الفصل الحادي والعشرون: رسالتا يعقوب ويهوذا

الفصل الحادي والعشرون
رسالتا يعقوب ويهوذا

رسالتان نُسبتا إلى اثنين من أخوة الرب. يعقوب الذي يذكره سفر الأعمال (15: 13). ويهوذا الذي يذكره انجيل مرقس (6: 3) مع يعقوب وسمعان. تعلّمنا رسالة يعقوب كيف نجعل حياتنا توافق ايماننا. ورسالة يهوذا تنبّه الكنيسة الفتية إلى الأخطار التي تتربّص بها.

أ- رسالة يعقوب
كان يعقوب "أخو الرب"، كما يقول سفر الأعمال، شخصاً مهماً في الجماعة المسيحية التي من أصل يهودي والمقيمة في أورشليم. توفيّ سنة 62 وقد تكون حُفظت بعض أقواله. فجاء كاتب سنة 80 تقريباً، ملمّ بالتقاليد الإنجيلية (وخصوصاً متّى) وعارف أيضاً بتعليم بولس، فأعاد كتابة ما تسلّمه من يعقوب في رسالة تحمل اسمه: رسالة يعقوب.

1- سلسلة من التعليمات
الكاتب هو شخص مسؤول عن جماعة مسيحية. وهو بهذه الصفة يكتب. نحن أمام رسالة بل بالأحرى أمام نداء يحاول أن يُقنع المؤمنين: المواضيع نفسها تتكرّر.
لسنا أمام عرض موسّع، بل أمام سلسلة من التعليمات حول مواضيع متنوعّة: مواضيع لا رابط بينها ولا تعتمد إلاّ قليلاً على اعتبارات تعليمية.
إذا أردنا أن نقسم رسالة يعقوب، يستوقفنا تبدّل في الأسلوب في 2: 1: "وما دمتم، يا إخوتي، مؤمنين بربنا يسوع المسيح له المجد، فلا تحابوا أحداً". المحاباة أو تفضيل شخص على شخص لأنه غنيّ أو وجيه، تتعارض مع الإيمان بالرب يسوع. فالله لا يحابي في دينونته. وتبدّل آخر في 13:3: "من كان منكم حكيماً عليماً، فليبرهن عن حكمته ووداعته بحسن أدبه (أو: سلوكه)". هناك حكمة المعلّم الكاذب. هي أرضية، حيوانية، شيطانية، مرتبطة بعالم الخطيئة والكذب على الحق. وهناك حكمة الإنسان الكامل التي تأتي من عل، شأنها شأن كلمة الحق، وتحمل ثمار السلام.
والقسم المركزي الذي يقع بين هاتين الأيتين يتضمّن ثلاثة توسّعات: من حابى الأغنياء وفضّلهم على الفقراء بسبب مالهم، خالف الشريعة. الإيمان ميت بدون أعمال. إنتبهوا إلى لسانكم، أيّها المعلّمون.
أما ف 1 فيتضمّن سلسلة من التعليمات القصيرة حول الصبر والمحنة والتجربة، حول الديانة الحقّة. والقسم الثالث الذي يبدأها 3: 14، يتضمّن أيضاً تعليمات متفرقة. "من أين القتال والخصام بينكم؟ لا يتكلَّم بعضكم على بعض بالسوء. أيها الأغنياء، ابكوا ونوحوا على المصائب التي ستنزل بكم".

2- الأغنياء في هذه الجماعة
يهاجم كاتب الرسالة الأغنياء الذين يصرخ ترفهم إلى السماء طالباً العقاب.
الجماعة التي يتوّجه إليها "يعقوب" هي جماعة منتظمة، وقد تكون عائشة في مصر أو في أحد المراكز التجارية الكبرى في الشرق الأوسط. ويهاجم يعقوب الأغنياء بكلام قاسٍ ودقيق، وهذا ما يدلّ على ظروف اجتماعية تسيطر فيها اللامساواة داخل الجماعة نفسها. "الغني كزهر العشب يزول" (1: 10؛ رج 2: 13؛ 5: 1- 6).
يتعاطف الكاتب مع الضعفاء والمستغلين، مع صغار القوم الذين يعرفون شظف العيش. ولكنهم هم أيضاً قد يُسحرون بالغنى وينجرون إلى الفوضى التي تنتج عن هذا الغنى: الحسد، الافتراء، الغضب...
مقابل هذا، هناك أشخاص يلجأون إلى كل الوسائل ليربحوا المال. يستعبدون الآخرين، ويحتفظون بأجر العامل ليزيد غناهم غنى. يذبحون العجول المسّمنة من أجل ولائمهم، وكل هذا على عيون الفقراء الذين يسحقهم الأغنياء (5: 5).
هذه الانتقادات القاسية ضد الأغنياء، تصيب إلى حدّ كبير وجهاء من أصل يهودي. هؤلاء التجّار الذين لم يقطعوا بعد كل علاقة بعاداتهم القديمة، يلقوِن البلبلة لا الجماعة. لهذا يجعل يعقوب كلامه كصدى للكرازة في المجمع، فيذكرهم بتقليد العهد القديم: ايليا، الأنبياء الذين تعذّبوا فصبروا، أيوب ... (5: 10- 11، 17).

3- الإيمان والأعمال (2: 14- 26)
لا يقدّم الكاتب اعتبارات تعليميّة معقّدة. بل يوجّه نداء الإنجيل الحي إلى هؤلاء المؤمنين الذين تراحوا ونسوا تقواهم الأولى.
في آ 14، هناك سؤال يُطرح على المسيحيّين. بدأ يعقوب فأعلن طرحه بأسلوب قاطع: أي نفع لإيمان نظري يتوقّف عند الكلام ولا يصل إلى الأعمال؟ هل من نفع لتعليم عن الله دون أن يكون لهذا التعليم تأثير في حياتنا؟
وتقدّم آ 15- 16 فرضية، تقدّم واقعاً ملموساً نفهمه بسهولة، لأنه يصيب العلاقات بين الأغنياء والفقراء. فإعلان المترفين للفقراء، مهما كانت كلماته معسولة، لا يحمل اللباس الضروري ولا الطعام اليومي لهؤلاء البؤساء الأعضاء في الجماعة المسيحية. هذا يعني أن "الأعمال" تفرض علينا أقلّ ما تفرض بأن نتجاوب مع الحاجات المادية لهؤلاء الفقراء.
وتستخلص آ 17 النتيجة وتذكر الطرح الذي قدّمه الكاتب في البداية: لا فائدة من الإيمان دون أعمال لخير المؤمنين الروحي. إنه يبقى وحيداً منعزلاً، لا يُنتج الثمار المنتظرة التي هي الصلاة وحب الآخرين حباً محسوساً.
ويعترض معترض على هذا الطرح (آ 18): لقد التقى يعقوب بعدد من المعترضين في هذه الجماعة. وسيرد على المعترض مقدماً ثلاثة أمثال:
* مثل مقتضب في آ 19 عن الشياطين: يؤمنون ولكنهم يرتعدون.
* مثل ابراهيم في آ 20- 23: إذا أردنا أن نتقبّل صداقة الله، يجب أن نترجم إيماننا أعمالاً في الحياة. فالأعمال تكمّل الإيمان، وإلاّ بقي ناقصاً ولم يعطِ الثمار المرجوّة. هنا يهاجم يعقوب أولئك الذين فسّروا تفسيراً خاطئاً نظريات بولس حول التبرير بالإيمان وحده دون الأعمال (أعماله الشريعة مثل الختان). لقد تحدّثنا عن كل هذا حين قدمّنا الرسالة إلى رومة. نشير هنا إلى أن روم 4: 2 ويع 2: 21 يأخذان المثل الواحد، مثل ابراهيم:
- واحد يؤكّد على ضرورة الإيمان: فنحن لا نستطيع أن نستولي بالقوة على الحياة مع الله. هو يعطي ذاته ونحن نتقبّل العطية.
- وآخر يؤكّد على ضرورة الأعمال: إن تقبُّل الله يرافقه تبدّل في حياتنا. وإلاّ كان تقبّلنا سراب وخيال.
* مثل راحاب في آ 24- 25. حسب يش 2، أضافت جواسيس يشوع. تبرّرت بعملها فدخلت، وهي الغريبة، في شعب الله. تذكرها أيضاً عب 11: 31 من أجل ايمانها: نجت من الهلاك. نحن أمام تفسير رمزي.
إن قراءة هذا النص تعطينا معلومات عن فكر مراسلي يعقوب. يقولون: نستطيع أن نعمل أي شيء، ونستطيع أن لا نعمل شيئاً، فالأمر سواء. عندنا الإيمان. والإيمان يكفي ويعفينا من الأعمال. موقف خاطئ يعارضه يعقوب بضرورة تتميم الكلمة (1: 22: "لا تكتفوا بسماع الكلمة من دون العمل بها فتخدعوا أنفسكم")، بعيش الإيمان. نعبرّ عن إيماننا بالأعمال، وإلاّ كان ايماننا عقيماً، ميتاً.

4- مراجعة حياة
نستطيع أن نسمّي رسالة يعقوب: مراجعة حياة لجماعة تقيم "في مصر"، ولنا نحن حيث نقيم. فليس هدف يعقوب أن يعلّمنا أشياء جديدة عن الإيمان. إنه يقدم لنا عرضاً أخلاقياً، شأنه شأن القديس بولس في القسم الثاني من روم مثلاً. وهو يريد أن يدفع المؤمن في حياته اليومية لكي يتصّرف تصرف الإيمان لا علاقاته الاجتماعية والإنسانية. وسيسير على خطاه عدد من الكتّاب في القرن الثاني.
وعمل يعقوب في إطار رسالي. فأخذ من أخلاقيات اليونان كما أخذ من الكتب اليهودية المعروفة ومنها كتب قمران. إنفتح يعقوب على كل هذه التقاليد، فأعاد قراءتها في خط العهد القديم الذي يعرفه معرفة تامة، وعلى ضوء الإيمان المسيحي الذي يعيش منه ويريد للمؤمنين أن يعيشوا منه.
هو لا يحيلنا مراراً إلى يسوع المسيح (رج 1: 1؛ 2: 1)، ولكنه يطلب من المسيحيين أن يعيشوا وسط أخوتهم متطلّبات الإنجيل في الصبر والعمل الرسولي. إنهم يؤلّفون شعب الله الجديد و"الأسباط الإثني عشر" في إسرائيل الجديد المشتّت الآن عبر العالم.
إذن، تشدّد هذه الرسالة على تصّرف المؤمن. ليكن الإنسان التام (الكامل، أي الذي يمارس بكمال شريعة الله) الذي يحاول أن يعكس في نفسه بساطة الله. يكفي أن "نعمل بشريعة الشرائع التي نصّ عليها الكتاب: أحب قريبك مثلما تحب نفسك" (8:2).

ب- رسالة يهوذا
إن قرابة يعقوب ويهوذا بيسوع (مر 3:6) جعلت الكنيسة الأولى تعتبرهما اعتباراً كبيراً. وكاتب هذه الرسالة المبنية بناء محكماً، يربط ما كتب بتعاليم يهوذا، أخي يعقوب (آ 1)0 أراد أن يؤوّن هذه التعاليم في جماعة من أصل يهودي، حوالي سنة 90.
1- يهاجم الكاتب بلهجة حادة المعلّمين الكذبة الذين يقاومون التعليم الذي تسلّمته الكنيسة. يعتبرون نفوسهم ملهمين، فيكثرون من النظريات حول الكائنات السماوية. يبدو لهم تعليم الرسل بعيداً جداً، لهذا ينسبون إلى المسيح دوراً ثانوياً: "ينكرون سيدنا وربّنا الوحيد يسوع المسيح" (آ 4).
شوّهوا تعليم بولس حول الحرّية المسيحية. ثم ندبوا نفوسهم لأنهم يعيشون في عالم فاسد، فوصلت به الأمور إلى حياة من "الدعارة والشهوات الجسدية التي تخالف الطبيعة" (آ 7). مثل هذا المزيج يقودنا إلى بداية عصر من الغنوصية اللاأخلاقية التي ستسيطر على المجتمع.

2- فكرتان في هذه الرسالة
الأولى: يؤوّن يهوذا الكتاب المقدّس. يقرأه من أجل كنيسته في وضعها الحالي. بهذا يعود إلى التقاليد اليهودية التي تتضمنّها كتب لا تدخل في اللائحة القانونية، كتب جليانية مثل كتاب أخنوخ أو صعود موسى.
الثانية: أمام كل هذه النظريات المنتشرة في الكنيسة، يعيد الكاتب كل شيء إلى الجوهر، "إلى معلّمنا الوحيد وربّنا يسوع المسيح". فيه نضع رجاءنا وأمانتنا. هنا نسمع كلام يهوذا: "أما أنتم، أيهّا الأحباء، فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقدس (أي أقدس من أي شيء، الكلي القداسة)، وصلّوا في الروح القدس. صونوا أنفسكم في محبّة الله منتظرين رحمة ربّنا يسوع المسيح من أجل الحياة الأبدية" (آ 20- 21).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM