الفصل العاشر: نشيد للمسيح

الفصل العاشر
نشيد للمسيح
2: 5- 11

بدأ القسم التحريضيّ في 1: 27، وانطلق انطلاقة جديدة في 2: 1. كان الرسول قد حرّض الجماعة لكي تظلّ متّحدة حتى على المستوى الخارجيّ فتؤلّف صفاً واحداً من المؤمنين. ثم توقّف عند التوافق والوحدة الداخليّة، فطالب بممارسة هاتين الفضيلتين. وكانت آيةٌ بشكل انتقالة (آ 5) أدخلتنا في نشيد شهير للمسيح. يتّخذ هذا النشيد في سياق الرسالة رنّة خاصّة، فلا نستطيع أن نعزله وندرسه وحده، بل كجزء من الرسالة. وهو يقدّم موضوعين متعاقبين يصوّران مسيرة المسيح. الموضوع الأول يشير إلى تواضع الذي نزل من عالم الله ليأخذ على عاتقه مصير البشر الذي يمثّله الموت على الصليب. والموضوع الثاني يعود إلى تمجيده وإقامته كالربّ على الكون.
تتوزّع دراستنا ثلاث محطّات. أولاً، أمور عامة حول هذا النشيد. ثانياً: تنازل يسوع. ثالثاً: ارتفاع يسوع.

1- أمور عامّة
طُرحت أسئلة عديدة حول هذا النشيد: هل وُجد قبل بولس أم ألَّفه بولس؟ أين نجد جذوره، في الغنوصيّة الهلنستيّة أم في العالم اليهوديّ؟ وأين نبت؟ في إطار المعموديّة أو الافخارستيا؟ أم هو نشيد من الأناشيد التي عرفتها الكنيسة الأولى؟
أ- وحدة النشيد
يجب أن نفهم هذا النشيد على أنه وحدة تامّة. لهذا لا نستطيع أن نعزل كلمة (أو عبارة) ونحمّلها معنى لا يتوافق وسياق النشيد. هناك من ربط هذا النشيد مع تك 1: 26، فقابل بين آدم الأول المخلوق على صورة الله ومثاله، وآدم الثاني، يسوع المسيح الذي هو في صورة الله واتّخذ صورة العبد. قد تكون الفكرة بعيدة بعض الشيء لا سيّما وأننا لا نجد لفظة "إِيكون" (صورة أيقونة). كما لا نفهم كيف "يتجسّد" من هو إنسان حقيقيّ. المعنى الأول يقوم في التعارض بين الله والعبد، صورة الله، صورة عبد.
ولا نستطيع أيضاً أن نفصل الجزء الأول (آ 6- 7) عن الجزء الثاني (آ 9- 11). وهكذا نصل إلى بنية النشيد.
هناك من رأى فيه ستة أبيات (يتألّف كل بيت من ثلاثة أسطر). تصوّر الأبياتُ الثلاثة الأولى تنازل ابن الانسان (آ 6- 8). والأبيات الثلاثة الأخيرة ارتفاعه (آ 9- 11). واعتُبرت آ 8 ج (حتى موت الصليب) زيادة من عند بولس.
وكانت محاولة أخرى ترتكز إلى توازي عناصر النشيد، فقدّمت ثلاثة أبيات، وكل بيت يتألّف من أربعة أشطار. يصف البيت الأوّل وجود يسوع قبل الأزل. والبيت الثاني، حياته على الأرض. والبيت الثالث، حياة المسيح في السماء. وتعلن هذه النظريّة أن ذكر الصليب (آ 8)، والكائنات السماويّة والأرضيّة والتحتيّة (آ 10)، والنهاية (آ 11) "لمجد الله الآب"، قد زادها بولس على نشيد سابق.
ولكن نبدأ فنرفض ما سمّي "زيادة" على نشيد أوّلاني. فالنشيد واحد هو. ورسمة التنازل والارتفاع واضحة جدّاً. والصليب يحتلّ المركز الرئيسيّ. يتحدّث القسم الأول (آ 6- 8) عن عمل المسيح، والقسم الثاني (آ 9- 11) عن عمل الله. لا يُذكر "اسم" الفاعل في آ 6- 8. أما آ 9- 11 فتدور حول الاسم الذي أعطي ليسوع.
تنطبع بنية القسم الأول بعدد من الألفاظ: "مورفي تيو" (آ 6 أ، صورة الله) و"مورفي دولو" (آ 7 ب، صورة العبد). "غانومينوس" (صائر) في آ 7 ب، آ 8 ب: صار شبيهاً بالبشر. صار طائعاً حتى الموت. وهكذا نكون أمام بيتين تحيط بهما هذه الألفاظ. الأول (آ 6 أ- 7 ب): "هو القائم في صورة الله... صار شبيهاً بالبشر". الثاني (آ 7 ج- 8 ب): "ظهر في هيئة إنسان... صار طائعاً حتى الموت". تضمَّن الشطران الأولان في البيت الأول لفظة "الله" (صورة الله، مساواته لله)، والشطران الآخران لفظة "إنسان" (على مثال البشر، هيئة إنسان). وقدّم الشطر الثالث في كل بيت (بل لاشى ذاته. ووضع نفسه) الفعل الرئيسيّ مع أداة "بذاته" (هيوتون). أما الشطر الأخير (آخذاً صورة العبد. موت الصليب) فيدلّ على نتيجة هذا العمل وما فيه من ذلّ واحتقار. فالصليب هو للعبيد!
ونكتشف البنية ذاتها في القسم الثاني من النشيد. نجد بيتاً أول من أربعة أشطار (آ 9- 10 أ: لذلك رفعه الله... لكي باسم يسوع) تقدّم عمل الله وتدور حول لفظة "الاسم" (أونوما) التي ترد ثلاث مرّات (أنعم عليه بالاسم، الذي يفوق كل اسم، لكي يجثو لاسم). وبيتاً ثانياً من أربعة أشطار أيضاً يدلّ على جواب الخليقة كلّها على عمل الله (آ 10 ب- 11 أ ب: تجثو كل ركبة... لمجد الله الآب). وينتهي البيتان بالإشارة إلى ذلك الذي "كان مختفياً" في القسم الأول: يسوع.
تأتي "هينا" (آ 10 أ) (لكي) فتبرز إعلان الاسم الذي هو موضوع هذا الاعتراف الإيمانيّ. وإن آ 10 أ و10 ب ج هما إيراد من أش 45: 23. وتبقى آ 8 ج (موت الصليب) وآ 11 ج (لمجد الله الآب). لا يمكن أن نلغيهما من النشيد بحجّة أنهما زيدتا فيما بعد. بل هما تشكّلان قمّتين في النشيد ونقطة الوصول.
هناك عاملان داخل هذه الدراما التي يرسمها النشيد: الله ويسوع. ومرمى الدراما هو سيادة يسوع على الخليقة كلّها.
ب- نشيد مسيحيّ
نحن أمام نشيد مسيحيّ هذا ما لا شكّ فيه. ولكن أين هي جذوره؟ اعتبر بعضهم أن آ 6- 7 كوّنتا في الأصل قصيدة مستقلّة. وقال آخرون إن بولس كيّف مديحاً كان ينشد ظهور الانسان السماوي في لغة المسيحيّين المتهوّدين. ثم أعطاه وجهاً مسيحياً.
وجاء من نسب هذا المديح إلى العالم اليهودي الخارج على التقليد، أو إلى عالم الملاحم في اليونان، أو إلى الواقع السياسيّ في ذلك الوقت. وربط آخرون النشيد بالعالم الغنوصّي، أو بالعهد القديم مع البارّ الذي وُضع ثم رُفع في خطّ أناشيد عبد يهوه، مع آدم الأول وآدم الثاني، مع تيّار الحكمة.
ولكن يجب قبل كل شيء أن نفهم أن المحيط الحياتيّ لهذا النشيد هو محيط مسيحيّ. هو البوتقة التي انصهرت فيها تيارات عديدة. النشيد ليس نسخة قديمة صُحّحت في إطار مسيحي. بل هو تفكير أصيل وعميق حول إيمان الكنيسة مع الاستعانة بتعابير وصور جاءت من العالم الذي يعيش فيه الرسول.
ما نجده هو اعتراف بيسوع على أنه الربّ وهتاف له في آ 11. وهذا ما يجعلنا قريبين من روم 10: 9 (يسمع هو ربّ)! 1 كور 12: 3 (يقول يسوع ربّ إلاّ بالروح القدس). فعبارة "كيريوس ياسوس" (الربّ يسوع) تشكّل إحدى عبارات الإيمان، إن لم تكن العبارة الأساسيّة في الجماعات البولسيّة. وهكذا ترى الكنيسة أن ذاك الذي كان يسوع الناصريّ هو الآن ربّ الكنيسة والكون كلّه. وإذ يذكر النشيد السجود والإعلان بكل لسان، فهو يدلّ على أن الاعتراف بسيادة المسيح يوافق موقفاً ملموساً ومحدَّداً داخل شعائر العبادة.
نلاحظ أن التوسّعات الكرستولوجية (التي تتحدّث عن يسوع المسيح) انطلقت من اعترافات إيمان موجزة. فذكر "الاسم" مثلاً يرتبط بالاعتراف بالرب. مثلاً، 1 كور 5: 4- 5: "فباسم الربّ يسوع... قضيت بأن يُسلم مثل هذا..."؛ 6: 11: "إغتسلتم، تقدّستم، بُرّرتم باسم الربّ يسوع المسيح"؛ عب 13: 15: "فلنقدّم لله بالمسيح ذبيحة الحمد في كل حين، ثمرة شفاه تسبِّح باسمه". ونجد توسّعاً يدلّ على التعارض بين النزول والصعود (أف 4: 10: هذا الذي نزل هو الذي صعد)، بين الموت والقيامة (روم 8: 34: يسوع المسيح هو الذي مات، بل قام)، بين ذاك الذي صار وذاك الذي رُؤي، بين الذي صار في الجسد ورُؤي في الروح (روم 1: 3- 4: في شأن ابنه الذي جاء في الجسد، وفي الروح القدس ثبت انه ابن الله). وأخيراً، إذا كان اعتراف الإيمان يرتبط ارتباطاً أساسياً بيسوع، فهو يضمّ الله إلى يسوع المسيح. مثلاً، 1 كور 8: 5- 6: "لنا إله واحد، الآب الذي منه كل شيء، ونحن إليه، وربّ واحد، يسوع المسيح، الذي به كل شيء ونحن به"؛ 1 تم 2: 5: "لأن الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، الإنسان المسيح يسوع"؛ 6: 13- 14: "أمام الله الذي يُحيي كل شيء، وأمام المسيح يسوع الذي أدّى لدى بونطيوس بيلاطس، شهادته الرائعة"؛ 2 تم 4: 1- 2: "أناشدك أمام الله وأمام المسيح يسوع، الذي سيدين الأحياء والأموات".
وهكذا يبدو هذا النشيد ترنيمة مسيحيّة تجد جذورها في لاهوت بولسيّ موزّع في الرسائل البولسيّة.
ج- مؤلّف النشيد
ويبدو أن هذا النشيد هو وليد تفكير حول اعتراف إيماني دُفع إنسان لكي يُعلنه في إطار جماعيّ فشكّل محور إيمانه وحياته. وسياق العهد الجديد الذي أبرزناه دلّ على أن مسألة العلاقة بين المسيح الربّ وذاك الذي أخذ مع "الاسم" (ي هـ و هـ= كيريوس) وظيفة الربّ الواحد القدير، أي الله، قد طُرحت في وقت مُبكر في الكنيسة. وحين نتذكّر التشديد على الوحدانيّة في العهد القديم، نفهم أن تكون المسيحيّة الأولى قد تطرّقت إلى هذه المسألة حين تحدّثت عن "الاسم" في إطار كرستولوجيّ.
ولاحظنا أيضاً أن النشيد لا يذكر إلاّ شخصين: الله والمسيح. وأن مرمى الدراما التي يصوّرها هي سيادتهما على الخليقة. هذا ما تعبرّ عنه آ 6 حيث الصلة وثيقة بين الخلق والفداء. وبعد هذا، نفهم التعارض الأساسيّ بين القسم الأول من النشيد، حيث المسيح هو الفاعل، والقسم الثاني حيث الله يحتلّ المكان كلَّه. ونفهم أيضاً إيراد أش 45: 23 (في آ 10- 11) الذي ينقل إلى المسيح ما كان في العهد القديم صفة من صفات يهوه: السيادة على جميع الشعوب.
لهذا يبدأ النشيد وينتهي بذكر الله (آ 6 أ، 11 ج): فالاعتراف بيسوع كالربّ لا ينال من مجد الله، بل هو يتسجَّل في قصده الخلاصيّ، وهو ثمرة قراره الحرّ (آ 9 ي)، بل هو لمجده لأنه يكشف أبوّته (آ 11 ج). ويكتشف "الشاعر" "حلَّ" هذه المسألة المستحيلة في طاعة يسوع الناصريّ وتواضعه، في تنازله وموته على الصليب.
ولكن النشيد ينطلق من حياة هذا "الانسان"، فيصعد إلى "أعلى"، ويشير إلى وجود المسيح قبل الزمن. بنى "الشاعر" القسم الأول من النشيد منطلقاً من إيمانه. وانطلق في القسم الثاني من واقع ملموس هو الاعتراف العباديّ وإبراز أش 45. ولا ننسى أن بلينوس الأصغر، حين كتب إلى ترايانس عن المسيحيّين، صوّرهم بأنهم ينشدون المدائح للمسيح وكأنّه إله.
يبقى أن نكتشف هويّة كاتب هذا النشيد. هناك فئتان. الأولى تنفي أن يكون بولس صاحب النشيد، لأن بعض ألفاظه غريبة عن لغة الرسول. والفئة الثانية تعتبر أن الرسول ألّفه في مناسبة من المناسبات ثم أدخله إلى فل. هو نشيد وُلد في محيط يوناني، وقد يكون محيط أنطاكية. صاحبه متشرّب من العهد القديم، وهو شاعر عبقريّ.
هو بولس الرسول، انطلق من سياق عماديّ يشدّد على النزول والصعود، أو من سياق إفخارستي مع التجسّد والتنازل، مع تذكّر الموت على الصليب، مع الفرح والانتصار. وهكذا نكون في إطار أسرار التنشئة، أسرار المعموديّة والتثبيت والافخارسمتيا، التي ينالها المؤمن حين دخوله في الكنيسة.

2- تنازل يسوع (2: 5- 8)
أ- قبل النشيد (آ 5)
وجد بولس نفسه أمام جماعة معرّضة للتفكّك بسبب روح المزاحمة الموجودة بين أعضائها. فذكّرها بما يؤسّسها ويبنيها كجماعة: الإعلان الإيمانيّ الذي تهتف به حين تلتئم. وهذا الاعلان لا يقرّ إلاّ بسيادة واحدة، سيادة الله والمسيح. إذن، كيف يتطلّع المسيحيّون إلى أن يسودوا بعضهم على بعض؟ وهذا الإعلان يعطي المجد لله وحده. فكيف يبحث المسيحيّون عن المجد الباطل، عن العجب بدافع المنافسة؟
وهذا الاعتراف (هذا الاعلان) يستند إلى سلسلة من الأعمال التاريخيّة المحدّدة. وهذه الأعمال هي: تنازل، بذل الذات حتى الموت. فكيف ينساها المسيحيّون. فتنازلُ المسيح وارتفاعُه العجيبان، يعلّماننا أن الطريق الوحيدة إلى المجد هي التجرّد وبذل الذات. هي طريق المسيح وهي طريقنا.
إن آ 5 تختتم التحريض الذي نقرأه في آ 1- 4، وتبدأ النشيد في آ 6- 11، فتدلّ على انها انتقالة. لهذا نجد فيها جزئين. الأول هو نداء جديد إلى "إعمال الفكر" (فرونيو). وهو يختتم ما سبق: إصنعوا هذا. إفعلوا كما أقول لكم. تصرّفوا بعضكم مع بعض. حينئذٍ يعني الجزء الثاني من الآية: هذا ما نجده في يسوع المسيح. فهم التفسيرُ القديم "إن خرستو" (في المسيح) في معنى خلقيّ. ولكن هذا لا يوافق المعنى الجماعيّ الذي نجده في "إن هيمين" (فيكم)، كما لا يوافق القسم الثاني من النشيد (آ 9- 11): كيف يكون المسيح الربّ مثالاً لنا؟ قالوا في الماضي: "ليكن فيكم ذات العواطف التي كانت في المسيح". وبدا تفسير جديد: "تصرّفوا كما يتصرّف أولئك الذين هم في المسيح". وهكذا يعود المسيحيون إلى الخبرة الجماعيّة التي تؤسّس وجودهم: الاعتراف بالمسيح كالربّ، بالله الآب الذي يجعلهم له عباداً (1: 1) وإخوة.
ولكن هل نستطيع أن نستغني استغناء كلّياً عن التفسير الخلقيّ؟ كلاّ. فالقسم الأوّل من النشيد يشير أيضاً إلى سلسلة الأعمال التاريخيّة التي تؤسّس ربوبيّة المسيح. لهذا، انطبع التاريخ الجديد الذي ينتمي إليه المسيحيّون، بطابع لا يمّحى. هو التواضع وبذل الذات. وهكذا يقدّم الرسول برهانين يشجب فيهما التنافس على الكرامات والأولويّات، هذا التنافس الذي يهدّد جماعة فيلبّي: ليس "في المسيح" سوى ربّ واحد. وله وحده المجد. وهذا الربّ يدلّ على أن التجرّد والتضحية يحملان النعمة التي ترفع الجماعة وتقودها إلى الهدف.
ب- صورة الله (آ 6)
قلنا إن النشيد يتألّف من قسمين: يصوّر الأول التنازل الإراديّ من قبل يسوع. والثاني، ارتفاع الربّ الذي نال الاسم الذي يفوق كل اسم. ويتألّف القسم الأول من بيتين. عنونّا البيت الأول: صورة الله. والبيت الثاني: صورة العبد. ونبدأ مع البيت الأوّل.
يبدأ هذا البيت باسم الموصول: ذاك الذي، كما في كو 1: 15 (ذاك الذي هو صورة الله)؛ 1 تم 3: 16 (ذاك الذي تجلّى في الجسد)؛ عب 1: 3 (ذاك الذي هو ضياء مجده). إذن، لا نضع في البداية "كيريوس" (الرب) أو "ياسوس" (يسوع). فالاسم سيرد في ما بعد، والموصول يهيّىء الدرب إليه.
كيف نفهم لفظة "مورفي"؟ جوهر؟ هكذا فهمها الآباء. هو من جوهر الله. وضع، حالة؟ حينئذٍ تعني "مورفي" المجد، وعلامة القوّة والسلطة اللتين تمتّع بهما المسيح قبل وجود الكون، منذ الأزل (إر 17: 5). هل تعني "صورة" (إيكون)؟ عند ذاك نفهم المسيح على أنه آدم الثاني (روم 5)، لأن آدم الأول اعتُبر حسب تك 1: 26: صورة الله.
إن كلمة "مورفي" تدلّ على تماثل عميق جدّاً وحقيقيّ، ولكنه خفيّ وغير ظاهر. حين نقرأ الأفعال المزيدة في جذر "مورفوو" (كوّن، روم 8: 29؛ 12: 2: 2 كور 3: 18؛ غل 4: 19؛ فل 3: 10)، نرى أنها تدلّ على علاقة سرّية لا نستطيع أن نلغي عمقها وواقعيّتها. كان المسيح الله. غير أن العالم كلّه جهل هذا، لأن يسوع لم يمارس سلطانه الإلهيّ.
هذا ما يعبّر عنه أيضاً فعل "هيبارخو" الذي يرد مراراً عديدة في العهد الجديد وعند القديس بولس فيدلّ على ما هو موجود، ما هو قائم. بعد هذا سوف ينتقل يسوع إلى العمل. هو ما استفاد من مساواته مع الله. هنا تأتي لفظة نادرة في اليونانيّة الكلاسيكيّة ولا ترد إلاّ مرّة واحدة في كل الكتاب المقدّس: "هرباغموس": استلاب، وضع اليد، استيلاء. لم يعتبر مساواته مع الله استيلاء. ولكن على ماذا؟ لا نجد هنا المفعول به. فتطلّع الشرّاح إلى "هرباغما" التي تعني طريدة، سلب (أسلاب). ولكن هل نعتبر مساواة الله سلباً يمتلكه المسيح ولم يرد أن يتعلّق به؟ أم خيراً لم يمتلكه، ولكنه لم يُرد أن يأخذه بالقوّة؟ هذا التفسير الأخير. يعود إلى آدم الأول (تك 3: 5: تكونون مثل آلهة) أو الشيطان (أش 14: 12- 13)، أو عبد يهوه (أش 49: 24- 25؛ 53: 12).
نقول: إن المسيح لم يمارس سلطاته (كربّ) المرتبطة بمساواته مع الله. لم يظهر كالربّ (الممجّد)، ولم يستفد بشكل أنانيّ واعتباطيّ ممّا كان (صورة الله، الله). هذا الطرح يتوضّح حين ننظر إلى التوازي بين آ 6 ب (مساواته لله) وآ 7 د (وُجد كإنسان). ففي آ 7 د لسنا فقط أمام واقع بشريّة المسيح، بقدر ما تجلّت هذه البشريّة بالنسبة إلى الله وإلى الخليقة. أما آ 6 ب، فتدلّ على تعلّق المسيح بالله والخليقة في حاله الإلهي.
وهكذا نستطيع أن نترجم آ 6: لم يعتبر مساواته لله شيئاً يستخدمه من أجل صالحه. لقد سبق لبولس واستعمل فعل اعتبر في آ 3 و4: "إعتبروا بتواضع الآخرين خيراً منكم". ويسوع لم يعتبر مساواته مع الله كمناسبة فخر له تجاه الآخرين.
ج- صورة عبد (آ 7)
بدأت مسيرة المسيح في أزليّة الله. فالنشيد يقدّم لنا أقدم تفكير لاهوتيّ عن أزليّة ابن الله. والاهتمام يتوقّف بالأحرى على الحدث الذي حرّكه الله. غير أن مسيرة المسيح التاريخيّة تبدأ، وأصلها في الله. إن المسيح كائن كان في صورة الله. هو من جوهر الله. هو الله. وانطلاقاً من هذا الوضع قرّر بحريّة تامة أن "يتخلّى" عن حاله اللاهوتيّة. ويشدّد النصّ هنا على حريّة الذي يفعل. لقد بادل الوضع الإلهي بوضع العبد. وتتوخّى هذه العبارة أن تدلّ على تحوّل لدى الذي يتصرّف بحريّة. لا نستطيع أن نتخيّل مسافة أطول من تلك التي تفصل الله عن العبد. مسافة لا تحدّ، ولا يستطيع أحد أن يعبرها. وحده استطاع ذلك. والتلاشي (أفرغ نفسه، تجرّد من ذاته) هو تعبير آخر عن التجسّد. لقد صار الله إنساناً.
ولكن في هذا التجرّد الكامل، حافظ التفكيرُ اللاهوتيّ على شخص الذي هو مساوٍ لله ومساوٍ للعبد. ووعيُ تجسّد الله قد لفت نظر اللاهوت المسيحيّ فحاول أن يجعل سامعيه يحسّون بالصدمة التي صدمته هو. ولكننا ما نزال تحت الدهشة حين نسمع أن ذاك المساوي لله اتّخذ حالة عبد.
لقد فهم هذا النشيد وضع الانسان على أنه عبوديّة. والمسيح دخل في وضع العبد، وتضامن كلياً مع البشر. وعبّر النصّ عن هذا التضامن بعبارة "شبيه بالبشر". هنا نلاحظ مسيرة الفكرة التي انطلقت من الجمع (شبيه بالبشر) إلى المفرد (تصرّف كإنسان). فسلسلة الأجيال البشريّة التي ينضمّ إليها الله المتجسّد، تلتقي به في نقطة محدّدة. إنه حقاً إنسان. وهو حلقة في تاريخ البشر. إنه حقاً منهم ونحن نستطيع أن نتحقّق من واقعه البشريّ.
نقرأ فعل "كانوو". يستعمل بولس هذا الفعل مراراً في صيغة المجهول (روم 4: 14؛ 1 كور 1: 17؛ 2 كور 9: 3). غير أن المجهول يختفي هنا فيشدّد على حريّة الفاعل: حرم المسيح نفسه من ممارسة سلطانه، فتلاشى، فافرغ ذاته، فتجرّد من ذاته. ويستعمل هذا الفعل تجاه "بلاروما" أي الملء: يسوع يمارس سلطته على الخليقة كلّها كما على الكنيسة (كو 1: 19؛ 2: 9؛ أف 1: 23؛ 3: 19).
تلاشى وأخذ صورة العبد. فالتجسّد هو تنازل ورسالة. ولفظة "دولوس" تقابل لفظة "كيريوس". واسم الفاعل "لابون" آخذ، تقابل "هيبارخون" (مالك).
ونقرأ أيضاً "هومويوما" (شبه). لقد شابه المسيحُ البشريّة. لا نجد هذه الكلمة في العهد الجديد إلاّ عند بولس (روم 8: 3)، وهذا ما يدلّ أيضاً على صاحب هذا النشيد، إذا قابلنا "هومويوما" مع "سخيما" (هيئة) نرى أنها تدلّ على تماثل عميق وجوهريّ. لا شكّ في واقعية بشريّة المسيح. وهكذا أورد الكاتب ثلاث ألفاظ: صورة، شبه، هيئة، ليتحدّث عن بشريّة يسوع، بينما لا يذكر عن لاهوت الربّ إلاّ كلمة واحدة: صورة. هذا يعني أنه كان من الصعب على المؤمنين أن يقولوا بناسوت المسيح.
ودلّ الشطر الثاني مع "سخيما" على تطوّر بالنسبة إلى الشطر الأوّل. صار المسيح إنساناً فاعتُبر كذلك. فصار تصرّفه (وشكله الخارجيّ) تصرّف إنسان. لماذا هذا التشديد حتى التكرار؟ أولاً خوفاً من الظاهريّة التي تعتبر أن يسوع لم يصر إنساناً حقاً، بل تظاهر. ثانياً، اهتماماً بالموضوع الأساسيّ للنشيد الذي هو أكثر من عرض خاصّ عن التجسّد. ففي آ 7 د، صار المسيح إنساناً وتصرّف كذلك. هو لم يتصرّف كالسيّد والمستبدّ، بل كذاك الذي هو شبيه بالبشر في كل شيء، ما عدا الخطيئة.
د- وواضع نفسه (آ 8)
تورد آ 8 المرحلة الثانية في مسيرة المسيح نحو الانحدار. وهذا الانحدار هو النتيجة المنطقيّة للمرحلة الأولى وهو يتضمّنها في مبدإها. وحريّة التصرّف تبدو هامّة هنا. "واضع نفسه أيضاً". فالانحدار يقود إلى الموت. والموت هو آخر نقطة في هذا الانحدار الذي بدأ بالتجرّد. في هذا الإطار، لا يتضمّن الموت أيّة نتيجة خلاص، بل يُنظر إليه على أنه أكمل تعبير عن الوجود البشريّ العابر. لقد عاش المسيح وضعَه البشريّ حتى إمكانيّاته الأخيرة. وعمل ما عمل في الطاعة. وهذه الطاعة تبدو مطلقة، فلا ترتبط "بشخص" يطيعه. ولكن العودة إلى التمجيد تدلّ على أن هذه الطاعة توجّهت إلى الله نفسه. إذا كان الله قد رفع المسيح، فهذا يعني أن المسيح أطاع الله حتى الموت والموت على الصليب.
ولكن، لم يُذكر الله بشكل خاصّ في هذا القسم الأوّل، فتضمّنت هذه الطاعة طابع الوحي. فالوحي الاسكاتولوجيّ هو وحي طاعة. والحدث الاسكاتولوجيّ الذي فيه دخل المسيحيّون هو حدث تميّزه الطاعة. في هذا الموضع تتحدّد نقطة الالتقاء بين النشيد وسياق الرسالة. فالفيلبيّون قد جُعلوا كمسيحيّين في دائرة سيادة ذلك الذي انحدر في الطاعة. فكيف يستطيعون أن "يتناتشوا" في عدم الطاعة، وينسون المحبّة بعضهم تجاه بعض؟!
ونظر بولس إلى موت المسيح مع قيمته الخلاصيّة. واللفظة الأساسيّة في السوتيريولوجيا البولسيّة هي الصليب. وهكذا نفهم أن موت المسيح هو موت لأجلنا. وصورة الانحدار والارتفاع تجعلنا قريبين من نصوص ذكرناها وليس آخرها ما نقرأ في أف 4: 10: "هذا الذي نزل هو نفسه الذي صعد إلى ما فوق السماوات".

3- إرتفاع يسوع (2: 9- 11)
أ- يسوع المسيح ربّ (آ 9)
مع آ 9 نبدأ القسم الثاني من النشيد. فبعد ليل الصليب يأتي صباح القيامة. وبعد سيادة الله (الله وحده هو الربّ والسيّد) هي سيادة يسوع المسيح. وهذا لم يحصل بفضل تسلسل منطقيّ، بل بمجرّد نعمة (أنعم له، وهب). وهذا تمّ لا كمساس بسلطة الله، بل لمجد أبوّته (آ 11 ج). إذن، فاعل هذا القسم الثاني هو الله المتسامي. وهذا ما يقابل القسم الأول الذي يحدّثنا عن عمل المسيح.
نجد في آ 9- 11، بيتين في أربعة أشعار تتوّجها المجدلة الأخيرة (لمجد الله الآب). يدور البيتُ الأول حول الاسم (اونوما) الذي يمنحه الله في سيادته إلى المسيح. هذا الاسم لا يُذكر بشكل صريح، ولكن لا شكّ بأنه "كيريوس- يهوه". وسلّم إلى يسوع مع السلطان على كل شيء. ويعبّر البيت الثاني عن موقف الخليقة كلّها تجاه هذا الترتيب الجديد: هي تسجد وتعترف بأن "يسوع المسيح هو الربّ" (آ 11 ب) حسب نبوءة أش 45: 23 (ستجثو لي كلّ ركبة، ويُقسم بي كل لسان) والاعتراف العباديّ في الكنيسة. وينتهي هذان البيتان باسم "يسوع" (ياسوس)، وهذا ما يوافق موقفاً محدّداً في الجماعة التي تمارس شعائر عبادتها. وعلامة القطع بين البيتين تُبرز المحيط الحياتي للنشيد: ساعة أُعلن اسم يسوع للمرّة الأولى، كان جواب الجماعة على هذا الإعلان سجوداً واعتراف إيمان.
حتى الآن كان فاعلَ الأعمال المسيحُ الذي تجرّد بحرّية، وتنازل، وصار طائعاً. بعد الآن، ها هو الله يتدخّل. وما عمِلَه الله من أجل المسيح هو جواب لمسيرة التجرّد التي اختارها اختياراً حرّاً. نستطيع أن نرى هنا طقس تتويج ملكي يتوزّع على ثلاث مراحل: تقديم الملك الجديد. إعلانه. هتاف الناس أمام هذا الملك.
ما يقابل التقديم هو "الرفعة" (رفعه الله). نجد هنا فكرتين. الأولى: لا شيء ولا شخص يستطيع أن يتجاوز المرتبة التي أعطاها الله للمسيح الآن. الثانية: نحن هنا أمام نظرة إلى العالم يحتلّ فيها عرشُ المسيح الملكيّ أرفعَ مكانٍ في السماء.
وفي إعطاء الاسم يتحقّق شيء مشابه للإعلان الذي يحصل في تتويج الملك وتوليته السلطان. والاسم الذي هو فوق كل اسم يستلهم المفهوم البيبليّ للإسم. ليس الاسم شيئاً خارجياً لا قيمة له. إنه تعبير عن الشخص. إنه ما يجعله معروفاً بشكل دقيق. والاسم الذي يُعطى (كيريوس) سيتلفّظ به النصّ في النهاية.
"ديو كاي": لهذا. تبدأ آ 9 بهذه العبارة فلا تدلّ على المجازاة، ولا على نتيجة ناموس من النواميس، بل على عمل نعمة الله الذي هو ربّ الكون. هنا نتذكّر أن اسم الله في العهد القديم هو موضوع وحي (خر 3). "إسمع يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الربّ الواحد" (تث 6: 4). وحين تفسّر السبعينيّة "يهوه" بـ "كيريوس"، فهي تحدّد أمرين: الله يكشف عن ذاته كالسيّد المطلق، وهذه السيادة هي محصورة فيه. يعني هو وحده السيّد والربّ.
ونقرأ فعل "هيباريبسوو": رُفع عالياً. نحن في مجال التفضيل. ولكن هذا لا يعني أن الوضع الذي حصل عليه المسيح الآن، يسمو على وضعه في عالم أزليّته. بل يعني الفعل: لا شيء هو فوق يسوع المسيح الذي هو أعلى "هيبر" (آ 9 ب) من كل شيء. لا شكّ في أننا لا نجد فعل "هبمسوو" (ارتفع) إلاّ في 2 كور 11: 7 (أذللتُ نفسي كي ترتفعوا)، ولكن الأفعال المؤلّفة مع "هيبر" هي عديدة في رسائل مار بولس (19 من أصل 28 فعلاً في العهد الجديد).
ب- هدف عمل الله (آ 10)
ما توخّاه عملُ الله السامي هو خضوع الخليقة كلّها واعتراف الكنيسة. نحن لا نفصل ما بين سيادة على الكنيسة وسيادة على الكون. وحين نتذكّر المحيط الحياتيّ لهذا النشيد، نفهم أن الجماعة كانت تشارك في إعلان المسيح والسجود له. فالكنيسة هي باكورة الخليقة الجديدة، واعترافُها وخضوعُها يدلاّن على موقف الكون كلّه. أما الاسم الذي أعلن فهو إسم يسوع، أي ذاك الإنسان الذي كان إنساناً حقاً، الذي تكلّم عنه القسم الأول من النشيد، والذي شارك في كل طوارىء التاريخ البشريّ. وهكذا لا يعود إيمان الكنيسة نتيجة نظريات مهما كانت سامية، بل جواباً على نداء تاريخيّ محدّد، هو نداء يسوع الناصريّ.
وأيراد أش 45: 23 له معناه. هو يشدّد على شموليّة الخلاص، كما يشدّد على طابعه الحصريّ (لا خلاص إلاّ بالله). إذن كان بولس واعياً حين استعمل أش 45: 23 (في روم 14: 11 ربطه بالله) للحديث عن المسيح. فالمسيرة تدلّ على المسألة المطروحة في النشيد كلّه: جمع سيادة الله مع سيادة المسيح. هما في الواقع سيادتان متماثلتان، وتنبعان من قصد الله الواحد. ولهذا، فالإيمان الذي تعلنه الكنيسة الفتيّة، يجب أن يتميّز بشموليّته (ضد كل انغلاق وخاصانيّة)، كما بواقعه الحصريّ (تجاه الآلهة الوثنية). هذا ما دلّت عليه الفئات المذكورة في نهاية الآية: لا شيء في الخليقة المنظورة واللامنظورة، يستطيع أن يقف في وجه سيادة المسيح على الكون.
كنّا قد تحدّثنا في الآية السابقة عن تقديم الملك وإعلانه. وبقي لنا أن نتحدّث عن هتاف الناس أمام هذا الملك. هذا ما نجده في آ 10. وهذا الهتاف هو العنصر الأهمّ من الوجهة اللاهوتيّة. إذا عدنا إلى أش 45: 23، نرى أن الشعوب التي نجت من الكارثة هي التي تركع أمام الربّ وتقرّ بسيادته. وفي النشيد للمسيح، تجاوز النصّ معنى هذا الاستشهاد الكتابيّ وحوّله تحويلاً كبيراً. فالهتاف يتمّ باسم يسوع. أي يهتفون: يسوع. نحن نتعجّب حين نرى هنا الاسم التاريخيّ للمخلّص. نحن بعيدون جدّاً عن العالم الغنوصيّ. والذي ينشده هذا النصّ ليس كائناً من عالم الميتولوجيا، بل إنسان تاريخيّ.
ولا يأتي الهتاف فقط من الشعوب التي يذكرها أشعيا، بل من كل الكائنات التي في السماء والأرض وتحت الأرض. أي عالم الآلهة في السماء. والابطال على الأرض. والموتى تحت الأرض. عاد النشيد إلى الميتولوجيا ليدلّ على القوى التي سيطرت حتى الآن على حياة البشر واستعبدتهم. وبما أننا أمام قوى معادية لله، فالهتاف الذي تطلقه ليس اعترافاً بهذا الملك الجديد، بل إعلاناً لخضوعها له. لقد جاء إلى الكون ملك جديد. فإن كانت القوى الغاشمة قد أمسكت مصير الكون في يدها وجعلت البشر يعيشون في الخوف والقلق، فالعالم قد نال الآن في المسيح مركزاً جديداً يقيم فيه، وحصل على مدلول جديد فصار في خدمة المسيح.
ج- شهادة الإيمان (آ 11)
المسيح هو المحور الذي فيه يجد تاريخ العالم معناه. فلا مكان من بعد لمصير مجهول يُلهمه "القدر". فالمسيح يكفل مصير الأفراد ويؤمّن ديمومة العالم. لقد قُهرت القوى التي كانت تخيف البشريّة. لقد قهرها المسيح بطاعته، لهذا أعطي له اسم كيريوس، الاسم الإلهي ليهوه في التوراة العبريّة. إن "كيريوس" يسوع يحتلّ منذ الآن المكانة التي احتلّها يهوه في العالم. إنه الوسيط بين الله والعالم: وبه يكون للعالم وصول إلى الله.
وانتصار المسيح هذا على القوى الكونيّة يبقى مخفياً عن البشر. ولكن حين تُنشد الجماعة المسيحيّة هذا النشيد للمسيح، فهي تعرف في الإيمان أنه أقيم ربّاً (كيريوس). ولهذا فهي مشدودة في انتظار اليوم الذي فيه يفرض ملكُه الخلاصيّ نفسه على الكون كلّه. وهذا الإيمان يتيح لها أن لا تخاف العالم الذي تخلّص تخلّصاً جذرياً من الشيطان وعرف السلام بالمسيح.
وفي المجدلة الأخيرة لمجد الاب، يدوّي فعل إيمان الجماعة. فالآب هو أبو يسوع المسيح، وبالتالي هو أبو المسيحيّين. وهكذا نعود إلى لاهوت مركّز على الله، بعد أن أنشدنا المسيح في "صورة الله" وفي "صورة العبد".
تلك هي القمّة التي انتظرناها منذ بداية النشيد، والتي تشكّل قلب الإيمان المسيحي في بداية الكنيسة. هناك الفعل البسيط "هومولوغيو" (اعترف) الذي يدلّ في العهد الجديد على اعتراف الإيمان في الكنيسة (روم 10: 9؛ يو 9: 22: 1 يو 4: 15). ولكن بولس يستعمل هنا "إكسومولوغيو" الذي يدلّ على المديح العلنيّ كما يدلّ على الاعتراف بالخطايا. أما هنا فهو يشير إلى الطابع العلنيّ والليتورجيّ لاعتراف يعلن يسوع. هذا ما تفعله الشعوب مع ملوكها.
"ربّ هو يسوع المسيح". هذا يعني أن المسيح هو الربّ الذي حدّثنا عنه العهد القديم. وأنه يتفوّق على كل كيريوس يعتبر أن بيده سلطة من السلطات. وهذا الربّ هو أيضاً هذا الانسان يسوع الذي سار إلى النهاية في طريق الانحدار والتواضع والموت. وسلطتُه المبنيّة على الطاعة، لا يمكن إلاّ أن تكون "لمجد الله الآب".

خاتمة
نحن هنا أمام نشيد مسيحيّ ألّفه بولس أو وضع فيه اللمسات الأخيرة. نرى فيها التعارض بين انحدار المسيح الإرادي وارتفاعه بيد الله. الوضع الإلهيّ الذي عرفه هو وضع المسيح قبل تجسّده، وهذا التجسّد هو أول خطوة في انحدار يسوع وتنازله. بعد هذا، انعكس كائن الله في تصرّف المسيح الذي اختار التواضع والطاعة، لا العجب والتكبّر والتمرّد. وهذا "التلاشي" الذي عاشه يسوع لا يفترض أنه لم يعُد مساوياً لله. فهو يكشف في تنازله عن كيان الله وحبّه. هنا نتذكّر كلام القديس يوحنا في إنجيله: "هكذا أحبّ الله العالم حتى إنه أرسل ابنه الوحيد". نزل المسيح، تنازل. ثم صعد وارتفع وأعطي له الاسم الذي يفوق كل اسم. وصار ملكاً على الكون وعلى القوى التي كانت "تتحكّم" بالكون. بمثل هذه الكلمات كان المسيحيّون الأولون يعلنون إيمانهم في نشيد يدخلنا في تاريخ الخلاص: منذ ترك يسوع الله وجاء إلى العالم. ومنذ ترك العالم وعاد إلى الآب. وكل هذا لمجد الله وسجوداً للمسيح من كل ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM