وَصيَّة موسَى أو انتقَال موسَى - دراسة في وصيّة موسى

دراسة في وصيّة موسى

1- وجه الله
الله هو إله السماء (2: 4)، رب السماء (4: 4)، الإله العلي (6: 1؛10: 7)، الأزلي وحده (10: 7) السماوي الجالس على عرش ملكي في مقامه المقدس (10: 3؛ رج 3: 8). هو ربّ كل شيء وملك على العرش الرفيع، هو يملك على الدهر (4: 2).
الله سيّد العالم (1: 11) الذي خلقه (1: 12). هو الذي صنع مساند القبّة السماويّة (12: 9). خلق جميع الأمم التي في العالم، كما خلق الشعب المختار. وهيّأ كل شيء. هو سبب كل ما يحدث في هذا العالم (12: 4- 5، 13؛ رج 10: 10).
والله هو بشكل خاص إله ابراهيم وإله اسحاق وإله يعقوب (3: 9). فربّ الأرباب هذا هو إله آبائهم (9: 6) وربّ آبائهم (4: 8، بالنسبة إلى القبائل). أراد أن يكون شعبه له، أن يكون شعبه محفوظاً له وأن يُدعى هو نفسه إلههم حسب العهد الذي قطعه مع آبائهم (4: 2). قطع عهداً وحلف بأنه يعطيهم الأرض بواسطة يشوع (1: 9). فهذا الاله الذي في السماء قد جعل من خبائه قصراً ومن معبده برجاً في وسط قبيلتين (2: 4).
الربّ هو بار وقدّوس (3: 5). يحكم الكون كله بالرحمة والعدل (11: 17). دلّ على رحمته وطول أناته لموسى، فاختاره وسيطاً بينه وبين شعبه (12: 6- 7). وسيدلّ على رحمة لشعبه، فيُلهم كورش بأن يُشفق على المنفيّين (4: 5- 6). ولكنه يحرّك علم ملك ملوك الأرض، في نهاية الأزمنة، بسبب ذنوبهم (8: 1). ومع ذلك، فهو نفسه يتدخّل من أجل أبنائه (10: 3) بالنظر إلى توبتهم (1: 18): سيتجلّى ملكه في كل الخليقة (10: 1)، فيعاقب الأمم ويدمّر كل أوثانها (10: 7) ويرفع اسرائيل في سماء النجوم (10: 9).

2- فلسفة التاريخ
ما نكتشف من فلسفة التاريخ في وص موسى، ينبع من الدور الذي ينسبه هذا الكتاب إلى الله وإلى الشعب المختار في مسيرة تاريخ العام. ويمكن أن نلخّصها في ثلاثة مبادئ تنطلق من العام إلى الخاص. الله خالق العالم وسبب كل ما يحدث في هذا العالم. خلق العالم لشعب اختاره (1: 12)، ولكنه ما أراد أن يكشف نهاية الخليقة منذ بداية العالم ليترك الأمم تضلّ في جهلها (1: 13). منذ بداية العالم، هيّأ موسى ليكون وسيط عهده مع شعبه (1: 14).
هذا العهد يحدّد توالي الأحداث ويشكّل الخطّ الذي يقود التاريخ. فازدهار هذا الشعب أو دماره يرتبطان بأمانة الشعب أو خيانته (12: 10- 11): فأسياد العالم (تارة ملك الشرق، وطوراً ملك الغرب) هم أداة في يد العدالة الالهيّة (12: 11؛ رج 3: 1- 3؛ 6: 8- 9؛ 8: 1 ي). غير أن الشعب الذي اختاره الله لن يفنى (12: 12). فالله نفسه يتدخّل لكي يخلّصه، وهو الذي هيّأ كل شيء إلى الابد، الذي عهده ثابت، الذي لا يعود عن قسمه (12: 13). فإن كانت أمانة الشعب للعهد ضروريّة لكي يتأمن ازدهاره، وإن كان الربّ يسهر عليه "حتى انقضاء نهاية الأيام" (1: 18) بالنظر إلى توبته الأخيرة، فهو لا يفني الأمم بسبب تقوى الشعب (12: 8)، بل بالنظر إلى مخطّط حدّده الله في بداية العالم، فاختار شعباً وعقد معه عهداً.
عقد الله عهداً مع آبائهم (11: 17). وكان موسى وسيط العهد (1: 14) والقسَم الذي أقسم به الله في الخيمة بأن يعطي أرضاً لشعبه بواسطة يشوع (1: 9). نقل إلى الشعب وصايا الله (3: 12) وكان محاميه لدى الله والمتشفّع من أجل خطاياه (12: 6) والذاكر عهد الآباء، ومهدّئ الله ومستنداً إلى القسم (11: 17) لآبائهم بأن يعطيهم أرضاً (11: 11). سيكون يشوع خلف موسى في هذه الوظائف (10: 15) فيقود الشعب إلى أرض الموعد، أرض آبائهم (1: 8؛ 2: 1). فتسير قبيلتا القداسة اللتان استودعتا خيمة الشهادة وبُني في وسطهما معبد الله، على عهد الرب وتنجّسان القسَم الذي ارتبط به معهما (2: 3). وهذا ما يسبّب شقاءهما: يأتي ملك من المشرق عليهما فيجتاح أرضهما ويدمّر أورشليم وهيكل الربّ المقدس، ويسبيهما إلى بابل (3: 1- 3). فتتوسّل كل القبائل إلى إله ابراهيم واسحاق ويعقوب، وتذكّره بالعهد الذي عقده مع هؤلاء الآباء والقسم الذي أقسمه بأن لا تترك ذريتهم الأرض التي أعطاهم (3: 9). وتتذكّر القبائل نبوءات موسى وتنبيهاته الاحتفالية بالطاعة لوصايا الله (3: 10- 13). حينئذ يتدخّل دانيال من أجلهم، فيذكّر الله أنه هو الذي أراد أن يكون شعبه له، وأن يُسمّى إلهم (4: 1- 2). ويتذكّرهم الله بسبب العهد، ويدلّ على رحمته (4: 5) فيلهم كورش بأن يرحمهم ويعيد المنفيين إلى أرضهم (4: 6). ولكنهم يقترفون خطايا جديدة في أيام الحشمونيين: يتصرّف قضاتهم بكفر تجاه الرب. وملوكهم الذين يصيرون كهنة الله العلي، يمارسون الكفر في قدس الأقداس، وينجّسون المذبح بالتقدمات التي يقرّبونها للرب وهم ليسوا كهنة، بل عبيد أبناء عبيد. فتستجلب هذه الخطايا عقوبات جديدة بواسطة الملوك الحشمونيين ثم بواسطة هيرودس الذي يحكمهم كما حكمهم المصريون. ثم بواسطة ملك من الغرب يجتاح أرضهم ويخضعهم ويحوّلهم إلى أسرى، ويحرق جزءاً من الهيكل ويصلب بعضاً منهم (ف 5- 6). عندئذ تكون نهاية الأزمنة وحكم الرجال الأشرار (ف 7). وهذا الفساد يسبّب غضب الله ويستجلب قصاصاً لم يكن مثله، بيد ملك ملوك الأرض الذي يحرّكه الرب عليهم (ف 8؛ 9: 2- 3). تجاه هذا الاضطهاد الأخير الذي يمارسه أمير الأمم، تعتزل مجموعة من الأبرار (اللاوي تكسو وأبناؤه السبعة) تنتمي إلى سلالة الأبرار، في مغارة، بعد صوم دام ثلاثة أيام. ويستعدّ هؤلاء الأبرار للموت على أن يتجاوزوا وصايا ربّ الأرباب وإله آبائهم، ويتأكّدون أنهم إن ماتوا في هذه الظروف، سيُنتقم لدمهم أمام الربّ (ف 9). ويتبع هذه الشهادة تدخّل مرسل السماء، مرسل الله. فيتجلّى ملك الله في كل الخلق: يدمّر الشرّ، وينقلب الكون، وتُعاقَب الأمم، ويرفع الرب اسرائيل إلى سماء النجوم حيث هو منذ الآن. حينئذ يشكر اسرائيل الله ويعترف بخالقه (ف 10). "تلك هي مسيرة الأزمنة كما تحصل إلى أن تنتهي" (10: 13). هذا ما قاله موسى الذي حدّد 250 زمناً بين موته وتدخّل الله الأخير (10: 12، أي 1750 سنة، إذا كان الزمن يدلّ على أسبوع من السنين).

3- نهاية الزمن
نحن هنا في اسكاتولوجيا بدون مسيح. فالمرسل السماوي (10: 2) هو ملاك، وربما الملاك ميخائيل. والشخص الذي من قبيلة لاوي والذي دُعي تكسو في 9: 1، ليس المسيح ولا سابقه، بل مثال اليهودي ورمز نواة اسرائيل التي لا تتزعزع، مع أولاده السبعة.
ولا نجد هنا انتظار مملكة أرضية تمتدّ إلى ما لا نهاية، كما هو الأمر بالنسبة إلى النظرة الألفيّة. أما المجازاة فهي على المستوى الجماعيّ وتتوزّع في مرحلتين. من جهة، خلال مسيرة التاريخ، يرتبط مصير الشعب المختار بأمانة أعضائه للعهد. نقرأ في ف 12: إن أتمّوا وصايا الله يَنمون ويكملون طريقهم. وإن خطئوا محتقرين الوصايا يُحرمون من الخيرات الموعودة، وتعاقبهم الأممُ بعذابات عديدة. غير أن هذا لا يعني أن الله يتخلّى كلياً عن أبنائه الخطأة ويترك أعداءهم يفنوهم (12: 10- 13).
ومن جهة ثانية، في النهاية، ساعة تظلّ نواة من المؤمنين ثابتة وسط انتصار الشرّ، وقد استناروا بمضمون الكتب التي سلّمها موسى إلى يشوع لكي يرتّبها ويمسحها بالزيت المقدس ويجعلها في جرار من طين في موضع صنعه الله منذ بداية خلق العالم، لكي يُدعى باسمه حتّى يوم التوبة، فينظر الله إلى ذلك ويسهر عليهم حتى "انقضاء نهاية الأيام" (1: 16- 18). في تلك الساعة، يرتّب التدخّل الالهيّ إلى الأبد مصير كل الخليقة حسب الانباء المدوّن في ف 10: يدمَّر الكون المادي. فلا تجديد ولا قيامة. أما اسرائيل فيقام في ملكوت السماوات، في سماء النجوم، ويفنى أعداؤه. ويعود إبليس إلى العدم.

4- مثال حياة
اعتبر الكاتب أنه يعيش في نهاية الأزمنة. وحين دوّن وص موسى، كانت رومة قد وضعت حداً لسلالة هيرودس على اليهودية. فالولاة الرومان يحكمون الشعب اليهودي حكماً مباشراً ويحتلّون أورشليم التي اجتاحها فاروس قبل موت هيرودس الكبير ببضع سنوات. لقد تبخّرت الأوهام التي حرّكها الاستقلال النسبي الذي حصل عليه المكابيّون، ولكنها لم تدمَّر كلياً حين احتل بومبيوس أورشليم سنة 63 ق. م. اذن، يرى كاتبنا أن لا انتظار لملكوت الله في هذا العالم. فأورشليم قد خسرت قدسيّتها، ولا رجاء للمدينة ولا للارض. لن يزأر الرب من صهيون، ولن ينطلق العقاب من أورشليم (يوء 4: 16). فمن السماء يتجلّى "السماويّ"، لأنه هناك يجلس على عرشه الملكي، وهناك مقامه المقدّس. من السماء يأتي منتقم اسرائيل وإلى السماء يُرفع اسرائيل. ويدمَّر الكونُ ولا يُعاد بناؤه. وانتظار تطهير الهيكل مع الملوك الحشمونيّين بتقدماتهم النجسة، ذهب بغير رجعة. فتجاه الحضور الروماني القويّ، لا كلام عن الحرب الاسكاتولوجيّة من أجل تحرير وطنيّ، ولا عن قتال أخير يُقهر فيه أعداء اسرائيل. لا مكان للغيورين في وصيّة موسى. فمثال الكاتب هو مثال الاتقياء الذين يضعون ثقتهم بإلههم، ويسلّمون مصيرهم بين يديه، ويتأكّدون أنهم إن كانوا أمناء للعهد وحافظي وصايا الله كما دوّنها موسى في وثائق ثمينة حُفظت في الجرار، سيكون الله منتقماً لهم. حينئذ يبدو تكسو وأولاده السبعة رمز بقية اسرائيل المؤمنة في نهاية الأزمنة، والمثال الذي يجب أن يُتبع: ننعزل في مغارة بعيداً عن شرور الأرض وصراعاتها بانتظار خلاص اسرائيل بفضل تدخّل الله وحده.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM