الفصل الثامن عشر: الإنسان الجديد

لفصل الثامن عشر
الإنسان الجديد
4: 25- 32

في المقطع السابق، كان حديث عن "المعمودية" في عبارتين مصوّرتين تدلاّن على واقعين عرفهما الوثنيّ. العبارة الأولى: إخلعوا الإنسان القديم كما تخلعون ثوباً بالياً. والثانية: إلبسوا الإنسان الجديد. وهكذا تتجدّدون روحاً وجسداً. تتجدّدون على مستوى العقل والذهن والبصيرة. والإنسان القديم يوافق ما كان عليه الوثنيّ في ما مضى. أما الواقع الجديد الذي صار إليه في المعموديّة، فهو يفرض عليه نمطاً من الحياة يتوافق والصورة التي استعادها حين ارتبط بالمسيح فلم يعد غريباً عن حياة الله.

1- نظرة عامة
أ- ملاحظات نقديّة
في آ 28: بيديه (الخاصتين) ما هو صالح. هناك من يجعل كلمة "ايديايس" (الخاصتين)، وهناك من يلغيها. وهناك من يجعل "أغاتون" (صالح) قبل اليدين أو بعدهما. هي رغبة في أن نقرّب مفعول الفعل (الخير). وقد تأثّر النسّاخ فوضعوا الصفة "ايديايس" بتأثير من 1 كور 4: 12 (نتعب عاملين بأيدينا).
في آ 29، كتب النصّ الغربي "بستيوس" بدل "خراياس" التي لم يعتد عليها. كان المعنى في النصّ الذي ندرس: بنيان الضرورة" أو الضروري للبنيان. فصار في النصّ الغربي: بنيان الايمان.
في آ 32، جعلت البردية آ 4 والفاتيكاني والبازي صيغة المتكلّم الجمع (هامين، نحن)، بدل المخاطب الجمع (هيمين، أنتم). كانت: كما سامحكم الله في المسيح. فصارت: كما سامحنا الله في المسيح. إنّ لهذا الاختلافة معناها. فهي تشير إلى أن العلاقة بالمسامحة تبدو قريبة من العلاقة بالايمان كما في آ 25 ب.

ب- نصائح عامة
حين نقرأ هذه النصائح العامّة، لا نستطيع أن نستخرج أي استنتاج حول الوضع الروحيّ للجماعات التي أرسلت إليها أف. فتعليم المسيح (4: 20) يتضمّن بالضرورة تطبيقاً على المستوى الاخلاقيّ. وها نحن نشير إلى بعض النقاط. أنبذوا الكذب. هذا ما نقرأه في كو 3: 9. نحن قريبون من زك 8: 16 (كلّموا كل واحد قريبه بالحقّ). لا يمتدّ غضبكم إلى المساء. فإن امتدّ كنتم مع إبليس. لا تسرقوا، بل اعملوا وساعدوا المحتاج. لا كلام خبيث، بل كلام يعمل من أجل بنيان الجماعة. لا تحزنوا الروح القدس. هنا نرتفع من المستوى الخلقيّ إلى المستوى اللاهوتيّ، ونتذكّر أش 62: 10 الذي يشير إلى بني إسرائيل الذين تمرّدوا على روح الله في البرّية. ويرى بولس أن الروح الذي أعطي لنا في العماد هو موجّه الحياة المسيحيّة (روم 8: 14). هذا الروح يطبعنا بطابع الانتماء إلى الله. فمن قاوم الروح، سقط من جديد في عبوديّة الخطيئة.
وترد المسامحة المتبادلة كما في كو 3: 13، وحسب ما تطلبه الصلاة الربيّة (مت 6: 12). وتذكر الغفران الذي يمنحنا الله إياه في المسيح (2 كور 5: 18- 19) يوجّه الخاتمة اللاهوتيّة لكل هذا المقطع: "كونوا متسامحين كما سامحكم الله في المسيح". ويبدأ ف 5 مع فكرة الاقتداء بالله، فينتهي هذا المقطع، ويبدأ المقطع التالي الذي يقول: كونوا مقتدين بالله كأولاد أحبّاء.

2- أنبذوا الكذب والغضب (4: 25- 27)
كان بولس قد قال: "اخلعوا". ماذا نخلع؟ الكذب. نجد في كو درفتين متعاقبتين (3: 8- 10: إطرحوا الغضب... 3: 12- 15: البسوا اللطف). أما في أف، فالسلبيّ يترافق مع الايجابيّ حتى آ 32، وهكذا يبرز التعارض واضحاً.
الحقّ يقابل الكذب، بل ينفيه. فالكذب هو مجمل ما لا يجب بعد اليوم أن نعيده. وفي كو 3: 9 كان النداء إلى الابتعاد عن الكذب خاتمة الصورة السلبيّة عن الماضي. كما دعا إلى الانقطاع عن الإنسان البالي، الإنسان العتيق. وتأتي عبارة معارضة (نقول الحق للقريب) فتتجذّر في الكتاب المقدّس. كان الوضع خطيراً بالنسبة إلى أورشليم، فأعلن النبي زكريا شروط مخرج ممكن. كان الربّ قد عزم على معاقبة شعبه، وها هو يعود عن عزمه ويقدّم لهم الفرصة الأخيرة: "هذه هي الأمور التي تقومون بها" (زك 8: 16 حسب السبعينية).
إنّ عبارة "قول الحقّ للقريب" لا تجد ما يبرّرها في مبدأ أدبي، بل تستند إلى وضع هو انتماء إلى جسد المسيح وارتباط بالرأس. فالآية تعلن بشكل حاسم الباعث اللافت من أجل أخلاقيّة مسيحيّة: "نحن أعضاء بعضنا لبعض". تحدّث العهد القديم عن "القريب" داخل شعب الله. أما بولس فعن "العضو" في داخل جسد المسيح. فالعلاقة بالحقّ ضروريّة لمستقبل أورشليم في زكريا. ولإقامة جسد المسيح في أف. فنحن "نتعلّم المسيح" حين نحترم بعضنا بعضاً لا سيّما على مستوى الكذب والحقّ.
نقدّم هنا ملاحظتين: الأولى: لا نجد استعارة "الأعضاء" في الجسد في أف ولا في كو. فقد وُلدت في 1 كور 6: 15 وامتدّت في 1 كور 12 ثم في روم 12: 5. وهكذا نكون أمام تقليد فقاهيّ يرتبط بالتعليم البولسيّ. والملاحظة الثانية تدور حوله مفهوم "القريب". فهو قد تبدّل مع ف 2. بعد أن زالت الحواجز الماضية، صار "البعيد" "قريباً" داخل الشعب المسيحانيّ. ولكن بقيت الخدمة الحقيقيّة مؤسّسة على مشاركة في الجسد الواحد، لا على مشاركة في البشريّة الواحدة.
"إسخطوا ولا تخطأوا" (آ 26). هنا يعود. بولس أيضاً إلى الكتاب المقدّس، إلى مز 4: 5 كما ورد في السبعينية. فالفعل "رج ز" يدلّ على عاطفة جامحة، على الغضب والرعدة والألم. وقد فُهم تارة بشكل كلام يوجّه إلى خصوم البار يدعوهم فيه لكي يحتفظوا بغيظهم. وطوراً بشكل تنبيه إلى الرعدة أمام الربّ. ومرة ثالثة بشكل نداء يوجّه إلى الأبرار أنفسهم لئلا يقعوا في السخط والغضب تجاه الاضطهادات التي يتحمّلونها. أما السبعينيّة فأخذت بالخيار الأول، وأعطت الآية بعداً أخلاقياً. وجّهتها إلى الذين "يزرعون الباطل والكذب"، إلى أناس "قلوبهم ثقيلة". وهكذا حرّض مز 4: 5 (حسب السبعينية) الناس بأن لا يخضعوا للغضب حين يفكّرون على أسرّتهم، يجب أن يتخلّوا عن "مشاريعهم". وراحت أف في هذا الخطّ، فلم تتوقّف عند الباعث على الغضب.
هنا تختلف الفقاهة عن المثالي الرواقيّ الذي يرى أدن كل تصرّف هو شّر في ذاته. أما في أف، فلا يكون "الغضب" شّراً، إلا إذا قاد الإنسان إلى الخطيئة. وعلى كل حال، لا يستطيع أن يمتدّ إلى الليل من أجل "حسابات" ننتقم بها من لقريب: وتذكّرنا نهاية الآية بما نقرأ في عظة الجبل (5: 25: بادر إلى الاتفاق وخصمك) وبملحاحيّة المصالحة. كان مت 5: 22 جذرياً بالنسبة إلى الغضب (يستوجب المحاكمة، الدينونة، جهنّم). أما الكرازة اللاحقة فلم تكن دوماً بهذه لجذريهّ. قالت كو 3: 8: "إطرحوا الغضب والسخط والخبث". و1 تم 2: 8: "يصلّي الرجال بغير كضب ولا مماحكة". ويع 1: 19: "يكون سريعاً إلى الاستماع، بطيئاً عن التكلّم، بطيئاً عن الغضب".
"لا تتركوا لإبليس مجالاً". جاء القول بشكل حقيقة عامة، فبدت خاتمة آ 26، على مثال تك 4: 7 الذي أنهى النداء الموجّه إلى قايين بأن لا يحتدّ فيترك لخطيئة القابعة عند بابه تجتذبه إليها. المجال، المكان. الموضع الذي فيه يتغلغل لليس ليستفيد من المناسبة.
إنّ تسمية الخصم إبليس (ديابولوس) غير معروفة في النصوص البولسيّة السابقة. ولكنها سوف ترد في 6: 11 (مقاومة مكايد إبليس) وفي الرسائل الرعائيّة. كما نجدها في سائر أسفار العهد الجديد، ما عدا في مرقس. إنّ العودة إلى هذه اللفظة تدلّ على تأثّر بولس بالفقاهة المسيحيّة التي عرفتها أف.

3- انبذوا السرقة والكلام الفاسد (4: 28- 29)
"من كان يسرق لا يسرق بعد". يندّد بولس بالسرقة مثل 1 بط 4: 15 (القاتل أو السارق أو فاعل شرّ) كما يندّد بالقتل المذكور في 4: 26 في لفظة "لا تخطأوا" بتأثير من الغضب. إذا سخطتم لا تخطأوا، أي لا تقترفوا جريمة قتل. وهكذا يتواصل حضور الوصايا العشر في العهد الجديد. وحسب 1 كور 6: 10، السارقون هم كالظالمين والخطأة: "لا يرثون ملكوت الله". غير أن الآية في أف تدلّ بوضوح على أن هؤلاء لم يُطردوا من الجماعة. هذا يعني أنهم كانوا سارقين في الماضي. لهذا يُدعون إلى أن يعملوا بأيديهم.
ليس "العمل" موضوع تساؤل كما كان الأمر في بعض الجماعات المتأثّرة بقرب مجيء الربّ كما في 1 تس 4: 11 (تشتغلوا بأيديكم)؛ 2 تس 3: 10 (من لا يريد أن يشتغل فلا يأكل). ذكر بولس المثل الذي أعطاه: أمّن حاجاته مع أن له الحق بأن يعيش "على حساب" الجماعة (1 كور 9: 4). وساعة دوّنت أف، دخلت الكنيسة في مناخ يعرف أن المجيء سوف يتأخّر، وأن لا بدّ من مواصلة العمل الرسوليّ. أما الباعث على العمل في أف فهو: مساعدة المحتاجين. وهكذا لا يتوقّف "الخير" عند المبادىء، بل يصل إلى الظروف العمليّة ويتحدّد بالنسبة إلى القريب.
مرمى النصّ واضح. فالعبارة المركزيّة تدمج ما في 1 كور 4: 12 (نتعب عاملين بأيدينا، المعنى الحقيقي) وغل 6: 10 (لنحسن إلى الجميع، المعنى المجازي) فنجد الآية نفسها بين فكرة الانتاج الاقتصاديّ وفكرة عمل الخير. من المهمّ أن لا نلغي النداء إلى العمل اليدويّ الذي كان محتقراً في جماعة تحتفظ به للعبيد. فعلى المسيحيّين أن يكونوا كالرسول: لا يستحون من العمل، لأن العمل جزء من حرّيتهم. هذا هو إرث العهد القديم: فالشعب الذي نجا من العبوديّة، يُدعى إلى العمل ليتمّ خليقة الله. ومن المعروف أنه وجب على كل فرّيسي أن يكون صاحب مهنة.
"لا تخرج من أفواهكم" (آ 29). وننتقل من الأعمال إلى الأقوال. فحقل الألفاظ التي تشير إلى "الكلام" واسع. في 5: 4 (الكلام القبيح)؛ 5: 12، 14؛ 5: 19- 20 (تحاوروا في ما بينكم). وتأتي البنية في شكل نقيضة: "فاسد" (سابروس)، "صالح" (اغاتوس) كما في آ 28. وهكذا نكون قريبين ممّا في الإنجيل مع الشجرة التي تحمل ثمراً صالحاً وتلك التي تحمل ثمراً رديئاً (= مهترئاً). الصالح هو كل ما يُعمل من أجل البنيان. والرديء هو ما يفسد البنيان.
"من أفواهكم، من شفاهكم". هنا نتذكّر كو 3: 8 حيث نجد الكلام الذي لا يبني بل يهدم: الافتراء، الكلام القبيح...
تحدّثنا عن الاختلافة "خراياس" التي جاءت تكرّر ما في الآية السابقة (المحتاج، خرايان)، كما عادت لفظة "اغاتوس" (صالح) في آ 29. نستطيع أن نفسّر هذا المضاف إليه في شكل سببيّ: حين يكون هناك حاجة، حين تظهر مناسبة. في الجزء الثاني من الآية، نقول: افتحوا أفواهكم إن كان هناك من ضرورة من أجل كلمة تعمل للبنيان.
ونجد توضيحاً عن البنيان في النهاية: ليؤتي السامعين نعمة (خاري). برّر العمل بمساعدة الآخرين. والكلام بإمكانيّة المشاركة في النعمة، في عطيّة الله.

4- لا تحزنوا روح الله (4: 30- 32)
نعود مع آ 30 إلى منابع الأخلاقيّات. فالعلاقة مع الآخرين هي انعكاس لعلاقة أولى توحّدنا بالروح القدس. إنّ الأقوال السابقة تجد ما يقابلها في عوالم أخلاقيّة أخرى. أما هذه الآية فلا معنى لها إلا بالنسبة إلى المعمّد. الروح هو الروح القدس وهو روح الله. وهكذا نعود إلى المباركة التي وردت في بداية الرسالة وإلى السياق العماديّ. نعود إلى الختم وهدفه. في يوم الفداء (1: 7، 17؛ روم 3: 24؛ 8: 23؛ كو 1: 14).
"لا تحزنوا الروح القدس". عبارة فريدة في العهد الجديد وغريبة عن محيطها. هناك من قابلها مع 1 تس 5: 9 (لا تطفئوا الروح). ولكن السياق مختلف. هو سياق النبوءة. نشير هنا إلى قول غير مكتوب في قبريانس المنتحل الذي يضمّ 4: 30 و1 تس 5: 19: "لا تُعِلّوا الروح القدس الذي يقيم فيكم، ولا تطفئوا النور الذي يشّع عبركم".
وعاد بعض الشرّاح إلى نصوص قمران: إنّ روح الله المُعطى لإنسان يتأثّر بتصرّف ذاك الذي قبله، بل يتنجّس. ولكن يجب أن نبحث عن أصل العبارة في سفر الخروج: حين كان شعب الله يسير في البرية، جرّب الله وتذمّر عليه. إن مز 78: 40 يتحدّث عن ثورة إسرائيل التي جعلت الله "مريضاً" (بارابكراينو في آ 8، 17، 40). ونجد نصاً قريباً من أف في أش 63: 7 ي: إنّ جيل الخروج جمح (م رح) و"عصّب" (ع ص ب في العبرية: جعله مريضاً) روحه القدّوس (آ 10).
إنّ هذا التقارب مع الكرازة النبويّة والنداء إلى انتماء لا تحفّظ فيه إلى الله، من قبل شعب نجا وتقدّس، يجد تثبيتاً له في آ 31: انتزعوا من وسطكم كل ما يسيء إلى المحرّر. ونجد في 1 كور 5: 7 صدى لهذا القول بمناسبة الحديث عن الزنى مع الأقارب: بالمسيح فصحنا قد ذُبح". فعلى الكورنثيين أن يستبعدوا صاحب هذا العمل الشنيع (1 كور 5: 2). وفي 1 كور 10، كانت أحداث البرّية الدراماتيكيّة مثالاً وتنبيهاً لنا "نحن الذين بلغنا إلى نهاية الأزمنة". إن هذا التقليد الطويل هو في أساس الفقاهة الخلقيّة، وإن لم تعد هذه الفقاهة إليه بشكل صريح. إذن، المعنى هو: أيها المعمّدون، لا تغيظوا الروح الذي تقبّلتموه.
وتشدّد نهاية الآية على المرمى الاسكاتولوجيّ. مهما كانت التبدّلات، فإن أف تحتفظ في داخلها بتعابير من الانتظار الأولانيّ. فيوم الفداء يرمز إلى الرجاء. وقد خُتمنا بواسطة الروح القدس بالنظر إلى ذلك اليوم. وهكذا ترتبط موهبة الروح القدس وختمه ونداؤه مع البركة. وإن آ 30 لا تزيد شيئاً على التحريض، بل تجعله في قلب النصّ كإجمالة عن الفقاهة العماديّة. وهكذا نكون أمام تعبير آخر عن "خلع" و"لبس" في الوجهة الجماعيّة. ستعدّد آ 31 ما يجب أن نقتلعه، أن ننتزعه. وآ 32 ما يجب أن نصير إليه ليفرح الروح الذي وُهب لنا. وهكذا تكون آ 30 صورة عن الروح القدس كشخص يفعل فينا ونحن "نؤثّر" عليه.
ونعود إلى ما يجب أن نخلعه. ما يجب أن يزول ويختفي من وسط الشعب المحرّر (كما في سفر الخروج). هنا نجد لائحة تقليديّة. المرارة (بكريا) ترتبط مع مز 10: 7 (وصورة الجاهل) (رج روم 3: 14؛ تث 19: 17). "لا ينبت فيكم جذر مرارة" (عب 12: 15). ثم السخط (تيموس) الذي يرافق الغضب كما في روم 2: 8، كو 3: 8. وهو يجتمع مع الخلاف والحسد كما في كل ما يرتبط باللسان. نحن هنا أمام العلاقات المتبادلة، ولهذا، فالسباب لا يغيظ قداسة الله، بل شعب الله.
إنّ هذا التعداد قريب ممّا في كو 3: 8. ولكن "الشرّ" يُحذف من المجموعة، وتعود المرارة إلى رأس اللائحة. قد يكون للفظة "كاكيا" قيمة محصورة (موقف الشّر كما في روم 1: 29؛ 1 كور 5: 8؛ يع 1: 21؛ 1 بط 2: 1). أو هي ترتبط بكل ما يعود إلى الشرّ.
جُعلت وجهات الشرّ في خمس فئات هنا كما في كو 3: 8 على مثال ما في العالم الغنوصيّ. ولكن هذا لا ينفي الوجهة التقليديّة.
"كونوا" (آ 32). هنا نصل إلى ذروة هذه الكرازة الأولى. فكما في 4: 1- 3، نجد تشديداً على العلاقات المتبادلة التي تميّز الإنسان الجديد في الوجهتين الفرديّة والجماعيّة. وهذه الوجهة التي تحدّد كل أخلاقيّة عماديّة، قد تثبّتت بواسطة إيراد بولسيّ: "إنّا أعضاء بعضنا لبعض". ويستعيد النصّ كلمتين من كو. "خراستوي". ملاطفون. هي صفة تستعمل للحديث عن البشر. "اوسبلنخنوي"، رحماء. هي ترتبط أيضاً بالحبّ الأخوي في 1 بط 3: 8.
وتنتهي الكرازة بنداء هو صدى للطلبة الأخيرة في الصلاة الربيّة. هو الغفران المبتادل (التسامح) المؤسّس على غفران يمنحه الله دنا في المسيح. وحضور المتكلّم الجمع (نحن) يدلّ على أحنا أمام تعبير عن الفقاهة. وتأتي الأداة "كما" على ما في إنجيل يوحنا. سامحوا كما سامحكم الله. أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أجّبتكم. كما أحبّني الآب هكذا أنا أحببتكم. فالحبّ المتبادل يقتني بُعداً كرازياً: هكذا يعرف العالم أن المسيح جاء من عند الآب. وهكذا نصل إلى قلب عظة الجبل حيث موقف الإنسان تجاه الإنسان هو انعكاس لموقف الآب تجاه البشر. كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل هو (مت 5: 43- 48). كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي رحوم هو (لو 6: 32- 36).
إنّ الألفاظ الثلاث، الرفق والرحمة والغفران، هي صفات خاصّة بالله في العهد القديم. وها هي قد صارت صفات خاصّة بالجماعة. حملها المسيح فأدخلها إلى الشعب المسيحانيّ. فأفعال الإنسان الجديد وأقواله صارت تعبيراً عن الحدث العماديّ واتخذت مدلولاً كرستولوجياً. بل هي اتخذت أيضاً بُعداً لاهوتياً (سامحوا كما سامحكم الله). وهكذا نكون قد دخلنا في الفقاهة الثانية التي تستلهم النداء إلى الاقتداء بالله.

خاتمة
وهكذا تنتهي الفقاهة الأولى حول الإنسان الجديد. يخلع كل ما هو قديم من كذب وشراسة وسرقة ومرارة وسخط. يضع أمامه كل ما يفيد للبنيان. يضع أمامه التوافق التامّ مع الروح القدس. يضع أمامه الصفات التي تدلّ بشكل خاص على الله: الرفق، الرحمة، التسامح، الغفران. وهكذا نقتدي بالله كالأبناء الأحبّاء.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM