نحن نحمل كلمة الله


نحن نحمل كلمة الله

1- عاملون من أجل كلمة الله
نودّ الآن أن نلقي نظرة إلى بعض وجهات الكلمة في سيخار. لم نجدها بشكل مباشر في خبر عمّاوس، لا سيّما آ 31- 38 حول رسالة التلاميذ. إن لقاء يسوع مع المرأة، شأنه شأن غسل أرجل التلاميذ (13: 1- 20)، يقدّم مثلاً للتلاميذ عن اعلان الكلمة التي تهب الحياة. سبق ورأينا الوجهات البارزة في هذا الإعلان. وهذه القطعة هي مهمّة للملتزمين في عمل الرعاية البيبلية. فهي تبرز الحاجة إلى النظر إلى يسوع كخادم لكلمة الحياة في شعبه، وتنبهّهم إلى أن العامل الحقيقيّ في هذا الرسالة هو يسوع والآب (إن آخرين قد تعبوا، آ 38). أما الآخرون ومهما كان دورهم في الرسالة، فهم يقطفون ثمرة يسوع وعمل الآب.
أن يُدعى الانسان لكي يشارك في واجب اعلان انجيل الخلاص للآخرين هو في حدّ ذاته جزاء كبير يتيح للمبشّر أن يفرح مع يسوع والآب في عمل الخلاص الذي تمّ (آ 35- 37). من هنا لا مجال للافتخار بالدور الذي يقوم به الانسان في هذا الاعلان للبشارة. هذا ما نراه في العلاقة بين المرأة السامريّة والسامريين. فمهما كان دورها هاماً في المرحلة الأولى حين قادت الناس إلى يسوع، لم تصبح الوسيط الدائم بين يسوع وشعبها. ما إن يُقاد الخروف إلى المرعى حتى يصبح في قيادة وسلطة الراعي فيشارك في محبة الراعي العظيمة للخراف (يو 10: 3- 5؛ 21: 20- 22).
وفي واجب جمع الشعب إلى يسوع عبر إعلان الكلمة، يروي الواحد للآخر خبر لقاءاته الشخصيّة والبيبليّة معه كما فعلت السامريّة والسامريون. غير أن الذين جمَعوا والذين جُمعوا يُدعون لأن يفرحوا معاً في مشاركة مع الثالوث، الآب والابن والروح القدس (1 يو 1: 1- 4).
وإعلان الكلمة هذا الذي يعطي الحياة، يحتاج فقط إلى شعب تجذّر عميقاً في يسوع تجذّراً شخصياً وفي طريقته بإعطاء الحياة. ومن نستطيع أن نسمّيهم حاملي كلام الله ووسطاءه هم ضروريون أيضاً. فبأي وسيلة يحمل اعلان الكلمة الحياة، بحيث تصبح هذه الكلمة بذاراً حقيقياً ينمو ويزهر في الانسان. فمثل الزارع (مت 13: 1- 9 وز) يماهي بين الزرع وكلمة الله. ويبرز يسوع الحاجة إلى أن تبقى الكلمة فينا أو لأجلنا، وهكذا نسمعها ونحفظها ونعمل بها، لا حين نسمعها فقط.
أما الوسائل الأولى التي بها نحمل الكلمة الحياة فهي طواعيتنا لكي نسمع ونحقّق (ننفّذ). فقوة الكلمة الداخليّة لا ترتبط بنا، هذا ما لا شكّ فيه، لأنها كلمة الله. بما أن الله هو الحياة، فكلمة الله تحمل الحياة في ذاتها. وكلمة الله التي ترسل لا تكون ابداً حياديّة. فهي إمّا تحمل الحياة للذين يتقبّلونها، وإما تحمل الدينونة للذين يرفضونها، لأن الله هو الينبوع الذي تخرج منه (يو 12: 47- 49؛ 15: 22؛ أش 55: 10). أما اهتمامنا فهو أن نخرج الحياة من ينبوع الحياة. فحين نسمع الكلمة ونحفظها، نكون في الطريق التي فيها نستخرج الحياة. ويعطينا انجيل يوحنا بشكل خاص ثلاثة من حاملي الكلمة كينبوع حياة لا يستغنى عنهم: الماء والروح القدس. الخبز والخمر (أو الطعام والشراب). النور.

2- الماء الروح
الماء عنصر لا بدَّ منه من أجل الحياة الطبيعيّة. وما يبرهن عنه هو أن لا حياة في الصحراء ولا توجد الحياة في الصحراء إلا حيث توجد المياه، أي في الواحة، أو قرب بحيرة اصطناعيّة، أو مع ينبوع يتفجّر كما في قادش برنيع حيث قضى بنو اسرائيل ما يقارب اربعين سنة في البريّة (عد 13: 26). وقد قابل تك 1 مقابلة وثيقة بين الماء والروح وكلمة الله: "كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفّ على وجه المياه" (تك 1: 2-3).
في النظام الطبيعيّ لا يُستغنى عن المياه من اجل الحياة. وكذا الأمر في النظام الفائق الطبيعة، في النظام الروحيّ، نظام الخليقة الجديدة. فكما في تك 1: 2- 3 نجد علاقة بين الماء والروح. يجب أن تعطى المياه للانسان لئلاّ يموت من العطش أو من نقص في المياه. هذا ما هدّد بني اسرائيل في مسّه ومريبه (خر 17: 1- 7). وتُعطى أيضاً للأرض لكي تحمل ثمراً (أش 55: 10). هذا هو الأمر ايضاً بالنسبة إلى الحياة في الروح.
هذه المياه (أي الروح القدس) هي في المؤمنين (14: 17) لكي ترويهم وتجعلهم يثمرون. تحوّل كلماتهم، تحوّل أعمالهم حين تحوّل فكرهم وقلبهم وموقفهم، وتجعلهم على صورة المسيح ومثاله. ووعدُ يسوع للمرأة واضح جداً: فالحياة التي تدوم تتطلّب مياهاً لا تنقطع. "فالماء الذي أعطيه يكون معين ماء يتفجّر حياة" (4: 14). ويقول الربّ الشيء عينه في 7: 38- 39: "تجري من جوفه أشار ماء حيّة". وهذا الوعد يفسّره الانجيليّ بالعودة إلى "الروح الذي يتقبّله الذين يؤمنون به".
هذا من جهة. ومن جهة ثانيّة، فمن الجنب المطعون بالحربة وقلب الكلمة على الصليب، فاض دم وماء (19: 34). فغسل الولادة الجديدة (تي 3: 5؛ 1 بط 1: 19، 23- 25) صار ممكناً عبر الروح القدس (يو 3: 3- 8). ففي يوحنا (لا في أع 2: 1- 4) يُعطى الروح بكلمة الله الذي صار بشراً، وذلك عبر الكلمة التي تُقال: "خذوا الروح القدس" (20: 23). ونشاط الروح المؤمنين يصل أيضاً في كلمة (14: 15- 17، 26؛ 15: 26- 27؛ 16: 7- 11). وأحد أعمال الروح هو أنه يؤهّل التلاميذ ليحملوا الشهادة عبر حياتهم وإعلان الكلمة. هذا ما تقوله 1 يو 1: 1- 4: "ما رأيناه بعيوننا... نخبركم به لتكون لكم شركة معنا".

3- الخبز والخمر (الطعام والشراب)
الطعام هو الخبز واللحم الذي أعطي لبني اسرائيل في خبرة المنّ والسلوى في البرّية (خر 16: 1- 25). وهو أيضاً طعام إيليا لدى العرب (1 مل 17: 6: خبز ولحم بالغداة والعشّي)، وطعامه لدى أرملة صرفت صيدا (آ 11). الطعام، شأنه شأن الماء، ضروريّ للحياة الطبيعيّة. فربع الصناعة العالميّة تُعنى الاغذية. والمرأة الافريقيّة (مثل كل امرأة في العالم قد ربطها الله بعهد مع الحياة، لهذا سمّيت حواء) تقضي معظم وقتها في تأمين الطعام والعمل في الزراعة والحصاد والصيد والطبخ والمحافظة على ما تطبخ. هي تفكّر دوماً في طرق جديدة لكي تهيّىء الطعام ذاته فترضي الأذواق يوماً بعد يوم. ولكن بما أن هذا الطعام فانٍ، فهو لا يستطيع أن يسند الحياة التي تدوم إلى الأبد (يو 6: 27- 49).
وكما أن الحياة الجديّة تتطلّب الطعام، كذلك نقول عن الحياة الروحيّة. فالكلمة الذي هو الحياة لم يعِد فقط بالحياة، بل وجد طريقة ليجعل نفسه خبز الحياة. هذا الطعام يؤكل على مستوى الجسد فيقودنا إلى درجة نفهم فيها أن ما وُعدنا به وأعطي لنا هو طعام حقيقيّ وشراب حقيقيّ. "الخبز الذي اعطيه لحياة العالم هو جسدي (لحمي ودمي. انا بكليّتي)... إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا دمه فلا حياة لكم في ذواتكم" (6: 51- 53).
ذاك هو الوعد في كلمة. "خذوا وكلوا هذا هو جسدي... إشربوا منه كلكم لأن هذا هو دمي، دم العهد" (مت 26: 27- 28). ذاك هو تمام الوعد في كلمة. وهكذا فالكلمة الحياة، وينبوع الحياة، يعطي جسده ودمه كطعام وشراب للمؤمنين بواسطة القوّة التي تحوّلهما، كلمة الافخارستيا. هذا هو الطعام الذي يدوم إلى الأبد. الذي يعطي الحياة الأبديّة. فيه ينال الانسان الحياة بشكل مباشر من الكلمة، كما أن الكلمة الذي صار بشراً نال الحياة بشكل مباشر من الله الذي أرسله (6: 57). إذا أردنا أن ننمو على مستوى الجسد، نحتاج إلى الطعام، وإذا أردنا أن ننمو على مستوى الروح نحتاج لا إلى كلمة الله وحسب، بل إلى طعام الله ايضاً.

4- النور
كما يحتاج كل حيّ الماء والطعام، هكذا يحتاج النور. حتى النبات يموت ويذبل إن نقصه النور. لهذا السبب كان النور أول مخلوقات الله (تك 1: 3). وقد رأى صاحب المزامير في كلمة الله "سراجاً" لخطاه و"نوراً" لسبيله (مز 119: 105). أما كلمة الله فهي نور العالم. وبدونها يسير كل انسان في الظلام. والنور هو أول شيء في الكائن البشري (يو 1: 5). ولكن أهم من كل هذا هو نور التعليم الحقيقيّ حول الله الذي يكشف كلمته الذي صار بشراً بطريقة فريدة، وفي شخصه (1: 18؛ مت 11: 27)، يكشف ما يرى من الله (يو 14: 9- 11). وبعود النور أيضاً إلى التعليم الذي وصلنا بالكلمة الذي صار بشراً. تعليمه يحمل معرفة الله التي هي حياة أبديّة (17: 3).
ما كشفه يسوع لنا هو الله وعلاقته به وبكل واحد منا ابنائه. وهذا النور الذي يأتي من تعليم الكلمة، والتعليم الذي هو الكلمة، هما مهمّان جداً. وأول طريقة للتعليم هي حياة الكلمة المتجسّد بيننا، وأقواله وأعماله وممارساته (10: 37- 38؛ 14: 10). والتعليم الذي أعطاه الكلمة يؤكد ملء حقيقة التعليم الذي هو الكلمة. لهذا فهو يكوّن مضمون الاعلان والبشارة (أع 8: 4- 5).
في خبر المرأة السامريّة، نجد صدى "لحاملي" الحياة التي اعطيت لنا بالكلمة الذي هو حياة: فالماء (والروح) حاضر شخصياً. وطعام يسوع هو أن يتمّ مشيئة الآب التي بدونها لا ينال أحد الروح (الماء) الذي يعطي الحياة. ونور تعليم يسوع للمرأة وللتلاميذ وللسامريين، يحمل إليهم الحياة الأبديّة بحيث يستطيع الزارع والحاصد أن يفرحا معاً ولا يخافا من أن يفصلهما الموت أو الدينونة (4: 35- 37). وهذا ما حصل فبل أن يأتي كلمة الله إلى العالم.

5- مخاطر نتجنّبها
قد نكون خارج الموضوع حين نُبرز مواضيع الماء والروح، والطعام (الخبز والشراب) والنور كحاملي الحياة، حين لمجون الموضوع الرئيسي كلمة الله ينبوع حياة. غير أن خبرتي من أجل شعب متجدّد، تقودنا إلى الاعتقاد بأن هذا التشديد ضروريّ إذا أردنا أن نظلّ في تقليد الكنيسة المؤسّسة على المسيح والتي لا تريد أن تنحرف في غيرة لا تكون في مكانها حين تهتّم بالتوراة. فنص هو 4: 6 (شعبي هلك لأنه ما أراد المعرفة) يُذكر مراراً ليدلّ على أهميّة الرعاية البيبليّة. ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هذه الرعاية لم تكن في الماضي الهمّ الأول للكنيسة الكاثوليكيّة.
ولكن هناك أهميّة اخرى يجب أن لا ننساها، وهي أن شعب الله قد يهلك عبر معرفة فقيرة ومبتورة للكتاب، كما من جهلٍ قال عنه ايرونيموس: "من جهل الكتاب جهل المسيح". "لو لم آتِ لما كانت عليهم خطيئة" (يو 15: 22). فالذين لا يعرفون الكتاب بدون خطيئة من قبلهم، هم معذورون. أما المعرفة القليلة فهي شيء خطر. ويسوع يرفض أن يعترف بأولئك الذين يعتبرون أنهم يعرفونه ولجملون لأجله، بينما هم لا يعرفونه في الواقع: "أما تنبّأنا باسمك؟ أما طردنا الشياطين باسمك؟ أما عملنا المعجزات باسمك؟ حينئذ أعلن لهم: ما عرفتكم قط. إذهبوا عني يا فعلة الاثم" (مت 7: 21- 23).
نحن نحتاج إلى تواضع كثير في إنماء الرعاية البيبليّة لأن التواضع هو صفة أساسيّة في الله، كما قالت يوليانا النروجيّة منذ قرون عديدة. وهي ايضاً فضيلة طلبها يسوع قائلاً: "تعلّموا منّي" (مت 11: 28، يو 13: 17).
وهناك خطر آخر نتجنّبه حين نقترب من الكتاب المقدس وكأننا بعددُ في العهد القديم. أو كأن مجيء يسوع أزال كل الاختلافات حول النظرة الدينية إلى العالم كما عبرّ عنها العهد القديم وبعض العهد الجديد. هنا أذكر المقاطع التي تعتبرها النساء معارضة لنظرتهن: هي نتاج حضارة بشريّة. لا نتاج إنجيل الكلمة الذي هو حياة (هذا واضح بشكل خاص في رسائل القديس بولس).
بما أن اسفار العهد القديم تتكلّم عن يسوع، وبما أن العهد الجديد يعلنه، يجب أن تفهم الرعاية البيبليّة أن يسوع يشكل القاعدة لتفسير التوراة. لهذا فكل ما لا يتوافق مع انجيله، انجيل الحبّ، مع موته ورسالته التي تحرّر الأسرى وتحمل الحياة في ملئها، يجب أن نستغني عنه. بل إن قراءة الكلمة ودراستها دون ارتداد شخصّي إلى الرب يسوع، تكونان كمن يبني على الرمل. فالشيطان نفسه يعرف الكتب المقدسّة ويستشهد بها (تحارب يسوع). ففكر المسيح هو، ويجب أن يبقى فكر الكنيسة.
والغيرة تقود إلى نظرة تجعل الكتاب امرأ مطلقاً (مثل الله، مع أن الكلمة لا تستطيع أن تحيط بالله كله. فهي ناقصة لأنها بشريّة) بحيث تسجن الله في ما نظنّ أن الله قاله في الكلمة. يقول الشعب المتجدّد دوماً: "قلت هذا أو ذاك في كلمتك، لهذا أعلن حقي بوعدك وأقيّدك بكلمتك". حين يحدث مثل هذا، نجعل كلمتنا وكأنها كلمة الله، ونظنّ أننا نستطيع أن نفرض على الله أن يحفظ كلمتنا. فالايمان في مقاربة أصوليّة إلى الكتاب المقدس، يختلف كل الاختلاف عن ايمان بكلمة الله التي هي حياة وتعطي الحياة. الله وحده هو المطلق. هو اللامحدود، وأعظم بلا حدود من كلمته كما نقرأها في الكتب المقدسّة (يو 5: 39- 40؛ 31: 25).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM