الفصل السادس والثلاثون: أعمال الرسل ولادة الكنيسة في أورشليم

 

الفصل السادس والثلاثون
أعمال الرسل
ولادة الكنيسة في أورشليم
1: 1 – 5: 42

ترك لنا لوقا مؤلّفاً في جزئين: الإنجيل والأعمال. بعد أن تحدّثنا عن الإنجيل الذي أوصلنا إلى أورشليم مع الرسل الذين كانوا "يسبّحون الله ويباركونه" (لو 24: 53)، ننتقل إلى سفر الأعمال الذي سيقودنا من أورشليم إلى رومة مع بولس أسير المسيح. ولكن الكلمة لم تكن اسيرة بل كان بولس يعلنها بجرأة وحرية (28: 31) على كل الذين يزورونه.

أ- نظرة عامة
وُلدت الكنيسة في أورشليم. ومن هناك انطلقت عبر الأزمات التي جعلتها تنضج، وأجبرتها علىٍ اكتشاف ما يفرضه عليها انجيل القائم من الموت. كما انطلقت تدريجياً إلى قلب الأمبراطورية الرومانية، إلى مجمل الأرض المسكونة التي هي المدى الحقيقي لإنجيل. "ستكونون لي شهوداً في أورشليم، لا كل اليهودية والسامرة، وحتى أقاصي الأرض" (1: 8)، أي رومة.
وروى لوقا في سفر الأعمال انتشار انجيل القائم من الموت. لسنا في البداية أمام انتقال جغرافي من أورشليم إلى رومة، بل أمام اكتشاف يتعمّق في قلب الرسالة: الإيمان بالمسيح هو وحده ضروري. كل الناس يستطيعون أن يأتوا إلى هذا الإيمان ويعيشوا منه. والتحدّيات الآتية من الروح القدس ومن البشر، لم تترك الجماعة الفتية تتوقف وترتاح وتتجمّد. والتجذّر في الديانة اليهودية لا يقدر أن يكون عائقاً أمام الحرية الأساسية التي يتجمّع بها وثنيون ارتدوا إلى الإيمان. وجماعة تلاميذ يسوع لم تُولد ولادة حقيقية وتامة إلاّ حين اجتمع اليهود المرتدّون والوثنيون المرتدّون وكانوا متساوين معاً في الإيمان الواحد.
ووصلت الكنيسة إلى نقطة لا يمكن الرجوع عنها. نجد في قلب الخبر "مجمع أورشليم": هناك ستعترف الكنيسة بحرّية الايمان بالنسبة إلى العالم اليهودي، وبالتالي بحرية الرسالة التي لا يقيّدها شيء. نحن أمام منعطف مهم: كل واحد يستطيع أن يبلغ إلى الإيمان وأن يعيشه مهما كان عرقه وثقافته وبلده. قال بطرس: "لماذا تجرّبون الله بأن تضعوا على رقاب التلاميذ نيراً (الشريعة اليهودية) عجز آباؤنا وعجزنا نحن عن حمله؟ خصوصاً ونحن نؤمن أننا نخلص بنعمة الرب يسوع كما هم يخلصون" (15: 10-11).
نحن نفهم اهتمام لوقا بهذا القرار المحرِّر. فقد قدّم الأحداث التي تهيئ هذا القرار، من العنصرة إلى رحلة بولس الرسولية الأولى. وبعد هذا القرار، إستعاد يوميات تحدّث فيها عن رحلات بولس الرسولية، عن محاكمته في قيصرية، عن وصوله إلى رومة.
وهكذا نستطيع أن نقدّم أعمال الرسل في خمس مراحل:
* الرب يسوع، الروح القدس، الشهود: ولادة الكنيسة (1: 1- 41:2).
* الحياة الجماعية في أورشليم (2: 42- 5: 42).
* بداية التحوّل باتجاه الوثنيين (6: 1- 12: 25).
* الرحلة الرسولية الأولى، بولس وبرنابا. مجمع أورشليم (13: 1- 35:15).
* رحلات بولس الأخرى ومحاكمته. لقد وصل الإنجيل إلى أقاصي الأرض (15: 36- 28: 31).
سنتوقف في هذا الفصل عند المرحلتين الأولى والثانية: ولادة الكنيسة، الحياة الجماعية في أورشليم.

ب- ولادة الكنيسة (1: 1- 2: 41)
جعل لوقا. في موضع الاتصال بين زمن يسوع وزمن الكنيسة، خبر فصح يسوع وخبرة التلاميذ الفصحية. ففي يوم العنصرة، حوّل الروح القدس التلاميذ إلى شهود عن القيامة. وكان أول اعلان للإنجيل نموذج كل الإعلانات اللاحقة في أعمال الرسل وثمرة هذا التحوّل الذي جعل الروح القدس من تلاميذ يسوع شهوداً بالقيامة: "فيسوع هذا أقامه الله، ونحن كلّنا شهود على ذلك. فلما رفعه الله بيمينه إلى السماء، نال من الآب الروح القدس الموعود به فأفاضه علينا، وهذا ما تشاهدون وتسمعون" (2: 32- 33).
لا يعارض لوقا نفسه حين يورد "صعودين" ليسوع. ففي نهاية الإنجيل (لو 24: 51)، جعل نفسه في خطّ صعود يسوع إلى أورشليم، فدلّ على أن القيامة هي صعود إلى الآب. وهي كذلك فقط من جهة شخص يسوع وحياته. وتبدّلت الوجهة في بداية سفر الأعمال: هي وجهة نظر الكنيسة في شخص التلاميذ الذين صاروا شهوداً. لقد وُلدت كنيسة الشهادة من خبرة يسوع الحيّ ومن روحه الذي ما زال ينفحها بديناميّته. والأربعون يوماً من الظهورات التي تنتهي بالصعود هي زمن رمزي اعتدنا عليه في الكتاب المقدّس: هو زمن التهيئة، زمن النضوج، زمن المحنة، زمن تفكير واكتشاف. هو زمن وحي لا اللقاء بالله.
وهكذا قبل أن ينطلق يسوع ويغيب غياباً نهائياً عن عالم خبرة الرسل التاريخية "الملموسة"، تهيّأوا لمسؤوليتهم كشهود للقائم من الموت. فالخبرة الأساسية لدى الشهود الأولين للإيمان الفصحي هي حاسمة في نظر لوقا. إنه يختلف عن سائر الإنجيليّين "فيمدّ" (يمط) في الزمن الخبرة الفصحية ويفصّلها أحداثاً متعاقبة بقدر ما تتضمّن وجهات مهمّة للإيمان (لو 24+ أع 1- 2): موت يسوع، القبر الفارغ، الظهورات الأولى، الصعود (كتتميم لمسيرة يسوع)، 40 يوماً، الصعود (إن انطلاق يسوع يدشّن مسؤولية الشهود)، العنصرة.
بالإضافة إلى ذلك، يتوازى خبر بدايات يسوع وخبر بدايات الكنيسة (لو 1- 4؛ أع 1- 2): فبالنسبة إلى يسوع، عمل الروح أيضاً في ولادته وطفولته وبداية حياته العلنية. وحين صاغ لوقا أع 1- 2 كنقطة اتصال بين زمن يسوع وزمن الكنيسة، فقد أراد أن يشدّد بهذه الطريقة، على أن الكنيسة تُولد للرسالة في قوّة الروح بالذات (1: 5، 8).

أ- الصعود (1: 6- 11)
يسوع الحي هو ربّ الجماعة. والصعود إلى السماء يدلّ على تحوّل في حضور يسوع القائم من، لموت، على، انطلاق ضروري من العالم والتاريخ المنظورين بعيوننا البشرية: لا كنيسة من دون ايمان بالرب يسوع. وموضوع عودته في نهاية التاريخ يدل على انشداد الجماعة المؤمنة بسببه وعلى ديناميتها في التاريخ البشري. هذا ما تدلّ عليه أيضاً موهبة الروح من أجل الشهادة: الروح القدس هو القوة التي تعطي الجماعة مستقبلها وجرأتها لتشهد ليسوع في العالم.

2- اختيار متيا (1: 12- 26)
كان اختيار متيا مناسبة للوقا لكي يحدّد موقع التأسيس لمجموعة شهود القيامة، الذين كانوا أيضاً رفاق يسوع التاريخي. الكنيسة رسولية. وهذا يعني أنها تولد باستمرار من العودة إلى شهادة الرسل كما تدوّنت في العهد الجديد عامة وفي الأناجيل بصورة خاصة. واذا كان هؤلاء الشهود مميّزين، فلأنهم كانوا تلاميذ يسوع منذ البداية (معمودية يوحنا) "حتى اليوم الذي فيه رُفع" (1: 22، أي صعد إلى السماء). فالقيامة التي يشهدون لها هي قيامة يسوع الناصري. فشهادة الكنيسة ليست بشيء من دون زمن يسوع، وبالتالي من دون جهاد معه ومثله وسط العالم، حتى الصليب.

3- العنصرة (2: 1- 41)
إنتظرها القارئ منذ بداية الكتاب (1: 2، 4،8)، فجعلت من التلاميذ شهود يسوع القائم من الموت في قوّة الروح. الروح هولا العهد القديم طريقة عمل الله بشكل خلق جديد. الروح لا يُدرك. إنه كالريح. هو حرّ وهو يحرّر. إنه الحياة. إنه الدينامية التي تحوّل القلوب. نحن لا ندركه في ذاته، بل في عمله، بل في الواقع اليومي: في حياة أناس يعملون في الشعب، يرتدون إلى سر الله، يختارون أعمالاً نظنّها مستحيلة في منطق البشر. ويأتي شيء لم نكن ننتظره: عالم جديد وحرّ في الحب والعدالة والسلام.
وحين يورد بطرس نبوءة يوئيل (أع 17:2- 21:) فهو يعبّر عن هذا التحوّل الجذري في عالم صار موضوع انتظار الروح. "أفيض من روحي على جميع البشر. أعمل عجائب فوق في السماء، ومعجزات تحت في الأرض".
إن الروح الذي حلّ، قد عبّر عن نفسه تعبيراً كاملاً ونهائياً في حدث يسوع المسيح. فالروح هو منذ الآن روح يسوع. وإذ أراد بطرس أن يفسّر حدث العنصرة ويوضح معناه، لم يفعل شيئاً سوى أنه أعلن انجيل يسوع في كل ديناميته. وأنهى اعلانه قائلاً: إن يسوع الذي قام هو ذاك الذي يفيض منذ الآن، يمنح الروح الموعود به.
ويمثّل مجيء الروح لا شكل مشهد رمزي، تحوّل التلاميذ إلى شهود جريئين من أجل الإنجيل، والبعد الشامل والتاريخي لحدث أورشليم الذي وصل إلى المسكونة كلها: لقد تحرّكت السماء والأرض (آ 1- 4) والإنجيل الواحد سمعه جميع البشر وسمعه كل واحد في لغة أجداده (آ 5- 13).
وبعد أن تحدّث لوقا عن الصعود واختيار متيا، قدّم لنا بُعد الكنيسة بما فيه من استمرارية، وبعد كل جماعة: إنها تعيش وتعمل بروح يسوع. وهذا الروح هو ينبوع شهادتها وتجسُّدها في كل لغة، في كل الحضارات، في كل الأوساط. وستأتي عنصرات أخرى تتوزعّ سفر الأعمال في أوقات هامة، فتدلّ على أن العنصرة تطبع بطابعها الكنيسة الفتية (4: 31؛ 10: 44 – 46؛ 19: 6). الروح هو قوة الثورة الإنجيلية في كل واحد منا، فينا جميعاً، وحتى أقاصي المعمورة.

ج- حياة الجماعة في أورشليم (2: 42- 5: 42)
حرّك الإعلان الأول للإنجيل الجماعة، فلاحظ لوقا نموّها بفعل الكلمة (2: 41؛ 4: 4؛ 5: 14). لقد تلاقت بشرى يسوع السعيدة والانتظارات البشرية حين التزم الشهود التزاماً جريئاً بعملهم. وصلاتهم هي طلب شجاعة تجاه عداوة السنهدرين (المجلس الأعلى) الذي أمر بقتل يسوع (4: 2، 17، 21) وهو يهدّد التلاميذ، وهي تنتهي بهذه الكلمات: "هب لعبيدك أن يعلنوا كلمتك بجرأة تامة" (29:4) فالشعب ينتظر الشهود كما كان ينتظر يسوع (12:5- 13).

1- الكنيسة مشاركة ورسالة
يسيطر على خبر حياة الجماعة في أورشليم واقعان أتاحا للوقا، لا أن يروي الماضى فحسب (بدايات كنيسة أورشليم)، بل أن يقدّم لقرّاءه نظرة عمّا يجب أن تكون عليه كنيستهم. هناك أولاً وضع "محاكمة": الكنيسة الفتية هي موضوع مهاجمة من سلطات المجلس الرسمية بسبب اعلان الإنجيل. حين تكلم بطرس ويوحنّا في الهيكل، كان كلامهما سبباً في توقيفهما ومنعهما من التكلّم (3: 1- 4: 22). وبعد وقت قليل أوقف الرسل أيضاً وبعد أن جلدوهم أمروهم بأن يسكتوا (5: 17- 41).
ثم يقدّم لوقا ثلاث لوحات تعرض حياة الجماعة: كيف كانوا يعيشون (2: 42- 47؛ 4: 32- 36؛ 5: 12- 16). وإذا عدنا إلى النص نجد منذ 23:4 حتى اللوحة الثالثة، نجد "كنيسة أورشليم" مجتمعة.
في هذا العرض تتوالى وجهتان تكوّنان معاً والواحدة بالأخرى حياة الكنيسة: الجماعة والمحاكمة أي الكنيسة المجتمعة والكنيسة المعرّضة للخطر. ثم المشاركة والرسالة، أي الداخل والخارج، الصلاة والشهادة. وتقوم كنيسة يسوع على حركتين: هي تجتمع للاعتراف بيسوع ورفع آيات المديح له. وهي تقدّم ذاتها للبشر لكي تولد فيهم. هي لا تستطيع أن تختار بين الاثنين، بين الصلاة والشهادة، فتأخذ الواحدة وتترك الأخرى. فإن فعلت لم تعد جماعة شهود تحيا وتحمل انجيل يسوع إلى العالم.

2- الهيكل أو اسم يسوع
إذا نظرنا إلى وجهة "المحاكمة"، رأينا موضوعين اهتمّ لوقا بهما اهتماماً خاصاً. الأول، هو أن محاكمة يسوع لم تنته، بل هي تتواصل. فقضية الكنيسة هي قضية اسم يسوع، وقوة النقد في الإنجيل تجعل الكنيسة غير مقبولة لدى العظماء إذا كانت الكنيسة أمينة للإنجيل. نحن أمام موت وحياة الكنيسة على مثال ربهّا. والتقاربات عديدة بين خبر الآلام ونصوص سفر الأعمال.
الموضوع الثاني: العلاقة بالعالم اليهودي الذي يرمز اليه الهيكل، والإيمان بيسوع. فالهيكل الذي فيه أعلن الرسل أمام الشعب اسم يسوع، هو المكان الذي اختاره الله ليقيم فيه اسمه. وأحد مواضيع هذا الجزء الأول من سفر الأعمال هو إعلان اسم يسوع في الهيكل، وهذا ما لا تحتمله السلطات اليهودية.
وهنا يبرز الجدال المهم في الكنيسة الأولى حول قيمة الهيكل ومدلوله بالنسبة إلى المسيحيين: إن اسم يسوع القائم من الموت والإيمان به يجعلان هذا المكان الذي يسكن فيه الاسم (الهيكل) والذي يتعلّق به اليهود تعلّقاً عظيماً والذي دمّر سنة 70، يجعلان هذا المكان ذا قيمة نسبية. وجواب بطرس أمام المجلس يجمل هذا الاعتقاد وهذا الجدال: "ما من إسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص" (12:4).


3- تقاسم الخيرات
تحدّثت اللوحتان الأوليان عن الحياة الجماعية، فشدّدت على تقاسم الخيرات (2: 44- 45؛ 4: 32- 35) وامتدَّت الثانية بخبر كذب حنانيا وسفيرة الذي عاكس الموقف المثالي الذي وقفه برنابا (4: 36- 5: 11). قد نرى في هذه النصوص وقائع متفرّقة. ولكنّنا أمام تجسّد الإنجيل في حياة الجماعة. هناك جزء هام من الحياة البشرية الشخصية والجماعية، يربطه لوقا ببداية الإنجيل والكنيسة.
"وكانوا يداومون على تعليم الرسل وعلى المشاركة الأخوية، على كسر الخبز وعلى الصلوات... وكان المؤمنون كلّهم متّحدين، يجعلون كل ما عندهم مشتركاً بينهم، يبيعون أملاكهم وخيراتهم ويتقاسمون ثمنها على قدرٍ حاجة كل واحد منهم" (2: 42- 45). "وكان جماعة المؤمنين قلباً واحداً وروحاً واحدة، لا يدّعى أحد منهم ملك ما يخصّه، بل كانوا يتشاركون في كل شيء... فما كان أحد منهم في حاجة" (32:4- 34).
ترتبط عبارات لوقا بتقليد بشري قديم. فاليونانيون مثلاً حنّوا إلى بشر موحّدة، يتساوى فيها الناس، يتقاسمون كل ما يملكون، ينعمون معاً بخيرات الأرض، وتكون هذه الخيرات لسعادة البشر والمحافظة على كرامتهم. استعاد لوقا هذه الكلمات الغنية بالآمال البشرية التي خابت، ليقول للناس: في الكنيسة تصبح هذه الآمال حقيقة بسبب الإنجيل. فالكنيسة الفتية تبدو هكذا كأنها بشرية جديدة. أو بالأقل هذه هي دعوتها: أن تحرّك الجديد بين البشر بفضل علاقات جديدة مع الأشياء، مع المال، مع خيرات الأرض. وهذه الدعوة هي جوهرية بحيث سيكون الكذب في هذا المجال (5: 1- 11) أوّل لفشل عرفته الكنيسة الأولى.
وما هو أكيد، هو أن "المقاسمة الأخوية" التي كان المسيحيون الأولون أمناء لها بسبب الإنجيل، لم تكن فقط توافق القلب والروح، بل تحوّل حياة وشهادة في العالم "بقوة القيامة" (4: 33).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM