجّهنا نحو مستقبل أفضل للكنيسة. ففي القارة الاميركية (وفي غير أماكن) يرتبط توجّه الحياة المسيحية وبشكل حصري تقريباً، بالاكليروس. فإذا أردنا أن تنمو الجماعات المسيحيّة وأن يكون لها تأثيرها الايجابي على عالمنا، يجب أن نؤمّن تنشئة أفضل للكهنة.
لا شك في أن التربيّة البيبليّة اعتُبرت شيئاً بديهياً لدى الراهبات والرهبان، فنظّموا مشاريع طموحة ليتيحوا للافراد والجماعات أن يجعلوا الكلمة في قلب حياتهم وفي أساس رسالتهم في الكنيسة (مشروع "كلمتك حياة"، لجنة الرهبان في البرازيل). ولكن رغم عدد من الشواذات العديدة والمعزّية، يبقى الفراغ كبيراً على مستوى تربية العوام البيبليّة. إنهم معمّدون، فيحقّ لهم بالتالي أن يمارسوا دعوتهم النبويّة الخاصة (العلمانيون المؤمنون بالمسيح 38).
ولقد اختبرنا أن تربية الاكليريكيين الذين يستعدون للكهنوت، على رؤية جديدة للبيبليا خلال تثقيفهم اللاهوتي، يدفعهم إلى روحانيّة متينة ويهيّئهم لرسالة أكثر فاعليّة: والسبب هو أنهم احترموا العوام الملتزمين وساعدوهم على حمل مسؤوليتهم. وبفضل وثيقة اللجنة الحبرية البيبلية، جاء ما يؤكّد على هذه المسيرة التي اتُبعت من ست سنوات في عدد من الاكليريكيات في كولومبيا وسائر بلدان اميركا اللاتينية حول بعض النقاط الحاسمة. وها نحن نصوّر هذه المبادرة.

1- الممارسة
أ- نقطة الانطلاق: مركزيّة كلمة الله
عملنا في خطوة أولى لكي تكون الكتب المقدسة في قلب كل تنشئة لاهوتيّة لدى الاكليريكيين، سواء على مستوى العيش الشخصي للايمان أو على مستوى الدراسات والممارسات الرعائيّة. فلا تنحصر دراسة الكتاب في نشاط عقلي بسيط في قاعات الدراسة، ولا في نقل معارف وحسب. وهذا كما قال فاتيكان الثاني: يجب ان تكون الكتب المقدسة روح كل تنشئة ونشاط لاهوتي (الوحي 24). يجب أن تكون الينبوع الأول للروحانيّة وللديناميّة الرسوليّة.
لسنا هنا أمام جديد ونادر، ولكن الخبرة تبيّن في محيطنا أنه ليس من السهل أن نجعل هذا المبدأ قيد الممارسة. فبالنسبة إلى عدد من أساقفتنا وكهنتنا، الكتاب المقدس مادة بين سائر المواد في برنامج الدروس. وأكثر من ذلك، فقيمته أقل من قيمة الحقّ القانونيّ مثلاً التي هي المادة المفضّلة للتخصّص في عدد من الابرشيات. وينطلق آخرون من الكهنة الشباب في عالم "الروحانية"، ولكن مع اتجاهات عاطفية لا تصل إلى عمق الحياة المسيحيّة بل تظلّ على سطحها.
لكننا نستطيع أن نستشفّ مستقبلاً أفضل، كما تقول وثيقة اللجنة البيبليّة، التي تذكّر الاساقفة والرؤساء العامين في الرهبنات بواجبهم الأساسي بتهيئة عدد كافٍ من الأشخاص قد تلقّوا تربية بيبليّة فيتكرّسوا للبحث في مختلف مجالات العلم التأويلي وفي نشاطات العمل البيبليّ. فإذا لم يعيروا هذه المسؤولية اهتمامهم، "نتج للكنيسة أضرار فادحة"
ب- النهج في العمل
تستطيع الكنيسة أن تتجدّد بفضل أشخاص نضجوا في إيمانهم بواسطة إتصال عاديّ مع كلمة الله. إتصال هو قراءة ونجوى وصلاة وتأمل ومشاهدة، بحيث تدخل كلمة الله في حياتنا.
وقد ولدت ضرورة العودة إلى قراءة كلام الله كمتطلّبة داخلية في حياة الاكليروس والأشخاص المكرّسين في الكنيسة.
لهذا أخذنا كأداة منهجية: الاتصال الشخصيّ والمباشر مع كلمة الله في البيبليا. لا في وقت الصلاة والمناجاة وحسب، بل خلال الدراسة والنشاطات الروحيّة أيضاً. فقبل أن نستشهد بالبيبليا وقبل أن نتحدّث عنها، نعمل لكي يتذوّق الدارسون النصّ البيبلي في حدّ ذاته. وحين فعلنا ذلك أدركنا الطابع "الاسراريّ" للكلمة (هي سرّ يقدّس مثل الأسرار السبعة). فالاتصال المباشر مع الكلمة يترك أثاره في حياة المؤمنين.
ج- المقاييس
في مسيرة التنشئة هذه نتبع المقاييس التالية:
- قلبُ كلمة الله هو شخص يسوع. هنا نجد جدّة الكلمة وديناميتها. مع هذه الانطلاقة نجدّد النظرة الإيمانيّة تجديداً تاماً.
- على الأستاذ أن يجعل من البيبليا قلب المادة التي يعلّم. فلا يكتفي بأن ينقل معلومات نظريّة. فعليه أن ينقل خبرة إيمان منطلقاً من الشهادة التي نجدها في الكتاب المقدس.
- وعلى أستاذ التفسير الكتابي (كما تقول وثيقة اللجنة الحبرية البيبلية) أن يتذكّر أن مهمته لا تنحصر في تنشئة الطلاب على أساليب التأويل: فعليه أيضاً أن ينقل إليهم احتراماً عميقاً للكتاب المقدس، ويساعدهم على التمرّس على "مختلف النظرات التفسيرية التي تساعدهم على اكتشاف آنية التعليم البيبلي. هذا ما يتيح لهم بأن يتجاوبوا وحاجات القرّاء المعاصرين للكتب المقدّسة". لا تنحصر دراسة الكتاب المقدس في تفسير روحي ينقصه الاساس التاريخي والنقدي، ولا في تفسير تاريخي ونقديّ ينقصه مضمون تعليميّ وروحيّ.
- على الأستاذ (أو المنشّط البيبلي) أن يقدّم غناه الخاص، ولكن دون أن يكون عائقاً بتعليمه، فيلغي حق "الطالب" أن يدرس النصّ بشكل شخصّي لينفتح عليه انفتاحاً مباشراً.
- لا يستطيع كاتب أو مفسّر أن يعتبر نفسه أهمّ من النصّ.
- على مستوى الممارسة، تحدّد قراءة الكتاب التفكير اللاهوتي "والرعائي". هذا يعني أن البيبليا ليست في خدمة العقيدة أو الفقاهة، بل العكس هو الصحيح. وفي الخط عينه يجب على مختلف التيّارات الروحيّة الموجودة في الكنيسة أن لا تضع حدوداً للاتصال بالكتاب المقدس. فعلى كل روحانيّة أن يكون لها أساس بيبلي متين. فكلمة الله التي تنكشف لنا بشكل أولّي في الكتاب المقدس، هي في النهاية مقياس حكمنا على الأمور.
- تتمّ قراءة البيبليا بشكل جماعيّ. ففي الحوار بين الاخوة والاخوات نجد مساحات تفسير حقيقي يفتح النصّ على كبرى آفاق التاريخ والواقع التي هي دوما جديدة.
- دراسة البيبليا ترتبط بمواد متعددة، فتواجه علم الاثار والعلوم الإنسانية بشكل عام، والاطار الحياتيّ. هذا يعني أنها تكون في حوار مع واقع البلاد والكنيسة، واقع الكاهن والعلماني، الرجل والمرأة، واقع الحضارات المحليّة والجماهير الفقيرة والفئات المعلمنة، وتبّاع سائر الديانات والطوائف. وهكذا نفهم ضرورة الانتباه إلى مواضيع حاضرة في حياة الناس اليوم مثل العالم الجليانيّ والنظر إلى نهاية العالم.
- ويتهيّأ المرشّح للكهنوت لمعرفة البيبليا في لغاتها الأصلية. هذا ما يحصل عليه خلال الدراسة أو خلال تخصّص لاحق المعاهد البيبليّة. والدارسون الذين لا يستطيعون (أو: لا يريدون) أن يدرسوا اللغات البيبليّة يتعلّمون أقلّه بنية اللغة السامية (هذا بالنسبة الى الغرب) التي بدونها لا نفهم عدداً من التصوّرات البيبلية.

2- حكم على الممارسة
إن مسيرة التكوين اللاهوتي مع نهج العودة إلى الكتاب المقدس، كما صوّرناها، تتيح لنا أن نقدّم النتائج التالية:
- تنوّع أمكنة الدراسة: لا تتمّ فقط في قاعات المدرسة أو في المكتبة، بل في مراكز الرسالة أيضاً، والكنيسة، واللقاءات، والنشاطات التي هي جزء من حياة الاكليريكيّ.
- أولوية النصّ البيبلي على كتب اللاهوت دون أن نلغي ملفّ العقيدة. هكذا تصبح العقيدة أكثر عمقاً وإتساعاً تجاه الواقع. ولقد اعتاد الدارسون على مواجهة التأكيدات التي تسلّموها مع نتائج تكوينهم البيبلي، لا في دراسة الكتاب المقدس بل وفي مواد أخرى.
- أولوية النصّ البيبليّ على الدراسات في الروحانيّة أو على مستوى العمل الرعائي. فالروحانيّة تمتلك أساساً بيبلياً إن صارت منفوحة بالروح وملتزمة. لم نعد أمام روحانيّة من نمط "حميم" جداً (حبيبي يسوع، أنا ويسوع وحدنا). فخلال أوقات التأمل الفرديّ أو الجماعي، حلّت البيبليا محلّ عدد من الكتب الروحيّة. هكذا صارت كلمة الله متطلّبة شخصيّة وعاملاً أساسياً في تكوين الشخصية. والبيبليا هي أيضاً أداة عمل في مراكز الرسالة.
- تشديد على إمكانية التلاميذ في فهم الرموز والعلامات الخاصة بالعالم البيبليّ. وصارت الانتروبولوجيا البيبلية قريبة منهم جداً. كل هذا ترك تأثيره في الليتورجيا التي تحتفل بها الجماعة.
- تشديد على الحسّ النقديّ. حين نقترب من النصّ البيبلي، ننظر إلى بعض الامور نظرة نسبية (ليس هناك من مطلق على مستوى الانسان) ونتجنب الأصوليّة. وهكذا نصل إلى اتزان بين البعد الروحي والحسّ الجماعي والالتزام الرسوليّ. وكل هذا في مناخ من التمييز يساعد في النهاية على البحث عن إرادة الله. وهكذا يستطيع الاكليريكي أن يكتشف أن هدفه ليس الدعوة الكهنوتية، بل نداء الله، وهو نداء ندركه بصورة أوضح خلال مسيرة التنشئة. وتنقّى مناخ الاكليريكية من كل اتجاه أصوليّ. وعلى مستوى الخدمة تثبّتت الدعوة.
- تشديد على الشخصية عبر مسؤوليّة كبيرة تجاه الحياة انطلاقاً من أبسط الأمور. فالتكوين يرتكز بشكل خاص على قرار شخصّي حرّ، لا على قرار يؤخذ باسمنا، ولا على "خوف" من الرؤساء الحاضرين معنا. بهذا التكوين لا يعود الكاهن يمارس خدمته مثل "موظّف"، بل مثل شخص مشروعه هو جماعته. وهكذا نجد أولوية الشخص على ما يعمل، دون أن نفصم بين الوجهتين. وهذا ممكن بقدر ما لا تكون قراءة البيبليا قراءة إيديولوجيّة، بل قراءة نعود فيها إلى شخص يسوع.
- إمكانية الانفتاح التي تجنّبنا الاسلوب الدفاعي في طريقة فهم الايمان ونقله، مع امكانية كبيرة للحوار المسكوني، مع مشاركة العلمانيين تجاه النداء من أجل التبشير الجديد. نحن هنا أمام جديد على مستوى النهج وتعابير الانجلة الجديدة. وهذا الموقف يتعارض مع التكوين "التقليديّ" حيث يسيطر اللاهوت العقائدي مع توما الاكويني، وحيث نجد نواقص "اللاهوت الروحيّ".
- تهيئة وافية تتيح لنا أن نقدم عظات بيبلية (يوم الاحد) تكون ثمرة إصغاء إلى كلمة الله. وهذه التهيئة تفترض "هضماً" للتعليم البيبلي بواسطة القراءة الربيّة.
- إشعاع الدراسة البيبلية في المجال الاجتماعيّ والسياسيّ. فأولويّة الكتاب المقدس في كل مسيرة التكوين اللاهوتيّ، تدفع الاكليريكي إلى أن يحيا روحانيته البيبليّة في الرسالة كما في العلاقات العائليّة. ويتصوّر رسالته الرعائيّة مجهوداً ضرورياً من أجل خلق حضارة محليّة مسيحيّة تمتدّ إلى كل أبعاد الحياة من صلاة وعمل وحياة اجتماعيّة وعادات وتشريع وعلوم وفنون وتفكير فلسفي ولاهوتي.
- إقصاء المحرّمات والمخاوف التي هي ثمرة تفسير خاص للنصّ البيبلي. مثلا في بعضا الاكليريكيات كانوا يتجنّبون قراءة نشيد الاناشيد.
في الخاتمة، وفي ما يتعلق بتنشئة الكهنة (8: 3، 3، 3؛ 8: 3، 3، 4) نستطيع القول إن توصيات الجمعية العامة في بوغوتا قد بدأت تتحقّق عندنا، وقد اعطت نتائج باهرة. لم يعد الكتاب المقدس موضوع دراسة عقليّة: إنه أساس التنشئة في كل وجهاتها. ولكني لا استطيع أن أقول ذلك عن كل الاكليريكيات ولا عن أكثرها. في هذا المجال كما في نقاط أخرى من الرعاية البيبلية، لم تزل الطريق طويلة أمامنا.
وما يعد بأطيب الثمار، هو أن المرشحين للكهنوت الذين يتّصلون بكلمة الله، قد توصّلوا إلى لقاء يقرّبهم من الفقراء، من هذا الشعب الذي بدأ يقرأ حياته ويفسّرها انطلاقاً من البيبليا. فهذه الاساليب تدلّ على طريق رعائيّة، ونهج جديد في التبشير، وطريقة جديدة في العيش. وهذا ما يتطلّب اسلوب حياة انجيليّاً ونبويّاً. هي طريق المثاقفة التي اصبحت واقعاً نمارسه دون الحاجة إلى نظريات عديدة. إذن، هي ثمرة ناضجة لكلمة الله التي اودعت في يد شعب الله. وهكذا انفتح الاكليريكي على التزام أكثر بالواقع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وهو يقرأ هذا الواقع على ضوء كلمة الله.

3- نظريّة الممارسة
تنبع نظريّة الممارسة من تفكير في هذه الممارسة، في مسيرة تفاعل لا ينضب. ففي النظرية، تلتقي الممارسة مع أساس، مع جذور. ولكن هذه الجذور تجد في الممارسة موضع مواجهة كما تجد ينبوعاً. وقد تمّ هذا التفكير عبر مسيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار هذه المسيرة.
وإذ أردنا أن نصل إلى هذه النتيجة، تركنا ذواتنا تتوجّه بسؤال بسيط: لماذا تطبع التنشئة بطابعها كلمة الله؟ وتضمن الجواب نظرة محدّدة إلى الدعوة الكاهنيّة. فالنظرة الكاهنيّة الضيّقة يجب أن تستبعد. والنظرة الخدمية قد يكون لها ما يبزرها، ولكنها في حالات عديدة استعملت كلمة الله بشكل وظيفيّ وايديولوجيّ. أما النظرة الانجيلية فلا تتفتح فقط على الكلمة كما على ينبوعها وجذورها وقاعدتها، بل تبدو مستحيلة بدونها أيضاً.
في هذا المنظار يكون المرشح للكهنوت، شأنه شأن كل معمّد، شاهداً ونبياً. هو شاهد لمن؟ لشخص يسوع الذي هو في قلب وحي الكتاب المقدس. ونبيّ لمن؟ لعمل الله في العالم، لا سيما مع المستبعدين (كما يقول الكتاب). وهكذا تصبح الكتب المقدسة مفتاح هذا العمل الذي يلامس الواقع ويحوّله.
إذن لا نكتفي بأن ندرّب الأشخاص على قراءة الكتب المقدسة، بل أن ندرّبهم تدريباً صالحاً منطلقين من قراءة الكتب المقدسة. لا انطلاقاً من خيار ظرفيّ، بل بالنظر إلى دعوتنا العماديّة: يجب أن نكون شهوداً ومعمّدين، ولا نستطيع أن نكونه دون هذه العودة الاساسيّة إلى الكتب المقدسة.
ونستنتج: يجب أن تفهم كلمة الله لا كتعليم، بل كشخص، لا كقاعدة سلوك، بل كمفتاح من أجل قراءة الحياة. فتكوين الاشخاص الذين سيهتمّون بالتبشير لا يكون فقط عقلياً. بل يكون مستيكياً وروحياً. أما موضوع هذا التكوين وهذه القراءة فهو الفقير الذي أُرسل المسيح ليبشّره بالدرجة الأولى.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM