الفصل الثامن: مجانية الخلاص

الفصل الثامن
مجانية الخلاص
2: 4- 10

يعود هذا النصّ إلى القسم العقائدي في أف التي تشكّل فيها ف 1- 3 تأمّلاً في سّر وسّر: سّر خلاص البشرية بواسطة المسيح. سّر اتحاد الكنيسة بالمسيح. في بداية ف 2 ذكّرنا بولس أن جميع البشر، سواء كانوا يهوداً أم وثنيين، كانوا قبل المسيح أمواتاً موتاً روحياً. ولكننا نلنا الخلاص بالنعمة. هذا ما يفصّله الرسول في هذا المقطع.
في آ 4- 6: إن الآب، بسبب حبّه العظيم لنا، قد خلّصنا، أقامنا، مجّدنا في المسيح يسوع. في آ 7- 10: وهكذا دلّ على فرط غنى نعمته، فكان خلقُنا وخلاصنا وأعمالنا الصالحة نفسها، عطيّة من الله في المسيح يسوع.
إذا قابلنا هذا النصّ مع يو 3: 14- 21 رأينا أن الإنجيل يستعيد موضوع حبّ الآب والخلاص بالمسيح. غير أنه يقف عند الصليب ويذكّرنا أنّ من يرفض المسيح تكون له الدينونة والقضاء. أما نصّ أف الذي ندرس، فهو يضمّنا بشكل نهائي إلى مجد الصعود كما يربط الخليقة نفسها بعمل المسيح الخيرّ.

1- الآب وحبّه (2: 4)
إن الكروستولوجيا البولسيّة تُبرز الدور الذي لعبه الآب في عمل خلاصنا كما في عمل الخلق. فالله هو الآب في كل المجالات. نقرأ في 3: 14- 15: "أحني ركبتي أمام الآب الذي منه تنبثق كل أبوّة (كل أسرة) في السماء وعلى الأرض". وفي 1: 3- 5 نُبارك أبا ربنا يسوع المسيح لاختياره إيانا في الحبيب لنكون مقدّسين، بلا عيب، في المحبة.
فالعلاقة الأبويّة، وسط البشر، تمنح السلطة للوالد، وتفرض على الأولاد الاحترام والطاعة. ولكن على المستوى الحميم، الحبّ هو الذي يحرّك السلطة الأبوية، يوجّه ممارستها. في هذا الإطار يختلف الابن عن الأجير، فيطيع أباه طاعة الحبّ لا طاعة الخوف. وعرف بولس أن يصوّر لنا حكمة الآب، ومتطلّبات برّه (عِشْ بحسب وصاياه)، بل ونتيجة غضبه. ففي أعماق كيانه، وفي ما يدفعه إلى أن يعلن حكمته وينشر قدرته، نجد المحبّة على ما في نشيد المباركة: "إختارنا عن محبة من قبل انشاء العالم" (1: 4).
قد نظن أن خياناتنا تجعل حبّ الله يملّ، بل هي تدفعه ليكشف غنى حبّه الجديد. وإذ أعطانا الآب ابنه، أعطانا أعظم تعبير عن حبّه ورحمته من أجل الخطأة. نقرأ في روم 5: 8: "والبرهان على أن الله يحبّنا هو أن المسيح مات لأجلنا حين كنّا بعد خطأة". وفي 11: 32- 33: "فالله سجن جميع البشر في المعصية لكي يرحم الجميع. فيا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه".
الغنى والرحمة. كان العهد القديم قد ربط بين هاتين اللفظتين ليدلّ على لطف الله الذي لا يحدّ. "الله إله الرحمة والحنان، طويل الأناة، غنيّ في النعمة والأمانة" (خر 34: 5). أما بولس فقال لنا هنا إن الآب هو غنيّ بالرحمة، وقد دلّ على لطفه بفرط غنى رحمته.
وهذا الغنى ينتقل بشكل طبيعيّ من الآب إلى الإبن، وهو بشكل من الأشكال تجسيد لرحمة الله كما ظهرت للبشر. "أُعطيتُ هذه النعمة أن أبشّر في الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى، وأوضح للجميع ما تدبير هذا السّر المكتوم منذ الدهور" (3: 8- 9).
وهكذا جاء تدخل الله في وجهتين. واحد يرتبط بكيانه: الغنيّ بالمراحم. وآخر يرتبط بعمله الأخير: بسبب حبّه العظيم. الأول يرتبط بنصوص عديدة من العهد القديم. والثاني يُجمل عمل الله الخلاصّي في المسيح في إطار المحبّة.

2- أحياء مع المسيح (2: 5)
ما يحقّقه حبّ الله الرحوم هو خلاصنا في المسيح وبالمسيح. لا شكّ في أن شيئاً من المصير البشري لا يفلت من عمل ذاك الذي هو "بكر كل خليقة" (كو 1: 15)، "بكر من قام من بين الأموات" (كو 1: 18). ولكننا نرى هنا كيف أحيانا الله في المسيح بعد أن كنّا أمواتاً من جرّاء خطايانا. ولماذا؟ لكي يعطينا هذه الحياة الجديدة. نقرأ في روم 6: 3- 4: "أتجهلون أنّا جميع من اعتمدوا في المسيح يسوع، قد اعتمدنا في موته. لقد دفنّا إذن معه بالمعمودية في الموت، حتى إنّا كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب، نسلك نحن أيضاً في حياة جديدة".
بالقوّة التي تعطينا هذه الحياة الجديدة، لم نعد عبيداً خاضعين بدون رجاء للخطيئة. فبولس يقدّم لنا أولاً قيامة المسيح كمثال نتوق إليه عبر الجهاد الحاضر. "إذا كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بشبه قيامته" (روم 6: 5). وفي كو سوف يرانا الرسول وقد قمنا ملء القيامة وتوجّهنا بكليتنا إلى مشاهدة المسيح السماويّ. "تُدفنون معه في المعمودية، وتنهضون أيضاً معه، لأنكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات" (كو 2: 12). ويتابع القدّيس بولس: "لقد قمتم مع المسيح، فاطلبوا إذن ما هو فوق، حيث يقيم المسيح جالساً عن يمين الله" (كو 3: 1). وحين كتب إلى أف، خطا الخطوة الأخيرة. لم يعد علينا أن نرفع عيوننا نحو المسيح المنتصر. فبعد أن قمنا، أجلستنا المعموديّة في السماوات في المسيح يسوع.
وتنتهي آ 5 بقاطعة صغيرة بشكل "عظة لا تعود فيها صيغة المخاطب الجمع (أنتم بالنعمة مخلّصون) فتهيّىء آ 8- 9 وتدخلنا في موضوع الخلاص بالنعمة. أجل، هذه هي النتيجة الحاضرة لعمل تمّ في الماضي.

3- الصعود سّر يعيشه المسيحي (2: 6)
أحياناً، أعطانا الحياة مع. ويأتي فعلان آخران: أقامنا مع، أجلسنا مع. إن التواصل واضح مع النشيد في 1: 19- 23. لقد أظهر الله عظمة قدرته التي لا تقاس، حين أقام المسيح وأجلسه من عن يمينه. وهو يكشف عن حبّه وفرط غنى نعمته (آ 7) حين يقيمنا نحن الموتى مع، ويجلسنا في السماوات مع، في المسيح. هذا هو التحوّل الذي تمّ: مّجد الله المسيح، وأشركنا بالنعمة في مصيره. ما صنعه له، صنعه لنا فيه وبه.
على مستوى أول، الصعود هو وقت محدّد من مسيرة يسوع، يتوّج حياته على الأرض ويكمّلها. يجعله سفر الأعمال أربعين يوماً بعد القيامة. ويرينا الإنجيل أنه تحقّق ليلة الفصح (مر 16: 19؛ لو 24: 50). أما بولس فطلب منا الإيمان عينه بهذا السّر. فالله مجّد يسوع وجعله ربّاً من أجل طاعته حتى الموت والموت على الصليب (فل 2: 9). حينئذٍ يكون الصعود تشجيعاً للمسيحيّ في قلب جهاده اليوميّ. ففي العالم الحاضر نموت كل يوم عن الخطيئة لكي نبلغ إلى ملء القيامة. ولكن في البعيد ترتسم المكافأة التي وعد بها المسيحُ الغالبَ كما نقرأ في سفر الرؤيا: "ومن غلب فإني أوتيه أن يجلس معي على عرشي، كما غلبت أنا وجلست مع أبي على عرشه" (3: 21). وهذا ما استشفّه اسطفانس عند موته: "إمتلأ من الروح القدس فحدّق بنظره إلى السماء. حينئذٍ رأى مجد الله ويسوع واقفاً عن يمين الله" (أع 7: 55).
هذا مستوى، وهناك مستوى آخر. فنصوص أف وكو توصلنا إلى مدلول آخر لهذا السّر (الصعود) بالنسبة إلى المسيح وبالنسبة إلى المسيحيّين. فالصعود يشكّل بداية أكثر منه نهاية. إنه تمجيد سماويّ وغير منظور، ولكنه تمجيد حقيقيّ به يعود القائم من الموت إلى أبيه في لحظة قيامته بالذات. وهو ظهور مرئي أعطي في وقت محدّد من تمجيده.
هذه هو الأمر بالنسبة إلى المسيحيّين. إتحدنا بالمسيح بحياة جديدة فمتنا معه، وفي الوقت عينه قمنا معه ومعه صعدنا إلى السماء. فانتماؤنا إلى الملكوت السماوي يجعلنا نقيم باستمرار فيه. والعماد، حسب تعبير استعملته القرون الأولى، هو بالنسبة إلينا صعود إلى السماء يتبع قيامتنا. فالآب، في الوقت الذي يقيمنا، يجلسنا في السماوات في المسيح يسوع. لا شكّ في أننا لا نرتفع إلى السماء في كياننا الخاص والطبيعيّ، بل بقدر ما يكون كياننا في المسيح.
إن يعود المسيح هو علامة وإعلان عن انتمائنا النهائي إلى ملكوت الله، في انتصار المسيح وفي ملء سلطانه على كل ما في السماء وما على الأرض. والمسيح يعيش هذا الانتصار ويحتفل به، لا مرّة واحدة في السنة، بل في كل يوم من أيام السنة. هذا التعليم يتقاطع مع الأمثال الإنجيلية عن ملكوت الله الذي هو في وسطنا. كما يتلاقى مع التقليد المركزيّ في أف. "جعل الله كل شيء تحت قدميه (قدمي المسيح)، وأقامه فوق كل شيء، رأساً للكنيسة" (1: 22).
نجد في هذه الآية الفكرة الرئيسية التي تتوسّع فيها روم 6: 1- 11 عائدة إلى العماد. فالنؤمن الأصليّ يعلن بأشكال مختلفة: المسيح مات. إنه دُفن. إنه قام من أجلنا، ونحن سنقوم معه، ونشاركه في ملء مجده.

4- غنى نعمته (2: 7)
إن المسيح يخلّصنا بالنعمة (آ 5- 7)، وفي الوقت عينه يخلّصنا ليدلّ على غنى نعمته. هي لفظة واحدة تفسّر لماذا يفعل وكيف يفعل، في مدلولين متكاملين. أولاً: نحن مخلّصون بالنعمة، أي بشكل مجانيّ، بشكل إنعام، دون أي استحقاق من قبلنا، بمجرّد مبادرة الحبّ الإلهي. ثانياً، إن غنى نعمته يدلّ على غنى عطاياه ومواهبه. ما يخلّصنا هو لطفه وحبّه اللذان هما سبب خلاصنا كما ظهر عبر حياة المسيح وأسراره: الآلام، القيامة، الصعود، مشاركة المؤمن في كل هذا بواسطة المعمودية.
ولكن، لماذا كل هذه النعم المجانيّة في المسيح يسوع؟ هنا يتّحد في الآب الحبُّ والحكمة والقدرة بشكل يتجاوزنا ويجعلنا صامتين. لماذا؟ لكي يدلّ في الأجيال المقبلة على فرط غنى رحمته، لكي يُظهر عظم مجده. الأجيال المقبلة (أو الآتية) هي حياة المستقبل التي تظهر بشكل سلسلة لا نهاية لها من أجيال متعاقبة. ففي هذه الأجيال، وأمام القوات السماويّة، يكون انتصار المسيحيّ الجالس عن يمين المسيح، أسمى برهان عن حبّ الآب وغناه، وحكمته وقدرته.
لا يمكن أن يكون من هدف لعمل الله إلا مجده. هذه النتيجة التي تحيرّنا للوهلة الأولى، حملت معها تطبيقاً عملياً عرفه القدّيسون. قالوا: إن تدخّل الله هو عمل حبّ عظيم ومجانيّ. ولكن في تمجيد المسيح وفي خلاص البشر كان الهدف النهائيّ لهذا الحب مجد الله... فالله يريد سعادتنا وخلاصنا. غير أن خلاصنا يكون لمجده حين يكشف عن رحمته ومحبّته.

5- خلاصنا نعمة (2: 8- 10)
إنتهت آ 7 مع بداية مجدلة على مثال نهاية المباركة. وبدأت آ 8 بصيغة المخاطب الجمع (أنتم إذن) في عظة عن النعمة تبدأ نشيد الخلاص وتنهيه. نحن هنا في آ 8- 10 أمام ملخّص لتعليم روم عن مجانيّة الخلاص في المسيح.
ففي هذا المقطع، لا يذكر بولس تعليمه عن مجانيّة الخلاص، إلا ليلقي ضوءاً على ما يشغل باله في كو وفي أف، على "السّر الكامل" الذي هو اختيارنا قبل الخلق، وسيادة يسوع التامّة على الزمان والمكان.
لقد خُلقنا في المسيح، وخُلّصنا به لكي نمجّده بأعمالنا الصالحة التي هُيّئت لنا مسبقاً فاتممناها بقدرة النعمة. فإيماننا بيسوع المسيح يتيح لنا أن نتمّ هذه الأعمال التي تؤول لمجد الله ونموّنا في القداسة.
أرادت أف أن تبرز الخلاص كأمر واقع. ففصلته عن أحداث ينتظرها بولس مثل الدينونة والقيامة الأخيرة. وهكذا بدا تكوين جسد المسيح (الكنيسة) كعمل حاسم فيه تتحقّق نهاية الأزمنة. وهكذا تبدّل مدلول الخلاص.
"هذا ليس منكم" (آ 8). نحن أمام موضوع تطرّق إليه الأنبياء: الله يخلّص شعبه وحده. وهو لا يحتاج مبادرة من أحد ولا مساعدة (تث 7: 7؛ 8: 18؛ 9: 4- 6، لم يمنحك الله ذلك بسبب برّك؛ أش 31: 1؛ 42: 8؛ 43: 3، 11؛ هو 1: 7). كل هذا عطية من الله. هكذا أعطى أرضاً لشعبه. وهكذا يعطي كنيسته الخلاص.
"ليس هو من الأعمال" (آ 9). هذا ما يستعيد نهاية آ 8 كما في روم 4: 2؛ 9: 12؛ 11: 6. "لكي يفتخر أحد". أي ما يعطي الإنسان علّة وجوده، ما يعطيه قيمة في نظره وفي نظر الآخرين. هناك القطب السلبيّ الذي يجعل الإنسان يطلب أن يكون "إلهاً". وهناك القطب الإيجابيّ الذي يصل بنا إلى القول بأن الله هو افتخارنا.
مع آ 10 نعود إلى صيغة المتكلّم الجمع فنجمع ما سبق ونهيّىء موضوع الخليقة الجديدة الذي سيرافقنا حتى نهاية الرسالة.
"نحن صُنعه". لسنا فقط بعضاً من صنائعه، بل نحن قمة صنعه... بانتظار أن نصل إلى جسد المسيح الذي هو بناء الله. "خُلقنا في المسيح يسوع". تستعيد كو 3: 1 وتعلن أف 2: 15؛ 4: 24: الخالق هو الله. والوسيط هو المسيح يسوع: فيه خُلقنا، ومن أجله خُلقنا من أجل الأعمال الصالحة التي هيّأها الله فينا ولنا.

خاتمة
وهكذا نكتشف حبّ الله عهداً واختياراً عبر مشاركتنا مع المسيح. إختلفت أف عن روم 6 التي تميّز بين مشاركة حاضرة في موت المسيح بالمعمودية وبين رجاء القيامة. أما مع أف فنحن "نملك" منذ الآن كل شيء: لقد نلنا الحياة مع المسيح، بل نحن نقاسم المسيح منذ الآن ملكه السماوي.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM