الكتاب في يد قارئ اسيوي

الكتاب في يد قارئ اسيوي

أبدأ محاضرتي بمشهد من الكتاب المقدس. على الطريق الصحراويّة بين أورشليم وغزة، جلس رجل في مركبته وأخذ يقرأ الاسفار المقدسة خلال سفره. لم يكن رجلاً عبرانياً، بل موظفاً كبيراً جاء من الحبشة البعيدة وهي منطقة تقع على حدود العالم الروماني. وانضمّ اليه فيلبس، فصار اللقاء حواراً قاد ذاك الموظف في النهاية إلى العماد.
ما يلفت انتباهنا للوهلة الاولى لدى قراءة هذا الخبر الذي يرويه لوقا في أع 8: 26- 48، هو تدخّل الروح القدس بشكل ساطع: وجّه فيلبس كما وجّه الكنيسةَ الاولى في أولى مراحل التبشير. لكن لا يجب ان نهمل أهمية العمل العجيب الذي قام به الروح في قلب هذا الحبشي. كان ينتمي إلى تقليد وحضارة غريبين عن عالم فلسطين، ولكنه كان متعاطفا مع الايمان العبراني وكان من المتعبدين (خائفي الله).
عاد من حجّ إلى أورشليم. وفي طريق العودة غاص في قراءة الكتب. كان مجهوده صادقا، وانفتاح قلبه عجيباً، وبحثه عن الحقيقة متنبّهاً، ولكنه لم يتوصّل إلى فهم المقطع الذي كان يقرأه. قال: "كيف أستطيع ان افهم إن لم يرشدني احد؟ عمّن يتكلم النبي؟ عن نفسه أم عن رجل آخر"؟ تلك الاسئلة التي طُرحت على فيلبس، تدلّ على بحث قلق عن مفتاح لفهم الوحي الإلهي.
كان درج الكتب مفتوحا بين يديه وهو يدعوه ويجتذبه. فالنصّ يقدّم نفسه للقارىء ولا يضع شروطا. وهنا، فُتحت كلمة الله ببساطة تامّة أمام هذا الوثنيّ. هي لا تعارضه، ولا تفرض نفسها عليه. هي خفيّة ولكنها ليست بغامضة. تجتذبه بسحرها، ولكنها لا تمنح غناها بطريقة سريعة. فهي تجعلنا ننتظر.
بهذا المشهد الرائع أودّ أن أبدأ حديثي، عن كيفية فهم البيبليا. أما الموضوع، فهو قراءة البيبليا في إطار آسيوي. أظن أن الحبشيّ الذي التقينا به، هو صورة ملغزة لكل الذين ينبغي عليهم أن يتجاوزوا تحدّي الحواجز الحضارية حين يطلبون أن يفهموا الكتاب. وهكذا نرى فيه شخصا من الصين أو الهند أو اليابان... والطريق من أورشليم إلى غزة، قد تكون أي طريق في هذه القارة الاسيوية الواسعة حيث نجد ثلثي البشرية.
وأركز تفكيري على نقطتين.
في نقطة أولى أدعوكم إلى النظر إلى الكتاب في يد انسان اسيوي اليوم. فالبيبليا بطبيعتها مفتوحة لجميع القرّاء. وكلمة الله أعدّت لكي يُكرز بها لجميع الشعوب في كل الازمنة وكل الحضارات. وخلال الفي سنة من المسيحية، تبع انتشار كلمة الله الطريق التي رسمها الروح القدس (2 تس 3: 1: تواصل كلمة الله جريها). بدأت أولاً في الشرق، وسافرت في الغرب كله قبل أن تعود إلى الشرق فتلج بشكل عميق القارة الافريقية الواسعة. والبيبليا، في مسيرتها هذه، تنمو دوماً وتغتني. فهي اليوم في يد إنسان آسيوي مليئة بغنى ثمين جداً. ولكن بالرغم من هذا الغنى الذي يعترف به الجميع، يجد الاسيويّ بعض الصعوبات لتقبّل بعض عناصر هذا الكتاب، لانها مختلفة، بعيدة، غريبة، لأنها مطبوعة أكثر مما يجب بالغرب.
في نقطة ثانية، نتوجّه من الكتاب إلى القارىء. فنتساءل: كيف يقرأ الانسان الاسيوي البيبليا؟ هل هناك مقاربة اسيوية للتفسير البيبلي؟ كيف يشارك الاسيوي في إغناء البيبليا وهي تتابع جريها؟
نتوقّف في فصل اول عند موضوع: الكتاب في يد قارىء آسيوي. ونترك إلى فصل لاحق الموضوع الثاني: مقاربة اسيوية لقراءة الكتاب.

1- البيبليا أمام اللغات والحضارات
البيبليا كتاب مفتوح على اللغات والحضارات. ونتساءل: في أي لغة وفي أي شكل قرأ الموظف الحبشي نصّ أشعيا في أعمال الرسل؟ هذا ما لا نقدر ان نعرفه. ولكن بما أن هذا النصّ وُجد في يد شخص أجنبي، فالامر يبدو رمزياً بل نبوياً حقاً. فهو يشهد على أن البيبليا مفتوحة لكي تفهمها مختلف الحضارات، أن كلمة الله تقبل طوعا أن تُنقل إلى لغات مختلفة فتتحوّل في أنماط مختلفة من الاتصال بين البشر. هذا واضح حين نعرف أن البيبليا قد ترجمت حتى اليوم إلى 2060 لغة. أنها كتبت في الموسيقى والشعر والفن والرقص والسينما، أنها الدستور الاعلى للفن والادب. في الواقع، تلك ميزة الكتب المسيحية ولا يشارك فيها الآخرون.
فمقابلة مع كتب سائر الديانات توضح هذا الامر. فهناك عدد من الديانات، سواء تلك المحصورة في اتنية واحدة، أو تلك التي انتشرت في العالم، تحفظ بشكل محجّر لغة البدايات وحضارتها. مثلاً، لا نستطيع ان نتخيل ان يستعمل أحد أتباع الشنتويّة لغة غير اللغة اليابانية. أو أن يستعمل تلميذ تاو غير اللغة الصينية ليدوّن كتبه المقدسة. واليهودي الارثوذكسي ما زال حتى اليوم يقرأ التوراة ويصليها في العبرية. ويعتبر المسلم أن القاعدة هي أن يدوّن القرآن في العربية. والكهنة البرهمان يستعملون دوما السنسكريت للنصوص الليتورجية.
لا يفكر البوذيون ولا المسلمون أن يجعلوا نصوصهم المقدّسة في المسرح أو السينما كما يفعل المسيحيّون بالنسبة إلى الكتاب المقدس. فانفتاح البيبليا على هذا التنوّع من اللغات والحضارات، لا يفسّر فقط على أنه نتيجة مجهودات الانجلة وانتشار المسيحية في العالم. فطبيعة البيبليا نفسها تتضمّن هذه العلاقة اللاهوتيّة العميقة بين المعنى والمبنى، بين المدلول والاشكال التي نعبرّ بها عن هذا المدلول. هذا ما سوف أبيّنه في ما يلي:
أ- البيبليا أمانة في يد الجميع
استعملت كلمة "امانة" (ائتمن) لأنها تعبّر عن حسّ بالتواضع والايمان من قبل الله بالبشرية حين اختار اللغة البشرية كوسيلة اتصال. كما تعبّر عن الحسّ الكرستولوجي بالخصب كما تتضمّنه اللفظة المستعملة في اللغة الاصليّة للاناجيل. فالبيبليا المسيحية لا تتضمّن فقط تعليم المسيح، بل هي تعكس ايضا سّره في طبيعته. هي مثل ايقونة المسيح. وهي تدل على حضوره المتواصل الذي هو امتداد لثقته بالعالم كله وبتاريخه.
وبشكل خاص، تعكس البيبليا سّر التجسد والفصح وتشهد لهما. ففي التجسد يسلّم الله نفسه إلى العالم، فيختفي في تواضع الكلمة البشريّة، ويتكيّف ملء التكيّف مع الاحتمالات التاريخيّة، مع فقر اللغة البشرية وتجزيئها. فالكلمة اللامحدودة جعلت نفسها في كتاب. وكلمة الله قبلت أن تدخل في مساحة النصّ المحدودة. بل قبلت ان تموت في صلابة لفظة مكتوبة لتولد من جديد في أطر حياتيّة يوميّة لا حدود لها. وهكذا تعطي الحياة لعدد لامحدود من القرّاء في كل زمان وفي كل حضارة.
ونستطيع أن نكتشف مقابلة بين البيبليا والافخارستيا، حيث المسيح يسلّم نفسه طعاما للحياة الابدية. حيث يتكرّس العالم كله والتاريخ في أعراض الخبز والخمر. ففي البيبليا، تكون الكلمة البشريّة العلامة السريّة التي عبرها تأخذ وحدة البشرية مع الله، مكانها في يسوع المسيح.
ب- من الوحدة إلى الكثرة
نستطيع أن نرى إحدى ميزات عمل الله بيننا في ما ينكشف من بدايات تاريخ شعب اسرائيل. وذلك حين قال الله لابراهيم: "فيك تتبارك جميع الشعوب" (تك 12: 3): من الوحدة إلى الكثرة في انفتاح شامل. وهذا ما يصحّ أيضا في البيبليا: من بيبليا واحدة إلى بيبليات (كتب مقدسة) عديدة. وفي داخل البيبليا نفسها، نجد إشارات عن شموليّة النصّ المكتوب، وعن ضرورة تكثير النصوص البيبليّة في لغات وأطر متنوّعة. وأذكر هنا فقط إشارتين اثنتين.
الاولى: نصّ صلب يسوع في إنجيل يوحنا (19: 19- 22). فعلى المدونة التي ستعلق على الصليب كتب بيلاطس: "يسوع الناصريّ ملك اليهـود". وكتب في ثلاث لغات: العبرية (أو: الآرامية)، اللاتينية، اليونانية. إن هذه اللغات الثلاث تمثّل ثلاثة عوالم في زمن يسوع: على المستوى الديني والحضاريّ والاجتماعي والسياسيّ. كان بإمكان كل معاصري يسوع أن يفهموا هذا الوحي عن سلطان يسوع على الكون (الشامل). وقد دوّن تعليم الصليب في لغات عديدة، وأعلن حتى حدود العالم بأكثر الصيغ شمولية وعالمية. فعلى كل الشعوب وكل اللغات وكل الحضارات أن يجتذبها يسوع وهو الذي قال: "وأنا اذا ما ارتفعت عن الارض، جذبت إليّ جميع البشر" (يو 12: 32).
الثانية: نص العنصرة. حين سمع الناس الذين جاؤوا من كل مكان كلمات الرسل، تعجّبوا قائلين: "أليس هؤلاء المتكلمون جميعهم جليليين؟ فكيف نسمع كل منا لغته التي وُلد فيها... نسمعهم ينطقون بألسنتنا بعظائم الله" (أع 1: 7- 11). إن اعمال الله تتجاوز الحضارات. وهي تجد منزلا لها في كل ثقافة.
كلمة الله شاملة، ونستطيع أن نعلنها في كل لسان. والعنصرة تقدّم نظرة إلى البشرية الجديدة تتعارض مع ما رأينا في خبر برج بابل. في بابل خلق تعدّدُ اللغات الفوضى وقاد إلى الانقسام. وفي أورشليم، صار غنىً يقود إلى الاعجاب والمديح. كلهم قبلوا "البشارة" عينها، كل في لغته وفي هويّته الحضارية. فالروح القدس هو الذي يوجّه وبثبّت الوحدة في التعدّدية عبر حياة الكنيسة كلها.
ج- كتاب ينمو
ويصوّر لوقا مطولا توسّع رسالة الكنيسة بشكل بسيط ولكن بليغ: "كانت كلمة الله تنمو" (أع 6: 7؛ 12: 24؛ 13: 49؛ 19: 20). ومنذ دوّنت كلمة الله لم تعد تنمو مضموناً وكمية، بل عدد نسخات وترجمات وطبعات. ثم كان هناك نموّ آخر أقوى من الاول وإن لم نستطع أن نقيسه لأنه خفيّ: فواقع البيبليا ما زال ينمو عبر تاريخ الكنيسة الطويل. وهو نموّ يدل على صدق الكنيسة عبر الذين يعيشون إيمانهم ويشهدون له: نموّ مليء بالحيويّة في الاحتفالات الليتورجيّة وفي العمل الرعائي. نموّ في الشموليّة الشعبيّة والحضاريّة مع دخول الكلمة في مختلف الأطر الاجتماعيّة والثقافيّة.
واليوم نسمع من يتكلّم عن "تاريخ النتائج". يعني تأثير الكتاب على مدى التاريخ. لا شكّ في انه ليس من كتاب كانت له نتائج مستمرّة وغنيّة مثل الكتاب المقدس، ولم ينمُ كتاب إلى هذا الحد كما نمت البيبليا وعملت ثمارا كثيرة.
في هذا المجال قال غريغوريوس الكبير: "الكتاب المقدس ينمو مع الذي يقرأه". ينمو في المجهود الذي يقوم به ذلك الذي يقرأه. هو نموّ متزامن بين القارىء والكلمة، أو بالاحرى نموّ القارىء مع الكلمة والكلمة مع القارىء.
وترتبط إمكانية النموّ بتكيّف الكلمة وسلطانها بأن تجعل القارىء معنياً بما يقرأ. وحين فسّر غريغوريوس الكبير رواية حزقيال النبي، قابل الكتاب المقدس بدولاب يتكيف مع العقليّات المختلفة، لأنه بشكل دائرة ولأن حركته مستمرة، كما يتكيّف مع عقل قرّائه. فالبيبليا التي هي نتيجة مسيرة التقليد ونقطة الوصول من محيطات حضارية تضم بلاد الرافدين وفينيقية وعالم اليونان والرومان، تنفتح اليوم على امكانيات لا حدود لها من النموّ. ليس هناك من حضارة إلا وتستطيع كلمة الله أن تلجها.

2- الكتاب المقدس في آسيا
بعد أن أكّدنا أن البيبليا هي بطبيعتها كتاب مفتوح على الجميع، كتاب يجب أن ينتشر وينمو ويلج كل حضارة ليستخرج منها الحياة، نعود إلى آسيا كي نرى كيف نمت حقاً البيبليا على هذه القارة الواسعة والمتنوّعة. وكيف نجحت في أن تصبح خميرة في هذه الحضارات المتشعّبة.
ليس هناك ما يدعو إلى التفاؤل للوهلة الاولى. فنحن نعرف ان الحضور المسيحي في آسيا هو حضور قليل. المسيحيّون هم أقليّة ضئيلة: 3% فقط هم مسيحيون. وإذا وضعنا جانباً الفيليبين، تنزل هذه النسبة إلى واحد في المئة. هذا يعني أنه لم يكن للبيبليا تأثير كبير على مجمل الحضارة الاسيويّة. إذن يبدو من الطبيعيّ أن نتساءل كما تساءل بولمان الاختصاصيّ في الارساليات: "لماذا تبدو الامور هكذا؟ فسائر القارات قد قبلت المسيحية الواحدة بعد الاخرى. حتى افريقيا السوداء سيكون فيها سنة 2000، 57 بالمئة من المسيحيين. فلماذا صارت آسيا أكثر القارات تديّنا، أملا مغلقاً على الكنيسة"؟
سؤال يتحدّانا. في الواقع آسيا ليست مغلقة على الكنيسة (لا نيأس)، بل هي تحدِّ كبير للانجيل وللانجلة. هذا ما قاله البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته: "اطلالة على الالف الثالث". لا شكّ في ان هناك علامات عديدة للرجاء وإحداها هي نموّ كلمة الله وانتشارها في العشر سنين الاخيرة بشكل خاص.
بعد فاتيكان الثاني وجدت كلمة الله مكانها المركزيّ في حياة الكنيسة. هذا أمر لا شكّ فيه. وهو يعني عودة إلى الكتب المقدسة في الكنيسة الكاثوليكية بعد سنوات من التغييب. وهذا الامر يصحّ بشكل خاص بالنسبة إلى كنيسة أوروبا. أما في آسيا فلا نتكلّم عن عودة بل بالحقيقة عن ابيفانيا (ظهور) لكلمة الله واكتشاف للبيبليا. ليس ذلك لأن آسيا عرفت في الماضي الكتب المقدسة، بل لأن هذه الكتب لم يكن لها يوما مكانة هامة في انجلة آسيا حين بدأت. واسمحوا لي أن اعود إلى التاريخ لألقي ضوءاً على هذه النقطة.
خلال القرون الاولى، واذ حاول المرسلون أن ينشروا البيبليا، وجدوا نفوسهم في وضع يفرض عليهم أن يستنبطوا الكتابة (لم تكن بعد موجودة لدى بعض الشعوب) لدى الشعوب التي يعملون في وسطها. ذاك كان وضع كيرلس وميتوديوس عند الشعوب السلافية. أو أن يبنوا أدباً وحضارة حيث لم يكن أدب ولا حضارة لدى سكان البلاد الاصليّين. غير أن الوضع كان مختلفا عن ذلك في شرقي آسيا حيث المرسلون لم يجدوا نفوسهم أمام فراغ حضاريّ (وكأنه لم يكن شيء قبلهم)، بل أمام محيط مليء بالتقاليد الدينيّة القديمة والمتنوّعة. وجدوا واقعاً من المدنية متطوّراً بحضارته الرفيعة وفلسفته المهذبة والمرهفة.
ففي الصين مثلاً، وحين بدأ المرسلون بترجمة البيبليا في سنة 1600 تقريبا، تحققوا أنهم أمام مغامرة شيّقة وصعبة. فقد كان عليهم أن يختاروا بين الألفاظ العديدة من أجل خلق جديد لم يكن الشعب الصيني ليفهمه بسهولة. عليهم أن يكيّفوا عبارات وُجِدت قبلهم تعود إلى أمور معروفة ولكنها معرّضة لأن تحمل فكراً ملتبساً. مثلاً تساءلوا: هل يستعملون "تيان زهو" التي تعني "اله السماوات"، ليتحدّثوا بشكل صحيح عن إله المسيحييّن؟ فترجمة البيبليا في آسيا تتطلّب مسيرة من الحوار والمثاقفة العميقة. فالبيبليات الاولى التي تُرجمت إلى اللغات الاسيويّة، وإن كانت ثمرة مجهود ذكيّ ومثابر، لم تكن تتضمّن كل هذه العناصر. ولهذا فهمها عدد قليل من الناس.
وهناك عامل آخر. فالحقبة الكبرى لانتشار المسيحية في آسيا قد امتدت بين سنة 1600 وسنة 1800 فرافقت حقبة التحجّر التي تلت المجمع التريدنتيني. كان المرسلون يعتبرون، شأنهم شأن سائر المسيحيين، أن الكتاب المقدس لا يستطيع أن يقرأه بانتباه إلا قلة قليلة من الناس. فالكتاب الأهم بالنسبة للايمان، لم يكن البيبليا، بل كتاب التعليم المسيحيّ. ولم تكن البيبليا تُفتح إلا لكي تسند التعاليم العقائديّة، او لتقدّم مواد من أجل بناء العظة وإغنائها. فما كان المؤمنون يقتربون بشكل مباشر من الكتاب المقدس، بل بواسطة الاكليروس في الخدمة الرعائيّة والليتورجيا.
لهذا عُرفت الكنيسة الكاثوليكية في بداياتها الاولى في آسيا بوجوه المرسلين الرائعة، ببُناها التنظيميّة العظيمة والفاعلة، بأعمال المحبة التي تقوم بها، بكنائسها الرائعة، بممارساتها الدينية بحسب الخط الاوروبي، لا بروحانيّتها وكتبها المقدسة. ففي نظر الشعوب الاسيويّة، الادب الديني مهمّ جدا وأكثر ممّا نستطيع ان نتصوّره. فبين سنة 400 وسنة 600، خاطر عدد من الرهبان والحجّاج البوذيين وعبروا المسافات ليذهبوا إلى الهند ويجدوا أصول كتبهم المقدّسة. والانجلة في كوريا هي مثل آخر. فأسس المسيحية في كوريا لم يضعها مرسلون غرباء دخلوا إلى البلاد بل دراسة كتب مسيحيّة حملها من الصين إلى كوريا مرتدون كوريون.
بعد فاتيكان الثاني، عادت البيبليا إلى الشعوب الآسيوية بشكل آخر. واللقاء مع النصوص المقدّسة صارت متواترة وحيّة. فقرئت بحرارة وبدون وسيط (بل بشكل مباشر). وكل ذلك يعود إلى ترجمة أفضل للكتاب المقدس والى مجهود كبير على مستوى المثاقفة.
في هذا اللقاء الجديد، بدأ مسيحيّو آسيا يكتشفون ما في النصوص المقدّسة من عظمة. واندهشوا لما رأوا أنها قريبة جداً من عقليّتهم وطريقة تفكيرهم والتعبير عن عواطفهم. "فأحسوا أنهم في "بيتهم" في الاسلوب السرديّ، في الامثال والاستعارات، في أقوال الانبياء بما فيها من ايجاز، في الصلوات الشعرية (المزامير)، وفي الاعتبارات الحكمية. فالوسائل المستعملة في الكتابات القديمة لنقل حكمة الحياة وخبراتها هي هي في البيبليا وفي غيرها من كتب مقدّسة.
إن البيبليا تضع امام القارىء عدداً من الرموز والصور، وتداخلاً بين الصمت والكلمات، بين الزمان والمكان. نحن نسمع صوت الله والانسان والطبيعة والكون كله، ويجتذبنا تناسق سريّ ساعة يرتفع قلبنا إلى مستوى اللامحدود، إلى الملء. هذا ما يتوق اليه الشرقي وهذا ما ينتظره من الوحي.
إذن لا نندهش بعد السنوات التي تلت فاتيكان الثاني، أن تكون كل كنائس آسيا قد شهدت نموّ المبادرات حول كلمة الله. وحيث البيبليا تحتلّ المقام الاول، نجد حيويّة حقيقيّة ونمواً نوعياً في كل وجهات الجماعة الكنسيّة. ونستطيع أن نشهد لهذا الاصغاء في أيامنا من خلال تنوّع تمثيل الرابطة في كنائسنا. فالبيبليا تمارس سحرا خارقا علي الناس لا في الكنيسة وحسب، بل بين اللامسيحييّن أيضاً. وهي تتوزّع بكميات كبيرة. في اليابان مثلاً، 50 بالمئة من العائلات تمتلك الكتاب المقدس. في الصين نفسها، هناك مثقّفون غير مسيحييّن (يسمّون مسيحييّن على مستوى الثقافة) يدرسون الكتاب المقدس ويهتمّون بالظاهرة المسيحيّة، وعددهم يزداد يوما بعد يوم.
ولكن إن قصرت المسافة بين البيبليا والقارىء الآسيوي، فهذا لا يجب أن يقودنا إلى قراءة عفوية للبيبليا تنسى النقد وتتجاهل التاريخ، وكأن النصّ وصل إلينا بشكل مباشر دون أية وساطة بشريّة. حين يقرأ الآسيوي نصا قديماً فهو يقرأه بورع عظيم وبموقف عميق من الشكر. ونستطيع أن نحس بثقل الكتاب بين يديه. إنه ثقل التقليد والكلمة كما تجمّع على مدى العصور.
وحين يمسك القارىء الآسيوي الكتاب المقدس بيده، يحسّ بهذا الثقل بشكل خاص، كما يحسّ أنه وارث لا تاريخ العهد القديم والعهد الجديد وحسب بل كل أجيال المؤمنين الذين سبقوه فقرأوا هذه النصوص المقدسة ودرسوها وعاشوها. واذ يحسّ بنفسه بين هذه الاجيال، فهو يتقبّل كنز التفسير الآبائي والدراسات الوسيطية وغنى الاسلوب التاريخي النقديّ وكل أنماط التأويل التي أغنت النصوص المقدسة عبر التاريخ. ويسهر في الوقت عينه لئلا يصير هذا الغنى عبئاً ثقيلاً: يكيّفه، يصوغه، يتميّزه فيجعل هذا الارث ثمراً حقيقياً.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM