الفصل الخامس والعشرون: الاباء والبنون الأسياد والعبيد

 

الفصل الخامس والعشرون
الاباء والبنون، الأسياد والعبيد
6: 1- 9

يقع هذا المقطع في القسم الثاني من أف (ف 4- 6) الذي عنوانه: تحريض إلى المعمّدين. دعا الرسول الجماعة لكي تحيا في الوحدة (4: 1- 16). ثم أعطى تعلميات تقليديّة مأخوذة من الفقاهة الأولى: نلبس المسيح، نقتدي بالله، ننتقل من الظلمة إلى النور. وتأتي لوحة العلاقات الجديدة كما نظّمها المسيح فتصل بنا في النهاية إلى الحديث عن الآباء والبنين (6: 1- 4)، عن الأسياد والعبيد (6: 5- 9).

1- الآباء والبنون (6: 1- 4)
نتوقّف عند فعل "أطاع" (آ 1) الذي يعود بمناسبة الحديث عن العبيد، "أطيعوا أسيادكم" (آ 5). فالطاعة واجبة للأب والأم (آ 2). أما لفظة "عدل" (ديكايوس، أو: الصواب) فتعني: موافق لمشيئة الله كما تعبرّ عنها الشريعة.
ويعود الرسول إلى الوصايا العشر: "أكرم أباك وأمك، لكي تصيب خيراً وتطول أيامك على الأرض". إذا عدنا إلى نصّ السبعينية، وقابلناه مع أف، كانت هناك اختلافة بسيطة مع خر 20: 12: "إيسي": كان. "غاني" صار. ولكن الاختلاف يكون كبيراً مع تث 5: 16 الذي يتضمّن النسخة الثانية للوصايا العشر.
يُبرز بولس أهميّة الوصيّة بواسطة تفسير قصير. ففي العهد القديم ترتبط الحياة بالنسل. فبواسطة النسل يتغلّب الإنسان على الزوال والموت. وهكذا جاء الأمل مشروطاً بتواصل الأجيال. أما الانقطاع فيدلّ على الموت. وحين شدّدت الرسالة على "الوعد" أعادت إلى أذهاننا 1: 13 (خُتمتم بروح الموعد)؛ 2: 12 (غرباء عن عهود الوعد)؛ 3: 6 (شركاء في الموعد الواحد). هذه هي نقطة الاتصال بين هذا المقطع وسائر الرسالة.
وتورد آ 3 الوعد وتعطيه بعداً شاملاً. كان أمام الوصايا العشر أرض الميعاد، تلك الأرض الطيّبة التي يعطيها الله. وجاءت في نظرة أف ازدهاراً وأياماً طويلة، وهي من العطايا المرتبطة بالعلاقات مع الأولاد.
نشير هنا إلى أن الكاتب يعتبر أن الوصايا الأولى في الشريعة لا تحمل وعداً، بما فيها الاعتبارات التي ترافق ممارسة السبت. لم تقبل الشريعة كوعد: وهكذا تبتعد أف عن الذين رأوا في الوصايا العشر عطيّة النعمة التي يمنحها الربّ لشعبه المحرّر.
ولكن يبقى السؤال: في أي معنى يُعطى الخير والحياة الطويلة للمسيحيّين في القرن الأول في الامبراطورية الرومانية؟ لا جواب أكيد. ولكن حين قال الرسول ما قال فقد أراد أن يؤكّد أن الطاعة للأهل واجبة، لأنها ارتبطت بشريعة الله. إن هذه الوصيّة قد وردت في فم يسوع كمثال عن أمر إلهيّ أبطلته الممارسة الرابانيّة المعروفة في أيامه حول شريعة النذور (مر 7: 9- 13، نشير إلى أن هذه الشريعة قد الغاها اليعازر بن هركانس ورفاقه قبل نهاية القرن لأول. رج المشناة، نداريم أو النذور 9: 1).
إن الآباء الذين هم مسؤولون عن التربية، يتسلّمون تحريضين: واحد سلبيّ أولاً على مثال ما في كو 3: 21 (لا تغيظوا أولادكم، اراتيزو- تدفعونهم إلى الثورة والتحرّر لئلا ييأسوا: زالت هذه العبارة من أف): لا تحنقوا أولادكم، لا تدفعوهم إلى الغضب، لا تسخطوهم (بارورغيزو). رج روم 10: 19؛ أف 4: 26 (مقطع حول الغضب). فعلى الآباء أن لا يستغلّوا الطاعة المطلوبة من الأولاد، وهكذا يميلون بالسلطة التي أعطيت لهم من أجل مصلحتهم الخاصة. وهناك تحريض إيجابيّ ثانٍ: بل ربّوهم (لا نجد ما يوازي هذا التحريض في كو). فالآباء هم في خدمة تربية، هم في خدمة الأولاد وليسوا أسيادهم.
"بايدايا"، تربية، تأديب (رج عب 12: 5؛ أم 3: 11). كلمة مستعملة في الأدب الحكميّ والعالم اليهوديّ المتأثّر بالحضارة الهلينيّة. تتضمّن: النصيحة، التحريضة، التعليم. كما تتضمّن: التأديب، التوبيخ، العقاب. يعني كل ما يؤول إلى التربية وتكوين الشخص. وسوف تسيطر وجهة العقاب في هذه اللفظة، والمحنة التي يرسلها الله. أما "نوتاسيا" (= جعل في العقل) فتدلّ على تحريض. نحاول أن ندخل في قلب الأولاد. وهناك طريقة إدخال "الكلام". من هنا ترجمة "الموعظة".
إن التربية والتأديب يعودان إلى الربّ. فهو يعظنا. الربّ أن كيريوس، يهوه. وهو في إطار مسيحيّ: ربنا يسوع المسيح. التربية هي عمل الربّ بواسطة الآباء، بواسطة الوالدين. إنهم يمارسون سلطة نسبيّة (لا مطلقة، كمن له حقّ الحياة والموت). إنهم وسطاء. أعطي لهم تفويض إلهي كما قالت النصوص القديمة. ولكن أف تعود إلى شخص الربّ، وهذا ما يجعلها فريدة في ما تعلنه على مستوى العلاقات بين الآباء والبنين.
نشير هنا إلى أن هذه الرسالة لا تتوسّع هنا كما توسّعت على مستوى الزوجين، فلم تتحدّث عن السلطة الزوجيّة التي تجد ينبوعها في الحبّ وعطاء الذات على مثال المسيح. ثم إننا لا نجد شيئاً عن إيلاد البنين في 6: 1- 4 ولا في 5: 22 ي.
إن التربية في الربّ تفترض مثال المسيح ونظرة إلى "وداعته وحلمه" (2 كور 10: 1) ووضع أقواله موضع العمل: وعلى الأولاد أيضاً أن لا ينسوا أن يسوع كان طائعاً لوالديه (لو 2: 51). ونذكر هنا الديداكيه أو تعليم الرسل (4: 9): "لا تحفظ يدك من ابنك أو ابنتك. بل علمّهما مخافة الربّ منذ صباهما". ولكن العهد الجديد وحده لا يتحدّث عن العقوبة الجسديّة.

2- الأسياد والعبيد (6: 5- 9)
إن التعليمات إلى الأسياد والعبيد تتبع كو 3: 22- 4: 1. نقرأ: سادتكم البشر، حرفياً: بحسب الجسد. فالمؤمن يعيش في الجسد. هذا يعني أن النظام الاجتماعي لا يفرض نفسه. وإن كان هناك من طاعة فبالنظر إلى اعتبار آخر هو الخضوع للمسيح الذي نرتبط به كلّنا أسياداً كنا أو عبيداً.
"بخوف ورعدة" (نقرأ في كو 3: 22: في كل شيء). هذا صدى لما في 5: 21 (خاضعين في مخافة المسيح)، 33 (تهاب المرأة رجلها). نحن لسنا أمام الرعدة والهلع. بل أمام ما يثيره حضور الله في حياة من يتقبّل الأمر. فالله هو حاضر هنا في المسيح. "في سلامة القلب" (ابلوتس) (رج كو 3: 22؛ روم 12: 8: 2). أي دون أن نحسب حساب النتائج أو المنافع أو مضار هذه الطريقة في الخدمة. نهتمّ لله ولا نهتم للناس ولا لما يقولون.
إن عبارة "الخوف والرعدة" ترد عند بولس في 1 كور 2: 3 وهو يتكلّم عن نفسه (حضرتُ إليكم في ضعف وخوف وارتعاد كثير) وفي 2 كور 7: 15 (من الداخل مخاوف)، وفي فل 2: 12 (إعملوا لخلاصكم في خوف ورعدة). كما ترد مراراً في السبعينيّة اليونانيّة. هنا تجد مكانها العبارة: "في مخافة المسيح" (5: 21) (في كو 3: 22: خشية الربّ). فالعبيد يخافون المسيح لا أسيادهم على الأرض، مع أن مخافة المسيح تعلّمهم الاكرام والاحترام لأسيادهم على الأرض. إذ يخدمون أسيادهم في الجسد، فهم إنما يخدمون المسيح أولاً.
وعبارة "بساطة القلب" قد استعملها داود نفسه كما في 1 أخ 29: 7 حسب السبعينيّة (في العبريّة: استقامة القلب). هناك من يترجم النصّ هنا وفي كو 3: 22: بخدمة تامة، لا قسمة فيها. ويقابل هذه العبارة مع بداية سفر الحكمة حيث يُدعى حكماء الأرض لكي يطلبوا الربّ "ببساطة القلب" (1: 1).
أما عكس بساطة القلب، سلامة القلب (والصراحة)، فنجدها في لفظة يونانيّة ترد في كو 3: 22: في اليد وفي العين. أي: عكس طاعة خبيثة لا يفعل صاحبها شيئاً إن لم يره السيّد. أما العبد فهو عبد المسيح لكي يتم إرادة الله من صميم القلب (3: 23). لا بالقسر والإكراه ورغماً عنه. ليست الطاعة عبودية، إنها قبول.
إن هذا التعارض بين أن نكون عبد المسيح وأن نرضي الله،ْ نجده في غل 1: 10 حيث يتحدّث بولس عن نفسه. قال: "لو كنت بعد أرضي الناس لما كنت عبداً للمسيح". ولكن يقابل هذا القول قول آخر نجده في 1 كور 10: 33: "أنا أرضي الجميع في كل شيء لمنفعة الكثيرين لكي يخلصوا". وهكذا "أقتدي بالمسيح" (1 كور 11: 1).
وتستعيد آ 7 ما قالته آ 6 حيث يحلّ "الربّ" محلّ "الله". و"قلب طيّب" محلّ "صميم القلب". هي طريقة أخرى بها نعلن أن الخدمة ليست اعتباطيّة سيّد بشريّ، بل ارتباطاً بالسيّد المسيح.
"يجب أن تعلموا" (آ 8). إن هذا الكلام يعني أن ما سوف يقوله الرسول هو جزء من الفقاهة المسيحيّة المشتركة بين الكنائس وهي: إن كل إنسان ينال من الربّ أجراً عمّا فعله. وهو لا يفرّق بين عبد وحرّ. نحن هنا في تلميح عن العماد الذي يجمع العناصر المتعارضة كما في كل 3: 28 (لا يهودي ولا يوناني، لا عبد ولا حرّ) وكو 3: 11 (لا عبد ولا حرّ، بل المسيح الذي هو كل شيء في كل شيء) و1 كور 2: 13: "فإنّا جميعاً قد اعتمدنا بروح واحد لجسد واحد، يهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وسُقينا جميعاً من روح واحد".
والوقت الذي فيه يجازي الربّ الإنسان، يعود بنا إلى مجيء المسيح. حين يقف كل واحد أمام منبره "لينال كل واحد ما صنع بالجسد، خيراً كان أم شّراً (2 كور 5: 10). في كو 3: 25، من عمل الشرّ يُجازى على شّره. أمما في أف فيُجازى على ما "عمل من الخير". إن التعليم البولسيّ هو صدى لقول الربّ في مت 16: 27 حيث يعلن ابن الإنسان أنه حين يأتي في مجده "يُجازي كل واحد حسب أعماله" (رج روم 2: 6: سيجازي كل واحد).
"وأنتم أيها الأسياد" (آ 9) إفعلوا الشيء عينه مع عبيدكم. هذا يعني: عاملوهم بنظرة مسيحيّة. بالنظرة التي بها يطيع العبيد أسيادهم. عليهم أن يسهّلوا لهم الأمور ليعملوا عن طيبة قلب. فالمعاقبة والتهديد والكلام القاسي تجعل الطاعة خارجيّة، لا من صميم القلب.
"تخلّوا عن التهديد"، هذا ما يعود بنا إلى كو 4: 1 مع لفظة "عالمين" والإشارة إلى الفقاهة العماديّة. "لكم ولهم". يعني للجميع. هناك ربّ في السماء يختلف عن "أرباب الأرض". وهكذا نعود إلى 1: 20- 23 حيث أخضع يسوع الجميع لسلطانه وجرّدهم من قدرتهم. فأمامه، لا محاباة للوجوه، ولا تفعل الهدايا شيئاً. هو لا يتوقّف عند المظهر الخارجيّ، بل يصل إلى القلب (1 صم 16: 1- 12 واختيار داود).
وهكذا ينتهي هذا التحريض بنشيد للربّ الواحد ولعدالته التي تفوق كل عدالة. وفي المقطع التالي، سوف ننشد هذا الربّ ونشيد بقوّة قدرته.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM