الفصل التاسع: المسيح سلامنا

الفصل التاسع
المسيح سلامنا
2: 11- 18

بيّن لنا بولس في 2: 1- 10 المعمّدين الجدد الذين قاموا مع المسيح، وانتصروا فيه منذ الآن في السماء. فخلاصهم الذي اعتُبر "ملكاً" في يدهم، هو نتيجة محبّة الله الذي أراد أن يدلّ هكذا على فرط غنى نعمته.
أما آ 11- 18 فعادت بنا إلى الأرض، وفسرّت لنا كيف حصلنا على مثل هذه النتيجة الرفيعة. فالمسيح قرّب أولئك الذين كانوا بعيدين ومقسّمين. قرّبهم في جسده الفرديّ والطبيعيّ. قرّبهم بدمه المهراق، كما في جسده السّري. قرّبهم بعضهم من بعض، وقرّبهم من الآب فخلق في شخصه إنساناً جديداً. وإذ فعل هذا، هدم الحاجز الفاصل، وألغى البغض، ومفك السلام. بل أدخلنا في جسده، لأنه سلامنا حقاً.
ساعة كتب بولس كان الموضوع الملموس المصالحة بين اليهود والوثنيين بعد أن خلّصهما معاً دمُ المسيح. تصوّر آ 11- 12 وضعاً تجاوزه الزمن اليوم، وضع الوثنيين في ذلك الوقت، وقد استُبعدوا من المواعيد التي أعطيت لإسرائيل. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، سوف نرى أنه من الممكن أن نوصل هذه المصالحة إلى أشخاص غير اليهود والوثنيين الذين عاصروا رسول الأمم.
أعلنت آ 13 تأكيداً أساسياً: تمّ التقارب في دم المسيح. وفصّلت آ 14- 18 الطريقة التي بها أعلن المسيح (الذي يقرّب بيننا) هذا السلام وثبّته، وكيف هو سلامنا. هذه الآيات تبدو وكأنها نشيد أو جزء من نشيد وُجد قبل بولس فاستعاده وكيّفه مع موضوعه. أو يكون بولس نفسه قد ألّف هذا النشيد مستلهماً فكراً يهودياً غنوصياً، قد واجهه في كو وفي أف.

1- لدلك تذكّروا (2: 11)
إن تذكّر ماضي القرّاء يرتبط بما سبق. لقد صارت هويّتهم واضحة في نقطة محدّدة: إنّ هؤلاء المسيحيين جاؤوا من العالم الوثني. "أمم في الجسد". وستتحدّث الآية فيما بعد عن اليهود المختونين "في الجسد"، هذا ما يشدّد على أن الانفصال على مستوى الإيمان يتسجّل في معالم طبيعيّة (على مستوى الجسد) وحضاريّة (يهودي/ يوناني). فالمعارضة بين الختان والقلف (أو: عدم الختان)، تميّز بين مجمل إسرائيل ومجمل الأمم. هذه العبارة المعروفة يستعملها بولس في روم 3: 30 فيقولن: "إن الله واحد، وهو يبرّر الختان بالإيمان، والقلف بالإيمان". وإذ يتكلّم عن الإنسان الجديد" في كو 3: 11، يعلن أن هذا التمييز قد تجاوزه الزمن، فيقول: "ليس بعد يوناني ولا يهودي، لا ختان ولا قلف... بل المسيح هو كلّ شيء وفي كل شيء". نشير هنا إلى أن لفظة "الختان" قد تدلّ على المختونين، كما أن كلمة "سبي" (في أف 4: 8) تدلّ على المسبيّين.
دلّ بولس من خلال هذه الآية على أن معيار التمييز يبقى نسبياً. هو على مستوى الجراحة (جُرح صنعته اليد في الجسم). وهذا ما يحرّك الجدال داخل العالم اليهوديّ بين الختان الصادق والختان الكاذب. وسنجد صدى لكل هذا في كو 2: 11: المعمّدون هم الذين نالوا الختان الحقيقيّ ذاك الذي "ليس من فعل الأيدي". هنا نجد المقابلة بين "ما هو من فعل الأيدي" و"ما ليس من فعل الأيدي". هذا بالنسبة إلى الختان. ونجد هذه المقابلة أيضاً في معرض الحديث عن الهيكل (أع 7: 48؛ 17: 24؛ 2 كور 5: 1؛ عب 11: 24؛ مر 14: 36). فالهيكل والختان يرتبطان بالميثاق بين الله وشعبه عبر شخص موسى.
ثم إن هذا التمييز يقابل بين الذين "يسمَّون" (أي: يسمّيهم الناس) وبين الذين "يسمّون نفوسهم" (أي: يعتدّون بنفوسهم). نجد في هذه الخلفيّة جدالات تخترق العهد الجديد منذ يوحنا المعمدان: من يستطيع أن "يقول" إنه ابن ابراهيم (مت 3: 9: الله يخرج من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم). هذا الجدال سيعود في روم 2: 25- 29 (إن كنت تتعدّى الناموس صار ختانك قلفاً)؛ 4: 9- 12 (هل حُسب البرّ في الختان أم في القلف؟). ونلاحظ في روم 9: 4 (حيث تذكر امتيازات إسرائيل) أن لا ذكر بعد للختان: "لهم التبنّي والمجد والعهود والآباء ومنهم المسيح بحسب الجسد".
تذكّروا. هذه العودة إلى الماضي لا تتوقّف عند خبر بولس الشخصي (أو اليهوديّ الذي صار مسيحياً)، بل تصل إلى العهد القديم بذكرانات عناصر الإيمان القديمة (تث 26: 5: كان أبي أرامياً تائهاً؛ يش 24: 2: سكن آباؤكم منذ القديم عبر الفرات)، بالاحتفال بالفصح (أذكروا يومَ خروجكم هذا كل أيام حياتكم، تث 16: 3)، بالكرازة الأخلاقيّة والإجتماعيّة (أذكر أنك كنت عبداً في مصر، تث 5: 15). وهذا التذكّر يجعل الإنسان يعي النعمة التي نالها.
ويستند بعض الشرّاح إلى هذه الذكرانة ليقول إن مسيرة أف تقابل مسيرة عيد الفصح في منزل يهوديّ، حسب مز 106 أو مز 118: مباركة، ذكرانة، توسّل، مجدلة. فتذكّر" الخلاصات" (جمع خلاص) السابقة، ولا سيما الفصح، يدشّن التوسّل من أجل خلاص حالّي هو خلاص أورشليم. ولكن هذا الكلام يبقى مجرّد فرضيّة.

2- "كنتم بدون مسيح" (2: 12)
ظلّت آ 11 معلّقة: "تذكّروا أنتم الأمم". ماذا يجب أن يتذكروا؟ فيأتي الجواب في آ 12: "تذكّروا أنكم كنتم". وتأتي سلسلة الاستبعادات التي آلمت الوثنيّين. سلسلة تقابل تعداد امتيازات إسرائيل كما نجدها في روم 9: 4- 5: التبنّي، المجد، العهود، المواثيق، الشريعة، العبادة، المواعيد، الآباء. "ومنهم خرج المسيح". ولكن الذين سلّمت إليهم هذه الخيرات "قد عثروا بحجر العثرة": خسروا كل شيء. أما الذين حُرموا من هذا كلّه فقد حصلوا على النعمة.
إذن التعداد في آ 12 يدلّ على النقص: لا مسيح، لا حقّ بالمواطنيّة، لا عهود، لا رجاء، لا إله. ما معنى هذه العبارات؟
* "بدون مسيح". بعضهم يتحدّث عن الوعد بالمسيح، عن الوعد بالملكوت الآتي. والبعض الآخر عن يسوع المسيح، لأن ليس لإسرئيل من مسيح، وهو ما زال ينتظره إلى الآن. أما الوثنيّون الذين انفصلوا عن يسوع المسيح فحُرموا بذات الفعل من سائر النعم (تجد تحقيقها في المسيح). نحن أمام لقب يضمّ الوعد وتحقيقه في يسوع.
* "بعيدين عن رعيّة إسرائيل" (خارج رعية إسرائيل. لستم مواطنين في "أورشليم"). هي المرّة الوحيدة التي ترد فيها لفظة إسرائيل في أف أو في كو. لقد استبعد الوثنيّون (4: 18؛ كو 1: 21: غرباء عن الله، بعيدين، مستبعدين). الجذر اليوناني يدلّ على التغرّب. أما لفظة (بوليتايا) فنجدها في أع 22: 28 وهي تدلّ على صفة المواطن الروماني. إذن المعنى هو "مواطن يهوديّ". لسنا أمام امتيازات سياسيّة مُنحت لليهود، بل أمام مشاركة تامّة في حياة الجماعة المختارة. نحن أمام انتماء إلى جماعة الرب والى كل ما نجده في روم 9: 4- 5. هذا ما لا ينعم به الوثنيّون.
"وغرباء عن عهود الوعد". هي ترتيبات ترتبط بعهود (بمواثيق) الله وتتضمّن الوعد. فصيغة المفرد تسْير إلى هدف العهد: وحدة تامّة بين الربّ وشعبه، وحدة تتمّ مع مجيء المسيح. من ينعم بالعهود؟ إسرائيل هو الذي يرث الخيرات المسيحانيّة التي وُعد بها لابراهيم ونسله بأقسام متجدّدة (روم 4: 13؛ 15: 8؛ غل 3: 16؛ 4: 23 ي). في كو 1: 21 كانت اللفظة "أعداء" فصارت في أف "غرباء". ما زلنا في خطّ المباركة الأولى وما فيها من أفكار عن الميراث والاختيار.
هنا نقدّم مقابلة مع روم 9- 11، ونبرز التحوّل الذي تمّ في معالجة العلاقات بين إسرائيل والكنيسة. حاول بولس في روم أن يكتشف مستقبل هذه الفئة من الشعب المختار التي رفضت أن تعترف بالمسيح يسوع (ما أرادت ولا استطاعت). أما أف فتهتمّ بالكنيسة، بوحدة حقيقيّة بين مسيحيّين من أصل وثنيّ وبين مسيحيّين من أصل يهوديّ (تدنّى دورهم ومكانهم في الكنيسة. صاروا الأقليّة).
وتبقى أبعد من العلاقات بين اليهود والوثنيين، مسألةُ تقبّل المرتدّين الجدد الذين يأتون كثراً إلى الكنيسة فيصطدمون بالمزمنين "القدماء". وهناك مسألة سيطرة "الأكثريّة" على الأقلّية... هناك مسألة العلاقات في قلب جماعة المسيح.
* "لا رجاء لكم". هذا ينتج عمّا سبق. والرجاء يعني الواقع الذي نرجوه (1: 12- 14).
"بدون إله في العالم". هذا ما يذكّرنا بما في 1 تس 1: 9: "رجعتم إلى الله عن الأوثان، لتعبدوا الله الحيّ الحقيقي". وبما في أف 4: 18: "الأمم الذين تغرّبوا عن حياة الله بسبب الجهل الناجم فيهم عن تصلّب قلوبهم".

3- "صرتم قريبين" (2: 13)
كما في آ 4 تدخّلت مبادرة الله غير المشروطة، فقلبت الوضع رأساً على عقب. لا يُذكر الله. ولكن صيغة المجهول تدلّ في التقليد اليهودي على ذاك الذي لا نستطيع أن نسمّيه (هذا ما يسمّى المجهول الإلهي): إن الله جعلنا قريبين في المسيح يسوع، في دم المسيح. يحيط بالفعل عودةٌ إلى الحدث المحرّر مع تشديد على الزمان (الآن، في المسيح يسوع) وعلى المكان (صرنا قريبين في دم المسيح أو بدم المسيح).
وإذ أرادت أف أن تصوّر زمان المصالحة ومكانها، تحدّثت مرّة واحدة عن الصليب (2: 16) ولم تتحدّث أبداً عن الموت. وهنا تعود الرسالة إلى تحديد 1: 20 فتأخذ منها عبارة "دم الصليب" (ق 1: 7). هذا ما يدلّ على الحدث (آلام المسيح) والمعنى الذي أعطي له (التحرير الفصحيّ).
والعبود من الاستبعاد إلى الإدخال يجد تعبيراً رمزياً في جدليّة البعد والقرب: فدمُ المسيح يفتح الطريق أمام تقارب يقود إلى حضورين، حضور الله وحضور الأخوة. عرف العهد القديم أورشليم والهيكل، كما عرف "الجزر البعيدة" و"أقاصي الأرض". غير أن هذه المسافة لا تُقاس بالأمتار، بل بدرجة الانتماء أولاً. فـ "الغرباء" هم بعيدون، ولو كانوا في أورشليم. والأتقياء هم قريبون ولو أقاموا في الشتات وبعيداً عن فلسطين.
تعلن لفظتا "بعيد" و"قريب" آ 17 التي تستعيد أش 57: 18- 19. فهذا الاستشهاد يحيط بالمقطع المركزيّ بحيث يبرز موضوع السلام كما يحدّثنا عنه النبيّ.
وإليك مقطع أشعيا كما يرد في السبعينية: "رأيت طريق شعبي فشفيته. عزّيته وأعطيته التعزية الحقيقيّة. أعطيت سلاماً فوق سلام للذين كانوا بعيدين وللذين كانوا قريبين". إن هذا الإعلان هو جزء من مبادرة الربّ الذي يكشف عن برّه وخلاصه حين يحرّر شعبه من المنفى ويجمع منفيّي إسرائيل. ولكن "ابن الأجنبي" الذي انضمّ إلى الربّ، سينعم (مع الخصيّ) بتدخّل الله العجيب، بل، يقول الربّ: "سآتي بهم إلى جبلي المقدّس، لأن بيتي يكون (بيت) صلاة من أجل جميع الشعوب". إذا قرّبنا هذا النصّ الأشعيائي (ف 57) الذي كان يُقرأ مع خر 21: 1- 22: 23 ويفسّره، ندرك معنى الاستشهاد في نصّ أف. فمقطع سفر الخروج يشير هو أيضاً إلى مصير الغرباء (والمستبعد من الشعب أو المقيم والجار) فيعلن أنهم جزء لا يتجزّأ من شعب الله، بعد أن دخلوا إلى بيته وفي خدمته. إذن، تستعيد أف رؤية العمل الفدائي بالنسبة إلى إسرائيل بعد تمزّقات المنفى. وفصحُ المسيح يفتحنا على السلام المسيحاويّ الذي حيّاه إنجيل الطفولة (لو 2: 14) وأعلنته خطبة العنصرة "على جميع الذين على بعد، بمقدار ما يدعو الربّ إلهنا منهم" (أع 2: 39).

4- لأنه هو سلامنا (2: 14)
لخّصت آ 13 الحدث الذي به قلبَ الله الوضع. مع آ 14- 18 نصل إلى نواة ف 2، بل إلى نواة الرسالة كلها. تأتي صيغة المتكلّم الجمع (نحن) بعد صيغة المخاطب الجمع (أنتم)، وصار المسيح فاعل الأفعال كما في المدائح الكرستولوجيّة.
إن أف اختارت على خطى كو خطّ المصالحة لكي تُفهمنا ما حدث على الصليب: فالصليب هنا، لا القيامة، يفتح درب الخليقة الجديدة. ترجع المصالحة، وإقامة السلام بيوم الصليب، إلى كو 1: 19- 23 مع انقلاب في العظة. أعلنت كو أولاً المصالحة العامّة لما هو على الأرض ولما هو في السماوات، ثم عادت إلى القرّاء: "وأنتم الذين كانوا من قبل... ها هو قد صالحكم مع الله. واتخذت أف طريقاً معاكساً. "أنتم الذين كانوا قبلاً بعيدين... المسيح هو سلامنا". إنطلقت الرسالة من جمع اليهود والأمم في الوحدة، فاكتشفت البُعد الكنسي لعمل المسيح، بل البعد الكونيّ (رج 3: 9، 10؛ 4: 7، 9).
نصّ كثيف ومتشعّب، وتتوزّعه نقاط لافتة: المسيح مات عنا. تجسّد السلام المسيحاويّ. وتأتي الأسباب في خطين. على المستوى الإيجابيّ: بسبب ما صنع. جعل من الإثنين واحداً. خلق. صنع السلام. صالح، أعلن. على المستوى السلبيّ: دمّر، ألغى، قتل. وكل هذا في موضع محدّد كما سبق ورأينا: في جسده، بواسطة الصليب، فيه.
نحن هنا أمام نشيد استلهم أفكارَه من احتفال كونيّ وقرأ وضعه على ضوء الكتب المقدّسة وواقع دخول الوثنيين في شعب الله. وهذا ما جعل الفرائض الموسويّة باطلة بعد أن تجاوزها الزمن.
يماثل النشيد بين المسيح والسلام الذي أعلنه الأنبياء: فيه، سلامنا. والسلام يمثّل الخير المسيحاني الأسمى الذي انتظره إسرائيل. يمثّل حالة الملء التي تنتج عن حضور الله المباشر وعن حضور الاخوة. وعبر تقبّل البشر من كلّ أمّة يتمّ الوعد. أما موضوع النشيد فهو السلام. يعود في آ 15، ويتكرّر في آ 17 بعد أن يرتبط في آ 16 مع فعل المصالحة وفي آ 18 مع إعلان اقتراب الله الذي صار في متناولنا جميعاً.
المسيح هو شخصياً هذا السلام. هنا نتذكّر التقليد اليوحناويّ مع عبارة "أنا هو" (أنا هو الراعي الصالح، أنا هو القيامة والحياة). فقد عرف التقليد البولسيّ من جهته سلسلة من التماثلات يُعلن فيها يسوع "من أجلنا" حكمة وبراً وقداسة وفداء (1 كور 1: 30). يعلن "حياتنا" (كو 3: 4) و"رجاءنا" (1 تم 1: 2).
غير أن تماثل السلام مع شخص المسيح يرتبط بأعماله: جعل من الإثنين واحداً. من كائنين. من شعبين. في آ 16 سنقرأ: يصالحهما. كان الخلاف مأساوياً، وجاء الخلاص فتحقّق إنسان واحد، إنسان جديد. نحن أمام جمع كائنين اجتماعيين، نجد صورة مسبقة عنه في حزقيال مع مملكتَي الشمال والجنوب اللتين انفصلتا بعد موت سليمان سنة 933 ق. م. جاء النبيّ فأعلن وحدتهما التي تكون مأثرة من مآثر الربّ. "واجعلهم شعباً واحداً في الأرض، وأقيم عليهم ملكاً واحداً، ولا يكونون من بعد شعبين ولا يحكمهما ملكان" (حز 37: 22).
ولكن أف تعلن بشكل مباشر، العمل الذي به ختم المسيح وحدة البشرية فجمع في الوحدة إسرائيل والشعوب. ذاك كان التدخّل الأول.
ثم جاء التدخّل الثاني للمسيح: هدم (نقض) الحاجز الفاصل. نحن هنا أمام ثلاثة تفاسير. الأول كونيّ. والثاني والثالث يرتبطان بتاريخ إسرائيل واختياره.
* الحائط هو فصل لا يمكن تجاوزه وهو يمنع الوصول إلى السماء. أما المسيح فأزاله بمجيئه وارتفاعه. وهكذا نصل إلى المعنى المعطى لحجاب الهيكل وموت يسوع كما في عب 10: 20: إن الكاهن الأعظم الجديد (يسوع المسيح) فتح "الطريق الجديدة والحيّة التي شقّها عبر الحجاب أي عبر بشريّته" (عبر جسده).
* الحائط الفاصل هو الشريعة، كما في سياق آ 15. فالشريعة التي جاءت من الله في العهد، عزلت الشعب المقدّس المكرّس لله الواحد. وكانت فرائضه علامة تمييز طقوسّي. جعل اليهود من كل هذا حاجزاً سيحسّ به الوثنيّون بُعداً عن اليهود.
* إن حائط الشريعة يجد تجسيداً له في الحاجز الحجريّ الذي رفعه هيرودس في الهيكل ليبرز الفصل التام بين عالم الختان وعالم اللاختان. من يتجاوز هذا الحائط يُقتل. ولكن يسوع هدمه. وكان يوحنا قد تكلّم عن هيكل جسد يقيمه يسوع بعد أن يهدم هيكل الحجر.
ونتوقّف هنا عند لفظتين. العداوة (اخترا، البغض). جسده.
العداوة تُجمل ما يرمز إليه هذا الحائط، هذا الحاجز: حالة الصراع بين مخيّمين يتواجهان. وتشدّد أف على زوال تدبير الهيكل والشريعة. لقد صار عداوة.
في جسده (رج 1: 4: في المحبة). نجد اللفظة بين آيتين، فنربطها مع آ 14 أو آ 15. عبارة فريدة في أف وهي موجز لما في كو 1: 22: "في جسد بشريّته بموته". بشريّة المسيح هي موضع عمله وأداته، كما نجدها على الصليب (آ 16). غير أن أف تقدّم الواقع ولا تقول لنا كيف حصل. فالعداوة التي قسمت البشريّة (بسبب الشريعة) تجد ذروتها في حاجز يجعل اليهود والوثنيين وجهاً لوجه. وهذه العداوة تدلّ أيضاً على ما يفصل الله عن البشر (آ 16، 18). إذا كانت العداوة "الحائط الكوني"، فالمسيح بنزوله وارتفاعه اخترق الحاجز ودمّره. وإن كانت الشريعةَ وفرائضها، فلفظة "في الجسد" تدلّ على أن يسوع حُكم عليه باسم الشريعة. عُذِّب "خارج الشريعة" "خارج الأسوار" (أو: الحائط). ونقرأ في آ 16 أن المسيح قتل العداوة "في جسده".

5- الإنسان الجديد (2: 15)
"أزال ناموس (شريعة) الوصايا مع فرائضها وأحكامها". هي المرّة الوحيدة التي فيها تُذكر الشريعة في أف: نحن في ما وراء الجدليّة البولسيّة. تتضمّن الشريعةُ الوصايا التي تصل بنا إلى أحكام نطبّقها. هذا ما يعود بنا إلى كو 2: 14، 20 التي تتحدّث عن إلغاء الأحكام على الصليب. لم نعد ننظر إلى الشريعة على ضوء معطيها، بل في نتائجها من ختان، وفرائض على مستوى الأطعمة، وتقويم في أيام خير وأيام شّر، وطقوس تطهير... كل هذا ينشىء التمييز بين شعب وشعب.
إن إلغاء فرائض الشريعة قد تمّ في يسوع. هذا ما تعيشه الجماعة المؤلّفة من مؤمنين من أصل يهوديّ ومن مؤمنين من أصل وثنيّ. لقد قاتل بولس وانتصر. وهو يقطف ثمر انتصاره فيحيّي في الكنيسة هذه الخليقة الاسكاتولوجيّة، هذه البشريّة الجديدة التي يدلّ تكوينها على أننا تجاوزنا الشريعة كينبوع انقسام بين البشر.
وهكذا يبدو الإنسان الجديد وقد نجا من كل فريضة "تمييزية" تميّزه عن الآخرين. فشعب المسيح لا يميّزه شيء على مستوى الدين أو الطعام أو الطقوس.
وبعد الذي هُدم، يأتي الذي خُلق. كوّن، أحلّ، أقام: الإنسان (البشر) الجديد، السلام. ظهر فعل خلق (كوّن) في 2: 10 وسيظهر في 4: 24. الفاعل هو الله. والمفعول هو الإنسان. والهدف: لكي يعمل الخير. أما في 2: 15، فالخالق هو المسيح نفسه. وعمله هو الإنسان الذي يتماثل مع جسد المسيح. وإذا قابلنا هذا الخلق مع سفر التكوين، بدا جديداً، بدا مرتبطاً بالعالم الآخر.
تحدّث بولس عن الخليقة الجديدة في غل 6: 15؛ 2 كور 5: 17. ولكن في أف وُلدت عبارة "الإنسان الجديد"، وهو يولد من اثنين، من مجموعتين، من البعيدين والقريبين. لقد تكوّن من الذين كانوا منفصلين فاجتمعوا في المسيح. جمعهم الإيمان والعماد، جمعتهم نعمة الله. نجد في خلفيّة هذه الفكرة النصوص العماديّة (1 كور 12: 13؛ غل 3: 26- 28؛ كو 3: 10) التي تنشد وحدة أبناء الله الذين انقسموا رجلاً وامرأة، يونانياً ويهودياً، غنياً وفقيراً، متعلّماً وأمّياً. لم يصيروا كلهم على مستوى واحد هو المستوى الأدنى. ولم تُلغ الفروقات. بل كوّنوا كلهم الجسد الجديد، جسد المسيح. نحن هنا أمام خلق جديد تمّ بالمسيح الذي أقام السلام في جسده.

6- المصالحة والسلام للتوصّل إلى الآب (2: 16- 18)
وتعود آ 16 فتذكر الصليب، فترجع إلى نقطة الانطلاق في كل سلام متبادل: مصالحة هؤلاء وأولئك مع الله.
"صالحَ" (حوّل، بدّل). كان استباق لهذا الفعل في 1: 10 مع :جمع تحت رأس واحد". وقد ورد في روم 5: 10؛ 1 كور 7: 11؛ 2 كور 5: 18، 19، 20 (الصيغة المجرّدة). ثم كو 1: 20- 22؛ أف 2: 16 (الفعل المزيد) حيث الفاعل هو الله. نحن أمام إعلان لإعادة العلاقات الطيبة على المستوى السياسيّ والإجتماعيّ والعائلّي والأخلاقيّ. نجد المعنى الدينيّ لهذا الفعل في 2 مك 5: 20. وسيبرز بولس الصليب (فقط في أف) كموضع المصالحة. فالصليب يدلّ بشكل جذريّ على مبادرة الله التي تجعل كل شيء ممكناً، وهي مبادرة غير مشروطة وتأتي من جهة واحدة، من الله. أمّا الإنسان فيكتفي بتقبّل المصالحة.
"في جسد واحد". أو: لتكوين جسد واحد هو الكنيسة. "قتل العداوة". هذا ما يوازي "صنع السلام" في آ 15. فعل "قتل" (ابوكتاينو) هو المستعمل في الحديث عن موت يسوع (مر 6: 19؛ 8: 31؛ أع 3: 15؛ 1 تس 2: 15). أما هنا، فيسوع هو القاتل. كيف؟ هذا ما لا توضحه أف. ولكننا أمام إمكانيّتين. الأولى: المسيح يزيل سبب البغض (العداوة) وما يعبّر عنه: يهدم الحائط، يُلغي الشريعة، يغفر الذنوب (رج كو 2: 13- 15). الثانية: إن المسيح في موته قد احتمل عداوة البشر، عداوة شعبه وعداوة الأمم. لم يكتفِ بأن يغفر لجلاّديه، بل ترك البغض (العداوة) ينزل عليه فمات مصلوّباً معه على الصليب. ليس في يسوع إلاّ الحبّ، ولا أثر للبغض. نحن هنا وكأننا نقول: "مات المسيح لأجلنا". "صار خطيئة من أجلنا" (2 كور 5: 21). "صار لعنة" (غل 3: 23). وسيقول آباء الكنيسة: قتل البغض. إذن، قتل الموت.
ويأتي في آ 17 نصّ أشعيا الذي يُورد نشيد السلام، فيتلقّى تفسيراً مسيحانياً، ويبرز في إنجيل السلام للبعيدين والقريبين. أجل لقد جاء المسيح من أجل الآتين من العالم الوثنيّ، كما من أجل الآتين من العالم اليهوديّ. وهكذا ينطبق استشهاد أشعيا على الكرازة الرسوليّة في وجهتيها (إسرائيل والأمم). ما قيل عن الصليب يُقال عن حمل البشارة التي توزّعت بين بطرس (أهل الختان) وبين بولس (الوثنيّون).
وما هو مضمون هذا الإنجيل؟ بفضل المسيح صار لنا كلينا (الختان وعدم الختان) التوصّل إلى الآب في روح واحد. إن خاتمة النشيد تعود إلى خاتمة المباركة في ف 1: يقوم السلام بأن يقترب الجميع من الله دون شرح مسبق أو أي شيء يميّز شعباً عن شعب.
إن لفظة "بروساغوغي" تدلّ على القرب، التوصّل. هناك شخص يُخضع الاقترابَ منه لشروط قاسية، لمعاملات، لاستعدادات بروتوكوليّة أو طقوسيّة: مثلاً، الملك على عرشه. القاضي تحت قبّة المحكمة. الإله القدّوس في هيكله. على هذه المستويات الثلاثة يعلن التعليم الرسولي تحرّرنا أمام الله: في المسيح صرنا أبناء بالتبنّي (صرنا ملوكاً وأبناء الملك)، تبرّرنا (أي أعفينا، شملنا العفو)، تقدّسنا (أي سُمح لنا بأن ندخل الموضع المقدّس دون أن نهدّد بالموت). لقد أُلغيت المحرّمات والفرائض التي تشترط علاقتنا بالله. فُتحت الطريق أمام الشعب كله. في كل مكان وفي كل زمان.
ونجد الينبوع المباشر لكل هذا في كو 1: 22: "صالحكم الآن لا جسد ابنه... ليظهركم لديه قدّيسين، بغير عيب ولا مشتكى". أما اللفظة فتستعمل في روم 5: 2 لكي تلخّص إنجيل التبرير. "نحن في سلم مع لله.. الذي نلنا به أن ندخل". أما أف 3: 12 فتربط هذا الدنوّ إلى الله بالجرأة (الدالّة) التي هي حرّية تامة أمام الله.
"في روح واحد". هذا يعني توافقاً على مستوى القلب والعواطف، بل الروح القدس. ففيه وبه نستطيع أن ندنو من الله. إنّ التوازي روح واحد/ جسد واحد يُحيلنا إلى 4: 4 واعتراف الإيمان. "إلى الآب" (لدى الآب. قرب الآب). هنا استعمال مطلق دون عودة إلى المسيح، إلينا، إلى عمله، إلى صفاته. إنه استعمال فريد في العهد الجديد (مع 3: 14). نحن أمام طريقة جديدة لتسمية الله. وهذه الطريقة هي بداية العبارة الثالوثيّة التي ستكرّسها الليتورجيا واللاهوت: إتحاد مع الآب، بواسطة المسيح، في الروح.
وهكذا ينتهي هذا النشيد مع نظرة إلى مشاركة الأمم مشاركة تامّ. في نهاية روم، إكتشف بولس في تقبّل المسيحيين الذين من أصل وثنيّ التتمّة الأخيرة لأقوال الأنبياء حول مجد الله في العالم (روم 15؛ رج 2 صم 22: 50؛ مز 18: 50؛ تث 32: 43؛ مز 117: 1؛ أش 11: 10). أما في أف، فاكتشف تجلّي سلام المسيح الذي بلغ الكون كلّه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM