وَصيَّة أيّوب المَدعو يوباب - وصية أيوب

وصية أيوب

المطلع
1 (1) كتاب أقوال أيوب المدعو يوباب. (2) حلّ به المرض فرتّب أموره. في ذلك اليوم دعا أبناءه السبعة وبناته الثلاث (3) بحسب أسمائهم: ترسي، خوروس، هيون، نيقي، فوروس، فيفي، فروون، هيميرا، قصيا، قرن الكحل. (4) دعا أولاده وقال لهم:
تعالوا حولي، يا أولادي، تعالوا حولي فاعلمكم بما صنع الرب معي وكل ما حصل لي. (5) أنا أبوكم أيوب الذي تحمّل كل شيء، أما أنتم فلكم نسل مختار، خرج من صلب يعقوب، والد أمكم. (6) أما أنا فاتحدّر من بني عيسى، شقيق يعقوب، الذي تحدّرت منه دينة أمكم التي منها أنجبتُكم أنا. ماتت امرأتي الاولى مع سائر أولادي العشرة ميتة فظيعة. فاسمعوا، يا اولادي، فأنا أعلمكم بما حصل لي.

2 (1) كان اسمي يوباب قبل أن يعطني الرب اسم أيوب. (2) حين سُمّيت يوباب سكنتُ قرب هيكل صنم كان موضوع عبادة. (3) وإذ كنت أرى المحرقات تقدّم له دوماً، قلتُ في نفسي: (4) أهذا هو الاله الذي صنع السماء والأرض والبحر ونحن؟ كيف أقدر أن أعرف؟

ظهور الملاك
3 (1) خلال الليل، اذ كنت نائماً، جاء إليّ صوت عظيم في نور أعظم أيضاً وقال لي: "يوباب، يوباب"! (2) أجبت: "ها أنا". فقال: "قم فأريك من تريد أن تعرفه. (3) هذا الذي يقدّمون له المحرقات والسكب ليس الله، بل قوّة ابليس الذي به تضلّ الطبيعةُ البشريّة". (4) فلما سمعت هذه الكلمات سقطتُ عند أسفل سريري وسجدت قائلاً: "ربّي، أنت الذي جئت لخلاص نفسي، (5) أسألك إن كان هذا المعبد هو معبد إبليس الذي به يضلّ البشر، أعطني القدرة لكي أذهب وأطهّر هذا المعبد (6) بحيث لا يعود يتقبّل السكب. من يمنعني من ذلك وأنا ملك هذه البلاد"؟

4 (1) فأجابني النور: "ستطهّر هذا المعبد ولكني اعرّفك كل ما أمرني الرب أن أنقل إليك". (2) فأجبت: "كل ما أمرني به أنا خادمه أسمعه وأصنعه". (3) فأجاب: "هذا ما يقول الرب: (4) "إذا حاولت تدمير معبد الشيطان، فسيقوم عليك ويحاربك بغضبه، ولكنه لن يستطيع أن يضربك حتى الموت. غير أنه يصيبك إصابات عديدة (5) فيتنزع منك خيراتك. يأخذ كل أولادك (6) ولكن إن قاومتَ، جعلت اسمك معروفاً وسط جميع أجيال الأرض حتى انقضاء العالم". (7) وأردّ لك أيضاً خيراتك، والرب يردّ مالك مضاعفة، (8) لكي تعلم أنه لا يحابي الوجوه، وأنه يعطي خيراته لمن يطيعه. (9) وتستيقظ في القيامة (10) ستكون كمصارع يَضرب ويتلقّى الضربات فينال الاكليل، (11) حينئذ تعرف أن الرب عادل وحقّ وقويّ، وهو الذي يشدّد مختاريه".

5 (1) أما أنا، يا اولادي، فأجبته: "سأقاوم حتى الموت ولا اتراجع". (2) وبعد أن ختمني الملاك بختمه، تركني. فقمتُ، يا أولادي، في الليلة التالية، فأخذت خمسين خادماً معي ومضيت إلى هيكل الصنم فقلبته رأساً على عقب، (3) وعدت إلى بيتي بعد أن أمرت بإقفال الابواب.

زيارة ابليس لايوب
6 (1) اسمعوا لي يا اولادي واندهشوا. (2) ها أنا عدت إلى بيتي وأغلقت الابواب، وأعطيت أوامري للبوّابين: (3) "إن طلبني أحد اليوم، فلا أريد أن أعلم. بل قولوا له: إنه مشغول. هو في البيت لأمر هام". (4) وإذ كنت في البيت، تزيّا إبليس بزيّ شحاذ وطرق الباب (5) وقال للبوّابة: "أعلمي أيوب أني أريد أن أكلّمه". (6) فجاءت إليّ البوابة وقالت لي، (7) فعلمتْ مني أن عليها أن تعلمه بأني لست حراً الآن.

7 (1) حين سمعها ابليس، ذهب وجعل على كتفيه عصا وجاء يحادث البوّابة: (2) "قولي لأيوب: أعطني خبزاً من يديك لآكل". (3) فأعطيت الخادمة خبزاً محروقاً تعطيه إياه وتقول له: (4) "لا تنتظر أن تأكل من خبزي لأنك لي غريب". (5) خجلت البوّابة من أن تعطيه من هذا الخبز المحروق بلون الرماد. (6) وبما أنها لم تعرف أنه الشيطان أخذت أجمل رغيف لديها وأعطته (7) فأخذه. ولما علم ما حدث، قال للأمة: "إذهبي، يا خادمة السوء، واحملي الخبز الذي اعطوك لي". (8) فبكت الخادمة بكاء حاراً وقالت: "حسنا قلتَ إني خادمة السوء. (9) فلو لم أكن لفعلت ما أمرني به سيّدي". وعادت تحمل إليه الرغيف المحروق، وقالت له: "هذا ما قال سيّدي: (10) "لن تأكل من خبزي لأني غريب عنك". (11) لهذا أعطيتك إياه لئلاّ يوبّخني لأني ما أعطت شيئاً لعدوّ شحاذ". (12) فلما سمع الشيطان هذا، أطلق الخادمة لتقول لي: "خبز محروق! هكذا سأجعل جسمك. أغيب ساعة وأعود لأدمّرك". (13) فاجبته: "إعمل ما عليك أن تعمل. فمهما جلبتَ عليّ (من شرور)، فأنا مستعدّ لأن اتحمّل ما به تعاقبني".

8 (1) وحين تركني، مضى تحت الفضاء يستحلف الرب أن يعطيه السلطان على مالي. (2) فلما نال من الله هذا السلطان، جاء ينتزع مني كل ثروتي.

غنى أيوب ومحبّته
9 (1) فاسمعوا لي أعلمكم كل ما حصل لي وما انتزع مني. (2) كان لي مئة وثلاثون ألف نعجة. (3) فكرّستُ جزّة سبعة آلاف منها لألبس اليتامى والارامل والمساكين والعجّز. كان لي قطيع من ثماني مئة كلب تحرس قطعاني. وكان لي أيضاً مئتا كلب تحرس بيتي. (4) كان لي تسعة آلاف جمل جعلت منها ثلاثة آلاف لتعمل في كل مدينة، (5) حمّلتها خيرات، وأرسلتها إلى المدن والقرى، وأمرت بالتوزيع على العجّز والمحتاجين وعلى جميع الأرامل. (6) وكان لي أربعون ألف أتان ترعى. فرزتُ خمس مئة، وأمرت أن تباع صغارها لفائدة المحتاجين والمساكين. (7) فجاء المحتاجون من كل الاقطار ليلتقوا بي. كانت أبواب بيتي الأربعة مفتوحة. (8) أمرت خدمي ليتركوها مفتوحة عمداً: إن جاء بعضهم يطلب صدقة ورآني جالساً قرب الباب، فيخجل ويذهب دون أن يأخذ شيئاً. فإن رأوني جالساً عند باب، عادوا بباب آخر وأخذوا ما يحتاجون إليه.

10 (1) وكان لي أيضاً ثلاثون مائدة في بيتي، ممدودة في كل ساعة للغرباء وحدهم. (2) وكان لي هناك أيضاً اثنتا عشرة طاولة أخرى للارامل. (3) فإن جاء غريب يطلب صدقة، كان يُخدم أولاً على المائدة ثم يُعطى المال. (4) ما كنت اسمح لأحد أن يخرج من بيتي فارغ اليدين. (5) وكان لي ثلاثة آلاف وخمس مئة زوج بقر. فرزتُ منها خمس مئة زوج، وعيّنتها لفلاحة ما تستطيع في كل حقول الذين يستأجرونها. (6) وفرزت مدخول عملها لمائدة المحتاجين. (7) وكان لي خمسون خبّازاً، جعلت بعضاً منهم في خدمة مائدة الفقراء.

11 (1) رأى الغرباء غيرتي، فرغبوا هم أيضاً في القيام بهذه الخدمة. (2) وآخرون غيرهم كانوا في عوز، وما استطاعوا أي يصرفوا المال، جاؤوا إليّ يطلبون: "نتوسّل إليك، ألا نستطيع نحن أيضاً أن نؤمّن هذه الخدمة؟ ولكننا لا نملك شيئاً! (3) ترأف بنا وأقرضنا ذهباً، فنتاجر في المدن الكبرى، ونشارك في خدمة البائسين، (4) وبعد ذلك نردّ لك ما يخصّك". (5) فلما سمعتُ هذا فرحت، لأنهم نالوا كل شيء مني لإطعام الفقراء. (6) قبلت طوعاً صكهم وأعطيتهم كل ما أرادوا (7) دون أي كفالة سوى الوصل. (8) وهكذا تاجروا بمالي. (9) مرّة نجحوا فأعطوا عطايا للفقراء. (10) ومرّة سُلبوا فجاؤوا يتضرّعون: "نتوسّل إليك أمهلنا! فترى كيف نردّ لك مالك". (11) وفي الحال جئت بالصك فقرأته ووفيته قائلاً: "لن آخذ شيئاً من كل ما سلّمتكم لأجل المحتاجين". (12) وما أخذت شيئاً من ديني.

12 (1) وإن جاء انسان بقلب فرح فقال: "لا وسائل لي لأعين المحتاجين. ولكني أريد أن أخدم الفقراء اليوم على مائدتك". (2) يُمنح له هذا فيخدم ويأكل. وعند المساء حين يمضي ليعود إلى بيته، كنت أجبره أن يأخذ أجراً قائلاً: (3) "أعرف أنك عامل ينتظر ويرجو أجراً. عليك أن تأخذه". (4) وما سمحتُ أن يبقى أجرُ أجير عندي في بيتي.

13 (1) ونقص العمّال الذين يحلبون البقر، فسال الحليب على التلال. (2) وذاب السمن في الطرق. وكانت القطعان عديدة جداً فنامت في الصخور والتلال لتضع صغارها. (3) لهذا سالت الجبال حليباً فصارت مثل السمن. (4) تعب خدّامي الذين يطبخون للارامل، (5) وأهملوا البائسين، ولعنوني قائلين: "من يعطينا من هذا اللحم لنشبع"؟ مع أنني كنت صالحاً معهم.

14 (1) كان لي ستّ كنارات، وعود بعشرة أوتار. (2) كنت استيقظ كل يوم بعد إطعام الارامل، فآخذ العود وأعزف لهن وهنّ يغنين. (3) جعلتهنّ بآلتي يذكرن الله ويمجّدن الرب. (1) وإن تذمّرت خادماتي، استعدتُ الآلة وأنشدتُ أجر المجازاة (5) فتوقّف تذمّرهم الحقير.

15 (1) أما أبنائي، وبعد القيام بهذه الخدمة، فكانوا يحملون كل يوم طعامهم، (2) ويذهبون إلى أخيهم الاكبر ليتغدّوا معه. (3) وكانوا يأخذون أيضاً معهم أخواتهم الثلاث، ويتركون الخادمات في العمل. (4) بما أن أبنائي أساؤوا إلى الخدم الذكور الذين في خدمتهم، قمتُ صباحاً وقدّمت عنهم ذبائح بحسب عددهم: ثلاث مئة حمامة، خمسين جدياً واثنتي عشرة نعجة. بعد الذبيحة، أمرت أن يُهيّأ كل هذا للفقراء قائلاً: "خذوا بقايا الذبيحة وصلّوا عن أولادي، فقد يكون أخطأ أبنائي أمام الرب قائلين وهم ممتلئون غطرسة واحتقاراً: "نحن أبناء هذا الرجل الغنيّ، وخيراته لنا. فلماذا نخدم"؟ فالكبرياء رجس أمام الله". (5) واخترت أيضاً عجلاً وقدّمته على مذبح الله، لعلّ أبنائي نووا الشرّ في قلوبهم على الله.

دمار أيوب
16 (1) هذا ما فعلته في السنوات السبع التي تلت وحيَ الملاك لي. (2) ثم بعد أن نال ابليس السلطان أن يهاجمني، نزل بدون شفقة، (3) وأحرق بالنار النعاج السبعة آلاف المعدّة لإلباس الارامل، والجمال الثلاثة آلاف، والأتن الخمس مئة، وأزواج البقر الخمس مئة. (4) كل هذا دمّره بحسب السلطان الذي ناله عليّ. (5) أما سائر القطعان فأخذها المواطنون (6) الذين أحسنت إليهم. ها هم يقفون في وجهي وينتزعون ما تبقّى من قطعاني. (7) أعلنوا لي دمار ما لي، فمجّدت الله وما جدّفت.

17 (1) وإبليس الذي كان يعرف قلبي، دبّر مكيدة عليّ. (2) تزيّا بزيّ ملك الفرس، ووقف في مدينتي، وجمع هناك جميع الناس غصباً عنهم. (3) وكلّمهم بنبرة مهدّدة: "هذا هو يوباب الذي بدّد كل خير البلاد وما ترك شيئاً، وهو الذي وزّع ما وزّع على البؤساء والعميان والعرج، (4) الذي دمّر هيكل الاله العظيم وأزال معبد السكب. لهذا أردّ له أنا بحسب ما فعل لبيت الاله. فاذهبوا وخذوا كل قطعانه وكل ما يملك على الأرض". (5) فأجابوه: "له سبعة بنين وثلاث بنات. فقد يهربون إلى بلدان أخرى ويشتكون علينا بسبب تسلّطنا، وفي النهاية يثورون علينا ويقتلوننا". (6) قال لهم: "لا تخافوا! دمّرت القسم الاكبر من قطعانه بالنار، وأخذت الباقي، وسوف أهلك أولاده أيضاً".

18 (1) فذهب ودمّر البيت على أولادي وقتلهم. (2) ولما رأى المواطنون أن ما قاله حدث حقاً، جاؤوا فطردوني، وأخذوا كل ما كان في بيتي. (3) نظرتُ بعينيّ، على موائدي وأسرّتي، أناساً محتقَرين مبتذلين. (4) ما استطعت أن أقول كلمة، لأني كنت مرهقاً مثل امرأة تراخى حقواها من وفرة العذاب. (5) وتذكّرت خصوصاً القتال الذي أعلنه الرب لي بواسطة ملاكه، كما تذكّرت المديح الذي أعطي لي، (6) فصرتُ كمن يدخل مدينة ليرى غناها ويرث جزءاً من مجدها، (7) ومثل شخص حمّل سفينته في عرض البحر، فالتقى في وسط المياه الامواج الهائلة والرياح المعاكسة، فرمى الحمولة في الماء قائلاً: "أقبل بأن أخسر كل شيء شرط أن أدخل في هذه المدينة وأرث ما هو خير من هذه الحمولة وهذه السفينة". (8) وهكذا اعتبرت كلا شيء ما أملك مقابل هذه المدينة التي حدّثني عنها الملاك.

19 (1) وحين جاء الرسول الأخير وأخبرني بخسارة أولادي، اضطربتُ اضطراباً عظيماً. (2) مزّقت ثيابي وقلت لمن حمل إليّ الخبر: "كيف نجوت انت"؟ (3) وحين علمتُ ما حصل، صرخت: (4) "الرب أعطى والرب أخذ، فكما يريد الربّ هكذا يكون. ليكن اسم الربّ مباركاً".

20 (1) حين دمِّر كل مالي، فهم إبليس أن لا شيء يجعلني متهاملاً. (2) فمضى يطلب جسدي من الربّ ليقدر أن يضربني ضربة. (3) فسلّمني الربّ بين يديه ليستعمل جسدي كما يشاء، ولكنه لم يعطه سلطاناً على نفسي. (4) فاقترب مني وأنا جالس على عرشي أبكي خسارة أولادي. (5) فقلب عرشي مثل إعصار، وتركني ثلاث ساعات تحت عرشي، وما كنت استطيع أن أخرج من هناك. (6) ضربني بجرح قاسٍ من الرجلين إلى الرأس. (7) فخرجت من المدينة قلقاً مضطرباً، وجلست على الدمال (8) أكل الدود جسدي، ورويت الأرض بعرقي. سال القيح من جسدي، ودبّ الدود فيه. (9) إن قفزت دودة، أخذتها وأعدتها إلى مكانها قائلاً: "إبقي حيث وُضعت إلى أن تتلقّي أمراً من ذلك الذي يأمرك".

شقاء امرأة أيوب
21 (1) قضيتُ ثماني وأربعين سنة على الدمال، خارج المدينة، مغطّى بالقروح، وشاهدتُ أولادي بعينيّ، وامرأتي الاولى تحمل الماء عند وجيه من الوجهاء، مثل خادمة، لتنال خبزاً تأتي به إليّ. فقلت والوجع ينخرني: "يا لوقاحة رؤساء هذه المدينة! هل يمكن أن يستعملوا زوجتي كعبدة"! (3) وبعد ذلك استعدت تفكيري صابراً.

22 (1) بعد إحدى عشرة سنة، حرماها حتّى من الخبز لئلا تأتي به إليّ، وأوصوا بأن لا يعطوها سوى طعامها هي. (2) فأخذته وقسمته بيني وبينها، وقالت بألم: "الويل لي. بعد قليل لن يكون خبز للطعام". (3) وما تردّدت في الذهاب إلى السوق تتسوّل الخبز من بائعي الخبز لكي تأتي به إليّ لآكل.

23 (1) حين علم إبليس بهذا، تزيّا بزيّ بائع. (2) وحصل صدفة أن امرأتي ذهبت إليه تطلب خبزاً، لظنّها أنه رجل. (3) فقال لها إبليس: "إدفعي الثمن وخذي ما تريدين" (4) فأجابته: "من أين لي المال؟ أتجهل الشقاء الذي أصابنا؟ (5) إن كان فيك رحمة فأظهرها وإلاّ سوف ترى"! (6) فأجابها: "لو لم تستحقّوا هذا الشقاء لما كنتم نلتموه. (7) والآن، إن كنت لا تملكين المال، فاعطيني شعر رأسك عربوناً، وخذي ثلاث خبزات فتعيشا ثلاثة أيام". (8) حينئذ قالت في نفسها: "ما قيمة شعر رأسي تجاه زوجي الجائع"؟ (9) ولما اعتبرت شعرها كلا شيء، قالت له: "قم وخذه". (10) فأمسك المقص وقصّ شعر رأسها وأعطاها ثلاثة أرغفة بمرأى من الجميع. (11) فأخذتها وأتت بها إليّ. رافقها إبليس في الطريق، وسار بحيث لا تراه، وضلّل قلبها.

24 (1) حين اقتربت امرأتي (من البيت)، صرخت وهي باكية: "أيوب، أيوب، إلى متى ستبقى جالساً على الدمال خارج المدينة قائلاً: "بعد قليل" وتنتظر رجاء خلاصك، (2) ساعة أنا تائهة وخادمة لقاء أجر زهيد أهيم على وجهي من موضع إلى موضع؟ فذكرك زال من الأرض. (وزال ذكر) أبنائي وبناتي الذين حملتُهم في أحشائي والذين لأجلهم أضنيت نفسي في الأتعاب عبثاً. (3) وها أنت جالس في الدود، تقضي لياليك تفترش السماء، (4) ساعة أنا الشقيّة، أعمل في النهار وأتألّم في الليل لأربح خبزاً آتي به إليك، (5) فلا أنال الآن سوى طعامي الخاص وأقسمه بيني وبينك (6) وأنا مفكرة في قلبي: "أما يكفي أن تكون في الألم؟ وهل يجب أن لا تأكل شبعك"؟ (7) وذهبتُ بدون خجل إلى السوق (8) حيث قال لي البائع: "أعطيني الفضة وخذي (الخبز). (9) عرضت عليه فقرنا وسمعته بفمه (يقول): "يا امرأة، إن لم تكن لك فضة، فقدّمي شعر رأسك وخذي ثلاثة أرغفة فتعيشي بها ثلاثة أيام". (10) أما أنا فأخذ القنوط مني مأخذه فقلت: "قم وقصّ شعري". فقام وقصّ بدناءة شعري في الساعة أمام الجموع المدهوشة.

25 (1) "من لم يُصعق قائلاً: "أهذه سيتيس، امرأة أيوب؟ (2) هي التي كان يحجبها رواق بأربع عشرة من الستائر والأبواب المتتالية، بحيث يشعر بالاكرام من استطاع أن يدخل إليها. (3) ها هي الآن بادلت شعرها ببعض خبزات؟
(4) "هي التي كانت جمالُها محمّلة بالخيرات الذاهبة إلى الفقراء في المقاطعات، ها هي الآن تقايض شعرها ببعض خبزات.
(5) "ها تلك التي كان لها سبع موائد ممدودة دوماً في بيتها، وحيث كان يأكل الفقراء وكل أنواع الغرباء: هي الآن تبيع شعرها لقاء بعض خبزات.
(6) "ها تلك التي كانت تغسل رجليها في وعاء الذهب والفضة: هي الآن تمشي حافية القدمين على الأرض وتبادل شعرها ببعض خبزات.
(7) "ها تلك التي كانت تلبس الكتان المنسوج بالذهب: هي الآن تلبس الاسمال وتبادل شعرها بالخبز.
(8) "ها تلك التي كان لها أسرّة الذهب والفضة: هي الآن تبيع شعرها لقاء الخبز.
(9) "أيوب، أيوب، بعد أن قلت لك كل هذا، ها أنا أوجز كلامي: عظامي انسحقت بضعف قلبي. قم وخذ خبزاتك. إشبع ثم قل للرب كلمة ومُت، فأنجو من حزن يسبّبه لي عذاب جسدي".

26 (1) فأجبتها: "قضيت سبع عشرة سنة مغطّى بالقروح محتملاً الدود في جسدي، (2) وما أحسّت نفسي بثقل الألم كما هي الآن بعدما قلت لي: "قل للرب كلمة ومت". (3) أنا احتمل بكمال كل هذا، وأنت تتحمّلين خسارة أولادنا وخيراتنا، وتريدين أن نقول كلمة للرب ونصبح غرباء عن هذا الغنى العظيم؟ (4) لماذا لا تتذكّرين الخيرات العظيمة التي نعمنا بها. إذن، قبلنا الخيرات من يد الرب، ولا نتحمّل الشرور؟ (5) فلنصبر بالاحرى إلى أن يتحنّن الرب ويرحمنا. (6) أما ترين الشيطان واقفاً وراءك وهو يبلبل أفكارك لتجعليني أضلّ أنا أيضاً، لأنه يريدك أن تظهري كإحدى النساء الجاهلات اللواتي أطغين بساطة رجالهنّ".

وترك إبليس أيوب
27 (1) والتفتُّ أيضاً إلى إبليس وقلتُ له، وهو واقف وراء امرأتي: "مرّ إلى الأمام. لا تختبئ بعد! هل يدلّ الأسد على قوّته في القفص؟ هل ينطلق العصفور طائراً وهو في سلة؟ أخرج وقاتلني"! (2) فما عاد يختبئ وراء امرأتي، بل وقف باكياً وقال: "أيا أيوب، خسرت وأنا أتراجع أمامك أنت البشر وأنا الروح. أنت في الشقاء وأنا في حيرة كبيرة. (3) كنتُ كمصارع يقاتل مصارعاً، وواحد يصرع الآخر، فمن يكون فوق الآخر يُسكت الذي تحته ويملأ له فمه بالرمل (4) ويضبط له كل أعضائه. أما ذلك الذي من تحت فيدلّ على شجاعته ولا يتخلّى. عندئذ يصرخ الذي هو فوق صراخاً عظيماً. (5) وهكذا أنت يا أيوب. كنتَ من تحت وفي الشقاء، ولكنك انتصرتَ في القتال الذي أصليته عليك" (6) وحلّ الخزيُ بإبليس فتركني ثلاث سنوات. (7) فالآن، يا أولادي، برهنوا عن صبركم، أنتم أيضاً، في كل ما يحصل لكم، لأن الصبر يغلب كل شيء.

ملوك ثلاثة عند أيوب
28 (1) وحين أتممتُ عشرين سنة في الشقاء، (2) عرف الملوك بما حصل لي. فقاموا وأتوا إليّ كل من بلده لكي يزوروني ويشجّعوني. (3) جاؤوا من البعيد واقتربوا مني فلم يعرفوني. فأخذوا يصرخون ويبكون، ومزّقوا ثيابهم، ورشّوا التراب على رؤوسهم، (4) وظلوا جالسين بجانبي سبعة أيام وسبع ليال، ولم يكلّمني واحد منهم بكلمة. (5) ما ظلّوا صامتين ليدلّوا على الصبر، بل لأنهم كانوا يعرفون غناي العظيم قبل هذا الشقاء. ولما بدأت أريهم الحجارة الكريمة، دُهشوا وصفّقوا بأيديهم وقالوا: "خيرات ممالكنا الثلاث، ولو جُمعت كتلة واحدة في موضع واحد، لا تقابل الحجارة الكريمة في مملكتك". (6) فقد كنتُ أشرف من في الشرق. (7) ولما جاؤوا إلى أرض أوسيتيس، سألوا في المدينة: "أين يوباب المالك على كل مصر"؟ فقيل لهم عني: (8) "إنه جالس على الدمال، خارج المدينة. منذ عشرين سنة لم يصعد إلى المدينة". (9) وقلقوا أيضاً لأحوالي، فأعلموا بما حصل لي.

29 (1) حين سمعوا هذا الخبر، خرجوا من المدينة مع المواطنين الذين دلّوهم عليّ، (2) فأشاروا مستنكرين ومؤكِّدين أنني لست يوباب. (3) واذ كانوا يتردّدون بعد، التفت إليّ اليفاز، ملك تيمان، وقال: "هل أنت يوباب الذي كان ملكاً مثلنا"؟ (4) فتكلّمت باكياً، وذرّيت التراب على رأسي، وهززت برأسي، وأفهمتهم أن (يوباب) هو أنا.

30 (1) فلما رأوني أهزّ رأسي، سقطوا على الأرض باكين. (2) واضطرب الحرس حين رأوا الملوك الثلاثة مرميّين على الأرض خلال ثلاث ساعات كالجثث. (3) ثم قاموا وقالوا فيما بينهم: "لا نستطيع أن نصدّق أن يكون هو". (4) ثم جلسوا سبعة أيام وتفحّصوا أمري، وقدّروا قطعاني وخيراتي قائلين: (5) "أما نعرف كل الخير الذي كان يُرسله إلى المدن والقرى المجاورة ليوزّعه على الفقراء، هذا عدا ما كان يعطيه بوفرة من بيته. فكيف سقط الآن وصار كالميت"؟

31 (1) وظلّوا يتجادلون هكذا سبعة أيام إلى أن بادر أليهو وقال للملكين الآخرين: "نقترب منه ونتفحّص جيداً إن كان هو أم لا". (2) فوقفوا على مسافة نصف غلوة بسبب نتانة جسدي. ثم قاموا واقتربوا منّي والعطور في أيديهم. (3) ورافقهم جنودهم وهم يحرقون البخور حولي لكي يقدروا أن يقتربوا منّي. (4) وظلّوا ثلاثة أيام يرسلون العطور. (5) وحين صاروا قريبين منّي، بادر أليهو وقال: "هل أنت يوباب الذي كان ملكاً مثلنا؟ هل أنت الذي كان مجدُه في الماضي عظيماً؟ هل أنت ذلك الرجل الشبيه بالشمس التي تشعّ على كل الأرض حين يطلع النهار؟ هل أنت ذلك الرجل الشبيه بالقمر والنجوم التي تظهر في كبد الليل"؟ (6) فأجبتهم: "أنا هو". (7) حينئذ استرسل في البكاء وأسمع رثاءً جديراً بالملوك (8) وكان يردّد القرارَ الملكان الآخران والحرس.

رثاء أليهو
32 (1) فاسمعوا رثاء أليهو الذي به دلّ خدَمه على غنى ايوب.
(2) "هل أنت الذي كرّس سبعة آلاف نعجة لتكسو الفقراء؟
فأين الآن مجدُ عرشك؟
هل انت الذي خصّص ثلاثة آلاف جمل لتحمل الخير إلى المحتاجين؟
فأين الآن مجد عرشك؟
(3) هل أنت الذي خصّص ألفاً من البقر لتفلح من أجل المحتاجين؟
فأين الآن مجد عرشك؟
(4) هل انت ذاك الذي كان سريره من ذهب،
وأنت الآن جالس على الدمال؟
فأين الآن مجد عرشك؟
(5) هل أنت الذي كان له عرش من الحجارة الكريمة،
وأنت الآن على التراب؟
فأين الآن مجد عرشك؟
(6) فمن كان مثلك وسط أبنائك؟
كنت كشجرة تُنمي ثمراً معطَّراً.
فأين الآن مجد عرشك؟
(7) هل أنت الذي وضع ستين مائدة وهيّأها للفقراء؟
فأين الآن مجد عرشك؟
(8) هل أنت الذي كانت له المباخر ليعطّر الجماعة،
وأنت الآن في النتانة؟
(9) هل أنت الذي كانت له مصابيح الذهب على منارات من فضة،
أنت الذي تنتظر الآن نور القمر؟
فأين الآن مجد عرشك؟
(10) هل أنت الذي كان له بخور الشجر،
انت الذي هو الآن في العري؟
فأين الآن مجد عرشك؟
(11) أنت الذي كان يهزأ بالاشرار والخطأة،
صرت الآن موضع هزء.
فأين الآن مجد عرشك؟
(12) هل أنت أيوب الذي كان له مجد عظيم؟
فأين الآن مجد عرشك"؟

إعلان أيوب
33 (1) وامتدّ رثاء أليهو، وأجابه الملكان بالقرار بحيث حصلت بلبلة عظيمة. (2) وحين انتهت هذه الضجّة، قال لهم أيوب:
"أصمتوا!
سوف أريكم عرشي ومجد بهائه.
(3) عرشي هو في عالم العلاء،
ومجده وبهاؤه
عن يمين الآب.
(4) الكون كله يعبر،
ومجده يذبل،
والذين يتعلّقون به
يشاركون في سقوطه.
(5) أما عرشي ففي أرض مقدّسة،
ومجده في عالم لا يتبدّل.
(6) ستجفّ الانهار،
وكبرياءُ أمواجها
تنزل إلى أعماق الغمر.
(7) أما أنهار أرضي
حيث يوجد عرشي
فهي لا تجف،
ولا تزول
بل تُوجد إلى الأبد.
(8) هؤلاء الملوك يزولون
والرؤساء يمرّون
كصورة في مرآة.
(9) ولكن مُلكي يدوم إلى الأبد،
ومجده وبهاؤه
في مركبات الآب".

جدال أيوب واصدقائه
34 (1) وإذ كنت أتفوّه بهذه الأقوال لأسكتهم، (2) غضب أليفاز وقال لصديقيه الآخرين: "ما نفع وجودنا هنا مع حرسنا لكي نشجّعه؟ (3) ها هو يوبّخنا! فليعد كل منّا إلى بلده! (4) هو جالس في الشقاء الذي يسبّبه له الدود والنتانة، فينتصب في هذه الساعة أمامنا ليقول: "الممالك تزول مع سلطانها، أما مملكتي فتوجد إلى الأبد، كما قال". (5) وقال أليفاز مضطرباً، وانحنى أمامهما وأعلن بخرن: "أنا ذاهب. جئنا لنشجعه، وها هو يصرفنا مع جنودنا".

35 (1) فأوقفه بلدد: "يجب أن لا نتكلّم هكذا مع انسان يبكي، بعد أن ضربه أكثر من شقاء. (2) فنحن في صحّة جيّدة، ولا نستطيع أن نقترب منه بسبب نتانته، لولا كمية العطور. (3) وانت يا أليفاز نسيتَ كلياً حالتك النفسية حين مرضت يومين. (4) فالآن اصبر لنعرف ما هي استعداداته. هل أضاع رشده؟ هل يتذكّر سعادته السالفة؟ هل سيطر الجنون على نفسه؟ (5) من لا يصيبه الرعب والجنون حين يجد نفسه في مثل هذه الشرور؟ أتركاني أقترب منه لأعرف ما هي استعداداته".

36 (1) فنهض بلدد واقترب مني وقال: "هل أنت أيوب"؟ قلت: "نعم". (2) فقال لي: "هل قلبك في وضع عادي"؟ (3) أجبت: "ما تعلّق قلبي بأمور الأرض، لأن الأرض مضطربة هي وساكنوها. تعلّق قلبي بأمور السماء وليس من بلية في السماء" (4) فاستعاد بلدد الكلام وقال: "نعرف أن الأرض مضطربة لأنها تتبدّل مع الزمن. تارة تسير مسيرته فتعيش في سلام. وطوراً تحاربه. (5) أما السماء فنسمع أنها هادئة. ولكن إن كنت حقاً في حالتك الطبيعية أطرح عليك سؤالاً. (6) إن أجبت على هذا السؤال الأول بشكل معقول، أطرح عليك سؤالاً ثانياً. إن أجبت بشكل هادئ، يتّضح لنا أنك ما زلت محافظاً على رشدك".

37 (1) وقال لي أيضاً: "في من تضع رجاءك"؟ (2) أجبت: "في الله الحي". (3) فقال لي أيضاً: "من انتزع منك مالك أو من ضربك هذه الضربات"؟ (4) أجبت: "الله". (5) فاستعاد الكلام أيضاً وقال: "أنت ترجو الله؟ فكيف اذن... وهو الذي ضربك هذه الضربات وانتزع منك مالك؟ (6) إن كان أعطى وإن كان أخذ، فكان يجب أن لا يعطك شيئاً إطلاقاً. فليس من ملك يغشّ حارسه إذا كان هذا الحارس قد دافع عنه. (7) أجبني يا أيوب على هذا". فأجبت: "من يفهم أعماق الرب وحكمِته، ومن يجرؤ أن ينسب إلى الرب جوراً"؟ (8) فقال لي أيضاً: "إن كنت في حالتك الطبيعية، فأعلمني، ان كان فيك حكمة، لماذا نرى الشمس تشرق في الشرق وتغيب في الغرب، ولماذا نجدها تشرق في الشرق أيضاً حين ننهض في السحر. إشرح لي هذا إن كنت خادم الله"!

38 (1) فأجبت على ذلك: "الحكمة فيّ وقلبي ثابت. فلماذا لا أتكلّم عن عظائم الرب، وهل يجب أن يصدم فمي السيّد في أي حال؟ كلا ثم كلا. (2) فمن نحن لنتدخّل في الامور السماوية، ساعة نحن بشر وينتمي نصيبنا إلى الأرض والتراب؟ (3) وإذا أردتَ أن تعلم أن قلبي ثابت، فاسمع السؤال الذي أطرحه عليك: الطعام يدخل في الفم، والماء يشربه الفم ذاته ويمرّ في القناة ذاتها. ولكن حين ينزل الأول والآخر إلى المرحاض، فلماذا ينفصل الواحد عن الآخر؟ فمن يفصل بينهما"؟ (4) فأجاب بلدد: "أجهل هذا". (5) فاستعدت الكلام وقلت له: "إذا كنت لا تفهم مسيرة الجسد فكيف تفهم أمور السماء"؟ (6) فبادر صوفر إلى الكلام وقال: "لا نحاول أن نعرف ما هو أعلى منا. ولكن نريد أن نعلم إذا كنتَ في حالتك الطبيعية. وها نحن قد فهمنا حقاً أن عقلك لم يتبدّل. (7) فماذا تريد أن نعمل لك؟ ها أطبّاء ممالكنا الثلاث قد جاؤوا معنا. هل ترغب في أن يعتنوا بك، لعلّك تجد الراحة"؟ (8) أجبت بهذه الكلمات: "شفائي وعلاجي هما لدى الربّ الذي خلق الأطبّاء أيضاً".

ظهور سيتيس في الاسمال
39 (1) وإذ كنت أبادلهما الحديث، وصلت امرأتي سيتيس وهي ترتدي الأسمال. (2) افلتت من عبوديّة مستخدمها الذي منعها من الخروج لأنه خاف أن يختطفها سائر الملوك إذا رأوها. (3) فحين وصلت، ارتمت على قدميهم وقالت باكية: "أنت، (4) يا أليفاز وصديقيك، تذكّروني وما كنت عليه في رفقتكم وأي ملابس كنتُ أرتدي. (5) وانظروا الآن كيف أخرُج وما ألبس من ثياب". (6) فأسمعوا ندباً طويلاً، وصُعقوا بحزنها المضاعف، وصمتوا. (7) وإذ انتزع أليفاز رداءه القرمزيّ ليقطعه ويكسو به امرأتي، (8) توسّلتْ إليه قائلة: "ارجوك، مر جنودك أن يبحثوا في خرائب البيت الذي انهار على أولادي لكي تكون عظامهم بأمان في قبر، (9) لأننا لم نستطع أن نفعل بسبب التكاليف. لو نرى أقلّه عظامهم! (10) هل أنا وحش، أم بطني يشبه بطن البهائم لئلا أدفن واحداً من أولادي العشرة الذين خسرتهم"؟ (11) وإذ أرادوا أن يذهبوا لينقّبوا الخرائب منعتُهم قائلاً: "لا تتعبوا سدى. (12) فأنتم لن تجدوا أولادي لأنهم اختطفوا إلى السماء بيد الخالق الملك" (13) فاستعادوا الكلام أيضاً وقالوا لي: "من لا يقول الآن أنك فقدتَ رشدك وجُننت؟ تقول: "اختطف اولادي إلى السماء! فاكشف لنا الحقيقة"!

موت سيتيس
40 (1) فاستعدتُ الكلام وقلت لهم: "أنهضوني فأقف". فأنهضوني وأسندوني بأذرعتهم من كل جهة. (2) وحين وقفت، وجهتُ إلى الآب اعترافاً. (3) وبعد الصلاة قلت لهم: "إرفعوا عيونكم إلى المشرق وانظروا أولادي متوَّجين بمجد الله السماوي". (4) فحين رأت سيتيس امرأتي هذه، سقطت راكعة على الأرض وقالت: "الآن علمت أن الربّ ذكرني. إذن أقوم وأدخل إلى هذه المدينة، وأغلق لحظةً عينيّ، واستعيد نفسي لقاء الخدمات التي قمت بها وأنا عبدة". (5) وانطلقتْ إلى المدينة، ودخلت إلى حظيرة البقر التي هيّأها لها الرؤساء الذين كانت لهم عبدة. (6) ونامت عند معلف وماتت مرتاحة. (7) ولما طلبها سيّدها المستبد وما وجدها، (8) دخل عند المساء إلى حظيرة البهائم فوجدها مستلقاة وميتة. (9) أمام هذا المشهد بكى جميعُ الحيوانات عليها وخارت، فسُمع صوتها في كل المدينة. (10) فانطلق الناس ليعرفوا ما حصل، (11) فوجدوها ميتة تحيط بها الحيوانات باكية عليها. (12) فنقلوها هكذا، وقاموا بالواجبات الاخيرة، فدفنوها قرب البيت الذي سقط على أولادها. (13) واستفاض فقراء المدينة بالنحيب قائلين: "هذه هي سيتيس التي كانت موضوع افتخار ومجد. لم تعتبر جديرة بدفنة لائقة". (14) أما النشيد الجنائزي الذي قيل فيها، فتجدونه في كتاب الأخبار.

خطاب أليهو
41 (1) بعد هذا، جلس أليفاز ورفيقاه، وتجادلوا في جمل فضفاضة عليّ. (2) وبعد سبعة وعشرين يوماً، نهضوا وأرادوا العودة إلى بلدانهم. (3) فاستحلفهم أليهو بهذه الكلمات: "انتظروني حتى أعبّر له عن عاطفتي، لأنكم قضيتم هذه الأيام تحتملون أيوب يفتخر بأنه بار (4) أما أنا فلن أحتمله. فمنذ البداية، انتحبتُ عليه وتذكّرت سعادته السالفة، وإذا هو يكلمنا بشكل متعالٍ ووقح قائلاً إن له عرشاً في السماء. (5) فالآن اسمعوا لي فأعرفكم أن هذا ليس نصيبه". حينئذ ألهم الشيطان أليهو فوجّه إليّ أقوالاً وقحة تسجّلتْ في "أخبار أليفاز".

الحكم على أليهو
42 (1) حين أنهى أليهو جمله الفضفاضة، ظهر لي الرب عبر العاصفة والغمام وكلّمني: (2) شجب أليهو، وبيّن لي أن الذي تكلّم فيه لم يكن انسان بل وحش. (3) وإذ كان الربّ يكلّمني عبر الغمام، سمع الملوك الاربعة أيضاً صوت المتكلّم. (4) وحين انتهى الرب من كلامه لي، قال لأليفاز: (5) "أخطأتَ أنت وصديقاك، لأنكم ما قلتم الحقيقة حين تكلّمتم على عبدي أيوب. (6) لهذا قوموا ومروا بأن تُقدّم عنكم ذبائحُ لتزول خطيئتكم. فإن لم تقدّم بواسطته، قضي الامر بالنسبة إليكم" (7) وحملوا إليّ ما هو ضروريّ للذبيحة. (8) فأخذته وقدّمته عنهم، فرضي الرب عن هذه الذبيحة، وغفر لهم خطيئتهم.

نشيد أليفاز
43 (1) حينئذ فهم اليفاز وبلدد وصوفر أن الرب غفر لهم خطيئتهم، ولكنهم اعتبروا أن لا عذر لخطيئة أليهو. (2) فتلقّى اليفاز الروح، فأنشد نشيداً. (3) وكان صديقاه الآخران والحرس يردّدونه في جوق قرب المذبح. (4) وتكلّم اليفاز هكذا:
"نُزعت خطايانا
ودُفن اثمنا.
(5) أليهو، أليهو الشرير وحده
لن يترك ذكراً له وسط الأحياء.
ما إن ينطفئ سراجه حتى يخسر النور،
(6) وضياء مصباحه يحكم عليه.
فهو ابن الظلمات
لا ابن النور.
أبواب الظلمات ترث
مجدَه وبهاءه.
(7) زال ملكه
ونُخر عرشه
وخيمته الثمينة صارت في الجحيم.
(8) أحبّ جمال الحيّة
وقشرة التنين.
مرارته وسمه يصيران له طعاماً.
(9) ما أرضى الرب
ولا خافه،
بل أغضب من (= أيوب) هو ثمين في عينيه.
(10) نساه الرب وما ذكره،
وتخلّى عنه القديسون.
(11) الغضب والسخط يرسلانه إلى العدم،
فلا شفقة في قلبه،
ولا سلام في فمه.
(12) سمّ الأفاعي على لسانه.
(13) عادل هو الربّ،
وصادقة أحكامه.
بقربه لا محاباة،
ويدين الجميع بالتساوي.
(14) ها الرب قد تجلّى،
ها قديسوه استعدّوا.
سبقتهم الاكاليل والمدائح.
(15) ليفرح القديسون،
وليهللوا في قلوبهم،
(16) لأنهم نالوا المجد الذي انتظروا.
(17) نُزعت خطيئتنا،
طُهِّر اثمنا.
ولكن أليهو الشرير لم يترك له ذكراً وسط الاحياء".

أيوب يستعيد ماله مضاعفاً
44 (1) بعد أن أنهى أليفاز نشيده، وأجابه المحيطون بالمذبح كلهم، قمنا ودخلنا المدينة إلى البيت الذي نسكنه الآن. (2) وصنعنا وليمة عظيمة في فرح الربّ. وبحثتُ من جديد كيف أخدم الفقراء. (3) عاد إليَّ كل أصدقائي وجميع الذين يعرفون أني أرغب في الخير، (4) وسألوني قائلين: "ماذا تطلب منّا الآن"؟ أما أنا فتذكّرت الفقراء، وطلبت أيضاً أن أفعل الخير وقلت: "ليعطني كل واحد منكم حملة (مؤنث حمل، تصبح نعجة) لكي أكسو بها الفقراء العراة". (5) فحمل إليّ كل واحد حملة، وقطعة من الذهب تساوي أربعة دراهم. وبارك الرب كل ما كنت أملك، وردّ لي خيري مضاعفاً.

45 (1) والآن، يا أولادي، ها أنا مائت. أذكّركم بشيء واحد: لا تنسوا الرب. (2) إفعلوا الخير مع الفقراء. لا تحتقروا الضعفاء. (3) لا تأخذوا نساء غريبات. (4) وها أنا أقسم بينكم كل ما أملك، فيتصرّف كل واحد بحصّته بحريّة.

أيوب وبناته
46 (1) وأتوا بالخيرات ليقسموّها بين الاولاد السبعة الذكور، (2) لأنه ما عاد شيء إلى البنات. فحزنّ وقلن لأبيهنّ: "يا سيّدنا وأبانا، ألسنا نحن أيضاً أولادك؟ لماذا لم تعطنا شيئاً ممّا تملكه من خير"؟ (3) فقال أيوب لبناته: "لا تقلقن، يا بناتي. فأنا ما نسيتكنّ. (4) أرسلت إليكن ميراثاً أفضل من ميراث اخوتكن السبعة". (5) فدعا ابنته المسماة هيميرا وقال لها: "خذي المفتاح، واذهبي إلى المخبأ واجلبي اواني الذهب الصغيرة الثلاث، لكي أعطيكن ميراثاً". (6) فمضت وجاءت بها. (7) ففتحها وأخرج منها ثلاثة حبال من ألوان مختلفة، بحيث لا يستطع انسان أن يتكلّم عن شكلها. (8) فهذه الحبال لا تأتي من الأرض، بل من السماء. كانت ترمي شرار نار مثل أشعّة الشمس. (9) فأعطى لكل منهنّ حبلاً قائلاً: "ضعنها حول خصركنّ فتحسن إليكن كل أيام حياتكن".

47 (1) ولكن الابنة الاخرى التي اسمها قصيا، قالت له: "أهذا هو الميراث الذي قلت لنا إنه أفضل من ميراث اخوتنا؟ فما الفائدة من هذه الحبال التي لا فائدة منها؟ هل تمنحنا هذه ما به نعيش"؟ (2) فقال والدهنّ لهنّ: "هي لا تعطيكنّ فقط ما به تعشن، (3) بل تدخلكنّ إلى عالم أفضل لتعشن في السماء. (4) أفتجهلون، يا أولادي، قيمة هذه الحبال؟ جعلني الرب أهلاً لها يوم رحمني وألغى من جسمي الجروح والدود. (5) دعاني وقدّم لي الحبال الثلاثة قائلاً: "قم، شدّ حقويك مثل رجل! أنا اسألك وانت تجيبني". (6) فأخذتها وشددت بها حقويّ، فزال الدود من جسمي والجروح. (7) ثم استعاد جسمي قوّته بفضل الربّ، كما لو كنت ما تألّمت أبداً. (8) بل نسيت في قلبي آلامي. (9) وكلّمني الرب بقوّة وأراني الماضي والمستقبل. (10) فالآن يا أولادي، بما أن لكم هذه الحبال، لا يستطيع العدوّ أن يهاجمكم في شيء أو يهاجم أفكار روحكم. (11) هي تميمة من الآب. فقفوا، وشدوا بها أحقاءكم قبل أن أموت لتستطيعوا أن تشاهدوا الآتين إلى نفسي فتُعجبوا بخلائق الله".

48 (1) حينئذ قامت تلك التي اسمها هيميرا وجعلت حولها الحبل كما قال أبوها، (2) فنالت قلباً آخر بحيث لم تعد أفكارها أفكار الأرض (3) وأنشدت في لغة الملائكة، وأصعدت نشيداً إلى الله، بحسب مدائح الملائكة، وسمح الروح أن تُحفر الاناشيد التي أنشدتْها في رسالتها.

49 (1) حينئذ شدت قصيا خصرها فتحوّل قلبها، فما عادت تهتمّ بأمور هذا العالم. (2) ونال فمُها لغة الامراء فمجّدت عمل الموضع الاعلى. (3) إن أراد أحد أن يعرف عمل السماوات يجده في مدائح قصيا.

50 (1) حينئذ (قامت) الابنة الأخرى التي اسمها قرن الكحل، فائتزرت بدورها، فأخذ فمُها ينشد في لغة الذين يقيمون في الأعالي. (2) بما أن قلبها أيضاً تبدّل وانتُزع من أمور هذا العالم، تكلّمت في لغة الكروبيم ومجّدت سيد الفضائل وعرضت مجدهم. (3) فمن أراد أن يدرك آخر أثر ليوم مجد الآب يجده مسجَّلاً في صلوات قرن الكحل.

51 (1) بعد أن توقّفت الاخوات الثلاث عن إنشاد المدائح، (2) دفعني الرب أنا نيريوس، شقيق أيوب، ودفعني الروح القدس أيضاً، (3) فجلست قرب أيوب على سريره. سمعت العظائم التي تشرحها إحدى الاخيّات للأخرى، (4) فملأتُ كتاباً كاملاً من الجزء الأكبر من تعاليق على الأناشيد، ساعة كنت بجانب بنات أخي، بشكل تحيّة، لأنها عظائم الله.

انتقال أيوب
52 (1) بعد ثلاثة أيام، مرض أيوب أيضاً ونام، ولكن دون أن يحسّ بألم أو وجع، لأن الألم ما عاد يستطيع أن يلامسه بسبب علامة الحزام الذي تحزّم به. (2) وبعد ثلاثة أيام، رأى الذين جاؤوا إلى نفسه، (3) فقام حالاً وأخذ عوداً وأعطاه لابنته هيميرا، (4) وأعطى قصيا مبخرة، وقرن الكحل دفاً، (5) فباركن الآتين ليأخذوا نفسه (6) فأخذنها، ورأين المركبات النوريّة الآتية إلى نفسه، (7) فباركن ومجّدن، كل منهنّ في لغتها العجيبة. (8) بعد ذلك خرج الجالس على المركبة الكبيرة وحيَّى أيوب. (9) رأى (هذا) الأبُ وبناته الثلاثة. أما الآخرون فما رأوا (شيئاً). (10) أخذ (الملاك) النفس، وطار حاملاً إياها في ذراعيه، وأصعدها على المركبة، وسار نحو المشرق. (11) أما جسده (= أيوب) فغطّي وحُمِل إلى الأرض، (12) بعد أن سارت أمامه بناته الثلاث اللواتي ائتزرن بحبالهنّ وأنشدن أناشيد الآب.

رثاء نيريوس
53 (1) أنا نيريوس أخوه (= أيوب) بكيتُ مع أولاده السبعة الذكور، مع البؤساء واليتامى وجميع الضعفاء الذين بكوا (2) وقالوا: "ويل لنا اليوم، بل ويل لنا مرّتين، لأن اليوم نُزعت قوّة الضعفاء، (3) نُزع نورُ العميان، أخذ أبو اليتامى، أخذ مضيفُ الغرباء، نُزع ثوب الارامل". (4) وأخيراً من لا يبكي رجل الله هذا؟ (5) وحملوا معاً الجسم بجانب القبر، فأحاطت به كل الارامل واليتامى، (6) ومنعوا من وضعه في القبر. (7) وبعد ثلاثة أيام جُعل في القبر في رقاد صالح (8) وتلقّى اسماً مجيداً لجميع أجيال الدهر. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM