الفصل الحادي والعشرون: سيرة أبناء النور

الفصل الحادي والعشرون
سيرة أبناء النور
5: 8- 14

أُخذ هذا المقطع من التحريض الرسوليّ الذي يشكّل القسم الثاني من أف التي تشبه روم. فبعد قسم أول تعليميّ مخصّص لمسائل جوهريّة في الخلاص وتاريخ الخلاص، تتضمّن الرسالة قسماً ثانياً يتوخّى حضّ الجماعة. ومن المهمّ أن نلاحظ أن التحريضات في روم كما في أف لا تستلهم اتّجاهات أخلاقيّة عند الرسول، بل حدث الخلاص نفسه، بل الحياة التي أعطاها الله. إنها تكوّن وعد الحبّ الإلهي وعمله كما هي في الوقت عينه نداء إلى الحبّ يتوجّه إلى الذين يتقبّلونه.

1- نظرة عامّة
إن التحريض الرسولي الطويل الذي أُخذ منه هذا المقطع (5: 8- 14) لا ينطبق على حالة ملموسة في جماعة خاصة ومحدّدة، كما هو الأمر بالنسبة إلى 1 كور و2 كور. بل هو يعالج في الواقع، الحالة العامّة لدى المسيحيين، وخصوصاً مسيحيّين جاؤوا من العالم الوثنيّ. لقد ارتدّوا إلى المسيح وما زالوا يعيشون في وسطٍ وثنيّ. مثل هذا الوضع الحياتيّ يُعتبر بشكل عام وضع المسيحيّين اليوم في هذا العالم. بل هو وضع المسيحيّة في كل زمان وفي كل مكان.
فالمسيحيّ يبقى دوماً على هذه الأرض وبشكل من الأشكال، مسيحياً جديداً وغريباً (2 كور 5: 1- 10؛ فل 3: 20). ونعمة الله التي أعطيت له بشكل أساسيّ في المعموديّة، تتضمّن نداء يرافقه طوال حياته، بأن يعيشْ منذ الآن "في العالم" (يو 17: 14- 18) الذي هو في سلطة الشّرير (1 يو 5: 19) والظلمة (لو 22: 53)، أن يعيش حياة الله التي أعطيت له منذ الآن كعربون ملء الأزمنة الآتية (روم 8: 4- 7). فالإنجيل الذي نفهمه تاماً كما الرسول (فل 1: 27 ي) هو النداء الناشط الذي يوجّهه الله بواسطة المسيح كلمته إلى المسيحيّين في المعموديّة. وقد أدرك أولئك الذين كانوا في الماضي وثنيّين وبعيدين عن الله (أف 4: 1)، الذين كانوا ظلمة (5: 8)، أنهم أمام نداء يخلق ويحرّك. أمام نداء يعد بالحياة الآتية من الله. وهو يحمل هذه الحياة ويعطيها (2 كور 4: 4 ي؛ 1 بط 2: 9- 10). وهو في الوقت عينه نداء الحبّ الإلهي الذي يُسمع دوماً في اليوم الحاضر (اليوم إن سمعتم صوته، عب 3: 7- 4: 13). إنه يتوجّه إلى المعمّدين في كل يوم من أيام حياتهم.
إذن، على المسيحيّين أن يتجاوبوا يومياً وبطريقة ناشطة وشخصيّة، مع هذا النداء الإلهيّ إلى الحياة والى النور. ما تحقّق في تاريخ الخلاص ففُتحت كنوزه مبدئياً من أجل جميع البشر، وما حصل عليه كل مسيحي منذ الآن جوهرياً في المعمودية، يجب أن يُترجم في حياتنا الملموسة، فيبرز من خلال سلوكنا الشخصّي. هذا هو جوهر التحريض الأبويّ الذي يرسله بولس في هذه القطعة من الرسالة إلى أفسس.

2- سباق المقطع
إن ما يشكّل عمق كل القسم الإرشادي في أف (4: 1- 6: 22) يظهر بوضوح خاص في المقطع الذي ندرس. فكل شيء يشرف عليه مبدأ نقرأه في 4: 1: "عيشوا عيشة تليق بالدعوة التي نلتموها". ويتوسّع هذا المبدأ العام في 4: 1- 6 بشكل كلام يحثُّ فيه الرسول على الوحدة (محافظة على وحدة الروح برباط السلام). فإنها بالنظر إلى تنوّع النعم والمواهب، المبدأ الأول الذي يضمّ كل شيء ويحتفظ بكل شيء. بعد هذا نقرأ في 4: 7- 24 شرحاً أول لِما يجب أن يكون عليه أساس الوجود المسيحيّ: لا يمكن أنْ تكون الحياة المسيحيّة إلاّ حياة آتية بكليّتها من الله.
إذن، يجب أن تتنظّم حياتنا تنظيماً تاماً بشكل يليق بالله. عليها أن تقتدي بالله. هنا نتذكّر 5: 1: "فاقتدوا بالله كأبناء أحبّاء". وكلام الإنجيل المقدّس: "فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم السماويّ كامل" (مت 5: 48). إذن، يجب علينا أن نتجنّب تجنّباً تاماً كل ما هو وثنيّ، كل ما هو خطيئة، كل ما يعارض الله. هذا ما تنكّرنا له حين قبِلنا سّر العماد فلماذا نعود إليه. نقرأ في غل 3: 27: "أنتم جميع الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح". لسنا فقط أمام علاقة خارجيّة. بل هو المسيح يستولي على المعمّد ويحوّله على صورته.
إن هذه الحياة التي تأخذ "شكل" الله، تتشبّه بالله وتحاول أن ترضيه (5: 10: ما هو مرضّي لدى الربّ). هي، كما يقول الرسول، حياة من المحبّة تتجلّى في العالم (4: 25- 5: 2): "أنبذوا الكذب... مَن كان سارقاً فلا يسرق بعد...". وفي 5: 3- 14 حيث يأتي المقطع الذي ندرس، تُنشَد هذه الحياة على أنها حياة من النور، حياة مضيئة، حياة تشّع على الآخرين وتنيرهم. أما قال المسيح إن دورنا هو أن نكون نور العالم. فحياة المسيحيّ الإلهيّة التي نالها في المعموديّة، لا تكون فقط حياة محبّة، بل حياة من النور تتحقّق بشكل شخصّي وواعٍ حين تشرق وتشعّ. لهذا شجب الرسول بشدّة في 5: 3- 7 كل أنواع الزنى والنجاسة والفسق. فهي لا تليق إطلاقاً بالمسيحيّ. وهي تنجّس قداسة أعضاء جسد المسيح: "كنتم من قبل ظلمة، أمّا الآن فأنتم نور في الربّ".

3- أنتم أبناء النور
يبدأ النصّ الذي ندرس فيبرز في 5: 8 كيف يتأسّس تحريض بولس على الكائن المسيحيّ. ما يُقال في هذه الآية نفهمه تبريراً لما سبق (5: 3- 7). ونفهمه أيضاً تعميقاً وتوسيعاً لفكر الرسول. فما يبزر التحريض الرسولي هنا وفي 4: 1 هو هذا المبدأ الأساسي الذي يُشرف على الوجود المسيحي: "أنتم الآن نور في الربّ" (5: 8).
ونلاحظ مرّة ثانية أن بولس يحثّ المؤمنين فيذكّرهم بكيانهم، بما صاروا إليه في سّر المعموديّة. إنهم الآن نور، هم الذين كانوا ظلمة من قبل. مثل هذا الكلام يفهمه الناس بسهولة كما يفهمه المسيحيّون في ذلك الزمانْ. في الماضي كنتم وثنيّين، كنتم ظلمة، تعملون أعمال الظلمة كالزنى والنجاسة بكل وجوهها، والطمع أيضاً. أما اليوم فأنتم مسيحيّون، فأنتم نور يضيء للناس بأعمالكم الحسنة فتمجّدون الآب الذي في السماء. أنتم مسيحيّون، فكونوا منطقيّين مع نفوسكم وعيشوا كمسيحيّين. لقد عبّر الرسول عن فكرته منطلقاً من الظلمة السابقة ومشدّدا على أن المسيحيّين هم الآن نور في الربّ.
نفهم من خلاله هذا التعبير البسيط والواضح، أن المسيحيّين صاروا بالعماد مختلفين عمّا كانوا. صاروا بالحقيقة "جديدين". فالعماد في المسيح ليس فقط طقساً خارجياً. وأن "نكون نوراً" لا يعني فقط طريقة خارجية تضيء على مَن يقيم في النور. بل إن المسيحيّين هم في ذواتهم نور في الربّ الذي قال عن نفسه إنه نور العالم (يو 8: 12؛ 1 يو 1: 5 ي). إنهم مصابيح يمتلكون منذ الآن وبفضل الربّ، القوّة والسلطان بأن ينيروا العالم بالنور الآتي منه. الله هو نور. لهذا، فالذين وُلدوا من الله بالمعموديّة قد صاروا هم أنفسهم نور.
وما قاله بولس هنا قد عبّر عنه في أماكن أخرى. في روم 8: 2- 17: نحن أبناء الله، أبناء وورثة. أخذنا روح التبنّي الذي به ندعو الله: أبّا، أيها الآب. وفي روم 4: 4- 7: وُلد ابن الله من امرأة في ملء الزمان، فلم يعد المسيحي عبداً، بل ابن ووارث بنعمة الله. وقالت 1 يو 3: 1: "نحن بالحقيقة أبناء الله". إذن، المسيحيّون هم أيضاً "أبناء النور"، ويُطلب منهم أن يشعّوا نور الله (5: 9- 14).

4- ثمر النور
من نال نعمة بأن "يكون نوراً"، حمل ثمراً محدّداً (إ 5: 9) يدلّ على أنه ابن النور. ويتحدّث الرسول عن ثلاث ثمار للنور. أولاً، كل أنواع الصلاح واللطف. وهذا ما يعارض كل أشكال الشّر والنجاسة (4: 31؛ 5: 3 ي). ثانياً، البرّ الذي هو الصدق والاستقامة والعيش بحسب إرادة الله (4: 24؛ 6: 1). ثالثاً، الحقّ والحقيقة في حياتنا وفي أقوالنا. فالذي يعيش كابن الله، يعبّر في أعماله عن هذه البنوّة ويدلّ على ما يكون عليه النور: الصلاح، البرّ والتقوى، الحقيقة والعدل. بل إن مَن يكون نوراً في الربّ يشّع في حياته هذه المزايا التي يحملها إلى البشر عطيّة من قِبَل الله.
إن حياة من النور تتفجّر من الداخل تفجّراً شخصياً وواعياً. لهذا يقدّم إلينا الرسول هذا التنبيه الذي نسمعه مرّة ثانية: "إختبروا، واختاروا ما هو مرضيّ لدى الربّ" (5: 10). يعني ما ينتمي إلى النور ويجعل النور يشعّ. هذا ينطبق بشكل خاصّ على المسيحيّين الذين ما زالوا يعيشون وسط الوثنيّين، أو أقلّه في عالم ما زال غريباً عن الخلاص. فعليهم أن يتحوّلوا دوماً ودوماً عن "أعمال الظلمة العقيمة" (5: 11). الظلمة تشبه العدم. بل هي عدم. وهي لا تعرف إلاّ الأعمال الباطلة، الأعمال التي تسمّم الحياة، تسمّم المحبّة. وحياة أبناء النور تمنعهم من كل اتصال بأعمال الظلمة هذه. فهي تقود إلى الموت لا إلى الحياة. وتستحقّ اللعنة كالتينة التي ذكرها الإنجيل (مر 11: 12- 19).
غير أن الرسول لا يكتفي بأن يحذّرنا من المشاركة في الظلمة وأعمال العدم. بل يخطو خطوة أخرى تلفت انتباهنا. ليس من الضروري فقط بأن نتجنّب مثل هذه الأعمال والتحدّث عنها وذكر اسمها. فالمسيحيون مدعوّون إلى أن يشجبوها ويفضحوها فلا تبقى خفيّة وسّرية فيضلّ الناس بها (آ 11، 13). وهناك كلمات أخرى للرسول تدلّ بوضوح على ما يعنيه بكلامه. يجب أن نفترض أولاً ما سبق وقال: على المسيحيّين أن يختبروا كل شيء، وأن يلتزموا من أجل النور والخير. وإذ يفعلون كل هذا، يُبرزون ما هو خفيّ. وبما أنهم نور، عليهم أن ينيروا أولئك الذين ما زالوا أسرى الظلمة وأعمالها، ليقودوهم إلى معرفة الله، ويردّوهم إليه. حينئذٍ يصبح هؤلاء المرتدّون بدورهم نوراً في الربّ على مثال سائر المسيحيين.
كل هذا "الشجب" هو في الدرجة الأولى نتيجة الكلمة. هكذا نفهم آ 12 في سياق النصّ: نحن نستحي أن نتكلّم عمّا يفعله أولئك الباقون في الظلمة. ولكن حين نكشف هذه الأعمال ونشجبها، فقد ينفع عملنا أولئك الذي ما زالت عيونهم مغمّضة. غير أن هذا الشجب بالكلمة قد لا يكفي. لهذا قالت آ 13: "كل ما انكشف ظهر في النور". ما يريد الرسول أن يقوله: على أبناء النور أن يكشفوا أعمال الظلمة، فيقنعوهم بالنور ويدعوهم لكي يكونوا بدورهم نوراً. فعلى الوثنيّين (رج آ 11، ق آ 13- 14 آ) أن يتحوّلوا داخلياً بقوّة النور المقنعة، فينتقلوا من الظلمة إلى النور على مِثال ما حدث للمسيحيّين قبلهم (5: 8).

5- المسيح يضيء لك
نحن هنا أمام إيراد لنصّ نجهل أصله. قد يكون نشيداً مسيحياً قديماً على ما في 1 تم 3: 16: (عظيم هو سّر التقوى: تجلّى في الجسد..). يعود هذا النشيد إلى أش 26: 19 (نداك ندى النور، يا ربّ)؛ 51: 17 (أفيقي وانهضي يا أورشليم)؛ 52: 1 (إلبسي ثياب مجدك)؛ 60: 1 (قومي استنيري أو: أنيري). كان للاستنارة الدور الأكبر في اللغة العماديّة كما نقرأ في عب 6: 4: "فالذين أنيروا مرّة وذاقوا الهبة السماويّة". وفي 1 بط 2: 9: الله "دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب".
يبدأ الإيراد بعبارة: "لهذا قيل". فهو يدلّ بشكل واضح على الفعل العماديّ الذي بواسطته يتمّ التحوّل الحقيقيّ والجوهريّ في الإنسان الذي يصبح نوراً. لسنا فقط أمام نشيد عماديّ، بل أمام عبارة عباديّة تدعونا إلى السهر واليقظة، كما عرف العالم اليوناني الكثير منها.
وإذا كانت آ 14 قد فُهمت على أنها نداء إلى اليقظة، فمضمونها يلقي ضوءاً قوياً على آ 9 وآ 11- 13. فالرسول يذكّر المسيحثين بعمادهم ونتائجه، لكي يبرّر تحريضه الملحّ لهم في آ 11- 13. ففي العماد وبالعماد، إستيقط الذين كانوا من قبل وثنيّين، الذين كانوا مسجونين في الظلمة والموت. إستيقظوا إلى حياة جديدة، قاموا ودخلوا في نور يوم المسيح.
وفي النهاية، مَن هو النور؟ النور هو المسيح نفسه. هذا ما يقوله النصّ بوضوح. فبالمعموديّة صار المسيح نور المعمّدين وحياة المسيحيّين. صار ذلك بالنسبة إليهم بحيث صاروا بدورهم نوراً في المسيح الربّ.

خاتمة
إن الرسول ذكّر المسيحيّين هنا بالنداء الذي وُجِّه إليهم ساعة اقتبلوا العماد. إنه نداء متواصل، نداء يوميّ. وحين طلب من المسيحيّين في 4: 2 بأن يحتملوا بتواضع ووداعة كل ما يحصل لهم، لم يعارض نفسه بنفسه حين حدّثهم عن اختبار كل شيء و"شجبه". فالكيان النورانيّ الذي أعطي له هو عطيّة من الله والمسيح. وهو يدفعه إلى النشاط والإشعاع. فالذي وُلد من الله من أجل النور، لا يقدر إلاّ أن ينقل هذا النور الذي أُعطي له. وهكذا يطرد كل ظلمة من العالم ويحمل ثمار النور سالكاً بحسب ما تطلبه منه مشيئة الله.


 



 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM