الفصل التاسع والعشرون: انجيل متى كتاب بدايات يسوع

الفصل التاسع والعشرون
انجيل متى
كتاب بدايات يسوع
ف 1- 4
ونتابع قراءتنا للانجيل فنصل إلى انجيل متى الذي دوّن حوالي سنة 80.
تتحدث كل لوائح الرسل عن شخص اسمه متى (3:10؛ مر 18:3؛ لو 15:6؛ أع 1: 13). ويصفه انجيل متى بانه كان عشاراً وجابي ضرائب (9: 9). وارتبط الإنجيل الاول باكراً بمتى الرسول في الكنيسة. وهذا الإنجيل يعكس حياة واهتمامات جماعة مسيحية من أصل يهودي.
لن نقدّم تصميماً محدداً عن هذا الإنجيل، بل نتوقف عند اربع مراحل (تبرز في اربعة فصول). نقدّم في كل مرحلة معطيات عامة ونتوقف عند هذا النص أو ذاك متساءلين عمّا يخبرنا عن جماعة متى ومسيرتها في التعرّف إلى يسوع.
يتحدث هذا الفصل الأول عن كتاب بدايات يسوع وينقسم قسمين: اناجيل الطفولة ثم يوحنا المعمدان.

أ- أناجيل الطفولة (ف 1- 2)
حين نفتح أولى صفحات انجيل متى سنقرأ شيئاً لم نقرأ مثله عند مرقس: خبر أصوله يسوع، جذور يسوع (طفولته). هو خبر يدعونا إلى التأمل. هناك أولاً لائحة بأسماء لا تعني لنا الشيء الكثير. ثم أحداث تجعلنا نفكّر: هل حصلت هذه الأمور بهذا الشكل؟ ماذا نجد في مت 1-2؟

1- تتميم
إذا قرأنا هذين الفصلين بتمعّن نكتشف ردة (أو: قرار ولازمة) تعود بصورة منتظمة: "وحصل كل هذا ليتمّ ما قاله الرب بالنبي" (1: 22؛ 2: 5؛ 2: 15؛ 17:2؛ 23:2).
يقدّم لنا الكاتب مفتاحاً ندخل به إلى جوّ كتابه. إنه يبيّن العلاقة الوثيقة بين تاريخ الشعب اليهودي ومجيء يسوع المسيح. واستعمل فعل "تم" ليدلّ على هذه العلاقة. فاللفظة التي اختارها تساعده على القول بأن هناك شيئاً جديداً حصل: مجيء يسوع. ولكن هذا الجديد لا يُلغي ما كان قبله، أي: تاريخ شعب إسرائيل. فما سوف يعيشه يسوع يلقي ضوءاً على التاريخ الماضي ويعطيه معناه الحقيقي. وصل التاريخ إلى هدفه ولكنه لم يصبح نافلاً. فهو ايضاً يلقي بضوئه على حياة يسوع. وفي هذا التاريخ سيكتشف يسوع شيئاً فشيئاً معنى رسالته وطريقة القيام بها.

2- شجرة العائلة (1: 1- 17)
نجد مثل هذه "الشجرة" في التوراة. فاليهودي يهتم بأن يبرهن عن انتمائه إلى الشعب المختار، فيذكر سلسلة الاجداد، يذكر نسبه. ويسوع متجذّر في تاريخ شعبه. إنه ابن داود، ابن ابراهيم. وبعد قليل، سيحدّد متى موقعه الجغرافي في الناصرة، وموقعه الفكري مع هؤلاء المعمِّدين الذين يسمّون " نذراء" (2: 23).

3- عمانوئيل (1: 18- 24)
يورد مت 1 :23 نص أش 7: 14 (ها إن الصبية، العذراء، تحبل). ما حدث في الأمس يتحقّق اليوم. في الأمس كانت ولادة ابن الملك أحاز علامة عن حضور الله وسط شعبه. واليوم، بصورة جديدة ونهائية، صار مجيء يسوع العلامة بان الله هو عمانوئيل، أي الله معنا. الله معنا لاما الرمز، بل في الحقيقة، من خلاله هذا الطفل.
وأبرز متى دور الروح القدس في ولادة يسوع. ففي العهد القديم أعطي الروح لبعض الأشخاص من أجل مهمّة محددة. مثلاً، القضاة أي هؤلاء الذين يخلّصون شعبهم (قض 6:14). أو الانبياء مثل أش 61: 1: "روح الرب الاله عليّ". فهذا الروح سيلعب دوراً مهماً حين يتدّخل الله فيجدّد شعبه وينقيّه من خطاياه، ويعيد إليه الحياة (حز 36- 37).
مع يسوع الذي وُلد من الروح، يأتي ذلك "الذي يخلّص شعبه من خطاياهم". وسيبدأ يسوع مهمته بدفع من الروح القدس (3: 16؛ 4: 1). وسيكون الأمر كذلك بالنسبة إلى التلاميذ. إن المبادرة في هذه الأحداث تعود إلى الله.

4- مزاحمة بين ملكين (2: 1- 12)
يسوع هو ملك اليهود. عرفه الوثنيون وعبدوه. غير أن الملك هيرودس يريد موته. عمّ الاظطراب أورشليم كلها، والعلماء اليهود لا يتحرّكون، لا يخاطرون. هذا ما يلّخص المأساة التي هي في قلب انجيل متى: رفض اليهود أن يؤمنوا بيسوع. هم لا يريدون ملكوت السماوات الذي يقدّمه يسوع لهم، والذي يحتلّ فيه الوثنيون، الامم، مكانهم بجانب اليهود (8: 10- 20؛ 12: 18- 21؛ 15: 21- 28؛ 24: 14؛ 28: 19).
لا شك في أن التتميم الذي عرضه يسوع يذهب أبعد مما تصوّره الرجاء اليهودي: يستطيع الوثنيون- في رأيه- أن يأتوا للقاء الله، يستطيعون أن يعبدوا الاله الحقيقي، شرط "أن يصعدوا إلى أورشليم" (أش 2: 2- 3؛ 60: 1- 6) أي: يحرّرون في إطار الديانة اليهودية. لا، ليس هذا رأي يسوع ولا رأي الكنيسة فيما بعد. ولهذا، سيبتعد يسوع عن شعبه. والكنيسة، الجماعة الجديدة، ستكون علامة لمجيء هذا الملكوت، ملكوت السماء.
5- يسوع إسرائيل الجديد (2: 13- 23)
سيعيش يسوع من جديد كل تاريخ إسرائيل، وكل تاريخ إسرائيل سيحيا فيه. نزل إلى مصر وصعد. وعاد من المنفى مثل الشعب سنة 538 ق.م (ار 2: 17 يشير إلى هذا المنفى). في يسوع يتجدّد خبر موسى: هرب من غضب فرعون الذي أراد أن يقتله (خر 2: 15). عاد إلى اخوته ليحرّرهم، في اليوم الذي عرّفه به الرب: "مات الذين طلبوا حياتك" (خر 4: 13). وهرب يسوع من هيرودس، وعاد ساعة كلّم الملاك يوسف في الحلم.
وسيعود متى إلى تاريخ الشعب في خبر التجربة (ع 1- 11). فأجوبة يسوع إلى المجرّب تستعيد كلمات سفر التثنية التي تشير إلى أحداث الخروج في مصر المروّية في خر 16 (المن). خر 17 (الماء)، خر 23: 20- 33 (الآلهة الكاذبة). كل هذه ذكريات سيّئة لشعب شك بالله، تذمّر على الله. واليوم لا يريد يسوع برهاناً عن قدرة الله من أجل منفعته الشخصية. إنه يعيش مسيرة الانتصار ويكتب تاريخ أمانته لله.
هذان الفصلان هما مقدّمة لانجيل متى بمواضعه الكبرى التي سنتعرّف إليها فيما بعد ولاسيما في الخاتمة (28: 16- 20).

6- ما الذي حدث
نظّن ونحن نقرأ هذين الفصلين أن متّى يفسّر لنا الاحداث كما حصلت بدقة. غير أن همّه ليس في أن يقدّم لنا صورة مفصلّة عن مسيرة هذه الأحداث. إنه يريد أن يساعدنا على اكتشاف هوّية يسوع. لا كما عرفت يوم ولادته، بل كما اكتشفها المؤمنون وعرفوها في أيامه، أي ساعة دوّن انجيله (سنة 80).
وإذ أراد متى أن يصل بنا إلى هذه المعرفة، قدّم الواقع بشكل خبر تاريخي وتفسير الواقع معاً. إذن، إنطلق من وقائع حقيقية ومعروفة: مولد يسوع، موضع مريم ويوسف، هيرودس الذي عُرف عنه أنه قتل عدداً من أبنائه مخافة أن يُعزَل. وفي الوقت عينه، قدّم متى هذه الأحداث وتوسَّع فيها، وقد أراد أن يشركنا في كل ما فهمه عن يسوع انطلاقاً من كل حياته، وعلى ضوء قيامته، وبمساعدة الكتب المقدّسة. ماذا اكتشف؟
هذا الطفل الصغير هو ابن داود الذي جاء يتمّ انتظار شعبه، الذي يثير الحذر والعداوة، الذي يعبده أولئك الذين قبلوا أن يسيروا في الطريق ليتعرّفوا إليه.
إذن، عاد متى إلى قراءة الحدث. ولن نستطيع أبداً أن نفصل بين الحدث وتفسيره، لانهما يرتبطان ارتباطاً وثيقاً. ونستطيع أن نقابل مت 1-2 مع لو 1-2 حيث نجد قراءة اخرى للاحداث عينها.

7- لماذا هذا التشديد على التتميم
متّى هو يهودي الأصل وكذلك جماعته. فقبل سنة 70، ترك مسيحيو أورشليم المدينة المقدّسة ولجأوا إلى شمالي البلاد، بل وصلوا إلى سورية وفينيقية. وساعة دوّن متى انجيله كانت المعارضة على أشدّها بين اليهود الذين ظلّوا أمناء للديانة اليهودية وبين الذين صاروا مسيحيين.
بعد سقوط أورشليم، أعاد اليهود تنظيم صفوفهم. كانوا في زمن يسوع تيارات واحزاباً مختلفة، فلم يبق الآن إلا حزب الفريسيين. أحسّوا بالحاجة إلى الوحدة، فتحجّروا وصلّبوا مواقفهم وهم يعيشون هذه الازمة. حينئذ طردوا المسيحيين من الحياة الدينية اليهودية. وبدت المسيحية هرطقة حقيقية.
وكان تمزّق أحسّ به متى. فأراد أن يبيّن أن الاعتقاد بيسوع المسيح لا يعني إنكاراً لما آمن به اليهود في الأمس. فالتعلّق بيسوع يعطي هذا الايمان كل قيمته. إنه ذلك الذي يتمّ الكتب المقدّسة. ذاك الذي به يتحقّق انتظار عاشه الشعب قروناً عديدة. فيه يتحقّق مجيء ملكوت الله. والكنيسة هي العلامة والشاهدة لكل هذا في نهاية القرن الأوّل.

ب- يوحنا المعمدان (ف 3- 4)
هنا ننتقل إلى يوحنا المعمدان وبداية حياة يسوع العلنية.
يحدّد موقع يوحنا في كل انتظار شعبه. أعلن: "إقترب ملكوت السماوات" (3: 2). هكذا سمّى اليهود ملكوت الله، لأنه لم يكونوا يتجاسرون أن يتلفظوا باسم الله فقالوا: السماء.
وتركّزت كرازة يوحنا على الدينونة القريبة التي لا مساومة فيها ولا تنازلات: "الفأس على أصول الشجر... كل شجرة لا تثمر تقطع" (9:3). إنه لأمر ملّح بأن نبدلّ حياتنا، بأن نتوب.
واستعاد يسوع الكلمات عينها في بداية كرازته (4: 17). هكذا نقلها متى. ولكن معناها تبدّل في فم يسوع. وسيضيع يوحنا فيما بعد حين يرى الطريقة التي بها يشهد يسوع لمجيء هذا الملكوت (2:11- 19). هناك مسافة بين ما يرجوه يوحنا من مجيء المسيح (قاضٍ يدين الناس الذين لم يُقبلوا إلى التوبة)، والطريقة التي بها يلعب يسوع فيها دوره. إنه "الابن الحبيب" الذي اختاره الآب (3: 17) ليحمل رحمة الله وغفرانه، ليخلّص الإنسان لا ليهلكه.
وشدّد متى على وعي يسوع لرسالته وبصورة خاصة في طريقة حياته. وسنرى فيما بعد الخيارات التي يتخذها (16: 1- 4). لقد جاء ليعمل مشيئة الآب (26: 36- 48).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM