الفصل السابع عشر: إخلعوا، إلبسوا

الفصل السابع عشر
إخلعوا، إلبسوا
4: 17- 24

كانت أف قسمين. قسم عقائدي بدأ وأشار إلى سّر الله كما كُشف في شخص المسيح وفي الكنيسة (ف 1). ثم تحدّث عن دعوة جميع الشعوب في قلب كنيسة المسيح (ف 2- 3). والثاني هو قسم إرشادي يرسم الحياة التي تليق بمثل هذه الدعوة.
في البداية نجد نداء إلى الوحدة رغم تنوّع المواهب (4: 1- 16). بعد هذا نجد الخطوط الكبرى لأخلاقيّة عامّة تتوجّه إلى الحياة المسيحيّة (4: 17- 6: 20). ونستطيع أن نقسمها إلى مقطوعات عديدة: نلبس الإنسان الجديد (4: 17- 24). الاستنتاجات العمليّة المرتبطة بهذا الإنسان الجديد (4: 25- 5: 2): إمتنعوا عن الكذب. ثم، حديث عن الانتقال من الظلمة إلى النور (5: 3- 20).
أما المقطوعة التي ندرس فهي تبدو كالمقدّمة إلى هذه الشميلة الإرشاديّة الواسعة التي فيها يحرّض الرسول المسيحيّين لكي يكونوا أناساً متجدّدين في المسيح (آ 17- 24). ويمتدّ تحريضه ويتفصّل في سلسلة من الفرائض الخاصّة: ضدّ الكذب، ضدّ الغضب، ضدّ السرقة، ضدّ كل شراسة في القول والعمل، ضدّ كل سفاهة وزنى.

1- نظرة عامة
نبدأ فنشير إلى أنّ النصّ الغربي وضع في آ 19 "ابلبيكوتس" (يئست) بدل لفظة نادرة "ابيلغيكوتس" (تخدّرت ضمائرهم، كلّت). رج 2: 12 القريب من هذا المقطع: "كنتم بلا رجاء في هذا العالم". وفي آ 23- 24، نجد في شهود عديدين صيغة الأمر بدل المصدر بالنسبة إلى فعل "تجرّد" و"لبس". لكن المعنى يبقى هوهو.
من ثوابت التحريضات العماديّة تقديم مقابلة شديدة بين رذائل العالم الوثنيّ والحياة الجديدة. هذا ما نجده مثلاً في كو 3: 5- 8. ونلاحظ هنا كما في روم 1: 21 ي كيف أنّ فساد العقل كانت نتيجته فساد الحياة والأخلاق: "سفهوا في أفكارهم. أظلمت قلوبهم الغبيّة".
وإذ أراد الكاتب أن يرسم مسيرة التنشئة المسيحيّة، استعمل ألفاظاً فيها الكثير من الابتكار. مثلاً: تعلّمتم المسيح. كما نتعلّم مثلاً الرياضيات. ويُطرح السؤال: كيف يصبح المسيح الذي هو شخص حيّ موضوع تعلّم؟ نحن هنا أمام لغة موجزة تختصر المسافات عائدة إلى التوراة. نقرأ في تث 4: 10: "أسمعهم كلامي لكي يتعلّموا مخافتي". وصلّى المرتّل في مز 119: 73: "يداك صنعتاني وكوّنتاني. فهّمني فأتعلّم وصاياك". لقد حلّ المسيح محلّ الشريعة والوصيّة. يكفي أن ننظر إليه لكي نتعلّم كيف نعيش هذه الحياة الجديدة.
وقبل أن نتعلّم المسيح، يجب أن يدوّي الإعلان الأول، يجب أن يصل التعليم المنظّم إلى المؤمنين. وهذا التعليم يرتبط ارتباطاً مباشراً بـ "الحقيقة التي في يسوع". هي المرّة الوحيدة التي يُستعمل فيها اسم "يسوع" وحده في أف. وعى بولس الأخطار التي تتضمنّها نظريّات حول "المسيح الكونيّ"، فعاد بنا إلى حياة يسوع على الأرض، هذه الحياة التي انطبعت بذلّ الصليب. وهكذا نكون في امتداد حقيقيّ لنظرة بولس إلى يسوع المسيح.
وتجّاه الإنسان القديم الذي هو ضحيّة شهواته، نجد الإنسان الجديد الذي نلبسه في المعموديّة (كو 3: 10). إنّ صورة اللباس ترد مراراً عند القدّيس بولس. نقرأ مثلاً في غل 3: 27: "أنتم جميع الذين اعتمدتم في المسيح، قد لبستم المسيح". يعود الرسول مع صيغة الماضي إلى زمن محدّد هو العماد، الذي يُعتبر خلقاً جديداً يُعيد إلى الإنسان كرامة خسرها بالخطيئة.
أما لهجة النصّ فتبيّن أنه لا يكفي أن نلبس المسيح. بل يُفرض على المسيحي تجرّد متواصل. نقرأ في روم 12: 1- 2: "تغيرّوا بتجديد عقولكم لتعرفوا مشيئة الله. فالحياة المسيحيّة تنمو بين قطبين: ما سبق وحصلنا عليه، أي نعمة المعموديّة. وما لم نحصل عليه بعد، أي الانشداد إلى النضوج، إلى ملء قامة المسيح (4: 13).

2- سيرة المسيحيين والتعليم المسيحي (4: 17- 21)
أ- لا تسيروا سيرة الوثنيّين (آ 17- 19)
بدأ بولس فحرّض قرّاءه على أن لا يسقطوا بعد اليوم في فخاخ الحياة الوثنيّة، أن لا يعودوا إليها. وهو يقدّم لنا الوثنيين كما يلي: قلوبهم قاسية. وكانت النتيجة جهلاً دينياً خاطئاً. رضي عقلهم وبصيرتهم بترّهات الأوثان البشريّة وبطلانها وأظلمت أفكارهم، فصاروا غرباء عن حياة الله. وفي الوقت عينه ضاع الحسّ الأدبي عندهم فاستسلموا إلى الفجور وانغمسوا في كل فسق وما كانوا يشبعون.
هذا التنديد يذكّرنا بما في روم 1: 18- 32، ويُبرز سلسلة من المدلولات تجدر الإشارة إليها: قساوة القلب. الجهل الدينيّ. بطلان الأوثان التي هي عدم. ظلام البصيرة. البعد عن الله. وإنّ هذا التحذير الذي يُرسله بولس يبدو موجّهاً إلى عصرنا الحاضر الذي تعلّق بأصنامه فاستسلم إلى قوى متنامية تبعده عن الله وعن الأخلاق الحميدة. لقد استُعبد لأصنام صنعها بيده، لا لأصنام من خشب وحجارة. استسلم إلى وعود تركّز الإنسان على الإنسان، لا على الله. وماذا يستطيع أن يفعل الإنسان الضعيف؟
والظلام الذي يتحدّث عنه يوحنا في مطلع إنجيله يجتاح عالمنا. فيبقى على المسيحيّ أن لا يترك الظلمة تتغلّب عليه. فانطلاقاً من كل هذا المقطع الذي ستصبح أقواله ملموسة من خلال التوصيات اللاحقة (4: 25 ي)، نفهم كيف تتغلغل الروح الوثنيّة في العالم، كما في النفوس. وحين نعي هذا الخطر نعرف كم علينا أن نقاوم لئلاّ نقع في التجربة.

ب- كونوا أمناء للتعليم المسيحي (آ 20- 21)
وعاد الرسول إلى التقليد المسيحي الذي هو وعظ وكرازة، إرشاد وتحريض. الذي هو إعلان الخلاص الذي تمّ في شخص يسوع الناصريّ. الذي هو وصايا حياة توافق التعليم الإنجيليّ. فالتعليم المسيحيّ يعود بشكل مباشر إلى المهمّة التي سلّمها يسوع إلى رسله غداة القيامة. "فاذهبوا، وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19- 20).
وهذا التعليم الذي نقله إلينا هؤلاء الرسل، والمرسلون المتجوّلون، ومؤسّسو الجماعات، باذلين في سبيله دمهم، قد وصل إلينا عبر جماعات يشّع الإيمان في أعضائها، عبر معلّمين هيّأوا المرتدّين لقبول سّر العماد. هذا التعليم انتصب بوجه العقليّة الوثنيّة وأخلاقيّاتها، وهاجم حكمة العالم بجهالة الله، وندّد بالميول المنحرفة داخل طبيعة فاسدة.
هاتان الآيتان (آ 20- 21) القريبتان من الأصول المسيحية تلفت انتباهنا اليوم، وتدفع إلى التفكير العقولَ المعاصرة الباحثة عن الحقيقة. تعلّموا المسيح. تعرّفوا إلى المسيح. حاولوا أن تتعرّفوا إليه أكثر، أن تروا عبوره في العالم وفي حياتكم. نسمع كلاماً عن المسيح. نفتح آذاننا وقلوبنا لكل من يحدّثنا عنه ويفتحنا على كلمته السّرية والعميقة. نتعلّم في المسيح، لأنّ كل تربية إنسانيّة حقيقيّة تعود إليه لأنه ينبوع كل حكمة بشريّة.
نتعلّم المسيح "حسب الحقيقة التي في يسوع". فيسوع هو قاعدة إيماننا وتصرّفاتنا. هو هدفنا ومثالنا. والحقيقة التي تُعرض علينا من عنده، ليست حقيقة مجرّدة وعقلانيّة. بل هي حقيقة شخصيّة ومجسّدة. حقيقة تدعونا وتجتذبنا برباط الحبّ الإلهي. وهكذا نحسّ بإلحاح بولس وقوّة اليقين عنده، لاسيّما حين يعود إلى التقاليد الرسوليّة، إلى شخص الرب عينه. يقول لهم: "أما تعلمون"، فيحيلهم إلى التعليم الذي يعرفه قرّاؤه.

3- الإنسان القديم، الانسان الجديد (4: 22- 24)
حين صار المسيحيّون تلاميذ يسوع، وجب عليهم أن يتخلّوا عن نوعيّة حياتهم الأولى، أن يخلعوا الإنسان العتيق ليتجدّدوا بتحوّل روحي، ويلبسوا الإنسان الجديد المخلوق حسب الله. نحن هنا أمام توبة وارتداد، أمام مسيرة على مستويين نجد أقدم تعبير لها في 1 تس 1: 9- 10: "رجعتم إلى الله عن الأوثان، لتعبدوا الله الحيّ الحقيقيّ". إذن، هناك تخلٍّ عن نوعيّة حياة أولى تعتبر ناقصة، لاغية، باطلة. وخيار من أجل أسلوب حياة جديد، أو بالأحرى من أجل حياة متجدّدة وكأنّ الشباب عاد إليها بشكل جذري. فعبر الرمزيّة العماديّة عن "التعرّي" عن الإنسان العتيق، و"لبس" الإنسان الجديد، نلامس سّر الولادة المسيحيّة: مع المسيح، في المعموديّة يموت إنساننا القديم ويُدفن. ومعه نقوم إلى جدّة الحياة مع الله.
لقد عاد بولس مراراً ومن زوايا مختلفة إلى موضوع التجدّد الأساسيّ في الإنسان الذي خلّص في المسيح وبالمسيح. ونذكر مثلاً 2 كور 5: 16- 17: "إنّ كنا قد عرفنا المسيح بحسب الجسد (أو: البدن، اللحم والدم)، فالآن لا نعرفه كذلك. إذن، إنّ كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة. فالكائن القديم قد اضمحلّ. والكائن الجديد هو هنا. والكلّ من الله الذي صالحنا مع نفسه بالمسيح".
غير أنّ هذا الجدل بين القديم والجديد يغتني منذ البداية باعتبار فصحيّ حول تجدّد العهد. نستطيع أن نورد هنا عدداً من النصوص يكفل بعضها الآخر. "أولاً تعلمون أنّ الخمير اليسير يخمّر العجين كله؟ فاطرحوا عنكم الخمر العتيق لتكونوا عجيناً جديداً، بما أنكم بلا خمير لأنّ المسيح فصحنا قد ذُبح. فَلنعيّد إذن، لا بالخمير العتيق، ولا بخمير السوء، بل بفطير العفّة والحقّ" (1 كور 5: 6- 8). ونقرأ في الرسالة عينها حول الإفخارستيا عبارة ليتورجية قديمة يوردها بولس: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي" (1 كور 11: 25).
وإذ أراد أن يدافع عن لقبه كرسول تجاه الكورنثيّين المتقلّبين، كتب لهم فيما بعد: "إنّ الله قدّرنا أن نكون خدّاماً لعهد جديد، لا عهد الحرف بل عهد الروح، لأنّ الحرف يقتل والروح يحيي" (2 كور 3: 5- 6). ونقرأ في نهاية غل التي يشرف عليها الجدال مع اليهود هذا التعبير القاطع: "معاذ الله أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح... ففي المسيح ليس الختان بشيء ولا القلف، بل الخليقة الجديدة" (غل 6: 14- 15).
وتترجم روم 6- 7 كل هذا في لاهوت عماديّ: "هل تجهلون أننا نحن الذين اعتمدوا في المسيح يسوع، فقد اعتمدنا جميعاً في موته. إذن، دفنّا معه بالمعموديّة في الموت، حتى إنّه، كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب، كذلك نسلك نحن أيضاً في جدّة الحياة" (روم 6: 3- 4). ونقرأ في 7: 6: "أما الآن فقد تحرّرنا من الناموس إذ متنا لما كان يأسرنا، لكي نخدم في جديد الروح لا في عتيق الحرف". وأخيراً نقرأ في كو 3: 9- 10 عبارة قريبة من نصّ أف بحيث تبدو تفسيراً له: "خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الإنسان الجديد الذي يسير نحو المعرفة الحقيقيّة متجدّداً على صورة خالقه".
ويشدّد الرسول بحقّ على الوجهة الديناميكيّة والمتدرّجة لهذا التجرّد. فهناك طريق تقود من الجهل الخاطىء لدى الوثنيين، من لا مبالاتنا وفتورنا الدينيّ، فتصل إلى معرفة الله الحقّة. ويتحدّث بولس في أف عن التحوّل الروحيّ في أذهاننا، أي عن ارتداد عميق في قلوبنا وتوجّه النيّة الصالحة. والنموذج المثالّي لتجدّدنا هذا هو صورة يسوع المشرقة التي فيها كل برّ وقداسة حقّ.
يجد بولس تعبيراً واضحاً عن فكرة 4: 214 وكو 3: 10، كما في أف 2 الذي هو مفتاح لتفسير المقطوعة التي ندرس. لقد جعلنا الله "نحيا من جديد" مع المسيح (آ 5). نحن عمل يده، بعد أن خلقنا في المسيح يسوع (آ 10). ويسوع قد أزال في جسده العداوة التي تفصل اليهود عن الوثنيّين (الناموس مع وصاياه وأحكامه) ليكوّن في نفسه من الإثنين إنساناً واحداً جديداً (آ 15).
ونختم هذه الإضمامة من النصوص البولسيّة التي تشدّد على الجديد الجذريّ في حياة تأسّست في المسيح وتدشنّت في المعموديّة، فنورد نصّ تي 3: 4- 5: "فلما تجلّى لطف الله مخلّصنا ومحبته للبشر، خلّصنا، لا نظراً لأعمال برّ عملناها، بل بحسب رحمته. خلّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس".
وتنفتح أمامنا آفاق جديدة في الرسالة إلى العبرانيين المبنيّة كلها على التعارض بين العهد القديم والعهد الجديد، وعلى تجاوز العهد الجديد للعهد القديم. وسفر الرؤيا ينطلق من نصوص التوراة ليحدّثنا عن تجدّد إسكاتولوجيّ لكل شيء بالنظر إلى المواعيد التي يتضمنّها الميثاق الجديد. ولا ننسى جدليّة آدم الأول وآدم الآخر، آدم القديم وآدم الجديد: كان الموت بإنسان والقيامة من الموت بإنسان. كان الإنسان الأول نفساً حيّة لم الإنسان الآخر روحاً محيية (رج 1 كور 15: 21- 22، 45- 49). وفي النهاية نورد 2 كور 4: 16: "لئن كان إنساننا الظاهر (الخارجي) ينهدم، فإنساننا الباطن (الداخلي) يتجدّد يوماً فيوماً".

خاتمة
نخلع الإنسان العتيق، نلبس الإنسان الجديد. نحن هنا في رمزيّة المعموديّة. والإنسان العتيق هو النمط المعاكس للإنسان الجديد. وهذا ما يظهر في تصرّف هذا وذاك. بين كذب نقوم به، وكلام صدق نتفوّه به. بين غضب ومسامحة. بين غضب وصياح وشتيمة من جهة، وملاطفة ومغفرة من جهة ثانية. فيبقى علينا أن نتجدّد نحن الذين خُلقنا على صورة الله في البرّ وقداسة الحقّ.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM