تعليل وتبرير

تعليل وتبرير

إن موضوع هذه المحاضرة هو التدريب والتنشئة. فالتنشئة هي أحد الأهداف الخاصّة بالرابطة. وهي تقوم بأن نحرّك ونسند درس الكتب المقدّسة وفهمها واستعمالها لدى الاكليروس والعوام (النظام 3). وهذا يتضمّن اقتناء المعارف حول أصل مختلف أسفار البيبليا وتوسيعاتها وتعليمها. ويتضمّن أيضاً تأويناً متواصلاً لهذه المعارف. تلك هي قبل كل شيء المهمّة التقليديّة للدراسات التأويليّة التي تتواصل بفضل التنشئة المستمرّة. غير أن هذا لا يكفي. فالتدريب البيبليّ يتضمّن أيضاً ضرورة خلق احترام عميق لدى المؤمنين والعوام للكتاب المقدّس كأداة مميّزة للاقتراب من شخص يسوع. فالبيبليا تمتلك موقعاً مركزياً في حياة الكنيسة وأعضائها، كما تمارس وظيفة في توجيه التاريخ. لهذا يبدو من الضروريّ أن نؤالف كل شعب الله مع أساليب وأدوات كفيلة بأن توصله إلى هذه الأهداف.
وهدف الرابطة هذا يفترض ترجمة ونشر النصّ البيبليّ بكل الوسائل الممكنة. غير أنه لم يحتلّ المكان الأول خلال الحقبة الأولى من انتشار هذه المؤسّسة. بعد الجمعيّة العامّة في مالطة (1978) كان اهتمام بالترجمة وانتاج النص البيبلي في جميع المحيطات. ولا بنغالور (من أعمال الهند) (سنة 1984) شدّدت الرابطة على التنشئة. وبعد بوغوتا (من أعمال كولومبيا) (سنة 1990) كان اهتمام خاصّ وملحّ بهذه التنشئة: تعود الوثيقة (النظام) بشكل واضح إلى تدريب الأشخاص لأن "الرعاية البيبليّة لا تتحقق بشكل فاعل بدون أشخاص معدّين أفضل إعداد" (8: 3، 3). ويُذكر العلمانيّون الذين "يحتلّون في هذا التكوين موضعاً مميّزاً". ويُذكر الاكليروس والرهبان والاكليريكيات ومراكز التنشئة. والسبب هو أن الرابطة وعت مهمّتها بأن تجعل حياة الكنيسة بكل مظاهرها تتغذّى من الكتاب المقدّس، وتتوجّه بفضله (الوحي الالهي 21). لهذا فهصت أن عليها أن تتغلّب على عدد كبير من الحواجز لتصل إلى هدفها. وهي لا تكتفي بالعواطف. بل تتطلّع إلى تكوين متين يحتاج إليه المنشّطون والعاملون والمنسّقون في الرعاية البيبليّة على جميع المستويات (النظام 8: 3، 3، 1).
في هذا الإطار تسلّمت الرابطة وثيقة اللجنة البيبليّة الحبرية "تفسير البيبليا في الكنيسة" (15 نيسان 1993) كمنشّط عظيم يحفزها على العمل. ويشير هذا النصّ في ف 4 إلى الاهتمامات عينها في ما يخصّ التنشئة، ويقدّم اتجاهات حول هذا الموضوع منطلقاً من المبدأ التالي: "فالكنيسة لا تعتبر البيبليا فقط كمجموعة من الوثائق التاريخيّة حول أصولها: بل تتقبّلها ككلمة الله التي تتوجّه إليها والى العالم كلّه، في الزمن الحاضر" (تفسير 4). وهكذا يبدو من الواضح ضرورة التكوين الملائم لجميع الذين يعملون في الكرمة البيبليّة. ولكن كيف نحقق ذلك؟
ونبدأ بالتعليل والتبرير قبل أن نتوقّف عند التدريب على قراءة الكتب المقدّسة، ثم على خدمة الكلمة.

1- كلمة الله
ان "كلمة الله" أي دستور الوحي الإلهي هو الدستور الأساسيّ للرابطة. فتوصياته ولا سيما ف 6 تدلّها على طريق رسالتها. ونقرأ في رقم 25: "تنشئة المؤمنين على استعمال سديد للأسفار المقدّسة... لكي يقتربوا من الكتب المقدّسة بشكل أمين ومفيد. ويتشرّبوا من روحها". ولكن عشرين سنة بعد اختتام فاتيكان الثاني، وجّه يوحنا بولس الثاني كلامه إلى الهيئة التنفيذية في الرابطة سنة 1986، فتشكّى من أن دستور الوحي الإلهي قد أهمل حتى الآن كل الاهمال.
وذكّرتنا الأمانة العامة في تقريرها أمام الجمعيّة العامة في بوغوتا (1990) أنها سمعت هذا التشكيّ من قبل العلمانيين ومرات عديدة خلال العشرين سنة السابقة، وذلك في كل القارات: أو أن الكهنة غير مهتمّين، أو أنهم غير مهيّأين لينشّئوا الناس على قراءة للبيبليا مفيدة ومسؤولة. هنا نطرح السؤال: لماذا وجّه قداسة البابا شكواه إلى الهيئة التنفيذيّة في الرابطة؟ لأنها خُلقت لتعمل على تحقيق توصيات دستور الوحي الإلهي (كلمة الله). لهذا يرجو البابا أن لا تهدأ ولا ترتاح فبل أن تصلح هذا "الإهمال الكبير".
التنشئة البيبليّة ضروريّة "لكي يمتلك جميع المؤمنين العلم السامي عن يسوع المسيح. لأن من جهل الكتب المقدّسة جهل المسيح" (الوحي 25). وبدون هذه التنشئة يستحيل أن يكون لنا حياة مسيحيّة حقّة.

2- طبيعة البيبليا
إن توصية "الوحي الالهي" (25) حول القراءة المتواترة للكتاب المقدس، هي واضحة. ولا بدّ منها في عصر مثل عصرنا حيث اكتشف الشعب المسيحي البيبليا كقاعدة إيمان، ودلّ على اهتمام متزايد لقراءتها وتغذية حياته منها.
إذن، هذا واقع لا يمكن انكاره وهو يمثّل تحدياً للكنيسة، وخصوصاً للرابطة. فالبيبليا التي كتبت "بيد البشر وفي لغة بشريّة" (الوحي 12)، أي في أوضاع تاريخيّة ملموسة تتنوّع مع الزمان والمكان، هي بطبيعتها كتاب يصعب تفسيره. أن نفهم "ما أراد الكتّاب أن يقولوه، وما أراد الله أن يعرّفنا إليه بهذه الكلمات" (الوحي 12)، ليس بالبديهيّ، وهو يتطلّب نمطاً جديداً من التثقيف وعملاً رعائياً ملائماً. في الواقع، كل عمل رعائي يستحقّ هذا الاسم، يجب أن يكون قبل كل شيء: "درس (قراءة وتفسير)، تأمل، احتفال، خبرة حياتيّة مع الكتاب المقدّس، لأن الكتاب المقدس هو الروح الذي يسند حياة الكنيسة ويغذّيها" (اللجنة الاسقفيّة للعمل البيبلي، مكسيكو 1991).
هذا لا يعني أنه يجب فقط أن نعود إلى البيبليا. فإذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعتها، نصل إلى كيفيّة قراءتها. فهي تلامس حياة البشر، وتفسّر التاريخ، وتكون نوراً للفقراء ورجاء.
ظلّت البيبليا أجيالاً عديدة سجينة، وكانت أداة بيد الايديولوجيا الحاكمة. واليوم في أميركا اللاتينيّة، بدأت الجماعات الكنسيّة الأساسيّة تخلّصها من هذا الوضع، وتساعدها على تحقيق دورها المحرّر. فالحركة البيبليّة أعادت البيبليا إلى وجدان شعب الله وإيمانه النبويّ. وبواسطة قراءة بيبليّة ملتزمة تسند محرّر الشعوب إسناداً نبوياً. وإن كان ذلك لا يتمّ، فهذا يعني أننا ما زلنا نخفي نور الله (لا نضعه على مكيال). والكنيسة لا تكون قد اتمّت رسالتها لانها تبتعد بهذا الشكل عن حياة ورسالة يسوع الذي أرسل إلى الفقراء (لو 4: 18).

3- نتائج النقص في التنشئة
في الماضي، وحين برزت مسائل بسبب تفسير للبيبليا مشكوك فيه، قرّرت السلطة بكل بساطة أن تمنع المؤمنين من قراءتها. مثل هذا الحلّ لا يمكن أن نتخيّله اليوم. وهو غير مناسب إطلاقاً. فالناس يحسّون أن البيبليا تجتذبهم فيقرأونها. ولكن حين يتمّ ذلك بدون التدريب الضروريّ، تنتصر ظاهرة الاصوليّة التي تتميّز بأنها تفسّر البيبليا متجاهلة التوسّع التاريخيّ وناسبة قيمة مطلقة إلى تأكيدات نسبيّة.
وسوء استعمال الكتاب المقدس هذا، يدفع الناس إلى اعتبار مواقف ايديولوجيّة اعتباطيّة أو نفعيّة تشوّه مراراً الايمان المسيحيّ أو تناقضه وكأنها تدلّ على سلطة الله. فيقدّمون باسم الله حلولاً مبسّطة لمائل متشعبّة، وهكذا يعرّضون لخطر أكبر وضع الأشخاص المعنيين. مثلاً، برزت مجموعات وحركات دينية تسبّب الانشقاقات في الجماعات وتجعل عمل التبشير أكثر صعوبة. نحن هنا أمام "مظاهرة التشيع الاصوليّة" التي يقلق لانتشارها عدد من الناس في الكنيسة الكاثوليكيّة (يعملون في النشاط الرعائي في اميركا اللاتينيّة وفي العالم) كما في الكنائس البروتستانتيّة التاريخيّة (صاحبة التقليد القديم).
حين نعلم أن 8000 شخص كل يوم من كاثوليك اميركا اللاتينيّة ينضمّون إلى الشيع الاصوليّة، نفهم أن هذا يعود إلى حماس وإيمان كبير في قوّة الكلمة لدى كنائس انجيليّة تنشرها بحرارة كبيرة.
وما يقلق بشكل أكبر في هذه الظاهرة، هو أن التفسير الأصولي للكتب المقدّسة ووثائق الكنيسة، لا ينحصر في تيار جذريّ في البروتستانتيّة المرتبطة بالانجيل. بل نجد ذلك أيضاً داخل الكنيسة الكاثوليكيّة، وهي ظاهرة تتنامى على ما يبدو بسبب التوتّرات والانقسامات التي تهدّد الوحدة. وهذه الروح التي تتبلور بشكل عاديّ في مجموعات وحركات محافظة إلى آخر حدود المحافظة، تزرع اليأس بين عدد من المسيحيين قد يستطيعون أن يبرزوا المسيحيّة في العالم الحاليّ ولا سيما على المستوى الاجتماعي والسياسيّ، ووسط البشر المنسيّين في المجتمع. هذا ما يجعل كلمة الله تخسر ديناميتها التي تحوّل الواقع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM