الفصل الثالث عشر
معرفة المسيح
3: 1- 11
عاد بولس هنا إلى ذات الوعّاظ المتجوّلين (مسيحيّين متهوّدين) الذين هاجمهم في السابق بشكل خفيّ ومتحفّظ (1: 27- 2: 30)، والذين وجد مثلهم حين كتب 2 كور. استقووا بأصلهم اليهوديّ، فعبّروا عن مسيحيّتهم بـ "آيات" مجيدة أو باهتة (انخطاف، تكلّم بالألسنة) تلغي لاهوت الصليب (3: 18) من أجل لاهوت "كمال" (3: 12 ي) لم يعد لهم أن ينتظروا شيئاً منه بعدما نالوا كلَ شيء. هذا يعني "ثقة بالنفس" (3: 3)، لا ثقة بنعمة الله، وخطيئة ضدّ المحبّة الجماعيّة بعد أن صارت الحياة المسيحيّة منافَسة ومزاحَمة.
إذن، يهتمّ الرسول بأن يحدّد في الواقع ما تعني "معرفة المسيح" (3: 10). هي مشاركة في قيامته وفي آلامه. هكذا وهكذا فقط نستطيع أن نختبر النعمة بالإيمان، ونبتعد عن كل افتخار بالذات قريب من العُجب (3: 8- 9). وهذا العُجب قد تجسّم في ما صار إليه العهد القديم (3: 3- 7). فخبرة النعمة تعلّمنا أيضاً أن نسير بشكل أكيد، ولكن بتواضع، نحو المجد الذي سوف يأتي (3: 12- 21). ففي هذه الرفقة المتواضعة والصعبة تتحقّق الجماعة الحقّة، جماعة "الاخوة" (3: 15 ي؛ 4: 1).
بعد أن ندرس القضايا النقديّة في 3: 1- 21، نتوقّف عند محطات ثلاث: إنطلاقة هجوميّة جديدة (آ 1- 2). طريقة حياة جديدة (آ 3- 6). التعرّف إلى المسيح (آ 7- 11).
1- قضايا نقديّة (3: 1- 21)
* في آ 3، وضعت بعض المخطوطات المفعول بدل المضاف إليه لكلمة "الله". أما البرديّة 46، فقدّمت حلاً للصعوبات حين أغفلت اللفظة، فصارت الجملة: "نحن العابدين بحسب الروح".
* في آ 6، قرأت النسخة الشائعة صيغة المذكّر للفظة "زالون" الحياديّة، لأنها أكثر تواتراً من الحيادي. رج 5: 17؛ 2 كور 9: 2. ولكن المعنى هو هو. وزادت بعض المخطوطات (ج، 464) لفظة "الله" على "كنيسة" قياساً مع غل 1: 13 و1 كور 15: 9 فصارت الجملة: "مضطهد لكنيسة الله".
* في آ 7، ألغى عدد من المخطوطات (بردية 46، السينائي، الاسكندراني، ج) الأداة ولكن (ألا). قد يكون هذا النصّ هو الأصيل.
* في آ 8، جاءت الأداة بعد الأخرى فحذفت البردية 46 والسينائي حرف العطف (كاي) وأعطت البردية 46 والفاتيكاني للفظة "خرستوس" (ياسوس) المعنى الأصلي "ماسيا" (أو: مشيح)، فجعلت أمامه أل التعريف. فصارت: "معرفة (الملك) المسيح (أو: الممسوح). أما الاسكندراني (مع الشائعة) فأوضح العبارة التقديريّة (ناقصة). زاد فعل كان (إيناي) على "هيجوماي سكيبالا" (عددته زبلاً، نفاية).
* في آ 9، وضع أحد الشرّاح فاصلة بين "البرّ" (ديكايوسينين) وبين "بالايمان" (ابي تي بستاي). أما النصّ الأساسيّ: "البرّ الذي بالإيمان"، الذي نناله بالإيمان.
* في آ 10، جعلت الشائعة والمخطوط د، ج أل التعريف أمام "كوينونيان" (شركة)، وأمام "باتيماتون" (آلام). قد يكون هذا الافضل. وقد وضع نستله أل التعريف بين قوسين (تين، تون).
* في آ 11، حوّلت بمض المخطوطات عبارة "تين إك نكرون" التي نجدها في معظم المخطوطات إلى "تون نكرون". "القيامة من بين الأموات". لا "قيامة الأموات".
* في آ 12، زادت برديّة 46 ثم د، ج... المفعول به على فعلين نقصهما هذا المفعول. أدركت (الثمن). وفي آ 13، أدركت (هو، الغاية). هناك "بلغت الكمال" أو: "تبرّرت" رج 1 كور 4: 4. ثم إن "إيْ كاي" الصعبة التحديد (رج 2: 17) حملت اختلافات. وهناك من زاد "ياسوس" فصارت العبارة: "المسيح يسوع".
* في آ 14، قرأ ترتليانس وأوريجانس "أنانكلاسيا" (عدم اللوم) بدل "أنو كلاسيس" (الدعوة العليا). وزادت بعض المخطوطات "كيريوس" في نهاية الآية: "المسيح يسوع الربّ".
* في آ 15، قرأ السينائي المضارع (نكون) بدل الأمر (لنكن) في فعل "فرونومن".
* في آ 16، كرّرت بعض المخطوطات "فروناين" وزادت "كانون" (قانون) بعد "ستويخاين". وذلك بتأثير من غل 6: 16. أما الشكل القصير للنصّ فنجده في أقدم المخطوطات ولهذا نحافظ عليه (كما نجده في نستله): "حيثما بلغنا، فلنتابع في المنهج عينه".
* في آ 18، زادت البردية 46 "بلاباتي" أمام "توس اختروس" قياساً مع 3: 2. وهذا ما جعل الجملة ثقيلة.
2- إنطلاقة هجوميّة (3: 1- 2)
أ- إحذروا الكلاب
كانت ردّة الفعل قاسية على ما سُمّي "إفساد" الإنجيل ضد جماعات غلاطية أو كورنتوس (2 كور) أو فيلبّي. الخراب حاصل أو هو ممكن. والخصوم هم مسيحيّون مما زالوا يهوداً، وقد جاءت ممارستهم لشريعة موسى في خطّ غير قويم. ولكننا لا نستطيع أن نحدّد موضوع تعليمهم بتدقيق.
ويبدأ ف 3. بشكل فجّ وشديد الانحدار، بحيث ظنّ بعض الشرّاح أننا أمام رسالة جديدة. مهما يكن من أمر، فبولس هو الذي يتكلّم هنا، ولغته لا تنطبع بالسهولة و"النعومة". "إحذروا الكلاب. إحذروا العملة الأشرار. إحذروا البتر" (القطع البعيد عن الختان).
لا شكّ في أن "الكلب" لا يدخل في لائحة الحيوانات النجسة. ولكن حين نسمّي إنساناً "كلباً" فنحن ندلّ على احتقاره (هذا ما زال معروفاً عندنا. لا في الغرب). نحن لا نجد هنا إشارة إلى "عضّة" الكلب وهجومه. بل ناتف عند فكرة الاحتقار. هذا من جهة. ولكن من جهة ثانية وأفضل، الكلب هو من يبقى خارج الدار. لهذا، "فالكلاب" هم الذين صاروا خارج الكنيسة أو كادوا.
"العملة الأشرار" يذكّروننا بـ "العملة المكّارين" في 2 كور 11: 13. أما بولس فهو عامل في "عمل" (1: 22) هو إعلان الانجيل، إعلان الحقيقة التي كُشفت له لكي يبشّر بها (غل 2: 5، 14؛ 2 كور 6: 7؛ 7: 14...). إذا بُشِّر بشيء آخر، فهذا يعني أن الضلال ينتشر تحت غطاء الحقّ.
وما هو هذا الضلال؟ "البتر" (كاتاتومي)، لا الختان (باريتومي). يدلّ بولس على مجموعة بشريّة تتميّز بهذا الطقس في الجسد، في اللحم. وهو يقف في صفّ الهازئين من العالم الرومانيّ، الذين لا يرون في الختان إلاّ وسيلة تعبير عن الانتماء (لهذا دافع اليهود عن هذه الممارسة). أما السخرية هنا فهي في خدمة هجوم له أبعاد خطيرة. قد يكون الدعاة في فيلبّي يفعلون كما يفعل "رسل" غلاطية (غل 5: 2، 12)، فيحرّضون المسيحيّين على الختانة. وقد يكونون قد انطلقوا من الختان ليفرضوا نفوسهم كالمرسَلين الحقيقيّين والمكمّلين ليسوع (الذي خُتن وهو ابن ثمانية أيام).
ب- وبعد أيها الإخوة
ونعود إلى آ 1. قد تكون هذه الآية خاتمةَ المقطع السابق، أو مقدّمة المقطع الذي ندرسه الآن. هناك من يقول إن آ 1 أ (وبعد أيها الإخوة، إفرحوا في الربّ) تنتمي إلى الرسالة (ب) وتدلّ على انتقالة مع النداء إلى أفودية وسنتيخي وسائر رفاق بولس في فيلبّي (4: 2- 7)، حيث نقرأ من جديد حضاً على "الفرح في الربّ" (4: 4؛ رج 3: 1 أ). أما آ 1 ب، فتفتتح الرسالة (ج). إن لفظة "لويبون" نجدها عند الرسول كخاتمة رسالة (2 كور 13: 11: أخيراً أيها الاخوة افرحوا) أو كمقدّمة تحريض (أف 6: 10: أخيراً يا اخوتي، تقوّوا؛ 1 تس 4: 1: فمن ثمّ أيها الاخوة نسألكم؛ 2 تس 3: 1: أخيراً أيها الاخوة صلّوا لأجلنا).
ويُذكر أيضاً "الاخوة" (أدلفوس) في هذا الإطار كما في 1 تس 4: 1؛ 2 تس 3: 1؛ فل 4: 8؛ رج 1: 12؛ 3: 13، 17؛ 4: 1. كانت تسمية "الاخوة" في العالم القديم تدلّ على أعضاء جماعة دينية واحدة. ونحن نجدها في العهد القديم (إر 22؛ 18) وفي نصوص قمران. وقد يعود استعمال هذه الكلمة إلى يسوع نفسه (مر 3: 33؛ مت 25: 40؛ 28: 10). أمّا بولس فيستعمل هذه الكلمة 68 مرّة (منها 6 مرّات في فل) ليدلّ على محبّة كبيرة. رج 1 كور 5: 11؛ 6: 5- 8؛ 8: 11- 13...
ويأتي فعل الأمر "خايراتي" (إفرحوا). فالفرح علامة ثابتة في الحياة المسيحيّة. هذا الفرح يتحقّق في الربّ. أي عندما يتجذّر في عمل متواضع مجيد لدى ذاك الذي هو صورة الله فأخذ صورة العبد وصار طائعاً حتى الموت والموت على الصليب.
"أكتب إليكم بهذه الامور". لم نعد هنا أمام نداء إلى الفرح، بل أمام تنبيهات من الكلاب. وهي تنبيهات جاءت خطيّة لا شفهيّة. وإذ يقوم بولس بهذه التنبيهات، فهو يخدم خير قرّائه. "هذا آمن لكم". هذا من أجل ثباتكم.
3- طريقة حياة جديدة (3: 3- 6)
أ- قراءة إجماليّة
إن هؤلاء المسيحيّين الجدد الذين جاؤوا إلى الإيمان من العالم الوثني، قد عرفوا الصعوبات. وقد حاول بولس أن يحذّرهم من بقايا الوثنية التي ما زالت تشتعل كالنار تحت الرماد. هذا ما نجده في 1 كور. أما في فل فالخطر مختلف، وهو شبيه بما في غل. وطريقة الدفاع (بل الهجوم) ستختلف. ولكن قبل ذلك، يقدّم بولس طرحه.
"نحن ذوو الختان". أظهر الدعاة في فيلبّي قيمة الختان. كما يراها اليهوديّ: ختم العهد، وعلامة الانتماء إلى شعب الوعد والخلاص. ولكن بولس سيبيّن لهم ضلالهم. ذوو الختان ليسوا إسرائيل بحسب الجسد، بحسب اللحم. فنحن المؤمنون بيسوع المسيح! نحن المختونون الحقيقيّون بختانة روحيّة (روم 2: 29). وتجاه هذا الوضع، ليس الختان بالجسد شيئاً. كما أن لا خسارة أن لا يكون الانسان مختوناً (غل 6: 15): فلا الختان ولا عدمه ينفع الانسان؛ 1 كور 7: 19: لا الختان بشيء ولا غير الختان بشيء). فالعهد الجديد يستغني عن الختان وعن القلف (أو عدم الختان).
فهذا "العهد الجديد" يتضمّن "الخليقة الجديدة" (غل 6: 15) التي هي عمل الله، وترتبط فقط بمبادرته، ولا تستمرّ إلاّ بمعونته. وما يميّزها هو الروح القدس (2 كور 3: 6) الذي يتيح وحده للبشرية المصالحة مع الله بيسوع المسيح، أن يكون لها مع هذا الإله علاقة جديرة به، أن يكون لها شعائر عبادة حقيقيّة، أن يكون لها ديانة صريحة يعيشها الانسان في أعماقه، فتضمّ وجوده كلّه الذي يُصبح مرضياً لله (روم 12: 1- 2).
وفي أساس هذا التجديد نرى النعمة التي يبلغ إليها الانسان في العوز والضعف. وإذا سُمح له بأن يفتخر، ففي معنى خاصّ جداً. فالافتخار كلّه يعود إلى الله. وبما أن الله وحده يؤسّس في المسيح العهد والمصالحة (1 كور 1: 28- 31؛ 2 كور 10: 17- 18)، "فالذي يفتخر ليفتخرْ في الربّ" (1 كور 1: 31؛ 2 كور 10: 17- 18).
ومقابل هذا، يأتي من "يعتمد (يجعل اتكاله) على الجسد" (فل 3: 3). هذا ما يدلّ على الختان. كما يدلّ على "امتيازات كاذبة" (3: 7- 8) يطمئن إليها اليهوديّ أمام الله. ومع ذلك، فهذا الافتخار الذي يستخرجه خصوم بولس من وضعهم كمختونين، ها هو بولس يطالب به أيضاً فيقول: "فإن ظنّ غيري أنّ من حقّه أن يعتمد على الجسد فأنا أحقّ منه" (3: 4). ذاك ما كان عليه بولس قبل أن يستولي عليه المسيح: كان يهودياً كاملاً، "ناجحاً"، هادئاً في إيمانه وممارسته.
كان لبولس امتيازاته. وإن هو تركها فقد كلّفه هذا التَركُ غالياً. والآن، كل هذا صار من النظام القديم. وقد سبق له وعدّد هذه الامتيازات من أجل هدف مماثل. ولكنه سمّى ما عمله في ذلك الوقت "جنوناً" (2 كور 11: 21- 22). وهكذا اعتذر من مراسليه الذين يجب أن يربحهم من جديد إلى المسيح. أما هنا، فبولس يتوسّع في امتيازاته كإسرائيليّ. ترك كلمة "يهودي" ما عدا في 1 كور 9: 20 (صرت يهودياً مع اليهود لكي أربح اليهود). ترك بولس هذه التسمية الدنيويّة (إسرائيلي) المطبوعة بطابع الاحتقار في العالم الوثنيّ، وفضّل عليها تعابير دينيّة: مختون في اليوم الثامن، كما كُتب في شريعة موسى (تك 17: 12). هو "من نسل إسرائيل، من قبيلة بنيامين، عبراني ابن عبراني". ولقد عاش ديانته بشكل جذريّ، على الطريقة الفريسيّة حيث تمارَس الشريعة بشكل دقيق وصارم. وكانت غيرته كبيرة بحيث اضطهد الكنيسة. هذا ما فعله اليهود في فلسطين (1 تس 2: 14- 15). وهذا ما يقرّ به عن نفسه بتواضع في 1 كور 15: 9. أما هنا فلسنا أمام اعتراف، بل أمام برهان يدلّ على عمق يقينه الدينيّ. وبمجمل الكلام، كان باراً ببرارة تُقاس بمقياس الشريعة. كان بلا لوم... ولكن هذا لا يكفي.
ب- قراءة تفصيليّة
تجاه الذين يشدّدون على امتيازاتهم اللحميّة، تقدّم آ 3 الطرح الذي ستتوسّع فيه الرسالة بعد ذلك: لا تقوم الختانة الحقيقيّة في علامة سطحيّة، بل في تبديل عميق على مستوى الموقف الحياتيّ. وما نقرأه هنا ليس جزءاً من سيرة بولس. كما ليست هو قبل كل شيء (كما في 2 كور) دفاعاً عن سلطته الرسوليّة. فالرسول يكتفي بأن يقدّم نفسه كمثال واضح لما يجب أن تكون عليه كل حياة مسيحيّة. هكذا لا يظهر أنه على هامش الجماعة أو فوق الجماعة، بل في خطّ المواجهة داخل الجهاد المشترك الذي يقوم به.
أولاً: الختان والعهد
إن العمق اللاهوتي لهذه الآية (ذوو الختان نحن العابدون بالروح) يجعلنا نتخيّل أن بولس يتذكر تعليماً فقاهياً. فالتأكيد على أن الكنيسة هي "الختان" الحقيقيّ لا يُفهم إلاّ على خلفيّة نصوص أكثر وضوحاً نقرأها في روم 2: 27 ي؛ 4: 11- 12؛ كو 2: 11؛ غل 6: 12- 13. لا ننسى هنا أن روم هي انعكاس للفقاهة البولسيّة ولا سيّما في كنيسة كورنتوس. وإذ يشدّد الرسول على العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد في خطّ الانبياء (إر 4: 4؛ 31: 31- 34؛ 32: 37 ي؛ حز 36: 26- 27؛ 44: 1)، يدلّ على ضرورة تحوّل عميق في حياة الانسان. وهذا التحوّل يصبح ممكناً بالروح الذي يُخرج الانسان من ذاته ويفتحه على المسيح.
هذا لا يعني أن المهمّ الآن هو الروح لا الطقوس الخارجيّة. فالروح القدس الذي يدشّن عهداً جديداً ويعمل في عمق أعماق الانسان، يكوّن حياة منفتحة على الله الذي هو الحبّ. وهذه الحياة تصبح عبادة ملموسة يرضى الله عنها (2: 25، 30).
الجسد (ساركس، اللحم، الوجهة البشريّة في الإنسان) يدلّ هنا على الختان اللحميّ، على الانتماء إلى نسل إسرائيل. كما يدلّ على التبرير بالشريعة. ليس هو شراً في حدّ ذاته، ولكنه يُشجب بقدر ما يعتبر نفسه وسيلة خلاص. فالخلاص هو في يسوع المسيح. فمن افتخر بالمسيح، فرح به، ابتهج به، عرف المبدأ الأخير لتدخّل الله في تاريخ البشر. واستند هكذا إلى خارج ذاته، استند إلى الإيمان.
ثانياً: اعتماد بولس على "الجسد"
"لي الحق أن أعتمد على الجسد" (آ 4). هذا لا يعني أن بولس لا يملك شيئاً يستند إليه. أنه عن ضعف أو تخاذل يحاول الاعتماد على "آخر" هو الله. فكرازته لم تُولد من فشل عرفه في حياته. وما نجده من برهان هنا يذكّرنا بما نقرأ في 2 كور 11: 21 ي؛ 12: 1 ي. فالرسول سوف يعدّد كل الامتيازات التي نالها بولادته (آ 5)، ثم تلك التي حصل عليها بإرادته و"كدّه" (آ 5، 6).
بما أن الختان هو في قلب الجدال، حدّد بولس أنه خُتن حسب التقليد الأشدّ صرامة (تك 17: 12؛ 21: 4؛ لا 12: 3). ونقول الشيء عينه عن "ذرّية إسرائيل" (2 كور 11: 22: إن كانوا إسرائيليين فأنا إسرائيلي). فلفظة إسرائيل لا تعني فقط الاثنية والعرق، بل الماضي المجيد للشعب المختار. ثم إن هذه اللفظة جزء من الدفاع اليهوديّ في العالم الهلنستي.
"من سبط بنيامين". هذا ما يقابل في 2 كور 11: 22: "من ذريّة ابراهيم". هل يعني أنه كان لبنيامين وضع خاص؟ أولاً، بولس يذكّر بهذه العبارة أنه يتحدّر من النسل اليهوديّ. ثم هنا ما يميّز بنيامين عن اخوته. فهو، شأنه شأن يوسف، ابن راحيل، المرأة المحبوبة. ثم إنه وحده بين أولاد يعقوب وُلد في أرض الموعد. ومن بنيامين خرج أول ملك في إسرائيل وهو شاول. وأخيراً كان بنيامين مع يهوذا، أميناً لإرث الآباء بعد العودة من المنفى (587 ق. م.) والتعلّق بأورشليم. بل يبدو من نصوص ماري على الفرات، أن سبط بنيامين قديم جداً، وقد يكون عاصر ابراهيم، فعاش في القرن الثامن عشر ق. م.
فوق هذا، بولس هو عبرانيّ. هذه اللفظة في العهد الجديد نقرأها في 2 كور 11: 22 بقلم بولس. كما نقرأها في أع 6: 1 حيث تعارض "هلّيني"، فتدلّ على الطابع الفلسطينيّ للإنسان مع لغته وحضارته وطريقة تصرّفه. كما تدلّ على سمة عتيقة لديانة موسى داخل العالم اليهوديّ.
ولم يكتفِ بولس بأن يكون قد وُلد ولادة مميّزة. بل تعلّق بحزب الفرّيسيّين المشتهرين بتشدّدهم الدينيّ. بل دفعته غيرته إلى اضطهاد الكنيسة. هذا يعني أنه مارس "اعتقاده" حتى النهاية (أع 9: 4- 5؛ 22: 4، 7، 8؛ 1 كور 15: 9؛ غل 1: 12، 23)، أنه عاش غيرته إكراماً لله. وإذ يقدّم بولس مثال حياته يبيّن مأساويّة البدعة التي يمارسها خصومه: الغيرة، التعصّب الدينيّ، كل هذا قاد إلى اضطهاد الكنيسة. ومن مسّ عضواً من أعضاء الكنيسة أصاب الجسد كله. وهكذا بدا بولس تجاه الشريعة "باراً" و"بلا لوم". هنا نعود أيضاً إلى روم وإلى التعليم عن "برّ الله".
3- التعرّف إلى المسيح (3: 7- 11)
أ- قراءة إجماليّة
أولاً: خبرة نموذجيّة
قدّم بولس خبرته فبدت نموذجيّة، بل ملخصّاً للتعليم البولسيّ. وهي الدواء الواقي لمسيحيّي فيلبّي. هذا لا يعني أننا أمام أسلوب كلاميّ. فما يقال هنا يوافق بولس والذين يتعلّقون بإنجيله. وإذ يعلن الرسول ما يعلن، يجب أن يرى كل واحد منهم نفسه فيه.
ونبدأ في الوجهة السلبيّة. إذ يصف بولس حياته اليهوديّة، يدلّ في وصفه على مرمى رعائيّ. هنا لا ننسى أن قرّاءه كانوا عرضة لهجوم يأتيهم من أناس يتحدّثون عن مساومة يهوديّة مسيحيّة. فيقول بولس إن كل الربح الذي نعم به في الماضي، صار اليوم بالنسبة إليه "خسراناً". ويزيد بولس: "أعدّ كل شيء خسراناً إزاء هذا الربح الفائق، معرفة المسيح يسوع".
ينطبق هذا الكلام بشكل خاصّ على الذين لم يمرّوا في العالم اليهودي قبل أن ينتقلوا إلى المسيحيّة: فليعرفوا عظمة النعمة التي نالوها. هذه النعمة هي "ربح" يعوّض تعويضاً غير محدود خسارة الفوائد الماديّة. هنا نتذكّر كلام يسوع: "ماذا يفيد الإنسان إن ربح العالم كله وخسر نفسه" (مت 16: 26)؟ نحن أمام قيمة مطلقة يجب أن يضحّى بكل شيء من أجلها. فالخلاص هو في نظر بولس ربح أساسيّ، ربح المسيح. عبارة "كثيفة" تتضمّن كل ما تحمله كلمة "المسيح" في فكر الرسول. وسيوضح بولس كلامه حين يماثل بين هذا الربح و"معرفة المسيح يسوع ربيّ". هذا الربح هو التعرّف إليه مع "قدرة قيامته والشركة في آلامه". هذه المعرفة هي نوع خاصّ جداًَ من المعرفة.
لا شكّ في أن هذه المعرفة لا تنفي وعي ما نعيش، ولكن "معرفة المسيح" تعني أن نحيا المغامرة التي تربط المؤمن بربّه. والحياة هي أيضاً الموت. فإذا كان هذا الربح الذي يتفوّق على الباقي يكمن في أن نتقبّل قوّة الحياة التي تتفرّع من قيامة المسيح، فيجب أن تمرّ في الموت.
ثانياً: موت وحياة
إنّ هذا العبور يتمّ في المعموديّة (روم 6: 1- 11). ولكن ما يحصل في هذا السّر عبر موت غير جسديّ، سيعيشه المؤمنون طوال وجودهم على الأرض. وأمانتهم تتحقّق حسب مقياس الألم. حين نشارك المسيح في آلامه نصبح مشابهين له في الموت. هل هذا هو تنظيم للاستشهاد كمخرج إجباري للحياة المسيحيّة؟ هنا نعود إلى روم. فالموت هو قبل كل شيء موت عن الخطيئة، وتهرّب من سلطانه (روم 6: 2، 10). وهذا التحرّر الذي يتحقّق في المعموديّة بفضل الإيمان، يتواصل على مدّ حياتنا في جهاد ضدّ قوى الشّر المستعدّة لأن تتحرّك في كل مؤمن. وهذا الجهاد هو ألم على المستوى الخلقيّ.
غير أنه من الواضح أنه يمكن الوصول إلى الاضطهادات، إلى العنف على مستوى الجسد، إلى الموت (لا تخافوا ممّن يقتلون الجسد، لو 12: 4). هذا ما يعرفه بولس انطلاقاً من خبرته الخاصّة، وهذا ما يفسرّ لماذا قلب الترتيب العادي: الموت، القيامة في آ 10. تحدّث عن القيامة ثم عن الألم. فنظنّ أنه يريد أن يشدّد على ظروف "الموت" في هذه الحياة تجاه الذين وُهب لهم "لا أن يؤمنوا به فقط، بل أن يتألّموا أيضاً لأجله"، على مثال بولس في سجنه (1: 29- 30) وخارج سجنه. لقد كتب: "أنا معرَّض للموت كل يوم" (1 كور 15: 31). وقال: "أحمل كل يوم في جسدي آلام يسوع". غير أنه زاد حالاً: "لكي تتجلّى أيضاً حياة يسوع في جسدنا" (2 كور 4: 10).
ب- قراءة تفصيليّة
أولاً: المسيح والقيم "البشريّة"
بسبب المسيح، لم يعد من الممكن بعد اليوم أن نؤسّس حياتنا على قيم بشريّة. والمقطع كلّه يدور حول هذا الاسم، وعلى معرفة هذا الاسم (يسوع المسيح). من هذا القبيل نحن أمام نظرة مكثّفة للمسيحيّة البولسيّة. ولكن أي معرفة يعني؟ لا المعرفة الصوفيّة المستيكيّة، ولا الإطار القانونيّ لهذه المعرفة. بل نحن أبعد من هذا المستوى وذاك. نحن أمام اتحّاد من نوع خاصّ. ويلفت انتباهنا الماضي والحاضر والممبمتقبل في هذا المقطع. فمعرفة المسيح تجرّ وراءها موقفاً خاصاً تجاه الماضي وقيمه. وتتضمّن انشداداً نحو مستقبل قد حصلنا عليه ولكنه لم يتمّ بعد، ولكنه سوف يأتي.
وفي هذه الجدليّة بين الماضي والمستقبل، يُعاش الحاضر فيولّد مواقف ملموسة تضمّ وتتجاوز المستوى الصوفيّ والقانوني، مستوى الإيمان. وما هو الإيمان سوى رفضٍ لكل اطمئنان خاص لكي نستند كلياً إلى نعمة الله. سوى انتظار في الألم والصبر للمجد الآتي. إذن، الإيمان هو امتداد في حياة المؤمن كحدث الصليب والقيامة. فقوّة الحياة التي تعود إلى حياة الله تنبع من الشقاء والألم عبر كل رجاء بشريّ. تترجّى حيث لم يعد من رجاء على مستوى البشر.
ثانياً: الربح والخسارة (آ 7- 8)
إن تحرّك الرسول بالنسبة إلى القيم التي ذكرها الآن، تستعيد تحرّك "الابن" في النشيد الكرستولوجي (2: 6). حينذاك يجب أن نفهم "من أجل المسيح" (آ 7) بسبب ما قاله وحقّقه المسيح. بسبب ما حدث على الصليب الذي يتواصل عمله فينا (1 كور 4: 10؛ 2 كور 4: ه). ولكن النقيضة "ربح- خسارة" كانت معروفة في العالم اليهوديّ.
تجذّر حكم بولس على القيم "اللحميّة"، البشريّة، في الماضي، وهو يتجدّد كل يوم. لهذا كان اهتمام بولس تحريضياً (هو يحض المؤمنين)، لا سيروياً (أي: يروي سيرة حياته). هو لا يعود إلى ذاته في ميل نرجسي وولَه بالذات، بل يقوم بعمل تربويّ. لهذا حين يتكلّم الرسول عن ارتداده، فهو يشدّد على نعمة الله. أما هنا فيُبرز قرار الإنسان وحكمه، وهكذا يدلّ على أن نعمة الله لا تلغي ملكات الإنسان، بل تثيرها وتعيد خلقها في الحريّة.
واستعادت آ 8 ما في آ 7 وتوسّعت فيها وأوّنتها. إنتفل النصّ من الماضي (عددتها) إلى الحاضر (أعدّها الآن)، وامتدّ الحكم على جميع الغنى المستقلّ عن المسيح. وصارت عبارة "من أجل المسيح" "تفوّق معرفة المسيح يسوع ربيّ". عبارة فريدة عند بولس. قد تكون تأثّرت بالصوفية الهلنستيّة، أو بالغنوصيّة، أو بالعالم اليهوديّ. بل هي تلاقي كل هذه التيّارات. ومهما يكن من أصل هذه "المعرفة"، فموضوعُها يحدّدها: "يسوع المسيح ربيّ). وقد تعني: معرفة المسيح لنا (غل 4: 9: عرفكم الله، 1 كور 13: 12)، وما يقابلها من معرفة بشريّة (آ 10). أو بالأحرى معرفتنا للمسيح خلال شعائر العبادة، في المعمودية، في قانون الإيمان، في إعلان الإنجيل.
وهكذا يحيلنا الرسول لا إلى نظريّات شهيرة، ولا إلى خبرة باطنيّة، بل إلى خبرة ملموسة تعيشها الجماعة كلها يوم الأحد. هذه الخبرة هي خبرة سيادة شخص فريد هو الربّ، وهي تتميّز عن كل سيادة أخرى (2: 3). ووعيُ هذه السيادة وخبرتها يقودان المؤمن إلى رفض كل "مجد" باطل (كل عجب) واحتقار كل سبيل آخر. فالمسيحيّ لم يصل بعد، والمسيح الذي يأتي إلينا بطرق عديدة، لم نُدركه بعد. إذن، خبرةُ سيادته خبرةٌ ديناميكيّة، خبرة ترسلنا في الطريق. والطريق منّا إلى المسيح طويلة وصعبة.
ثالثاً: أجد نفسي في المسيح (آ 9)
قال بولس: أربح المسيح حين أوجد فيه. والفعل في صيغة المضارع، يدلّ على الدينونة الأخيرة. وصيغة المجهول تدلّ على أسلوب عبريّ يدلّ على عمل الله (أوجد فيه. أي: يجدني الله، رج 1 كور 4: 2؛ 15: 15؛ 2 كور 5: 3؛ غل 2: 17؛ مت 24: 46). ما معنى "فيه"؟ هناك من فكّر في بُعد إكليزيولوجيّ. بل بالأحرى نحن في إطار قانونيّ: أوجد فيه أي أتبرّر به. ولكن يجب أن نلاحظ الرباط بين وضع "في المسيح" ووضع المسيحيّ. "أوجد فيه" حين أكون بلا "مجد" خاص، مشابهاً له في موته وآلامه حتى أشاركه في حياته.
والعودة إلى شعائر العبادة والكرازة والمعمودية في الآية السابقة، نجدها هنا أيضاً مع تذكير بالتعليم حول "برّ الله" (3: 6). فالبار أو الصدّيق هو ما يوافقُ المقياس أو القاعدة. وفي نظر بولس، توافقُ الإنسان مع بشريّته كما أراده الله وخلقه، لا يقدر أن يكون فعل الانسان وحده، بل فعل الله. نحن هنا أمام برّ يأتي من الله، تجاه برّ نستخرجه من الشريعة. إذن، تستطيع الشريعة أن تُعتبر وسيلة خلاص فتأخذ مكان الله!
غير أنّ الإيمان ليس من هذا النظام. فهو الموضع الأنتربولوجيّ الذي فيه يلامس برُّ الله الإنسان. غير أن هذا الإيمان لا قيمة له في حدّ ذاته. بل هو يعيدنا إلى المسيح الذي هو موضوعه. قد نقول: الإيمان (أي عمل) المسيح هو الذي يبرّرنا. وهذا الإيمان يحرّك بعد ذلك إيمان الإنسان وتجاوبه مع نداء الله. في هذا الإطار نقرأ روم 3: 22: "فالله يبرّرهم بالإيمان بيسوع المسيح". وفي آ 26: "فهو في الزمن الحاضر يظهر برّه ليكون باراً ويبرّر من يؤمن بيسوع". وفي آ 30: "لأن الله واحد، يبرّر اليهود بالإيمان، كما يبرّر غير اليهود بالإيمان".
رابعاً: أعرفه، أعرت قدرة قيامته (آ 10- 11)
الإيمان هو أيضاً معرفة. وقد رأينا كم تستند هذه المعرفة إلى تقليد، إلى تعليم مسيحيّ وفقاهة. غير أن مضمون اللفظة يتجاوز مجال المعرفة البحتة. ففيها نجد غنى "ي د ع" العبريّ الذي يدلّ على العلاقات بين المرأة والرجل. إذن معرفة المسيح هي أن نحيا معه في حياة حميمة خاصّة. ولكن قد نخطىء فهم هذه العبارة. لهذا، يزيد بولس حالاً أن هذه المسيحيّة تُترجم في مواقف ملموسة تنطبع بحدث الصليب والقيامة.
يرى الرسول في الصليب والقيامة حدثاً واحداً. وهذا ما يدلّ عليه حضور الـ التعريف الذي يُشرف على مجمل العبارة. ثم إن القلب (من فعل قلَبَ) الذي يقوم بأن نتحدّث عن القيامة قبل الموت، ليس من قبيل الصدف. ولا هو مرتبط فقط بخبرة بولس على طريق دمشق، بل هو يرتبط بالجدال القائم في فيلبّي. من عرف المسيح اختبر قدرة الحياة. غير أن هذه القدرة لا تتجلّى إلا عبر الصعوبات والآلام والموت. بل إن الشركة التي توحّد المسيحيّ بالمسيح، والمسيحيّين بعضهم ببعض، لا تنمو إلا في الصعوبات والآلام.
وهكذا نجد هنا موضوعاً كبيراً في فل 1: 5، 29- 30؛ 2: 19- 30. غير أن مجمل هذه الفكرة لا يتوضّح في أي مكان كما هو موضّح في 2 كور 4: 7- 10: "وما نحن إلا آنية من خزف تحمل هذا الكنز، ليظهر أن تلك القدرة الفائقة هي من الله لا منّا. يشتدّ علينا الضيق من كل جانب ولا ننسحق. نحار في أمرنا ولا نيأس... نحمل في أجسادنا كل حين آلام موت يسوع لتظهر حياته أيضاً في أجسادنا". هذا ما يذكّرنا بما في روم 6: 1 ي مع تلميح إلى الماضي. وهكذا نرى تلميحاً إلى المعموديّة. فالحياة المسيحيّة تجد جذورها في موت المسيح الذي يترجَم في كل مؤمن موتاً عن الخطيئة وعن الذات. لهذا، تُشجب مرّة أخرى طريقةُ خصوم الرسل وما فيها من عجب و"مجد" باطل.
في كل هذا يأمل الرسول البلوغ إلى القيامة (آ 11). فتجاه انطلاقة الحياة المسيحيّة (الموت مع المسيح) نجد نقطة وصولها (القيامة معه). وبين هذين القطبين يسير المؤمن. ويظهر هنا بشكل خاصّ الهدفُ الجدليّ لكلام الرسول. فصيغة المضارع ترافقها "إذا أمكن"، على أمل (آي بوس). هذا لا يعني أن الرسول يشكّ بواقع القيامة. بل هو يقول إنه ليس إلا طريق واحد يقود إليها. وقد لا نستطيع أن نأخذ هذا الطريق.
إذن، لا يشكّ بولس بالله، بل يشكّ بنفسه. ونجد التردّد عينه في 2 كور 5: 3 حيث نقرأ: "شرط أن نُوجد لابسين لا عراة". أن نكون لابسين حلّة العرس في القيامة، لا عراة مثل آدم. نحن هنا أمام عبارة فريدة مع تكرار أداة "إك" (من): "اكسانستاسين" (قيامة. مع إك). فالقيامة لا يمكن أن تكون إلا قيامة من بين الأموات، أن نحيا يعني أولاً أن نموت.
خاتمة
دعا بولس إخوته إلى الفرح وكأنه يريد أن يختتم رسالته (رج 4: 1، 4- 10). ولكنه انطلق في توسّع جديد يختلف عمّا سبقه مضموناً ولهجة، فظنّ بعض الشّراح أننا أمام رسالة جديدة، دُمجت برسالة سبقتها. أو أن بولس عاد إلى الإملاء بعد أن توقّف عنه بعض الشيء. هنا نفهم عبارة "أكتب إليكم في هذه الأمور" على أنها إشارة إلى رسائل أخرى قد ضاعت اليوم، أو أي تعليم شفهيّ حمله السعاة الذين كانوا يذهبون من بولس إلى أهل فيلبّي ومن أهل فيلبّي إلى بولس. رسالته فيها الهجوم الصاعق على اليهود أو على المسيحيّين المتهوّدين، فيسمّيهم الكلاب احتقاراً لهم وتدليلاً على أنهم صاروا خارج الكنيسة. ويُفهم الرسول قرّاءه أنه نعمَ بامتيازات الشعب العبرانيّ، ولكنه اعتبر كل شيء كالزبل ليربح المسيح. اعتبر أن كل ما يسميه الناس "ربحاً" هو بالنسبة إليه خسارة تجاه معرفة يسوع المسيح، معرفة قيامته والمشاركة في آلامه وموته. فماذا يبقى بعد ذلك من "المجد" البشريّ؟